مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١٠

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١٠

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤١٥

أقول : المراد من السبيل هو الدين الحنيف ، أي ملّة إبراهيم ، والمراد من السنّة هي الطريقة المتّبعة الخاصّة.

وفي تفسير العياشي في قوله تعالى : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام قال : «إنّي أوحيت إليك كما أوحيت الى نوح والنبيّين من بعده ، فجمع له كلّ وحي».

أقول : يحتمل في الرواية وجوه :

الأوّل : أنّ الوحي النازل عليه كالوحي النازل على سائر الأنبياء لا تفاوت فيه ، ويدلّ عليه ما تقدّم ، وما ورد عن ابن عباس قال : «قال مسكين وعدي بن زيد : يا محمّد ما نعلم الله أنزل على بشر من شيء بعد موسى عليه‌السلام ، فأنزل الله في ذلك : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ)».

الثاني : أنّ الوحي النازل عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله أشرف وأكمل من الوحي النازل على غيره من الأنبياء ؛ لتشرّف الموحى إليه على سائر الأنبياء ، فمقتضى قاعدة التناسب والسنخيّة أن يكون وحيه كذلك ، ويدلّ عليه ذيل الرواية.

الثالث : أنّ المعارف الإلهيّة والأحكام الكليّة الّتي اوحيت الى سائر الأنبياء قد اوحيت إليك مع زيادة ، ويدلّ على ذلك بعض الآيات الشريفة ، مثل قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) وغيره من الآيات المباركة.

الرابع : أنّ الوحي النازل عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله هو الوحي النازل على سائر الأنبياء عليهم‌السلام بعينه في الأحكام جزئيّة وكلّية ، وهذا بعيد عن سياق الآيات الشريفة ولم يوافقه ظاهر الرواية.

وكيف كان ، فالرواية من باب التفسير للآية الكريمة.

وفي الكافي بإسناده عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أعطيت السور الطوال مكان التوراة ، وأعطيت المئين مكان الإنجيل ، وأعطيت المثاني مكان الزبور ، وفضّلت بالمفصل ثمان وستين سورة».

١٨١

أقول : الرواية في مقام بيان أفضليّة القرآن على غيره من سائر الكتب السماويّة ، والسور الطوال في القرآن الكريم هي : البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف والتوبة ، على أن يعدّ الأنفال والبراءة سورة واحدة ، وسمّيتا بالقرينتين.

والمئين من بني إسرائيل الى سبع سور ؛ لأنّ كلا منها تقرب مائة آية ، والمفصل من سورة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله الى آخر القرآن الكريم ، سمّيت به لكثرة الفواصل بينها.

والمثاني : بقية السور ، ولا إشكال في أنّ المثاني من الأمور الإضافيّة ، فيصحّ إطلاقها على جميع سور القرآن ما عدى الفاتحة ، بل ويطلق عليها أيضا باعتبار تكرّرها في الصلاة كما تقدّم ، والمراد من المثاني في المقام المعنى الإضافي لا الحقيقي ، كما لا يخفى.

وفي تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى : (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) بإسناده عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «إنّما نزلت في علي عليه‌السلام ، أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا».

أقول : الرواية من باب التفسير والتطبيق بأجلّ المصاديق وأشرفها ، ولا يكون من التحريف ولا قراءة منه عليه‌السلام.

وفي الخصال عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «انّ الله ناجى موسى عليه‌السلام بمائة ألف كلمة وأربع وعشرين ألف كلمة في ثلاثة أيّام ولياليهن ، ما طعم فيها موسى عليه‌السلام ولا شرب فيها ، فلما انصرف الى بني إسرائيل وسمع كلامهم ، مقتهم لما كان وقع في مسامعه من حلاوة كلام الله عزوجل».

أقول : الظاهر أنّ العدد المذكور تقريبي ـ لا واقعي ـ فقد يكون أكثر أو أقلّ ، وإنّما كان ذلك في زمن معين لعلّه ذلك كان من سؤال موسى عليه‌السلام من الله جلّت عظمته ومن فعله ، حتّى يستلذّ أكثر ؛ ولذلك نسي كلّ شيء حتّى نفسه فلم يحس بالجوع ولا بالعطش. وبعد انصرافه عليه‌السلام من المناجاة لم يألف بأي كلام واستوحش

١٨٢

منه وحصل له النفرة والبغض منه من أثر تلك اللذّة.

وفي الاحتجاج في مكالمة اليهود النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قالوا : «موسى خير منك؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ولم؟ قالوا : لأنّ الله تعالى كلّمه أربعة آلاف كلمة ، ولم يكلّمك بشيء ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : لقد أعطيت أنا أفضل من ذلك ، قالوا : وما ذاك؟ قال : قوله عزوجل : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى)».

أقول : لا شكّ في أنّ المواجهة أفضل من المكالمة ؛ لأنّ كلامه تعالى مع موسى عليه‌السلام كان إحداث كلام في الشجرة ـ كما في بعض الروايات ـ منبعثا منها ؛ ولذا كان يسمع من فوق وأسفل ويمين وشمال ووراء وأمام ، كما يأتي تفصيل ذلك في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : «كلّم الله موسى تكليما بلا جوارح وأدوات وشفة ولا لهوات ، سبحانه وتعالى عن الصفات».

أقول : ثبت في الفلسفة الإلهيّة بالأدلّة القطعية تنزّهه سبحانه وتعالى عن الجسم والجسمانيات ، وتقدّم في سورة البقرة ما يتعلّق بكلامه عزوجل فراجع.

في الكافي بإسناده عن محمّد بن الفضيل عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «نزل جبرئيل بهذه الآية هكذا : (ان الّذين ظلموا آل محمّد منهم لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا إلّا طريق جهنّم خالدين فيها أبدا وكان ذلك على الله يسيرا) ، وقال : (يا أيّها الناس قد جاءكم الرسول بالحقّ من ربّكم في ولاية علي فآمنوا خيرا لكم وإن تكفروا بولايته فإنّ لله ما في السموات والأرض).

