مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١٠

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١٠

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤١٥

(لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (١٦٢) إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (١٦٣) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً (١٦٤) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٦٥) لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (١٦٦) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (١٦٧) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (١٦٨) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٦٩))

بعد ما ذكر سبحانه وتعالى مظالم اليهود وجرائمهم من عنادهم مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ونقضهم للمواثيق المؤكّدة ، وكفرهم بالله تعالى وآياته ورسله ، وقتلهم الأنبياء بغير حقّ ، وغيرها من المظالم الّتي عدّدها تفصيلا للتذكير ، والتحذير ، والموعظة ، وبين جلّ شأنه أنّ كفرهم إنّما كان عن عناد ولجاج.

كما بيّن عزوجل الجزاء الّذي استحقّوه بسبب ظلمهم وفعلهم السيئات ، وقد ذكر تعالى نوعين من العقاب الدنيوي ـ وهو التكاليف الشاقّة من تحريم الطيبات ، والحدود والتعزيرات وغيرها ممّا ذكره في غير المقام أيضا ـ والاخروي وهو العذاب الأليم الّذي أعدّه الله تعالى لهم.

يذكر سبحانه وتعالى في هذه الآيات الشريفة جملة اخرى من الحقائق الّتي تتعلّق بأهل الكتاب ، فقد استثنى عزوجل ممّا ذكره في اليهود آنفا الأخيار الّذين

١٦١

آمنوا إيمانا صادقا ، وهم الراسخون في العلم المؤمنون بالله العظيم حق الإيمان فلا يشملهم ما شمل اليهود من الخسران وسوء العاقبة ، فإنّ لهؤلاء المؤمنين أجرا عظيما لا يدركه أحد.

ثمّ يعقّب جلّت عظمته بعد بيان حال الطائفتين الكافرة الظالمة والمؤمنة إيمانا صادقا توطئة للمحاجّة مع النصارى بذكر حقيقة رئيسية في حياة الرسل والبشرية ، وهي أنّ الوحي الى جميع الأنبياء والمرسلين شيء واحد ، فما اوحي الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هو ذاته الّذي اوحي الى النبيين من قبل ، سواء كانوا المذكرين في القرآن الكريم الّذين قصّ عزوجل علينا أخبارهم أم غير المذكورين ، فإنّه وحي واحد للرسل جميعا ، وهو الدعوة الى عبادة الواحد الأحد الّذي لا شريك له كما أنّهم جميعا يشتركون في غاية واحدة ، وهي (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [سورة النساء ، الآية : ١٦٥] ، فلم يأخذ عزوجل الناس بميثاق الفطرة وحده ، ولم يكلهم الى أنفسهم رحمة بهم ، لأنّهم عرضة الأهواء الباطلة والانحراف عن الفطرة ، بل أرسل إليهم رسلا مبشّرين لاختلاف طبائع الناس في هذا الأمر ، وأخذ عهدا على نفسه أن لا يعذّب أحدا حتّى يبعث فيهم رسولا ، فإذا كان الوحي واحد والغاية متّحدة ، فالإيمان بواحد من الرسل إيمانا صادقا يستدعي الإيمان ببقية المرسلين ، فيكون الإيمان بخاتم المرسلين من جملة الإيمان بهم جميعا ، وكفى بذلك شهادة على نبوّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّ الله يشهد للرسول والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا ، فلا يضرّه صلى‌الله‌عليه‌وآله إنكارهم ولا عدم شهادتهم بنبوّته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإنّما يضرّوا أنفسهم ، أو يضرّون مجتمعهم ، كما تدلّ عليه الآيات الشريفة.

وبعد إقامة الحجّة عليهم وتذكيرهم بالفطرة المستقيمة ، يعنف السياق على المنكرين وينذر الكافرين ـ الّذين يصدّون عن سبيل الله ويعرضون الناس عن الإيمان بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ سوء العاقبة ويوعدهم أشدّ الوعيد ، فلم يهدهم طريقا إلّا طريق جهنّم.

١٦٢

ويوجّه الخطاب بعد أن كان مع أهل الكتاب الى الناس كافّة بشأن بعثة خاتم المرسلين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد إقامة الشهادة على صدق نبوّته ، ويأمرهم بالإيمان به وبالرسل جميعا على استقامة ، فإنّ الإيمان خير لهم من الكفر الّذي يوردهم الى الخسران.

وتختتم الآيات المباركة بحقيقة واقعيّة فيها تذكير للكافرين بأنّ الله تعالى غني عنهم لا يضرّه كفرهم ، فإنّ لله ملك السموات والأرض وهو العليم الحكيم ، ومن حكمته أنّه لا يعاقبهم بكفرهم إلّا بعد إرسال الرسل وإقامة الحجّة مع علمه بالكافرين والمؤمنين منهم.

التفسير

قوله تعالى : (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ).

استدراك من قوله تعالى : (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) لبيان أنّ بعضهم على خلاف حالهم في الآجل والعاجل ، واستثناء من أهل الكتاب الّذين ذكرت أحوالهم في الآيات الشريفة السابقة ، فإنّ بعضهم لم يكن كذلك فقد علموا بالحقّ وثبتوا على علمهم ، فلم ينكروه عنادا ولجاجا كما فعله غيرهم من أهل الكتاب ، ولم يتّبعوهم في مظالمهم وجرائمهم ، فلم يسألوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن ينزل عليهم كتابا من السماء ، إنكارا لما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإعلاما منهم بأنّه لا يكفي ما انزل على الرسول من الكتاب والحكمة في دعوته الى الحقّ ، مع أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن بدعا ـ من الرسل ـ فهو مثل سائر الأنبياء والمرسلين لم يدعهم إلّا الى ما دعوا إليه ، فآمن هؤلاء الراسخون في العلم العارفون حقيقة الحال بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وما انزل إليه وما انزل من قبله ، بعد أن عرفوا أنّ الأنبياء على كثرتهم متّحدون في الدعوة والغاية وهم مشتركون في أغلب السجايا والأخلاق ، قال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ* وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً

١٦٣

لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ) [سورة الأنبياء ، الآية : ٧ ـ ٨] ، فيستفاد منه أن لا امتياز بينهم في أصل الرسالة ، كما تقدّم في البحث العرفاني في الآيات المباركة السابقة ، وقال تعالى : (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [سورة الأنبياء ، الآية : ١٠].

