مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١٠

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١٠

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤١٥

للكتابي حقيقة نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما يظهر له أنّ عيسى عليه‌السلام نبي من أنبيائه تعالى وأنّ شريعته كسائر الشريعة الإلهيّة الّتي هي على حقّ ، وأنّها في طريق الاستكمال والكمال حسب ما تقتضيه الظروف والأعصار. إذا لا منافاة بين الروايات ، وقد تقدّم منّا مكرّرا أنّ الأديان السماويّة إنّما نزلت لأجل إنقاذ البشرية من الشقاء والعذاب واستكمالها ، واختلافها إنّما يكون حسب اللياقة والاستعداد ، وإلّا فالواقع والحقيقة لا اختلاف فيها.

وفي تفسير العياشي أيضا عن ابن سنان عن الصادق عليه‌السلام : «في قول الله تعالى في عيسى : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) فقال : إيمان أهل الكتاب إنّما هو لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله».

أقول : تقدّم الوجه في ذلك من أنّ الإيمان بعيسى عليه‌السلام يستلزم الإيمان بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّ شريعة عيسى عليه‌السلام الواقعيّة لا تخالف شريعة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله لأجل مصالح كثيرة ، وأنّ المؤخّر من الأديان امتداد لما سبق منها.

وفي تفسير العياشي عن أبي جعفر عليه‌السلام في قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) قال : «ليس من أحد من جميع الأديان يموت إلّا رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمير المؤمنين عليه‌السلام حقّا من الأولين والآخرين».

أقول : الإمام عليه‌السلام في مقام التشبيه والتمثيل ، ولا يستفاد منها أنّه في مقام التطبيق والتفسير ، وقد دلّت روايات كثيرة على أنّ المؤمن يرى أولياء الله تعالى عند نزع الروح أو في عالم البرزخ.

وفي تفسير العياشي أيضا عن المفضّل بن عمر قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) فقال : «هذه نزلت فينا خاصّة ، أنّه ليس رجل من ولد فاطمة يموت ولا يخرج من الدنيا حتّى يقرّ للإمام بإمامته كما أقرّ ولد يعقوب ليوسف حين قالوا : تالله لقد آثرك الله علينا».

أقول : ظهر وجه هذه الرواية ممّا تقدّم في الرواية السابقة ، وأنّها من باب

١٤١

أقول : ظهر وجه هذه الرواية ممّا تقدّم في الرواية السابقة ، وأنّها من باب الجري ، والمراد من قوله عليه‌السلام : «فينا نزلت خاصّة» أنّ الجري والتشبيه ينطبق عليهم خاصّة ، وغيرهم لا يمكن له التمثيل بالآية والتخصيص بولد فاطمة عليها‌السلام ؛ لأنّ فيهم من كان يرغب في الإمامة أو كان يدّعيها ، والإمامة منحة إلهيّة يهبها لمن له الأهليّة لها ، وحين الموت يقرّ للإمام المعصوم ويعترف بإمامته ، فإنّ الحقائق تنكشف في ذلك الوقت كما ثبت في محلّه.

وروي أنّ رهطا من اليهود سبّوا عيسى عليه‌السلام بأن قالوا : هو الساحر ابن الساحر والفاعل ابن الفاعلة ، فقذفوه وامه ، فلما سمع عيسى عليه‌السلام ذلك دعا عليهم فقال : «اللهم أنت ربّي وأنا من روحك خرجت وبكلمتك خلقتني ولم آتهم من تلقاء نفسي ، اللهم فالعن من سبّني وسبّ امي» ، فاستجاب الله دعاءه ومسخ الّذين سبّوه وسبّوا امه قردة وخنازير ، فلما رأى ذلك يهودا رأس القوم وأمير هم فزع لذلك وخاف دعوته عليه أيضا ، فاجتمعت كلمة اليهود على قتل عيسى عليه‌السلام ، فبعث الله تعالى جبرئيل فأخبره بأنّه يرفعه الى السماء ، فقال لأصحابه : أيكم يرضى بأن يلقى عليه شبهي فيقتل ويصلب ويدخل الجنّة ، فقال رجل منهم : أنا ، فألقى الله تعالى شبهه عليه فقتل وصلب».

أقول : اختلفت الروايات في الرجل الّذي القي عليه شبه عيسى عليه‌السلام ، ففي بعض الرويات أنّه الرجل الّذي ينافق عيسى عليه‌السلام فقتل وهم يظنّون أنّه عيسى عليه‌السلام ، وفي بعضها أنّه طيفانوس اليهودي دخل بيتا كان هو فيه فلم يجده فلما خرج ظنّوا أنّه عيسى عليه‌السلام فأخذوه وقتل. وقيل غير ذلك. وهذا الاختلاف طبيعي ولم يكن مستبعدا ؛ لأنّه يحصل في المجتمعات الّتي لا يسيطر عليها النظام ولا الحكم ، فعند ما يفقد القانون هيمنته ويحصل الهرج والمرج ويريد كلّ حزب أو فئة أن يأخذ السلطة ، ترى أنّ البريء يؤخذ عوض المجرم ويشتبه العامل بغيره ، فالاشتباه غير عزيز ، ولا جدوى في تعيين المشتبه بالذات بعد ما عرفت أنّ أصل التشبيه كان من الخوارق.