أقول : لا بدّ من حمل هذه الرواية بأنّ المراد من نزول جبرئيل الوحي مع التفسير بالمصداق ، وإلّا فالرواية تدلّ على نوع من التحريف ، ونحن لا نقول به وذكرنا في المقدّمة ما يتعلّق به.

ويحتمل أن يكون المصاديق من كلام الإمام عليه‌السلام ، ذكرها في ضمن الآية المباركة من باب الجري والتطبيق. والله العالم.

١٨٣

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧٠) يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (١٧١) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (١٧٢) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧٣) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (١٧٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (١٧٥))

بعد ما بيّن سبحانه وتعالى أنّ جميع الرسل والأنبياء وحدة متكاملة وعلى سنّة واحدة ، وهي الوحي من الله تعالى ، وأنّ ما انزل الى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله هو من سنخ ما انزل على سائر الأنبياء العظام عليهم‌السلام ، واحتجّ على أهل الكتاب بحجج دامغة ، وردّ على سؤال أهل الكتاب من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تنزيل كتاب من الله تعالى بأنّ رسوله جاء بالحقّ وانزل عليه ما فيه من الحجج القاطعة الّتي لا يحتاج بعدها الى تنزيل كتاب ، ثمّ عنّف على المنكرين من أهل الكتاب.

ففي هذه الآيات الشريفة يوجّه الخطاب الى الناس جميعا بعد وضوح الحجّة

١٨٤

بشأن بعثة خاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّ الحجّة إذا قامت على أهل الكتاب بشهادة من الله تعالى وشهادة الملائكة ووجب عليهم الإيمان ، فبالأولى تقوم على غيرهم ، وبعد ظهور صدق التسوية فإنّه تصحّ دعوة الناس كافّة الى الرسول والى ما انزل إليه ، ثمّ يوجّه الخطاب الى أهل الكتاب مرّة اخرى ؛ ليكفّوا عن انحرافاتهم ، ويخاطب النصارى منهم بالخصوص لنبذ الغلو في دينهم ويلحقوا بالموحّدين ويؤمنوا بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وبالرسل جميعا على استقامة ، ويقرّوا بعيسى عليه‌السلام بما أقرّوا به في غيره من الأنبياء والرسل عليهم‌السلام بأنّهم عباد الله ورسله الى خلقه. ويقيم الحجّة على بطلان ما اعتقدوه في عيسى عليه‌السلام بأسلوب واضح رصين.

ويختم عزوجل الآيات المباركة بنداء ربوبي رقيق للناس جميعا بالإيمان بالله جلّ شأنه والاعتصام به ، فإنّه عزوجل سيدخلهم في رحمة منه وفضل ، ويهديهم الى ما يسعدهم في الدنيا والآخرة.

ومن الإعجاز القرآني أنّ هذا النداء الربوبي يشتمل على أسلوب رقيق يحبّب الإيمان الى قلوب الناس ، بعد تلك الجولة الطويلة مع المؤمنين والزائغين والكافرين.

وممّا زاد في تأثير هذا النداء أنّه يتضمّن الوعد فقط ، ولم يذكر فيها جزاء الكافرين ؛ لأنّه نداء التحبّب والعطف ، وليس نداء الإنذار والعنف ، ومن حسن الختام أنّه كان في آخر هذه السورة.

وقد نزل في ختام تلك الجولة الطويلة الّتي كانت مع الناس وتناولت العقيدة والإيمان والسلوك والمشاعر ، وقد اشتملت على جميع سبل التربية الإسلاميّة لأهمّ قضية في حياة الإنسان ، وهي قضية الإيمان بالله تعالى وما يترتّب عليها من المقتضيات.

فكانت هذه السورة من أمهات السور القرآنيّة الّتي تناولت العقيدة بجميع جوانبها بأحسن أسلوب وأتمّ وجه ، فاشتملت على جميع التوجيهات الّتي تعدّ الامة المؤمنة لتحمل الأمانة الكبرى.

١٨٥

وتضمّنت من الأحكام العمليّة الفرديّة والاجتماعيّة الّتي تجعل الامة المسلمة سعيدة ومطمئنة. وهذه السورة وإن طالت وتعدّدت موضوعاتها إلّا أنّها ذات وحدة شاملة تربط بين موضوعاتها بصورة واضحة ، ولها شخصيتها المميّزة وإن تشابهت موضوعاتها مع غيرها من السور.

التفسير

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ).

خطاب عامّ لجميع الناس ، فإنّه بعد وضوح الحجّة وظهور صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وشهادة الله تعالى على نبوّته وما انزل إليه ، فقد صلحت الدعوة إلى كافّة الناس ولزمت الحجّة كلّ الأفراد لعموم رسالته صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وإنّما ذكر الرسول معرّفا ؛ لأنّه هو الرسول الكامل المعروف لدى أهل الكتاب الّذي بشّر به ، أو أنّه هو الّذي أقيمت الحجّة على صدقه وشهد تبارك وتعالى على بعثته آنفا ، وأنّه قد ذكر موصوفا بالرسالة لتأكيد وجوب طاعته ، وقد جاء بالحقّ من عند الله جلّ شأنه الّذي هو ربّكم ويريد من بعثته إليكم تربيتكم وإرشادكم الى الكمال اللائق بكم ، فهذا تأكيد آخر وترغيب للامتثال بعد الأمر بالإيمان به.

قوله تعالى : (فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ).

أي : إذا عرفتم ذلك وظهرت الحجّة لكم فآمنوا به ، فإنّ الإيمان خير لكم ؛ لأنّه يزكّيكم ويطهّركم من الذنوب والآثام ويؤهّلكم الى السعادة.