ويدلّ قوله تعالى : (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ) على أنّ أهل الكتاب كلّهم كانوا يعلمون الحقّ ولكنهم أنكروه جحودا وعنادا ، إلّا من رسخ في علمه وثبت عليه واستقام ، فتحقّق فيه سجيّة اتّباع الحقّ والإيمان بالرسول العظيم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

قوله تعالى : (وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ).

وصف لهم بالإيمان بعد ما وصفهم بما يوجبه من الرسوخ في العلم ، وإنّما عطف بينها ب (و) إيماء الى اختلافهما في الذات كما اختلفا في العنوان ، وإعلاما بأنّ إيمانهم إيمان إذعان لا إيمان عصبيّة وجدل. وهذان الوصفان من أعلى الأوصاف ، فإنّهما يدلان على كون الإيمان منهم على معرفة ويقين وثبات ، فلم يكن عن جهل وقوميّة أو عصيبة ظلماء ، فيكون ذلك بأهل الكتاب أنسب منه بالمؤمنين من غيرهم ، الّذين وصفهم عزوجل بقوله تعالى : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ) [سورة يس ، الآية : ٦] ، وإنّما آمنوا بما انزل على الرسول وما انزل من قبله ؛ لأنّهم عرفوا أنّ الأنبياء كلّهم متّحدون في الدعوة والغاية كما عرفت.

قوله تعالى : (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ).

جملة معطوفة على «الراسخون» ـ ومثلها جملة «والمؤتون الزّكاة» ـ تبيّن وصفا آخر وهو إقامة الصلاة ، أي أدائها على وجه الكمال والتمام ، كما عرفت في اشتقاق هذه الكلمة في غير المقام.

وقد اختلف العلماء في إعراب هذه الجملة ، فقيل : إنّها منصوبة على وجه المدح والاختصاص ، أي : أعني وأخصّ المقيمين الصلاة ، فإنّهم أجدر بالرسوخ في

١٦٤

الإيمان ، فيكون لإقامة الصلاة شأن خاصّ في الرسوخ في العلم وتوفيقهم الى الإيمان وعنايته عزوجل بهم. واختلاف مفردات الخطاب في الإعراب أسلوب بلاغي رفيع ؛ لأنّه ينبّه الذهن الى التأمّل فيه ، ويهدي الفكر الى استخراج المزايا الّتي وردت في الكلام ، وله نظائر كثيرة في النطق كالتغيير في جرس الصوت ورفعه وخفضه ونحو ذلك ، وفي غير النطق أيضا ممّا استحدثت في هذه الأعصار.

وقيل : إنّها جملة مستأنفة منصوبة على المدح والاختصاص.

وقيل : إنّ «المقيمين» معطوف على المجرور قبله ، فيكون المعنى : يؤمنون بما انزل إليك ، وما انزل من قبلك على الرسل ، وبالمقيمين الصلاة وهم :

إمّا الأنبياء الّذين وصفهم الله عزوجل بإقام الصلاة ، قال تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ) [سورة الأنبياء ، الآية : ٧٣] ، أو المؤمنون الّذين أمرنا الله تعالى باتّباع سبيلهم ، قال تعالى : (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَ) [سورة لقمان ، الآية : ١٥].

أو الملائكة الّذين حكى تعالى عنهم : (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ* وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) [سورة الصافات ، الآية : ١٦٥ ـ ١٦٦].

واعترضوا على القول السابق بأنّ النصب على المدح إنّما يكون بعد إتمام الكلام ، وهنا ليس كذلك لأنّ الخبر سيأتي.

والجواب عنه أنّه لا دليل على ذلك ، فيجوز الاعتراض بين المبتدأ والخبر ، فالنصب يجوز أن يكون لأجل مزيّة خاصّة ، فإذا قلت : مررت بزيد الكريم ، فإن أردت أن تعرف زيدا الكريم من زيد غير الكريم فالوجه الجرّ ، وإن أردت المدح والثناء فإن شئت نصبت ، وقلت : مررت بزيد الكريم ، كأنك قلت : اذكر الكريم. وإن شئت رفعت فقلت : الكريم على تقدير الكريم.

وقال بعضهم : إنّه معطوف على الضمير في «منهم» ، فيكون المعنى : لكن الراسخون في العلم منهم ومن المقيمين الصلاة.

وقال آخرون : إنّه معطوف على الضمير في «إليك».

١٦٥

وقيل : على الضمير في «قبلك» ، أي : بما انزل من قبل ومن قبل المقيمين الصلاة.

وروي أنّ الكلمة في مصحف ابن مسعود «والمقيمون الصلاة» ، وردّه بعضهم بأنّه ضعيف لم تثبت روايته عن ابن مسعود.