١٤٢

وفي رواية عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله في قوله تعالى : (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) قال : «خمس خصال إذا ابتليتم بهنّ وأعوذ بالله إن تدركوهن :

١ ـ لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتّى يعلنوا بها إلّا فشافيهم الطاعون ، والأوجاع الّتي لم تكن مضت في أسلافهم الّذين مضوا.

٢ ـ ولم ينقصوا الكيل والميزان إلّا أخذوا بالسنين وشدّة المؤنة وجور السلطان عليهم.

٣ ـ ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلّا منعوا القطر من السماء ، ولو لا البهائم لم يمطروا.

٤ ـ ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا سلّط الله عليهم عدوا من غيرهم ، فأخذ بعض ما في أيديهم.

٥ ـ وما لم يحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيّروا فيما أنزل الله ، إلّا جعل الله بأسهم بينهم».

أقول : يستفاد منها أنّ الخصال السيئة والصفات المذمومة لها آثار وضعيّة ، والمعروف بين أهل العرفان : «ارتكاب المحظورات يستلزم تحريم المباحات» ، وعن بعضهم ـ بل جرّب ذلك ـ من أنّ الإسراف في ارتكاب المباحات يوجب حرمان المناجاة.

ثمّ إنّ الآثار قد تعمّ وإن كان سبب وجودها أشخاصا معنيين ، وقد تتّصف بالشدّة والضعف.

وفي الكافي بإسناده عن عبد الله بن أبي يعفور قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : من زرع حنطة في أرض فلم يزك زرعه وخرج زرعه كثير الشعير فبظلم عمله في ملك رقبة الأرض أو بظلم لمزارعيه وأكرته ، لأنّ الله عزوجل يقول : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) يعني : لحوم الإبل والبقر والغنم ، وقال : إنّ إسرائيل كان إذا أكل من لحم الإبل هيّج عليه وجع

١٤٣

الخاصرة فحرّم على نفسه لحم الإبل ، وذلك من قبل أن تنزّل التوراة لم يحرمه ولم يأكله».

أقول : الرواية تدلّ على أنّ قلّة الزرع ورفع البركة نحو عقوبة دنيويّة على ترك الواجب ، ولعلّ المراد من قوله عليه‌السلام : «خرج زرعه كثير الشعير» كناية عن قلّة الحنطة ؛ لأنّه تطلق على مساحة حدّها ست شعرات من شعر البغل ، أو من باب التنزيل.

وكيف كان ، فالرواية من باب الجري والتطبيق.

بحث قرآني

تدلّ الآيات الشريفة على ذمّ أهل الكتاب وتأنيبهم والتشنيع على اليهود منهم خاصّة ؛ لكثرة جرائمهم وفظاعة مظالمهم كما عدّدها عزوجل عليهم ، ومن المعلوم أنّ كثيرا من تلك الجرائم لم تصدر من اليهود الّذين عاصروا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بل صدرت من أسلافهم الّذين سألوا موسى عليه‌السلام : أرنا الله جهرة ، وهم الّذين أخذتهم الصاعقة بظلمهم ، وهم الّذين عبدوا العجل ، وهم الّذين قتلوا الأنبياء وكفروا بهم ، وهم الّذين بهتوا على مريم عليها‌السلام ونسبوا إليها أعظم فرية مع علمهم بطهارتها وتفضيلها على نساء العالمين ، وهم الذين ادّعوا قتل المسيح عيسى بن مريم وغير ذلك ممّا سجّله عزوجل عليهم من أنواع الكفر والظلم ، ومؤاخذة الخلف بما فعله السلف أمر مرفوض في الشرائع الإلهيّة ، لا سيما شريعة الإسلام فقد قال سبحانه وتعالى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [سورة فاطر ، الآية : ١٨] ، فلا بدّ من توجيه ذلك بأحد وجهين على سبيل منع الخلو.

أحدهما : أن يكون الخلف قد رضي بما فعله السلف واتّبع سيرتهم كما حكي عزوجل عن أقوام آخرين ، قال تعالى : (بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى

١٤٤

أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) [سورة الزخرف ، الآية : ٢٢] ، وكذلك قال سبحانه وتعالى : (إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) [سورة الزخرف ، الآية : ٢٣] ، وتصل هذه المتابعة المذمومة إلى مرحلة تسمّى بعبادة السلف ، فتستولي على جميع مشاعرهم فلم تنفعهم هداية المهتدين ولا موعظة الواعظين ولا حجج المحتجّين.