واختلف العلماء في إعراب هذه الآية المباركة ، وسيأتي في البحث الأدبي ما يتعلّق بذلك.

وفي الآية الشريفة الترغيب الى الإيمان وتحبيب الناس إليه ، فإنّ الإنسان بفطرته يسعى الى الخير ويطلبه في أي مورد كان.

١٨٦

قوله تعالى : (وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

أي : أنّ الله تعالى إنّما يأمركم بالإيمان لأنّه خير لكم ، وإن عرضتم وكفرتم فإنّ الله غني عنكم ولا ينقص بكفركم منه شيء ، فإنّ له كلّ شيء في السموات والأرض ـ خلقا وملكا وتصرّفا ـ فلا يتضرّر بالكفر كما لا ينتفع بالإيمان ، فلا يخرج الإنسان بكفره عن ملكه وعبوديته ، فهو القادر على جزائه بما يقتضيه كفره.

وتدلّ الآية الكريمة على أنّ الكافر مكابر لفطرته وعقله ، فإنّه كيف يتأتّى منه الكفر مع علمه بأنّ له تعالى ما في السموات والأرض.

قوله تعالى : (وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً).

أي : أنّه تعالى عليم بجميع الأمور ومحيط بمخلوقاته إحاطة علميّة لا يخفى عليه إيمان أحد ولا كفر آخر ، حكيم في أفعاله ، فلم يخلق عباده عبثا ، فإذا أمر الإنسان بالإيمان ، فلعلمه بأنّه خير له ، وإنّه يعذّب الكافر لأنّه استكبر ولم يؤمن.

قوله تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ).

آيات خاصّة نزلت في محاجّة النصارى بعد محاجّة اليهود الّذين كانوا على طرف النقيض مع النصارى في شأن المسيح عيسى بن مريم عليه‌السلام ، فإنّه ـ كما حكى عنهم عزوجل ـ عرفوا بتحقيره وإهانته ورميه بما يمسّ كرامته ، والكفر به ، فكانوا في أعلى درجات التفريط في حقّه عليه‌السلام.

وأمّا النصارى فقد غلوا في تعظيمه وتقديسه وتجاوزا حدود الله تعالى فيه ، فأفرطوا كلّ الإفراط ، فلما أبطل عزوجل شبهات اليهود عقبه بإبطال شبهات النصارى وتفنيد مزاعمهم.

وإنّما وصفهم بأهل الكتاب مع أنّه خطاب عامّ يشمل اليهود أيضا ؛ إرشادا لهم بعدم تجاوز الحقّ في شأن المسيح ، وزجرا لهم عمّا هم عليه من الضلال البعيد.

ويمكن القول بأنّ الخطاب لهم جميعا ، فإنّ اليهود كالنصارى غلوا في الدين وتجاوزوا الحقّ في شأن المسيح عليه‌السلام ، فالاولى غلت فيه ففرّطت كلّ التفريط ، والثانية غلت أيضا فأفرطت كلّ الإفراط ، فيكون قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمَسِيحُ

١٨٧

عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) تخصيصا بعد تعميم بتجريد الخطاب وتخصيص له بالنصارى بعد معلوميّة حكم اليهود من الآيات السابقة ، ومثل ذلك كثير في القرآن الكريم وكلمات البلغاء.

قوله تعالى : (وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ).

بيان لنفي الغلو في الدين ، وإرشادهم لهم بعدم نسبة أمر الى الله تعالى إلّا الحقّ ؛ لأنّه حقّ ولا يصدر منه إلّا الحقّ ، فيجب عليهم التماس الحقّ في جميع أمورهم.

والمراد من الحقّ هنا هو المعارف الإلهيّة والحقائق الواقعيّة والتشريعات الربوبيّة والتوجيهات السماويّة الّتي أنزلها عزوجل على أنبيائه العظام عليهم‌السلام ، وثبتت في القرآن الكريم.

كما أنّ المراد من القول هنا الأعمّ من الاعتقاد والذكر اللساني ، أي : لا تعتقدوا ولا تذكروا إلّا الحقّ الثابت ، فليس لكم أن تزعموا في دينكم ما لم يقم عليه برهان وتنسبوه الى الله تعالى ، فتكون الآية الشريفة تمهيدا لنبذ ما زعموه في المسيح وإلزاما لهم بأنّهم أهل الكتاب ، فيجب عليهم قول الحقّ وابتغاؤه في جميع أمورهم ، فتدلّ الآية الكريمة على بطلان ما اعتقدوه في عيسى بن مريم من الحلول والاتّحاد وغير ذلك من الأباطيل.

قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ).

تخصيص بعد تعميم الخطاب لأهل الكتاب تطبيقا لما بيّنه عزوجل من نفي الغلو وعدم نسبة شيء إلى الله جلّ شأنه إلّا الحقّ ، والخطاب موجّه للنصارى الّتي غلت في المسيح عليه‌السلام واعتقدت فيه الأباطيل.

والمسيح كلمة غير عربية قرئ مخفّفا ـ وهو المعروف ـ ومشدّدا بكسر الميم وتشديد السين كالسكّيت. ومعناه المبارك.

وإنّما صرّح عزوجل باسمه واسم الام ؛ للدلالة على كونه إنسانا مخلوقا تكوّن في رحم امرأة كأي إنسان آخر. وحينئذ لا يقبل التفسير والتأويل بأي

١٨٨

وجه كان ، وهي تدلّ على بطلان ما زعموه فيه من البنوّة له جلّ شأنه.

قوله تعالى : (رَسُولُ اللهِ).

بيان لشأن المسيح عنده عزوجل ، الّذي يجب أن يعتقدوه فيه عليه‌السلام ، وهو الحقّ ، وغيره باطل لا يجوز نسبته إليه تعالى.