والصحيح هو الوجه الأوّل ؛ لما فيه من النكتة البلاغيّة الّتي لم توجد في غيره من الأقوال ، ولبيان فضل الصلاة وعظيم أثرها من التوفيق والهداية ، ومثل ذلك غير عادم النظير في القرآن الكريم وكلمات الفصحاء ، وقد تقدّم مثله في سورة البقرة أيضا فراجع.

ومن ذلك كلّه يظهر بطلان ما قيل في أنّ النصب وهم أو لحن ، استنادا الى ما روي عن عروة عن عائشة ، قال : «سألتها عن قوله تعالى : (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) وعن قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ) [سورة المائدة ، الآية : ٦٩] ، وقوله تعالى : (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) [سورة طه ، الآية : ٦٣]؟ فقالت : يا ابن اختي ، هذا عمل الكتّاب أخطئوا في الكتاب» ، وما روي أيضا : «من أنّ في كتاب الله أشياء ستصلحها العرب بألسنتها» ، كلّ ذلك لا دليل عليه ولم تثبت روايته.

قال الزمخشري في الآية الشريفة : «نصب على المدح لبيان فضل الصلاة ، وهو باب واسع قد كسّره سيبويه على أمثلة وشواهد ، ولا يلتفت الى ما زعموا من وقوعه ظنّا في خطّ المصحف ، وربما التفت إليه من لم ينظر في الكتاب (أي كتاب سيبويه) ، ولم يعرف مذاهب العرب وما لهم من النصب على الاختصاص من الافتنان ، وغبي عليه أنّ السابقين الأوّلين كانوا أبعد همّة في الغيرة على الإسلام وذبّ المطاعن عنه من أن يتركوا في كتاب الله ثلمة ليسدّها من بعدهم ، وخرقا يرفوه من يلحق بهم».

قوله تعالى : (وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ).

وصف آخر من أوصاف الراسخين في العالم من أهل الكتاب ، وهو إيتاء

١٦٦

الزكاة الّتي هي قرين الصلاة في القرآن الكريم.

وإنّما قدّم الصلاة عليها ؛ لأنّ الصلاة تزكّي النفوس وتعلي همّة الإنسان ، فيهون عليها بذل المال ، فإقامة الصلاة تستلزم إيتاء الزكاة دون العكس ، قال تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً* إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً* وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ) [سورة المعارج ، الآية : ١٩ ـ ٢٢].

قوله تعالى : (وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ).

عطف على «الراسخون» وبيان لوصف آخر وهو الإيمان بالمبدأ والمعاد ، فإنّ الإيمان الحقّ ما كان مشتملا على الإيمان بالمبدأ الواقعي ، وهو الله جلّ شأنه ، والإيمان بالمعاد ، والإيمان برسل الله تعالى الّذين أرسلهم لهداية البشر ، والإيمان بما جاء به الرسل من الحكمة والمعارف والتشريعات.

وقد وصف عزوجل إيمان الراسخين في العلم من أهل الكتاب بأوصاف جليلة تبيّن علوّ منزلتهم وكبر شأنهم ، فقد ذكر عزوجل أركان الإيمان المطلوب كما عرفت ، ووصف إيمانهم بأنّه إيمان علم ومعرفة وإذعان ، وهو من أعلى درجات الإيمان ، ولعلّه لأجل ذلك تكرّر لفظ «المؤمنون» في الآية المباركة تنويها لشرفهم.

قوله تعالى : (أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً).

أي : أولئك الموصوفون بما ذكر من الأوصاف الجليلة الشأن سنعطيهم في الآخرة أجرا عظيما لا يوصف كنهه ولا يدرك حقيقته أحد إلّا الله تعالى ؛ لتناسب العطاء مع المعطي جلّ شأنه.

وقد أكّد عزوجل هذا الوعد بذكر (السين) وفخّمه بتنكير الأجر ، وبيّن أهميّته بذكره مقابل ما أوعدهم غيرهم من أهل الكتاب بالعذاب الأليم.

قوله تعالى : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ).

تعليل لما سبق ذكره في إيمان المستثنين ، وردّ على ما زعمه أهل الكتاب من الفرق بين أفراد الموحى إليهم ، فقد أنكروا نبوّة خاتم النبيين صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وطلبوا منه إنزال

١٦٧

كتاب من السماء ، فالآية الشريفة تبيّن أنّه رسول الله وأنّ شأنه في الوحي شأن سائر الأنبياء (عليهم الصلاة والسّلام) ، وأنّ الوحي النازل منه تعالى واحد للرسل جميعا ، فإنّه عزوجل بما له من العظمة والكبرياء وما له من مقام رحمته الّتي هي من شؤون ألوهيته وربوبيّته أنزل الوحي على نوح والنبيين من بعده ، وأنزل الوحي على رسول الله خاتم النبيين لهداية البشر ، ولم يسأل أحد من الأنبياء قبلك أن ينزل عليهم كتابا كما سألوك ؛ عنادا ولجاجا وتشكيكا منهم في نبوّتك ، وإن سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا : (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) [سورة النساء ، الآية : ١٥٣] ، فإنّ الوحي لشاهد قوي على صدقك وصدق الأنبياء قبلك إلّا الراسخين في العلم منهم فقد آمنوا بك ؛ لأنّهم علموا أنّ الوحي واحد ، والأنبياء عليهم‌السلام كلّهم على نهج واحد ، فإنّهم رسل مبشرون ومنذرون ، أرسلهم الله تعالى لإتمام الحجّة ، وأنزل عليهم الوحي الّذي يشتمل على التوجيهات والتكاليف الّتي هي في صالح البشر وترشدهم الى كمالهم المنشود.