ولم يصل الإنسان الى هذه المرحلة من عبادة السلف إلّا بعد طي مراحل متعدّدة ؛ لأنّ الإنسان كائن إرادي أخلاقي حساس مختار ، فلا تصدر منه الأفعال عفوا من دون فكر وروية بخلاف غيره من الحيوانات الّتي يصدر منها كثير من الأفعال بالمتابعة فقط ، فإذا وصل الإنسان الى هذه الحالة وصار كغيره من الحيوانات ، فلا بدّ أن يكون له أسباب عديدة قد ذكرها العلماء في مواضع متفرّقة من العلوم الإسلاميّة ـ كعلم الأخلاق ، وعلم السير والسلوك ، وعلم الأديان. وذكرنا ما يتعلّق بهذا الموضوع في أحد مباحثنا السابقة فراجع ، ولعلّ قوله تعالى : (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ) إشارة الى هذا الوجه ، فإن الخلف اتّبعوا سيرة السلف في السؤال عن امور من الأنبياء تكشف عن كفرهم ونقضهم للمواثيق.

ثانيهما : أنّ كثرة المعاصي الّتي صدرت من السلف وعظمتها كان لها الأثر الشديد في نفوسهم ، بحيث سلبت منهم كلّ سبل الهداية كما يستفاد من قوله تعالى : (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) ، ولم تقتصر تلك الآثار عليهم فقط ، بل تأثّرت بها الأجيال الّتي من بعدهم ، فإنّ للذنوب والآثام آثارا واقعيّة لا بدّ من تحقّقها وتأثّر النفوس بها ، ولا يمكن التخلّف عن ذلك كما ذكرنا في قوله تعالى : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) [سورة النساء ، الآية : ١٢٣] ، وهذا ليس من باب الجزاء حتّى يقال إنّه يخالف قوله تعالى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [سورة الأنعام ، الآية : ١٦٤] ، بل هي حقيقة واقعيّة لا دخل للاختيار فيها ، إلّا ما اختاره الشخص من السبب والمؤثّر ، كما هو شأن سائر الحقائق الواقعيّة ، فإنّ السمّ لا بدّ من أن يؤثّر في من

١٤٥

يشربه ، ولا دخل للاختيار فيه إلّا بالمعنى المعروف من أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، ويمكن أن يستشهد لهذا الوجه بآيات المباركة كثيرة ، منها : قوله تعالى حكاية عن نوح عليه‌السلام : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً* إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) [سورة نوح ، الآية : ٢٦ ـ ٢٧] ، ولعلّ قوله تعالى : (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) إشارة الى هذا الوجه ، كما أنّ العلم الحديث كشف عن وراثة بعض الصفات عن الأسلاف.

وهذا البحث نفيس ذكرنا ما يتعلّق بأصل الموضوع في سورة البقرة وغيرها في جملة من الآيات الشريفة ولا يسع الحال للتفصيل فيه ، وسيأتي ما يتعلّق بالبحث إن شاء الله تعالى.

بحث عقائدي

كانت حياة المسيح عليه‌السلام من حين حمله وولادته الى رفعه إلى السماء مليئة بالمعجزات وخوارق العادات كحياة أكثر الأنبياء عليهم‌السلام ـ إبراهيم ، وموسى ، ويوسف عليهم‌السلام ـ ولخاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله أسماها وأشرفها. إلّا أنّ هناك جوانب مهمة في حياة عيسى عليه‌السلام اقتضت البحث عنها :

رفع المسيح الى السماء

الآيات الشريفة الّتي تقدّم تفسيرها تدلّ بوضوح على نفي الموت بجميع أنحائه ـ من القتل ، والصلب ، وحتف الأنف ـ عن عيسى عليه‌السلام بوجوه كثيرة :

الأوّل : قوله تعالى : (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ) ، فإنّه عزوجل نفى القتل الّذي يدّعيه جماعة من أهل الكتاب كما نفى الصلب عنه عليه‌السلام كما يزعمه جماعة اخرى ، وكذا حتف الأنف ؛ لأنّ جميعهم يتّفقون على نفيه عنه عليه‌السلام ، فقد نفي عنه الموت بجميع أسبابه كما عرفت.

١٤٦

وظاهر الآية الشريفة أنّهم يدّعون إصابة القتل والصلب بشخصه البدني عليه‌السلام الّذي رفعه الله تعالى إليه.

الثاني : قوله تعالى : (وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) ، فإنّه يدلّ على أنّ القتل والصلب المزعومين في حقّه عليه‌السلام إنّما كان بالنسبة إلى الشخص الّذي أوقع الله تعالى عليه شبه عيسى عليه‌السلام لحكم كثيرة كما عرفت آنفا. وأما هو فقد نجّاه الله تعالى من أيديهم وسلم من قتلهم وصلبهم وحتف الأنف أيضا.

الثالث : قوله تعالى : (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) ، فإنّه يدلّ على أنّ الرفع إنّما كان بهذا البدن الجسماني ، فإنّ الإضراب عن ادّعاء القتل والصلب بشخصه الجسماني لدليل واضح على أنّ الرفع بالبدن مع روحه لا أحدهما من دون الآخر ، وإلّا فلا فائدة في الإضراب ، فإنّ الرفع لا يتمّ بمجرّد الروح بعد الموت بأي نحو كان ، كما لا يتمّ بالبدن فقط.

وقد ذكرنا في التفسير أنّ الرفع هو تخليص له عليه‌السلام من أيدي الكافرين المعاندين ونجاة من تعذيبهم ، ثم بعد الرفع لا يعلم حاله من هذه الآية المباركة ، بل دليل آخر يثبت حياته كما ستعرفه.