وهذه الصفة تدلّ على بطلان الألوهيّة في حقّه ، وإنّما قدّمها على ما سيأتي تعظيما لشأنه عليه‌السلام ؛ ولبيان أنّ نفي الحلول والاتّحاد والبنوّة عنه لا يوجب الانتقاص منه ، فإنّه رسول الله ، ولعلّ الوجه في تأخيرها لبيان أنّه لا يخرج بالرسالة عن كونه إنسانا ، فهو فرد تولّد من رحم امرأة ويصيبه ما يصيب غيره من سائر أفراد الإنسان.

قوله تعالى : (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ).

بيان للحقّ الّذي لا بدّ أن يقال على الله تعالى ، وردّ لما زعموه فيه من الألوهيّة والبنوّة بتوضيح خلق المسيح عيسى ابن مريم عليه‌السلام.

والمراد من الكلمة هي كلمة «كن» الدالّة على التكوين بمحض قدرته التامّة وإرادته الفعليّة الّتي تعلّقت بخلق عيسى عليه‌السلام ، وجملة : (أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ) تفسير لمعنى الكلمة.

والإلقاء : هو الطرح والإيصال ، ويستعمل في الأمور الماديّة والمعنويّة ، قال تعالى : (وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ) [سورة النحل ، الآية : ٨٧] ، وقال تعالى : (فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ) [سورة النحل ، الآية : ٨٦] ، وهو وإن كان مطلقا في المقام إلّا أنّه عزوجل بيّنه في موضع آخر أنّه كان بواسطة الملك على نحو البشارة ، قال تعالى : (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) [سورة آل عمران ، الآية : ٤٥].

قوله تعالى : (وَرُوحٌ مِنْهُ).

الروح : لها معان متعدّدة ، ويجمعها أنّها من أمر الله تعالى ، قال عزوجل : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [سورة الإسراء ، الآية : ٨٥].

١٨٩

والمعنى : أنّه روح مخلوقة لله تعالى ؛ بسبب كلمة (كن) التكوينيّة الّتي أودعت في مريم الطاهرة ، لا بواسطة نطفة وتوالد.

والآيات المباركة جميعها تدلّ على أنّ خلق عيسى عليه‌السلام كان معجزة ، وقد تحقّق بكلمة (كن) التكوينيّة ، من غير دخل للأسباب العاديّة الّتي يجب أن تتحقّق في خلق سائر أفراد البشر من الأب والنكاح وغيرها ، قال تعالى : (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [سورة آل عمران ، الآية : ٤٧].

إن قلت : إنّ ما سواه تعالى من المخلوقات هي كلمات الله تعالى ، فليكن خلق عيسى عليه‌السلام أيضا كذلك ، وإنّما خصّه بالذكر تشريفا.

قلت : كون مصنوعاته تعالى كلماته عزوجل صحيح لا ريب فيه ، إلّا أنّه لا ينافي أن تكون مختلطة بالأسباب العاديّة القريبة والبعيدة المترتّبة في سلسلة التكوين ، فإنّ الله تعالى أبى أن يجري الأمور إلّا بأسبابها. بخلاف خلق عيسى عليه‌السلام ، فإنّه كان أمرا خاصّا به تكوّن بسبب كلمة (كن) التكوينيّة الخالصة من الأسباب العاديّة القريبة والبعيدة الّتي يجب تحقّقها في تولّد الإنسان ، فكان خلق عيسى عليه‌السلام آية من آيات الله تعالى أودعها في رحم مريم العذراء عليها‌السلام.

إن قلت : إذ كان خلق عيسى عليه‌السلام معجزة وخارق العادة ، فلما ذا لم يخلقه عزوجل من دون رحم امرأة وبشارة الملك لها ، فإنّ الله تعالى على كلّ شيء قدير.

قلت : نعم ، ولكن ذكرنا في أحد مباحثنا السابقة أنّ الأمور الخارقة للعادة الّتي تتحقّق بسبب كلمة (كن) التكوينيّة والمعاجز الّتي تقع على يد الأنبياء والأولياء بإذن منه عزوجل ، اقتضت سنّته تعالى فيها أن يجريها في موضوع من الموضوعات الماديّة ويخرجها في هذا العالم ـ عالم الملك والمادّة ـ بالصورة المناسبة لهذا العالم ، ففي خلق عيسى عليه‌السلام مثلا هو قادر على أن يخلقه من غير أم ولا نفخ الملك ، ولكنّه عزوجل خلقه من أم بواسطة بشارة ملك ونفخ منه ؛ ليكون بمنزلة الأب ونفخه بمنزلة التلقيح ، كما أنّ خلق ناقة صالح إنّما كان من الجبل ليكون بمنزلة الام ، وكذا تسبيح الحصى في يد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهكذا بقية المعاجز. هذا إن لم

١٩٠

يكن بعضها خارجة عن قانون الأسباب والمسبّبات ، وإن كانت بظاهرها فاقدة لها إلّا أن الأسباب تارة : تكون واضحة ومعروفة ، واخرى : تكون خفيّة وغير معلومة لأحد إلّا من علّمه عزوجل ، فيجريها الرسول أو الولي بالسبب الّذي علّمه عزوجل به. والبحث نفيس نذكره في الموضع المناسب إن اقتضى الحال إن شاء الله تعالى وساعدنا الزمان بعد ما نستمد منه العون والتوفيق.

وذكر جمع من المفسّرين أنّ المراد من الروح هو النفخة ، أي : أنّه خلق بنفخ الملك المعبّر عنه بالروح ، وروح القدس في مريم عليها‌السلام بأمره سبحانه وتعالى ، وقد جاء تسمية النفخ روحا في كلامهم ، كما قال ذو الرمة في إضرام النار :

فقلت له ارفعها إليك وأحيها

بروحك واجعلها لها فيئة قدرا

وقالوا : إنّ الّذي يحيا به الإنسان مأخوذ من اسم الريح ، وإنّ أصل الريح روح (بالكسر) فقلبت الواو ياء لتناسب الكسرة ، وجمعه أرواح ورياح ، وإن كان أصل هذه الرواح.