وإنّما ذكر عزوجل نوحا لأنّه أوّل نبي انزل عليه الكتاب وجاء بشريعة ، وأمّا الأنبياء بعده فقد كانوا على شريعته الى إبراهيم خليل الرحمن عليه‌السلام ، فقد جاء بالحنيفيّة وشريعة جديدة ، ثم الأنبياء من بعده على شريعته الى عصر موسى كليم الله عليهم‌السلام ، الّذي أتى بشريعة جديدة وانزل عليه التوراة ، وأمّا الأنبياء بعده ، فإنّهم كانوا على شريعته ومنهاجا حتّى عصر عيسى عليه‌السلام الّذي انزل عليه الإنجيل وأتى بشريعة.

وما هو المعروف من أنّ المسيح ليست له شريعة غير شريعة موسى عليه‌السلام كما هو ظاهر الآية الشريفة ـ أيضا ـ النازلة في شأن عيسى عليه‌السلام : (وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) [سورة آل عمران ، الآية : ٥٠] وغيرها من الآيات المباركة.

يمكن المناقشة فيه من أنّ التغيير أو التبديل في الشريعة السابقة يكفي في تأسيس الشريعة ، وقد تقدّم منّا مكرّرا من أنّ الشرائع كلّها متّحدة ، وأنّ كلّ

١٦٨

شريعة مكمّلة لما قبلها ، وأنّ شريعة خاتم الأنبياء أكملها ، وتدلّ على ذلك روايات كثيرة ، منها ما عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «بعثت لاتّمم مكارم الأخلاق» ، فشريعة عيسى عليه‌السلام مكمّلة لشريعة موسى عليه‌السلام وكانت شريعة عيسى عليه‌السلام مستمرة الى عصر خاتم الأنبياء والمرسلين صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقد انزل عليه القرآن الكريم وأتى بشريعة تضمّنت جميع الشرائع الإلهيّة ، فصارت خاتمة لها ، فهو صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الخاتم لما سبق والفاتح لما استقبل والمهيمن على ذلك كلّه».

قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً).

تفصيل بعد إجمال ، فإنّ هؤلاء كلّهم أنبياء الله تعالى ، وقد آمن بهم أهل الكتاب وانزل عليهم الوحي ، وبعضهم جاء بشريعة وكتاب كإبراهيم وعيسى ، وبعضهم أرسلوا بغير كتاب كأيوب ويونس ، وهارون وسليمان ولكنّهم جميعا مشتركون في الوحي الإلهي ، فلم يعترض عليهم أحد بإنزال كتاب كما اعترضوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وإنّما قدّم إبراهيم عليه‌السلام تشريفا له ؛ لأنّه عليه‌السلام أبو الأنبياء الّذين بعده ، وقد اعترفت بنبوّته جميع الأديان الإلهيّة ، وذكر عيسى عليه‌السلام مقدّما على غيره من الأنبياء عليهم‌السلام تحقيقا لنبوّته وقطعا لمنازعة اليهود فيه.

والأسباط : هم من ذرّية يعقوب عليه‌السلام ، وهي جمع سبط الّذي يطلق على ولد الولد ، وهم اثنا عشر ، وقد تقدّم في قوله تعالى : (وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ) [سورة آل عمران ، الآية : ٨٤] بعض الكلام.

وإنّما خصّ زبور داود عليه‌السلام بالذكر ؛ لأنّ له شأنا خاصّا عند أهل الكتاب ، وإلّا فلا يخرج عن سائر أفراد الوحي.

قوله تعالى : (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ).

أي : وأرسلنا رسلا غير هؤلاء المذكورين قد قصصناهم عليك من قبل

١٦٩

نزول هذه السورة ، فإنّهم رسل الله تعالى وأوحى عزوجل إليهم ما أوحى الى هؤلاء المذكورين. وقد ذكر تعالى جملة من قصصهم في سورتي هود والشعراء.

قوله تعالى : (وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ).

فإنّ القرآن الكريم لم يذكر جميع الأنبياء والمرسلين ، وإنّما ذكر بعضهم وبعضا من أحوالهم وأحوال أمتهم للعظة والعبرة.

قوله تعالى : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً).

مزيّة خاصّة لموسى عليه‌السلام لم تكن لغيره من الأنبياء عليهم‌السلام حتّى عرف بينهم ب (كليم الله) ، وهو نوع من أقسام الوحي الّتي سيأتي ذكرها في بحث خاصّ ، وقد تقدّم البحث في كلام الله تعالى في سورة البقرة الآية ـ ٢٥٣ في قوله تعالى : (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ).

وإنّما أكّد عزوجل ذلك بقوله : (تَكْلِيماً) ؛ لرفع كلّ تأويل ومجاز في المقام ، فإنّ التكلّم حصل بين موسى عليه‌السلام وبينه جلّ شأنه كرارا ومرارا ، كما حصل لنبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله في ليلة المعراج.

قوله تعالى : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ).

أي : أنّ أولئك الرسل الّذين منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك إنّما هو ذو أحوال ـ أو أوصاف ثلاث ـ رسلا أرسلهم الله تعالى لهداية البشر وإخراجهم من الضلالة والعمى الى النور ، وأوحى إليهم ما يوجب كمالهم ، لعدم كفاية داعي الفطرة والعقل في الهداية ، وعدم اغنائهما عن بعث الرسل ، مبشرين لمن آمن وأطاع وعمل صالحا بالثواب الجزيل والأجر العظيم ، ومنذرين : لمن تولّى وكفر وعصى بالوعيد والعذاب الأليم.

وإنّما كانوا مبشّرين ومنذرين ؛ لاختلاف طبائع الناس ؛ لأنّ منهم من يكتفي فيه بالبشارة فيؤمن ، ومنهم من لا يهتدي إلّا بالإنذار والتخويف.