الرابع : قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ) ، فإنّه يدلّ على حياته عليه‌السلام وعدم موته بعد الرفع ـ كما عرفت في التفسير ـ وليس هذا ببعيد عنه عليه‌السلام ، فإنّ حياته مليئة بالمعجزات من حين ولادته الى حين رفعه إليه عزوجل حتّى بعد نزوله وموته ، فرفعه من الأرض تخليصا له من أيدي العتاة والجبابرة والمعاندين وتكريما له ، ثمّ حفظه تعالى بعد الرفع بعدم إصابة أي مكروه به ولا يذيقه الموت حتّى يقضي الله بنزوله.

وهذه كلّها خارقة للعادة دلّ الكتاب العزيز على ثبوتها وعضدته السنّة الشريفة ، فلا يبقى بعد ذلك مجال لتأويل المبغضين وزيغ المعاندين.

فهذه هي عقيدة المسلمين في المسيح عيسى بن مريم عليه‌السلام الّتي هي معروفة من عصر نزول القرآن الكريم.

١٤٧

عقيدة اليهود في رفع المسيح

قد عرفت أنّهم اختلفوا فيه ، فمنهم من يقول إنّه قتل ، ومنهم من يقول إنّه صلب ، تبعا لاختلاف الروايات الواردة عنهم في هذا الموضوع ، فالمعروف بينهم أنّ قتله كان بوشاية من اليهود وسعايتهم في قتله لدى الحاكم الروماني في بيت المقدس آنذاك ـ وهو (بيلاطس) المعروف بالشدّة والقسوة ـ فصلبه.

وروي أنّ رهطا من اليهود سبّوه بأن قالوا : هو الساحر ابن الساحرة والفاعل ابن الفاعلة ، فقذفه وامه ، فلما سمع (عليه الصلاة والسّلام) ذلك دعا عليهم ، فقال : «اللهم أنت ربّي وأنا من روحك خرجت وبكلمتك خلقتني ، ولم آتهم من تلقاء نفسي ، اللهم فالعن من سبّني وسبّ أمّي» ، فاستجاب الله دعاءه ومسخ الّذين سبّوه وسبّوا امه قردة وخنازير ، فلما رأى ذلك يهودا رأس القوم وأميرهم فزع لذلك وخاف دعوته عليه أيضا ، فاجتمعت كلمة اليهود على قتل عيسى عليه‌السلام فبعث الله تعالى جبرئيل فأخبره أنّه يرفعه الى السماء ، فقال لأصحابه : أيكم يرضى بأن يلقى عليه شبهي فيقتل ويصلب ويدخل الجنّة؟ فقال رجل منهم : أنا ، فألقى الله شبهه فقتل وصلب ، وقيل : كان رجل منافق فلما أرادوا قتله قال : أنا أدلكم عليه ، فدخل بيت عيسى ، فرفع عليه‌السلام وألقى شبهه على المنافق ، فدخلوا عليه فقتلوه ، وهم يظنّون أنّه عيسى.

وقال جمع كثير من المتكلّمين : إنّ اليهود لما قصدوا قتله رفعه الله الى السماء فخاف رؤساء اليهود من وقوع الفتنة بين عوامهم ، فأخذوا إنسانا فقتلوه صلبوه ، ولبّسوا على الناس أنّه هو المسيح ، والناس ما كانوا يعرفون المسيح إلّا بالاسم. وروي غير ذلك.

وجميع تلك الروايات لا يمكن الاعتماد عليها ؛ لضعفها وتعارضها وفقد المرجّح بينها ، فيتعين الرجوع الى القرآن الكريم ـ الكتاب الإلهي ـ فما وافقه يؤخذ

١٤٨

به وغيره يطرح. وقد عرفت أنّه عزوجل ذكر هذا الموضوع بإسهاب وبأسلوب واضح رصين ممّا لم يذكره عزوجل في غيره من قتل الأنبياء والمصلحين الّذين عرفت اليهود بقسوتهم عليهم وضراوتهم بسفك دمائهم.

ولعمري إنّ مسألة الصلب لا تكون أكثر أهميّة من قتل اليهود للأنبياء بغير حقّ ، كما حكى عزوجل عنهم في القرآن الكريم حيث جعل ذلك من مظاهر كفرهم وشدّد النكير عليهم ووبخهم عليه أعظم توبيخ ـ لو لا أنّ النصارى جعلوها أساس العقيدة المسيحيّة وأصل الدين عندهم ، فمن آمن بالصلب والفداء فقد فاز بالملكوت الأعلى وصحبة المسيح والصلحاء ونجي من المهالك ، ومن كفر به فقد خاب وكان في الآخرة من الخاسرين.

ولأجل ذلك نحن نذكر في هذا البحث عقيدة النصارى في هذا الموضوع وما استدلّوا به في إثباته وما يمكن أن يورد عليه من الدليل العقلي والنقلي وبعض شبههم على سبيل الإيجاز.