ولكنّه ليس بشيء ، فإنّ الروح وإن استعمل في غير المقام في النفخ ، لكن لا يصير دليلا على كونه في المقام كذلك ، لا سيما بعد دلالة القرائن الكثيرة على أنّ المراد به غير ذلك ، فإنّ العطف بين الأمرين في المقام يقتضي المغايرة بينهما.

والحقّ أن يقال : إنّ كلّ واحد من الأمرين يمثّل جانبا من جوانب هذا النبي العظيم الّذي ظهرت آيات الله تعالى فيه من قبل ولادته الى حين رفعه الى السماء وبعده أيضا ، فإنّ الكلمة الّتي ألقاها الى مريم عليها‌السلام من دون أب ، وأمّا الجانب الروحاني منه عليه‌السلام فيكون في أنّه خلق بروح منه ، أي بأمر صادر منه عزوجل ، وهو أمر قدسي وسرّ إلهي يفيضه الله تعالى على من يشاء من خلقه ويختصّ به بعض عباده المخلصين ، منهم آدم عليه‌السلام أبو البشر كما عرفت ؛ ولذا كان خلق كلّ واحد منهما خلاف السنّة في خلق الناس ، قال تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [سورة آل عمران ، الآية : ٥٩] ،

١٩١

وبهذا الأمر فاق على جمع كثير من الأنبياء عليهم‌السلام ، ويشهد لهذا أنّ الناس إذا وصفوا شيئا في غاية الطهارة والنظافة قالوا : إنّه روح ، ولما كان عيسى لم يتكوّن من نطفة الأب ، بل كان بأمر صادر منه عزوجل ونفخة من روح القدس ، وصف بأنّه روح منه.

وممّا ذكرنا يظهر فساد ما قاله بعض المتكلّفين من النصارى ، حيث تمسّك بقوله تعالى : (وَرُوحٌ مِنْهُ) ؛ لإثبات دعواهم في المسيح عليه‌السلام من كونه جزءا منه عزوجل ، جاعلا (من) للتبعيض والجزاء الآخر هو روح القدس الّذي انبثق من الأب ، بل إنّه عينه ، ويستدلّون على ذلك بقول يوحنا حكاية عن المسيح : «ومتى جاء المعزى الّذي أرسله أنا إليكم من الأب روح الحقّ الّذي من عند الأب ينبثق فهو يشهد لي» ، وبعضهم عبّر عن الانبثاق بالخروج.

وكيف كان ، فإنّ الآية المباركة بمعزل عن ما ذكروه ، وإنّ (من) في المقام لا تكون تبعيضيّة ، بل هي للصدور ، ونظيره ما ورد في شأن آدم عليه‌السلام ، قال تعالى : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [سورة ص ، الآية : ٧٢].

قوله تعالى : (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ).

تفريع على صدر الكلام ، أي : فإذا عرفتم أمر عيسى بن مريم عليه‌السلام فآمنوا بالله وحده الّذي اختصّ بالالوهية ، وجمع جميع صفات الكمال وتنزّه عن جميع صفات الجلال. وآمنوا برسله كلّهم بوصف كونهم رسل ربّ العالمين ، ولا تخرجوا واحدا منهم الى ما يستحيل وصفه من الألوهيّة ونحوها ، فهم عبيد مأمورون خصّهم عزوجل بالفيض وأنزل إليهم الوحي.

قوله تعالى : (وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ).

ولا تقولوا : الآلهة ثلاثة ، وهي المعرفة عندهم بالأقانيم ـ وهم الأب ، والابن ، وروح القدس ـ فالله عندهم واحد بالجوهر وثلاثة بالأقانيم ، أي : أنّ كلّ واحد منها عين الآخر ، وكلّ منها إله كامل ، ومجموعها إله واحد.

ويمكن أن يكون المراد من الثلاثة هي الّتي حكى عزوجل عنها في قوله

١٩٢

تعالى : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) [سورة المائدة ، الآية : ١١٦] ، فيكون الثلاثة الله ، وعيسى ، ومريم ، ولعلّ هذا الاعتقاد هو الأساس للاعتقاد الأخير في الأقانيم الثلاثة. وسيأتي في البحث العقائدي تفصيل الكلام إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : (انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ).

أي : انتهوا عن مقالتكم الدالّة على الشرك واتّصاف الله تعالى بصفات المخلوقين أو اتّصافهم بصفات الخالق ، فإنّ هذا الانتهاء خير لكم في الدنيا والآخرة ، وإنّ الخير أن تؤمنوا بالله الواحد الأحد المنزّه عن مجانسة المخلوقين وعمّا لا يليق به ، وتؤمنوا برسله المبعوثين لهداية البشر.

قوله تعالى : (إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ).

بعد أن نفى مقالة النصارى وبيّن الإيمان الصحيح وردف عزوجل ذلك بالنهي عن ما يوجب الشرك وما يصادم المعقول ، أكّد ذلك بأنّ الله تعالى واحد ليس له أجزاء ، فهو واحد بالذات منزّه عن التعدّد مطلقا. وفي ذلك ردّ على مقالتهم الّتي تدلّ على التعدّد.

قوله تعالى : (سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ).

السبحان مفعول مطلق لفعل محذوف ، أي : «أسبحه تسبيحا وسبحانا» ، ويتعدّى ب (من) و (عن) ، وهو منصوب بنزع الخافض.

والمعنى : تنزّه وتقدّس عن أن يكون له ولد ، كما تقوله النصارى في المسيح إنّه ابنه ، فإنّه ليس كمثله شيء ، ولم يكن له جنس يقترن به ليكون زوجا له ، فتلد له ابنا.