أو لأنّ الإنسان لما كان مركبا من قوى متخالفة وذا أمزجة متعدّدة فبعضها تقهر بالتطميع والتبشير ، وبعضها لا يفيده إلّا التخويف والتشديد ، والعاقل إنّما

١٧٠

يتحكّم في هذه القوى بهاتين الركيزتين اللتين ذكرهما عزوجل في هذه الآية الشريفة ، وهما مصدر الرجاء والخوف.

بل يستفاد من الآيات المباركة الواردة في الثواب والعقاب في القرآن الكريم أنّ الإنسان إنّما يحيي ويكون صالحا بهاتين الخصلتين ـ الخوف والرجاء ـ وهما أهمّ الدعامات في التربية الإسلاميّة ، ولا يمكن أن تستوفي الفوائد المترتّبة عليها إلّا بهما ، فلما اقترن ذكرها بأهمّ حدث في الإنسانيّة وهو الرسالة لعظيم أثرها وعدم استغنائها منهما.

قوله تعالى : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ).

غاية من غايات بعث الرسل والأنبياء ، وهي تنبئ عن عظيم لطفه بعباده وعنايته بهم ، حيث جعل لهم حجّة عليه عزوجل لو لم يبعث الرسل إليهم ، ولم يكتف بما أنعم عليهم من السمع والأبصار والأفئدة ، وما أودع فيهم من الفطرة الداعية الى التوحيد والحقّ والعدل ، وأنّ من كرمه عزوجل بهم أنّه لم يكلهم الى أنفسهم رغم ما وهب لهم العقل ، لعلمه الأتم بأنّهم عرضة للهوى والانحراف والضلال في العقل الموهوب ، وانتكاس الفطرة ، بل أرسل إليهم رسلا مبشّرين ومنذرين لينيروا لهم الطريق ويرشدوهم الى ما أفسدوه من الفطرة باتّباع الشهوات وفعل المعاصي والآثام ؛ لئلّا يكون للناس على الله حجّة بعد إرسال الرسل وتبليغهم للشريعة ، فلا يعتذروا بالجهل ويكون الثواب والعقاب على طبق قانون العقل.

قوله تعالى : (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً).

أي : له العزّة والحكمة المطلقتان ، فلم يغلبه أحد في أمر يريده ، ويستحيل أن يغلبه شخص بحجّة ، فإنّ له الحجّة البالغة ، لكن من حكمته أنّه قطع حجّتهم بإرسال الرسل وبعث الأنبياء وتشريع الشرائع وإنزال الكتب لهدايتهم.

قوله تعالى : (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ).

استدراك عمّا قبله ويتضمّن معنى الاستثناء والردّ عليهم وتبكيتهم بإنكارهم

١٧١

لنبوّته صلى‌الله‌عليه‌وآله وعدم شهادتهم بها مع علمهم بالمشهود به ووضوحه لديهم ، ومع ذلك كلّه ينكرون ويكابرون بالشهادة والإيمان ويكفرون به صلى‌الله‌عليه‌وآله وبما أنزلنا إليه فيسألونه أن ينزل عليهم كتابا من السماء ، وقد ردّ عليهم بأنّهم سألوا موسى عليه‌السلام أكبر من ذلك ، وأنّهم في سؤالهم هذا مكابرون ؛ لأنّ ما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وما اوحي إليه هو نفس ما اوحي الى سائر النبيين ، وأنّ الوحي واحد والغاية متّحدة ، فإن لم تلزمهم الحجّة ويشهدوا لك بالنبوّة والرسالة ، فالله تعالى يشهد بنبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وصدق ما انزل إليه ، وهذه مزيّة خاصّة لنبوّة خاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّه عزوجل يشهد بحقيقة ما انزل إليه ، وهو يكفي في الشهادة على نبوّته وصدقه صلى‌الله‌عليه‌وآله لإعجازه ، فلا يحتاج الى إنزال كتاب آخر ، وفيه الردّ على سؤالهم ولجاجهم.

قوله تعالى : (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ).

تأييد آخر لصدق ما انزل الى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وحقيقته ، وبيان الى أنّ ما انزل إليه إنّما كان عن علم بجميع خصوصيات المنزل وإحاطته به إحاطة تامّة يسلم عن كلّ باطل وزيغ ، وتتضمّن الآية الشريفة أمورا كثيرة.

منها : أنّ ما انزل إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله هو من علمه الأتم ، فيحتوي على جميع الحقائق الواقعيّة والتوجيهات الربوبيّة والتشريعات الربانيّة فتكون هذه مزيّة فائقة على جميع الكتب الإلهيّة.

ومنها : أنّه أنزله بعلمه الخاصّ الّذي لا يعلمه غيره ، فيكون معجزة خارقة للعادة ، يعجز عنه كلّ بليغ وصاحب بيان.

ومنها : أنّه أنزله بعلمه لئلّا يفسده الشيطان ، فيضع الباطل مكان الحقّ أو يخلطه ، فيدخل شيئا من الباطل في الوحي الإلهي الحقّ ، قال تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً* إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً* لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) [سورة الجن ، الآية : ٢٧ ـ ٢٨].

١٧٢

ومنها : أنّه أنزله بعلمه فقط فلم يعلم به غيره عزوجل أبدا ، لا أنت ولا قومك ولا غيرهم ، قال تعالى : (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) [سورة هود ، الآية : ٤٩] ، وقال تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) [سورة الشورى ، الآية : ٥٢].