عقيدة النصارى في الصلب

ترى النصارى أنّ صلب المسيح عيسى بن مريم عليه‌السلام إنّما كان فداء عن البشر ؛ لأنّ آدم أبا البشر لما عصى الله تعالى بالأكل من الشجرة الّتي نهاه عزوجل عن الأكل منها ، صار بذلك هو وجميع أفراد ذرّيته الى يوم يبعثون خطاة مستحقّين للعقاب بسبب ذنب أبيهم.

كما أنّهم مستحقّون للعقاب بذنوبهم أنفسهم ولما كان الله تعالى متّصفا بالعدل والرحمة ، فإذا أراد أن يعاقب آدم وذرّيته كان منافيا لرحمته. وإذا لم يعاقبهم كان منافيا لعدله ، فلا يكون عادلا ، فكان عزوجل متردّدا بين العقاب والعفو حتّى عصر المسيح عليه‌السلام ، فحلّ ابنه (عزوجل) الّذي هو نفسه في بطن امرأة من ذرّية آدم عليه‌السلام فأولده منها ليكون إنسانا كاملا من حيث هو ابنها ، وإلها كاملا من حيث

١٤٩

هو ابن الله ـ فإنّ ابن الله هو الله في عقيدتهم ـ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، فهو معصوم من جميع معاصي بني آدم ، وإن كان مثلهم يأكل مثل ما يأكلون ويشرب ممّا يشربون ويتلذّذ مثل ما يتلذّذون ويتألّم ومثل ما يتألّمون ، وقد سخّر (عزوجل) أعداءه لقتله أفظع قتله ـ وهو الصلب ـ لأجل فداء البشر وخلاصهم من الخطايا.

وعن بعضهم أنّ المسيح واثنين معه صلبوا ولم يكن المسيح وحده ، وسيأتي في الآيات المناسبة بطلان ذلك.

فداء المسيح

تعتقد النصارى أنّ المسيح فدى نفسه لأجل خلاصهم من الخطايا والأدناس ، كما قال يوحنا في رسالته الاولى : وهو كفّارة لخطايا ، ليس لخطايانا فقط بل لخطايا كلّ العالم أيضا.

واستدلّوا على هذه العقيدة بأمور :

الأوّل : التواتر ، فقالوا : إنّها متواترة ثابتة عندهم خلفا عن سلف ، لا يمكن إنكاره كما في غيره من المتواترات.

الثاني : أنّها وردت في جميع الأناجيل ورسائل العهد الجديد ، وهي كتب مقدّسة لا يجوز إنكار ما فيها.

الثالث : أنّ كتب العهد العتيق بشّرت بالصلب والفداء ونوّهت بهما تنويها.

الرابع : أنّ المسيح إذا كان قد نجا من أعدائه بعناية إلهية خاصّة ، فأين ذهب؟! ولما ذا لم يقف له أحد على عين ولا أثر؟!.

هذه هي أهمّ ما استدلّوا به لإثبات هذه العقيدة. وقبل أن نذكر المناقشة في أدلتهم تلك لا بدّ أن نطرح هذه المسألة على الأدلّة العقليّة.

١٥٠

الأدلة العقليّة تنافي الفداء

والحقّ أنّ الأدلة العقليّة تنافي الفداء بوجوه كثيرة :

منها : أنّ هذه العقيدة تنادي بتجسّم الخالق وحلوله في أحد مخلوقاته واتّخاذه أحد ذرّية آدم ابنا له ، وكلّ ذلك مخالف للأدلّة القطعيّة الدالّة على أنّه الإله الواحد الأحد الّذي لم يتّخذ صاحبة ولا ولدا ، وليس كمثله شيء ، الّذي تنزّه عن مجانسة مخلوقاته. وقد ذكر العلماء تلك الأدلّة العقليّة والنقليّة في مواضع متفرّقة من علوم متعدّدة.

ومنها : أنّه يستلزم منها نسبة الجهل إليه تعالى وأنّه ظلّ مترددا وجاهلا لحلّ تلك المعضلة حتّى العصر الّذي ولد فيه عيسى عليه‌السلام ، فتفطّن الى حلّها ، فجمع بين الرحمة والعدل في فداء المسيح عليه‌السلام. وكلّ ذلك باطل بأدلّة عقليّة ونقليّة مذكورة في محلّها.

ومنها : أنّ القول بهذه العقيدة يستلزم منه نقيضها ؛ لأنّه تبارك وتعالى جمع بين صفتي الرحمة والعدل في صلب المسيح بن مريم عليه‌السلام وفداه عن جميع البشر ، وهذا يستلزم إعدام شخص بريء وتعذيبه بأشدّ العذاب وهو لا يستحقّه ، وقد كان عليه‌السلام لا يرغب هذا العذاب ـ كما ستعرف ـ وهذا مناف لعدله عزوجل ورحمته ، فصار عزوجل بذلك عادلا وغير عادل ، ورحيما وغير رحيم ، وهذا من التناقض الواضح.