وإنّما ذكر عزوجل لفظ الولد دون الابن الّذي يذكرونه في كلماتهم ؛ للدلالة على أنّ الولد إنّما يكون مولودا من أب وأم واقتراب منهما بالنكاح ، وكلّ ذلك محال على الله تعالى.

الآية المباركة تدلّ على التعظيم والتنزيه. وذلك يستلزم التقديس.

١٩٣

قوله تعالى : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ).

جملة استينافيّة مسوقة للتعليل والاحتجاج على وحدانيّة تعالى ونفي الولديّة منه وتنزّهه عن مجانسة مخلوقاته ، فإنّ كلّ ما في السموات والأرض مخلوق له ومملوك له في أصل ذاته وجميع آثاره ، فتدلّ على وحدانيّته ومظاهر صفاته ، فهو القيوم على جميعها ، ولا يمكن أن يكون الأثر مماثلا للمؤثّر ليتّخذ صاحبة وولدا ـ وقاعدة : «سنخيّة العلّة مع المعلول» المبحوث عنها في الفلسفة شيء آخر ولا ربط لها بالمماثلة ، كما هو واضح.

قوله تعالى : (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً).

دليل آخر على ثبوت جميع ما ورد في الآيات السابقة. والوكيل من أسمائه الحسنى ، أي : أنّه الولي لما سواه والحافظ له ، يدبّر أمره ويرعى شؤونه ، فهو الكافي ولا يكفي منه غيره ، وأنّه يهديكم الى ما هو خير لكم ويدعوكم الى ما يسعدكم في الدنيا والآخرة ، ويراقب أعمالكم وأقوالكم فيحاسبكم عليها ، إن خيرا فخيرا وإن شرّا فشرّا.

قوله تعالى : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ).

تقرير لما سبق من التنزيه ، وتأكيد على نفي الوهيّة المسيح مطلقا ولو فرض كونه ولدا له ، وقد أخذ عزوجل على النصارى بما هو معترف به لديهم ، فإنّهم لا ينكرون كون المسيح عبدا لله ولن يستنكف عن عبادته ، كما صرّحت به الأناجيل الدائرة عندهم أنّه كان يعبد الله تعالى.

منها : ما نقلناه في البحث السابق عن مرقس : «قال يسوع : إن نفسي حزينة حتّى الموت ، ثمّ خرّ على وجهه يصلّي لله تعالى ، وقال : أيّها الأب كلّ شيء بقدرتك ، أخّر عني هذا الكأس ، لكن كما تريد لا كما أريد ، ثمّ خرّ على وجهه يصلّي لله تعالى» ، ولا وجه لعبادة الولد الّذي يكون من سنخ الوالد الّذي يكون إلها ، ولا معنى لعبادة الشيء لنفسه أو عبادة أحد الثلاثة لثالثها الّذي يكون هو المجموع ، وكلّ واحد هو إله كما عرفت ، وهذا من أحسن الحجج وأتمّها ، حيث يذكر في

١٩٤

الاحتجاج ما هو المعترف به لدى الخصم ، فيحاج به ويسمّى في علم المنطق ب دليل الاقتناع.

ومادّة (نكف) تدلّ على الامتناع عن الشيء والانقباض منه أنفا وحميّة ، يقال : نكفت الشيء نحيّته ، ويقال : بحر لا ينكف ، أي : لا يبلغ آخره ، وغيث لا ينكف ، أي : لا ينقطع ، ومنه الاستنكاف وهو التكبّر الّذي يكون الترك عن أنفة ، ويتعدّى ب (من) و (عن).

والمعنى : لن يستكبر المسيح عن أن يعبد الله تعالى ، ولن يأنف أبدا أن يكون عبدا له عزوجل ؛ لأنّ العبوديّة لله العظيم شرف له ، وإنّما المذلّة في غيرها ممّن ادّعى الألوهيّة لنفسه الّتي لا يستحقّها. ولا بدّ أن يستنكف عن عبوديّة غيره تعالى.

وإنّما ذكر عزوجل العبوديّة دون غيرها من الألفاظ المرادفة ؛ لأنّ الكلام مع الكفرة الّذين ادّعوا الألوهيّة فيه ورفعوه عن مقام العبوديّة ؛ ولهذا قال عزوجل : (أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ) ، ولم يقل : عن عبادة الله ، ونحو ذلك.

وتدلّ الآية الشريفة على كمال نزاهته وعدم استنكافه بالكليّة ؛ لأنّها تدلّ على العليّة ، أي : علّة عدم استنكافه هي كونه عبدا لله ، بخلاف التعابير الاخرى الّتي لا تدلّ أكثر من اتّصافه بها ولو كانت مرّة واحدة ، ولا تدلّ على الدوام والتجدّد.

وبعبارة اخرى : أنّ اتّصاف الشخص بالعبادة يكفي فيه أن يكون مرّة واحدة وتحقّقها فيه كذلك ، فعدم الاستنكاف عنها لا يستلزم عدم الاستنكاف عن دوامها ، ويدلّ على ذلك أيضا التعبير عن عيسى عليه‌السلام بالمسيح الدالّ على العبوديّة ؛ لأنّه مبارك ولا ريب في أنّ عبادة من يعلم عظمة الله تعالى ويقرّ بأنّه عبد لله أفضل من كلّ عبادة.

قوله تعالى : (وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ).

عطف على المسيح ، فإنّهم لا يستنكفون عن أن يكونوا عبيدا له عزوجل ،

١٩٥

وتوصيفهم بأنّهم مقرّبون فيه العلّية على كونهم عبيدا لله تعالى ؛ لأنّهم مقرّبون ، فلو كانوا يستنكفون لما كانوا مقرّبين.

ويمكن أن ترجع هذه العلّة إلى المسيح أيضا ؛ لأنّه عزوجل وصفه بأنّه مقرّب أيضا في موضع آخر ، قال تعالى في شأنه : (وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) [سورة آل عمران ، الآية : ٤٥] ، فهو يستنكف عن أن يكون عبدا لغيره لأنّه مبارك ومقرّب.