ومنها : انّما أنزله بعلم تامّ بأنّك أهل لإنزاله عليك ، وعلمه بأنّك تقوم بأعباء الرسالة خير قيام. وهذه الجملة المباركة تتضمّن هذه المعاني الدقيقة وغيرها ممّا لم يسع أفهامنا إليه ، وهي تكفي في الدلالة على إعجاز هذا الكتاب العظيم وصدق المنزل عليه ، وحقيقة ما جاء صلى‌الله‌عليه‌وآله به ، فسبحان من يعلم دقائق الأمور وخفياتها ، كما فيه التبكيت العظيم لجهلهم وعنادهم.

قوله تعالى : (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً).

فإنّه تعالى هو العالم بجميع الأمور ، فقد بالغ في الشهادة بجميع جوانبها ووجوهها على وجه لا تحتاج معه إلى شهادة غيره عزوجل ، قال تعالى : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) [سورة الأنعام ، الآية : ١٩] ، وقد حكى عزوجل في القرآن الكريم ما أوضح السبيل ، وأنار الطريق ، ونصب الدليل ، وأزال الشبهة وكلّ ريب. وحقّا أن يقول سبحانه وتعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) [سورة الأسراء ، الآية : ٨٨].

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ).

الخطاب مع أهل الكتاب ، وفيه من التعنيف والتشديد عليهم ما لا يخفى ؛ لأنّ الكفر إنّما كان بعد بيان الحجّة البالغة والاحتجاج عليهم بثبوت نبوّته صلى‌الله‌عليه‌وآله وشهادته عزوجل وشهادة الملائكة عليها وتصديقه لما أنزله عزوجل

١٧٣

عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبيان أنّ ما أنزله من الوحي عليه إنّما كان مثل ما اوحي الى النبيين من قبله ، فمن أعرض بعد وضوح الحجّة ، فإنّما يكون إعراضه عن ضلال ، وكفره عن عناد ولجاج.

والمعنى : أنّ الّذين كفروا من أهل الكتاب بما انزل إليك ، وصدّوا عن الحقّ بإنكار نبوّتك وكلّ ما يوجب السلوك الى رضوان الله تعالى ، وحملوا غيرهم على الإعراض والتشكيك والتمويه وتلبيس الحقّ بالباطل ، والمراد بسبيل الله هو بعثة خاتم الأنبياء ورسالته والكتاب الّذي انزل عليه وكلّ ما اوحي إليه من التشريعات والتوجيهات والحكم والمعارف.

وإنّما ذكره عزوجل بدل الكتاب ؛ للدلالة على أنّه من طرق الحقّ ومن سبل رضوان الله تعالى ، وهذه شهادة اخرى على حقيقته ، وليشمل ما ورد في كتبهم من الأدلّة على نبوّة نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله والبشارة ببعثته الّتي حرّفوها وأوّلوها بالباطل ، ولبيان شناعة فعلهم بصدّهم عن سبيل الله تعالى مع ادّعائهم الإيمان به عزوجل ، ولترتيب الجزاء العظيم على فعلهم الّذي يذكره في الآية اللاحقة.

قوله تعالى : (قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً).

أي : فقد بعدوا عن الحقّ وسلوك طريق الهدى بعدا شاسعا بالكفر والصدّ عن سبيل الله تعالى.

وإنّما كانوا على الضلال البعيد ؛ لأنّهم كفروا وصدّوا وضلّوا وأضلّوا ، ولأن كفرهم كان بعد وضوح الحجّة وإلزامهم بها ، فكان عن عناد للحقّ واستكبار عن قبوله ، فكان ضلالهم بعيدا عن قبول كلّ ما يرشدهم الى الصراط المستقيم ، فقد استولى الكفر على سمعهم وأبصارهم ولم يكادوا يفقهون سبيلا يوصلهم الى الحقّ.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا).

تأكيد لما ورد في الآية الكريمة السابقة ، وتثبيت لمضمونها لأهمّيّته ، والمراد بالظلم هو الكفر والصدّ عن سبيل لله تعالى ، فقد احتملوا ظلما كبيرا بصدّهم عنه وإضلال غيرهم عن الوصول الى الحقّ بكتمانه وتحريفه وتمويهه ، فتكون الآية

١٧٤

المباركة بمنزلة التعليل لما ورد في الآية الشريفة السابقة ، وتبيّن وجه كونهم على الضلال البعيد.

قوله تعالى : (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ).

لأنّ الظلم كان بعد وضوح الحجّة ، وقد استولى الظلم على قلوبهم وأثّر في نفوسهم ، فأفسد فطرتهم فلم تحتمل الغفران ، ومن سنّته جلّت عظمته أنّه لا يغفر لمن كان هذا حاله ، بل يستحيل أن تتعلّق المغفرة بمثل هؤلاء.

قوله تعالى : (وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً* إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ).

لأنّهم ضلّوا ضلالا بعيدا وبعدوا عن جميع مسالك الخير وما يوصل الى الكمال والهداية وابتعدوا عن سبيل الله تعالى ، وليس من سنّته عزوجل أن يهديهم طريقا يوصلهم الى الهداية والجزاء الحسن إلّا طريق جهنّم الّتي اختاروها بسوء أفعالهم والفاسد من عقائدهم وأوغلوا السير فيه ، فلم يستعدّوا للمغفرة والهداية الى الحقّ والتوفيق الى الأعمال الصالحة الّتي هي طريق الجنّة.

قوله تعالى : (خالِدِينَ فِيها أَبَداً).

لسوء سرائرهم وفساد فطرتهم ، فيدخلون جهنّم فيمكثون فيها أبدا ، وإنّما أكّد الخلود بالتأييد لدفع احتمال أن يراد من الخلود المكث الطويل ، أو للإعلام بأنّه لا تشملهم المغفرة والشفاعة مطلقا.