إن قلت : يرد النقض بقوله تعالى بالنسبة لإبراهيم عليه‌السلام حين أراد أن يذبح ولده إسماعيل عليه‌السلام : (وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) [سورة الصافات ، الآية : ١٠٧] ، فعدم الاستحقاق مشترك بين الذبيح وبين أولئك فنتعدّى من فدية إبراهيم عليه‌السلام الى فدية عيسى عليه‌السلام.

قلت : أوّلا : أنّ فدية إبراهيم عليه‌السلام لولده كان تكليفا شخصيا لأجل الوصول

١٥١

الى المقام السامي الّذي خصّه الله تعالى به ، كتكليف الجهاد بالنسبة الى من ثبتت شرائطه له أو التهجّد بالنسبة الى نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّ كلّ شيء له خصوصية.

وثانيا : فرق بين الفدائين فإنّ فداء إبراهيم لولده لأجل الوصول الى المقام الأعلى ، فإبراهيم وولده عليهما‌السلام نالا تلك المنزلة بالعمل الخاصّ المأمور به أي كائن وضعي له ، لا لأجل نفي الجزاء الّذي يستحقّه غيرهما كما تقول النصارى بالنسبة الى عيسى عليه‌السلام ، وسياق الآيات المباركة يدلّ على ما ذكرناه.

ومنها : أنّ من يعتقد بهذه العقيدة يقول إنّها لا تفيد إلّا إذا آمن بها الناس ، فلم ينفعهم الصلب والفداء إذا كانوا كافرين بها ، فيردّ عليهم :

أوّلا : فما حال الأقوام الّتي قد خلت من قبل عيسى عليه‌السلام ، الّذين لم يعرفوه ولم يعتقدوا بهذه العقيدة.

وثانيا : أنّها لا تفيد لبقية الأقوام الّتي لم تعتقد بهذه العقيدة ، فيختصّ الفداء بأفراد معدودين ، فليس هو فداء لجميع البشر.

ثمّ إنّ بعد مصادمة هذه العقيدة للعقل والأدلّة العقليّة الكثيرة كما عرفت ، فهل ينفع مثل هذه العقيدة الباطلة؟ وهل تسمّى مثل ذلك عقيدة وإيمانا يرفع أهمّ أمر عن الإنسان وهو الجزاء الّذي استحقّه بعمله؟! فالثاني ثابت بدليل قطعي يحتاج رفعه الى دليل قطعي آخر.

ومنها : أنّ الاعتقاد بهذه العقيدة يستلزم الجرأة على الله تعالى وعلى ارتكاب المعاصي والآثام ، فإنّ من أمن من الجزاء والمؤاخذة على أعماله هانت عليه جميع المعاصي فيرتكب جميع الشرور والآثام ، وهو يستلزم الإباحيّة المطلقة ، وهذا ممّا فرضه جميع الملل والأديان.

ومنها : أنّ القول بها يستلزم مساواة المجرم وغير المجرم ، وكونهما على حدّ سواء ، فإنّ من اعتقد بهذه العقيدة تغفر ذنوبه كلّها ، فكأنّما ليس له ذنب ، ومن لم يرتكب ذنبا وكان صالحا ليس له ذنب فصارا سيان في هذا الأمر ، فإن قالوا : يعذّب المجرم على شروره وخطاياه ، يقال لهم : فما فائدة هذه العقيدة. وإن قالوا : إنّه

١٥٢

لا فرق بينها وبين الشفاعة الّتي ترفع العقاب وتحطّ الذنب. نقول : إنّهما يفترقان في كثير ؛ لأنّ الشفاعة إنّما تتحقّق في مورد يكون للشخص ذنب مؤاخذ عليه ويستحقّ به العذاب ، فيأتي الشفيع ويطلب من الله تعالى الغفران له والتوبة عليه ، وهما من صفات الباري عزوجل ، قال تعالى : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) [سورة الأنبياء ، الآية : ٢٨].

وبعبارة اخرى : الشفاعة هي طلب من الله تعالى إسقاط حقّه عن العبد المذنب ، فأين هذا وعقيدة الصلب والفداء؟!

نعم ، العفو الابتدائي عن المسيء من اختياره جلّ شأنه لو كان المسيء قابلا لشموله بأداء ما عليه من الكفّارات وغيرها ، وهذا غير مرتبط بالفداء الّذي تقول به النصارى.

وفداء إبراهيم وإسماعيل عليهما‌السلام أو فداء الحسين وموسى بن جعفر عليهم‌السلام إمّا لأجل النيل الى أرفع المقامات ، أو لأجل حفظ المبدأ والعقيدة ، كالجهاد لأجل العقيدة ، أو لأجل وجود صلاحية في المفدّين بكونهم مؤمنين منقطعين الى الله تعالى مظلومين ، لا لكونهم ظالمين ومعتدين على أنفسهم وعلى غيرهم ، كما تقول النصارى.

إن قلت : طلب العفو ارتكاز كلّ خاطئ أو مسيء ولو لم يطلب خارجا ، ففداء عيسى عليه‌السلام وصلبه كان لأجل ذلك.

قلت : هذا نوع من تأنيب الضمير النفسي ، فللعبد أن يخلّص نفسه بالتوبة وأداء ما عليه من الحقّ ، ولا ربط له بالفداء أصلا كما هو واضح.