وعلى هذا ، لا تدلّ الآية الشريفة على أفضليّة الملائكة من الأنبياء ، كما زعمه بعض المفسّرين ، مع أنّها غير ناظرة الى هذه الجهة أصلا ، والبحث مذكور في علم الكلام ، نذكره في الموضع المناسب إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : (وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ).

الاستكبار : طلب الكبر من غير استحقاق ، بمعنى أن يجعل نفسه كبيرة فوق ما هي عليه ؛ غرورا وإعجابا ، لا بمعنى طلب تحصيله مع اعتقاد عدم حصوله.

والاستكبار : مذموم بل هو أم المهالك ، وفي الحديث عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا يدخل الجنّة من كان في قلبه مثقال ذرّة من كبر ، فقال رجل : يا رسول الله ، إنّ الرجل يحبّ أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الله جميل ويحبّ الجمال ، الكبر بطر الحقّ وغمط الناس» ، أي : أن يجعل ما جعله الله تعالى حقّا ـ من توحيده وعبادته وقوانينه ـ باطلا ، أو يتجبّر عند مطلق الحقّ ، فلا يقبله ولا ينقاد له. وغمط الناس ، أي : استهانة بهم واستحقارهم ، فالحديث يفسّر الكبر المذموم بأحسن وجه.

والمستفاد من الآيات الشريفة والأحاديث الواردة في ذمّ الكبر أن للكبر درجات ، أعظمها الّتي تمنع صاحبه عن دخول الجنّة ، وهو الكبر على الله تعالى ، وذلك بعدم دخول الشخص في طاعته عزوجل كما مرّ ، وأمّا سائرها فإنّها تشترك في أنّ الصدّ عن نيل الكمال ، وتمنع السعادة وتؤدي بصاحبها إلى الخسران.

١٩٦

وذكر بعض أنّ الاستكبار هو الاستنكاف ، ولكنه ليس بشيء ، فإنّ الاستكبار دون الاستنكاف كما عرفت آنفا ، مع أنّ الأخير يستعمل حيث لا استحقاق مطلقا ، بخلاف التكبير ، فإنّه قد يكون باستحقاق كما هو في الله تعالى.

وكيف كان ، فالآية الشريفة في موضع التعليل لما سبق ، أي : كيف يستنكف المسيح بل الملائكة المقرّبون عن عبادته عزوجل؟! والحال أنّ من يستكبر عن عبادته ويرجع عنها أنفة وحمية فسيحشرهم إليه جميعا.

وإنّما ذكر سبحانه وتعالى الاستنكاف والاستكبار كليهما ؛ لاختلاف درجات العباد في العلم والجهل ، فيشمل جميع الأفراد ، سواء كان ترك العبادة عن استنكاف أم استكبار ، فإنّ الاستنكاف قد لا يوجب السخط الإلهي إذا لم يكن عن استكبار كما في الجهلاء والمستضعفين ، وأمّا الأنبياء والملائكة ، فإنّ استنكافهم لا يكون إلّا عن علم والتفات ، فيكون تركهم عن استكبار ، لكونهم عالمين بمقام ربّهم ؛ ولهذا اكتفى بذكر الاستنكاف فقط في المسيح والملائكة ولم يذكر الاستكبار ، وفي المقام ذكرهما معا ليشمل جميع عباده من الإنس والجن والملائكة.

قوله تعالى : (فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً).

أي : فسيحشرهم الله تعالى إليه جميعا ، سواء أكانوا صالحين أم ظالمين وسيحاسبهم على أعمالهم ويجزون عليها ، والملائكة والمسيح يعلمون بذلك ، فيكون تركهم للعبادة عن استكبار ، فهذه الآية الشريفة تكون بيانا للآية المباركة السابقة.

أي : أنّ استنكافهم إنّما يكون عن علم ، فتدلّ على نفي ذلك بالكليّة عنهم ، فهذا تأكيد آخر على عبوديّتهم له تعالى.

قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ).

تفصيل بعد إجمال لبيان الجزاء المترتّب على كلّ واحد من الفريقين المستنكفين المستكبرين عن عبادته ، وغيرهم الّذين آمنوا وعملوا الصالحات ولم يستنكفوا عن عبادة الله تعالى ، وإنّما قدّمهم تعظيما لجزائهم وتنويها بشرفهم.

قوله تعالى : (فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ).

١٩٧

التوفية هي الاستيفاء تامّا من غير نقص. أي : يعطيهم أجورهم من غير أنّ ينقص منها شيئا أصلا ، جزاء لإيمانهم وأعمالهم الصالحة.

وإنّما عبّر عزوجل عن الجزاء بالأجر لبيان أنّ أعمالهم محفوظة لديه جلّت عظمته ، وقد استوفاها منهم تامّا ، فسيجدون عوضها عنده سبحانه وتعالى كذلك ، وهذا يدلّ على كمال عطفه ورعايته للمؤمنين.

قوله تعالى : (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ).

فيزيد المؤمنين العاملين في أجورهم بتضعيفها أضعافا مضاعفة ؛ لأنّه الجواد الكريم ذو المن العظيم ، وإطلاق الزيادة يشمل جميع أنحائها كما وكيفا ومدّة ، وفي جميع العوالم ، فلا يعلم مقدارها ولا كنهها أحد إلّا الله تعالى.

قوله تعالى : (وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً).

بيان لجزاء الفريق الآخر الّذين استنكفوا واستكبروا عن عبادة الله تعالى ، فيعذبهم عذابا مؤلما لا يحيط به الوصف كما يستحقّون ، ولم تكن هنا زيادة ؛ لأنّ الجزاء لا بدّ أن يكون على قدر العمل ، فإنّ كان خيرا فالزيادة فيه إنّما تكون فضلا وامتنانا منه عزوجل ، وأمّا الزيادة في الشرّ فلا تجوز ؛ لأنّهم لا يستحقّونها ، فهو يجازي المسيء بالعدل فقط ويجازي المحسن بالعدل والفضل كليهما.