قوله تعالى : (وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً).

أي : وكان ذلك الجزاء سهلا على الله تعالى ، فإنّه القادر على كلّ شيء ولا يستعصي على قدرته ذلك ، فلا ملجأ إلّا الى الله تعالى ولا منجا من عذابه ، فالكافرون وإن كفروا وصدّوا عن سبيل الله تعالى وضلّوا وأضلّوا وأوغلوا في الكفر والظلم ، ولكنّهم عاجزون أمام قدرته ، ولا بدّ أن يرجعوا إليه ليروا جزاء أعمالهم ، ولا مفرّ منه جلّ شأنه.

١٧٥

بحوث المقام

بحث أدبي

(من) في قوله تعالى : (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ) تبعيضيّة متعلّقة ب «الراسخون» ، و «منهم» في موضع الحال ، ويشارك (المؤمنون) (الراسخون) في تعلّق (منهم) به كما عرفت.

وذكر وصف الإيمان بعد وصف الرسوخ في العلم ؛ لبيان أنّ الأخير هو الموجب له تنزيلا للاختلاف العنواني منزلة الاختلاف الذاتي.

وقد ذكر ما يتعلّق بإعراب قوله تعالى : (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) ، وهو أحد المواضع في القرآن الكريم الّتي وقع الخلاف بين علماء النحو في إعرابها.

والثاني : قوله تعالى : (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) [سورة طه ، الآية : ٦٣].

والثالث : قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ) [سورة المائدة ، الآية : ٦٩].

والرابع : قوله تعالى : (فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) [سورة المنافقون ، الآية : ١٠].

وقوله تعالى : (أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً) مبتدأ وخبر. والإشارة بالبعيد تنويها بجلالة قدرهم ، والجملة خبر لقوله تعالى : (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) ، والسين لتوكيد الوعد ، والتنوين للتفخيم. ولا يخفى المناسبة بين طرفي الاستدراك ، حيث أو عد الأوّلين بالعذاب الأليم ، ووعد الراسخين بالأجر العظيم.

وجوّز بعضهم أن يكون خبر المبتدأ الأول : «الراسخون» جملة «يؤمنون» ، ولكن المناسبة على هذا غير تامّة.

١٧٦

والأسماء في قوله تعالى : (إِبْراهِيمَ) ... (وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ) كلّها أعجميّة إلّا «الأسباط» ، فقد وقع الخلاف فيها ، فالمعروف أنّها ليست بأعجميّة ، وفي «يونس» لغات أفصحها بضمّ النون من غير همز ، وقيل : يجوز فتحها وكسرها مع الهمز وتركه.

و (زبور) بفتح الزاي ، وهي القراءة المعروفة ، وهو فعول بمعنى المفعول ـ كالحلوب والركوب ـ وقرأ بعضهم بضمّ الزاي حيث وقع ، وهو جمع زبر بالكسر فالسكون بمعنى مزبور ، أي : مكتوب. أو زبر بالفتح والسكون كفلس وفلوس. وقيل : إنّه مصدر كالقعود والجلوس ، وقيل : إنّه جمع زبور على حذف الزوائد. وكيف كان فهو اسم لما انزل على داود عليه‌السلام.

و (رسلا) في قوله تعالى : (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ) منصوب بإضمار أرسلنا.

وجملة : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) برفع اسم الجلالة ونصب موسى ، وقرأها بعضهم على القلب. و (تكليما) مصدر مؤكّد جيء به لرفع احتمال المجاز في الكلمة بأن يكون المراد من التكليم وحيا. ورفع احتمال المجاز في الإسناد بأن يكون المكلّم رسله من الملائكة.

وقوله تعالى : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) إمّا أحوال ثلاثة والأوّل حال والأخيران وصفان له ، أو أنّ الأوّل منصوب على المدح أو بإضمار (أرسلنا) ، وقيل غير ذلك ، ولكنّها بعيدة عن سياق الآية الشريفة.

والباء في قوله تعالى : (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) قيل : إنّها للملابسة ؛ لبيان أنّ جميع ما ورد في الكتاب إنّما يكون مع علمه عزوجل. وقيل : إنّه للآليّة ، كما يقال : فعله بعلمه ، إذا كان متقنا ، فيكون وصفا للقرآن الكريم بكمال الحسن والبلاغة والإتقان.

١٧٧

بحث دلالي

يدلّ قوله تعالى : (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) على فضل العلم وأثره الكبير في كسب الكمالات والحقائق الواقعيّة ، ولعلّ ذكر قوله تعالى : (وَالْمُؤْمِنُونَ) بعده ؛ لبيان أنّ هؤلاء هم المؤمنون حقّا ، ويؤكّد هذا أنّه عزوجل قد ذكر من أحوال أهل الكتاب عموما واليهود على الخصوص ، ووصفهم بالتذبذب وعدم الرسوخ في العلم وعدم الاستقرار على شيء من الحقّ مع ما استوثق منهم المواثيق المؤكّدة والعهود الغليظة.

فتبيّن الآية فضل الّذين استثناهم الله تعالى ؛ لأنّهم اتّصفوا بأوصاف تدلّ على علوّ منزلتهم ورفيع مقامهم ، وعظيم أجرهم الّذي وعده الله عزوجل للمؤمنين.