ومنها : أنّ جميع أفراد الإنسان يعتقدون أنّ العفو عن المسيء المذنب شيء حسن جميل ، بل يعدّونه من مكارم الأخلاق وأحسن الفضائل ، ولا يكون منافيا للعدل أبدا ، فإذا كان من صفاته العليا المقدّسة العفو والرحمة ، فهو قادر على العفو عن المذنبين وغفران ذنوبهم من دون حاجة الى الصلب والفداء ، فيكون هذا عبثا ولغوا ، وينزّه الخالق عنهما.

١٥٣

هذه بعض الأدلّة العقليّة الّتي تدلّ على بطلان هذه العقيدة ، ولأجل ذلك ذهب بعض من المسيحيين الى أنّ هذه العقيدة وعقيدة التثليث لا تعقل ، وأنّ العمدة في إثباتهما النقل عن الكتب المقدّسة ، وحينئذ لا بدّ من النظر في ما استدلّوا به كما ذكرناه آنفا.

المناقشة في ما استدلّوا على الفداء

أمّا الدليل الأوّل وهو دعوى التواتر ، فهي مردودة ؛ لأنّ التواتر عبارة عن إخبار عدد كثير في كلّ طبقة ، ولا يحتمل فيهم تواطؤهم على الكذب ، قد أدرك الطبقة الاولى منهم الخبر عن حسّ وعيان لا شبهة فيه ، وإذا لاحظنا التواتر الّذي ادّعوه في إثبات هذه العقيدة نرى أنّه لا تتوفّر فيه الشروط ، فإنّ الطبقة الاولى لا تخبر عن الصلب مشاهدة ولا تستند عن حسّ وعيان ، بل تستند الى الّذين كتبوا الأناجيل ، وهم بعد عصر الصلب ولا يؤمن عليهم الاشتباه ؛ لأنّهم غير معصومين ولم يصل عددهم الى حدّ التواتر. مضافا الى ذلك أنّ جماعة من النصارى أنكروا الصلب وهم فرقة كبيرة منهم التاتوتسيون اتباع تاتيانوس تلميذ بوستينوس الشهيد. فلم يتوفّر الشرط الآخر من التواتر وهو إخبار كلّ طبقة عن سابقتها ، بحيث يؤمن عليهم الوهم والالتباس. فلا يمكن دعوى التواتر في هذه المسألة المهمّة.

وأمّا الدليل الثاني وهو ورود هذه القصة في جميع الأناجيل ورسائل العهد الجديد ، فيردّ عليه ..

أوّلا : أنّها لم تكن معصومة عن الخطأ والتحريف ، ولم يوجد دليل على نسبتها الى المعصوم.

وثانيا : أنّها معارضة بإنجيل برنابا الّذي ينكر الصلب قبل أن تصل إليه يد التحريف ، فلا ندري حال بقية الأناجيل.

١٥٤

وثالثا : أنّ كثيرا من الكتب المتقدّمة على تدوين الأناجيل تنكر الصلب ، قال فوتيوس : إنّه قرأ كتاب رحلة الرسل ـ فيه أخبار بطرس ، ويوحنا ، واندرواس ، وتوما ، ونولس ـ «أنّ المسيح لم يصلب ولكن صلب غيره ، وقد ضحك من صالبيه». ولاشتمال هذه الكتب على كثير من الحقائق الّتي تخالف الأناجيل الأربعة ، فقد حرّمت المجاميع الاولى من كتبهم قراءة هذه الكتب والرسائل الّتي تخالف الأناجيل الأربعة ، حتّى أنّهم أحرقوها وأتلفوها لئلّا يقرأها أحد.

ورابعا : أنّ ما ورد في هذه الأناجيل من قصة الصلب والفداء يناقض ما ورد في القرآن الكريم الكتاب الإلهي الّذي يقول في هذه القصة : (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِ) كما هو الواقع كذلك ، فلا دليل لهم على صحّتها ، وسيأتي في الموضع المناسب البحث في حجّية الأناجيل الأربعة إن شاء الله تعالى.

وعلى فرض التنزيل ، فإنّ الأناجيل في حدّ نفسها متعارضة في قضية الصلب ، ننقل شاهدا واحدا ، فإنّ النصارى يدّعون ـ كما عرفت ـ أنّ المسيح بذل نفسه باختياره فداء وكفّارة عن البشر ، ولكن ورد في إنجيل متى أنّه حزن وكئب عند ما شعر بقرب أجله وطلب من الله أن يصرف عنه البلاء ، فقد ورد فيه (ثم أخذ معه بطرس وابني زبدي وابتدأ يحزن ويكتئب (٣٧) ، فقال لهم : نفسي حزينة جدا حتّى الموت امكثوا هنا واسهروا معي (٣٨) ، ثم تقدّم قليلا وخرّ على وجهه وكان يصلّي قائلا : يا أبتاه إن أمكن ، فلتعبّر عني هذه الكأس ، ولكن ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت (٣٩) ... فمضى أيضا ثانية ، وصلّى قائلا : يا أبتاه إن لم يمكن أن تعبّر عني هذه الكأس إلّا أن أشربها فلتكن مشيتك» (متى ٢٦ الآيات من ٣٧ ـ ٤٢). ومثله ما ورد في لوقا ٢٢ الآيات من ٤٣ ـ ٤٥. فإنّه يدلّ على جهله عليه‌السلام بالحال ، وتألّمه بل طلبه من أبيه إبطال هذه القضيّة الّتي اجتمع فيها العدل والرحمة ، وهذا كلّه مناف لألوهيّته المزعومة.