قوله تعالى : (وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً).

أي : لا يجدون لهم من غير الله تعالى وليا يلي أمورهم ويدبّرها ويرعى مصالحهم ، ولا نصيرا ينصرهم من بأس الله تعالى وممّا هم عليه من العقاب.

وإنّما ذكرهما عزوجل في المقام إبطالا لما زعموه في المسيح من الألوهيّة والتخليص من العذاب.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ).

نداء ربوبي الى الناس كافة يحبّب إليهم الإيمان بعد الجولة الطويلة مع الزائغين والكافرين ، إنّه نداء يرشدهم الى الكمال المنشود الّذي أعدّه الله تعالى لهم ،

١٩٨

إنّه نداء توجيه وتربية تعدّ الامة إعدادا كاملا لتحمّل الأمانة الكبرى ، وتحتل الصدارة بين الأمم ، إنّه نداء للتحبّب وليس للإنذار والتخويف ، فقد تضمّن هذا الخطاب العطف والرحمة من ربّ رؤوف رحيم ، يعلم جميع مصالح عباده ويدعوهم فيه إلى ما يسعدهم في الدنيا والآخرة ، ولأجل ذلك كان هذا الخطاب من المواضع المعدودة القليلة جدا في القرآن الكريم الّتي يذكر فيها جزاء المؤمنين وحدهم دون أن يذكر في مقابلها جزاء الكافرين المعاندين.

والآية المباركة تدلّ على أنّ الحجّة قد تمّت على الناس ولزمتهم ، فلم يبق بعد ذلك عذر لمتعذّر ، ولا علّة لمتعلّل ، قال تعالى : (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) [سورة الانعام ، الآية : ١٤٩] ، وتقدّم قوله تعالى : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [سورة النساء ، الآية : ١٦٥].

والبرهان : هو بيان الحجّة يأتي مصدرا كما في المقام ، ويأتي بمعنى الفاعل في ما إذا اطلق على نفس الدليل والحجّة ، ومنه إطلاقه على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

والمعنى : أنّه قد جاءكم من قبل ربّكم الّذي تكفّل تربيتكم وتزكية نفوسكم ما فيه الحجّة القاطعة الّتي يبيّن فيها حقيقة إيمانكم وجميع ما تحتاجون إليه في أمر دينكم ودنياكم وآخرتكم ويتضمّن سعادتكم ، وهو عامّ يشمل جميع ما يكون من قبله عزوجل ممّا له دخل في هداية الإنسان ـ كالأحكام الشرعيّة ، والتوجيهات الربوبيّة ، والحقائق الواقعيّة ـ ونفس الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّه برهان عظيم ، ومظهر الحقّ ، ومصداق العدل والقسط بين حقيقة الشريعة وواقعها بسيرته العمليّة ، فهو معلّم البشريّة حقائق العلوم الإلهيّة والتوجيهات الربوبيّة ، ومظهر صفات الخالق العظيم ، ومعجزة الدهر ، فهو خير برهان وأتمّ دليل ، قال تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) [سورة الأحزاب ، الآية : ٢١].

قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً).

تأكيد لما سبق إذا كان المراد من النور هو البرهان ، فإنّه نور بيّن في نفسه

١٩٩

ومبيّن للآخرين ، فتتجلّى لكم الحقائق ، وأمّا إذا كان المراد به القرآن الكريم فيكون من قبيل ذكر الخاصّ بعد العامّ ، فإطلاق البرهان عليه لأنّه أقوى دليل وأتمّ حجّة على صدق ما جاء به الرسول الكريم ، وأمّا كونه نورا فإنّه بيّن بنفسه وحقّ واضح لا يحتاج الى إثبات كونه من عند الله تعالى ، فهو معجزة خالدة في أسلوبه وبلاغته وحقيقته ، وقد تضمّن من المعارف الإلهيّة والحقائق الواقعيّة والتوجيهات الربوبيّة والأحكام التشريعيّة ما يبهر منه العقول ، وهو مبيّن لغيره بإخراجهم من الظلمات الى النور وإرشادهم الى الحقّ.

قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ).

بيان لثواب من اتّبع برهان ربّه وآمن بالنور الّذي أنزله على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذكرنا أنّ هذه الآية الشريفة من المواضع المعدودة في القرآن الكريم الّتي يذكر فيها جزاء المؤمنين الصادقين وإيمانهم ، ولم يذكر فيها جزاء الكافرين والمعاندين ؛ لأنّ أسلوب الخطاب أسلوب التحبّب والرأفة ، ولأنّه عزوجل ذكر جزاءهم في الآيات السابقة ، وقد كان معهم جولة طويلة في هذه السورة ، ولأنّه جلّ شأنه أراد أن يكون ختام هذه السورة باستثناء آية الكلالة بالذكر الجميل والثواب الجزيل والعطف والرحمة دون الخوف والخيبة.

والآية الشريفة تبيّن حقيقة الإيمان المطلوب من الناس ، وهي الإيمان بالله العظيم وحده لا شريك له ، حسبما أوجبه البرهان الذي جاءهم دون ما يقترحه أهل الزيغ والضلال.

قوله تعالى : (وَاعْتَصَمُوا بِهِ).

الاعتصام : التمسّك بما يعصم ويحفظ ، وهو مأخوذ من العصام وهو الحبل الّذي تشدّ به القربة والإداوة لتحمل به ، وقد تقدّم في قوله تعالى : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٠٣] ما يتعلّق باشتقاق هذه الكلمة.

والاعتصام به عزوجل هو الأخذ بكتاب الله عزوجل واتّباع رسوله

٢٠٠