كما تدلّ الآية الشريفة على أنّ الإيمان مع العلم أعظم درجة من غيره ؛ لأنّهم تلبّسوا بحقيقته وعلموا بالذي اعتقدوه ، فآمنوا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وبما انزل إليه لما وجدوا أنّ نبوّته والوحي الّذي انزل إليه مثل ما اوحي الى الأنبياء الماضين عليهم‌السلام ، فكان إيمانهم عن علم ومعرفة ، بخلاف غيرهم ممّن وصفه الله تعالى بالغفلة ، فقال عزوجل : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ) [سورة يس ، الآية : ٦].

وممّا ذكرنا يظهر الوجه في ذكر : (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) ؛ لأنّ الإيمان به يستلزم الإيمان بما انزل قبله ، للتأكيد على صدق إيمانهم ، ولأنّ المقام مقام الفرق بين المؤمنين حقّا وأهل الكتاب الّذين يدّعون الإيمان بما انزل الى الأنبياء السابقين ، فاستدعي ذكر ما انزل قبلا.

والآية الشريفة بمجموعها تدلّ على ما يوجب الرسوخ في العلم ، وهو الإيمان بالله العظيم والإيمان بالأنبياء على أنّهم رسل الله تعالى ، بلا فرق بينهم إلّا ما فضّله الله تعالى بما ذكره عزوجل في هذا المقام وغيره ، وأنّ الغاية من بعثهم هي

١٧٨

تبليغ أحكامه عزوجل وتشريعاته المقدّسة ، والإيمان بأنّهم حقيقة واحدة بالنسبة الى الوحي ، بلا فرق بينهم من هذه الجهة إلّا في سعة التكاليف الّتي أنزلها الله تعالى عليهم وضيّقها ، ولكن الوحي واحد ، ولذا عدّد عزوجل ذكر الأنبياء في المقام ؛ لبيان أنّهم وإن كثروا في الأفراد إلّا أنّهم واحد في الوحي كما تقدّم ، ويدلّ على ذلك أنّ الله تعالى حكى عن الّذين استثناهم بقوله تعالى : (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) ـ الى قوله تعالى ـ (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ) الدال على أنّه بمنزل التعليل لإيمانهم.

كما أنّ المستفاد من هذه الآيات الشريفة أنّ من شروط الإيمان الواقعي والرسوخ في العلم ، هو العمل بما علمه الإنسان.

ويستفاد من قوله تعالى : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) أنّ الله تعالى من عظيم لطفه بعباده وواسع رحمته أنّه لم يكل الإنسان الى نفسه ، ولم يؤاخذهم بميثاق الفطرة ؛ لعلمه بأنّهم عرضة للهوى والانحراف وانتكاس الفطرة ، فأثبت لهم حقّا قد يطالبوه به يوم الحساب ، مع أنّ له الحجّة البالغة ، فأرسل الرسل لهدايتهم وإرشادهم الى الكمال وتبيّن لهم الفطرة الّتي أودعها الله تعالى فيهم وتبعّدهم عن الفطرة المنحرفة الّتي تصدّهم عن الحقّ.

وتدلّ الآية الشريفة على أنّ هذا الحقّ الّذي أثبته عزوجل لهم لم يكن عن ضعف منه وغلبتهم عليه تعالى ، بل كان عن حكمة متعالية رحمة بهم ، وقد أكّد ذلك بقوله تعالى : (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) ، فهذه الآية المباركة درس عملي تربوي للإنسان بأنه لا بدّ من أن يبذل جهده في أن لا يثبت لغيره حقّا عليه يطالبه به في يوم لا يمكنه الأداء.

كما أنّ قوله تعالى : (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) يدلّ على عظيم فضل ما انزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث تشرّف على سائر ما انزل على الأنبياء العظام عليهم‌السلام بأنّه وحي

١٧٩

خاصّ من علم الباري عزوجل العالم بحقائق الأمور ، وقد أبان فضله بأنّه ممّا يشهد عزوجل بذلك والملائكة يشهدون ، فإذا لم يشهد أحد بذلك ، فإنّ الله تعالى شهيد ، فصار للايحاء إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله مزيّة تفوق على الإيحاء إليهم.

وقد ذكر عزوجل في آخر الآيات المباركة حكم الّذين كفروا وصدّوا عن سبيل الله تعالى ، وعنّف في الكلام معهم وشدّد النكير عليهم ، وبيّن سوء حالهم يوم القيامة ؛ لأنّهم ضلّوا عن عناد ولجاج وكفر بعد وضوح الحجّة وأضلّوا غيرهم ، فكان عذابهم شديدا يناسب شناعة فعلهم.

والآيات الشريفة بمجموعها تبيّن أحوال المؤمنين والكافرين والمعاندين وتقابل بينهم في أوصافهم وجزاء أعمالهم ؛ ليكون عبرة لغيرهم.

بحث روائي

في الكافي بإسناده عن أبي جعفر عليه‌السلام في حديث قال : «من الأنبياء مستخفين ، ولذلك خفي ذكرهم في القرآن ، فلم يسمّوا كما سمّي من استعلن من الأنبياء ، وهو قول الله عزوجل : (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) ، يعني : لم اسم المستخففين كما سميت المستعلنين من الأنبياء».

أقول : إخفاؤهم في القرآن لا يستلزم إخفاءهم في السنّة أو في التواريخ المعتبرة ، وعدم إظهاره في القرآن لأجل مصالح لا يعلمها إلّا هو.

وتقدّم الفرق بين الرسول والنبي ، فإنّ الأوّل يوحى إليه بواسطة جبرائيل ، بخلاف الثاني يوحى إليه بواسطة ملك آخر أو بنوع من الإلهام.

وفي الكافي أيضا بإسناده عن محمّد بن سالم عن أبي جعفر عليهما‌السلام : «قال الله لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) ، وأمر كلّ نبي بالأخذ بالسبيل والسنّة».

١٨٠