وأمّا الدليل الثالث ، وهو بشارة كتب العهد العتيق بمسألة الصلب ، فهي

١٥٥

موهونة بأنّه لم يرد فيها شيء يشير الى هذه القضية فضلا عن بشارتها ، وما ذكروه إن هو إلّا من الموضوعات الّتي ذكروها في كتبهم ونسبوه الى السيد المسيح عليه‌السلام ، كما اعترف به جمع ممّن له خبرة بهذه الكتب.

وأمّا الدليل الرابع ، فإنّه أشبه بالسفسطة ، فهو يردّ على من يقول بأنّه عليه‌السلام توفّاه الله تعالى في الدنيا ثم رفعه إليه عزوجل كما رفع إدريس عليه‌السلام ، وأمّا من قال بأنّ الله تعالى رفع جسده مع روحه إليه ، فهو في مأمن من هذا الإشكال ، ومع ذلك فإنّه لا إشكال في اختفاء قبر عيسى عليه‌السلام ، كما اختفت قبور كثيرة من الأنبياء والصالحين ، فهذا إخوة موسى عليه‌السلام مات ولم يعرفه أحد منهم كما هو منصوص في آخر سفر تثنية الاشتراع من أسفار التوراة ، فليكن عيسى عليه‌السلام كذلك فإنّه بعد أن فرّ من أعداء الله تعالى الّذين أحاطوا به وقد خذله جميع الناس. وانفضوا من حوله فمات في مكان مجهول ، ولا غرابة فيه.

هذا بعض ما يتعلّق بمسألة الصلب والفداء الّتي يعتقد بهما المسيحيون ، وقد عرفت أنّها بالمعنى الّذي ذكروه مرفوضة عقلا ونقلا.

الفداء لرفع المكروه

هناك موضوع آخر وهو الفداء ، بأن يفدي وليّ من أولياء الله تعالى نفسه ويعرضها لأنواع البلاء والمحن وصنوف التعذيب ويريق دمه في سبيل الله تعالى فداء عن المؤمنين به ليرفع عنهم المكروه والبلاء كما مرّ ، فإنّ هذا أمر معقول ، بل هو من أسمى الكمالات ، ولم يتحمّل الأنبياء والأوصياء صنوف العذاب والبلاء إلّا لهذا الغرض ، ففي الحديث أنّه كلما اشتدّ أذى المشركين لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «اللهم اهد قومي فإنّهم لا يعلمون». وورد في تفسير قوله تعالى : (وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) [سورة الصافات ، الآية : ١٠٧]. أنّ الله تعالى رفع الذبح عن إسماعيل الذبح ودفع عنه المكروه بسبب فداء الحسين بن علي ، فتحمّل أنواع المكاره وصنوف

١٥٦

العذاب من المؤمنين ، وفي بعض الأخبار أنّ موسى بن جعفر عليه‌السلام دخل سجن هارون الرشيد وتحمّل من البلاء تفدية عن شيعته ودفع العذاب عنهم ، فالفداء بهذا المعنى صحيح بل هو من المكارم ولم ينكره أحد ، ولكنّه غير الفداء الّذي يدّعيه النصارى في رفع العذاب المستحقّ بسبب الذنوب والآثام ، فإنّ كلّ (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) [سورة النساء ، الآية : ١٢٣] ، إلّا أن يراد منه الشفاعة بضرب من التأويل ، ولكن لها شروط وحدود خاصّة ذكرناها في بحث الشفاعة ، فراجع.

ثمّ إنّ بعض المؤرخين ذكر أنّ لهذه القضية جذورا تاريخيّة ترجع الى ما قبل عصر عيسى عليه‌السلام ، فقد وجدت في الأمم الوثنيّة ، قال : إنّ تصوّر الخلاص بواسطة تقديم أحد الآلهة ذبيحة فداء عن الخطيئة قديم العهد عند الهنود الوثنيين وغيرهم ، وذكر الشواهد على ذلك. منها : ما يعتقد الهنود أنّ كرشنا المولود الّذي هو نفس الآله فشنوا تحرّك حنوا كي يخلّص الأرض من ثقل حملها ، فأتاها وخلص الإنسان بتقديم ذبيحة منه» ، ومن أراد المزيد فليرجع الى كتب تأريخ الديانات.

الفرق بين الشفاعة والفداء

قد عرفت أنّ الفداء بالمعنى الّذي يقوله المسيحيون بالنسبة للسيد المسيح عليه‌السلام لا يمكن قبوله لما يترتّب عليه من المحظورات العقليّة كما تقدّم.

وأمّا الشفاعة ، فقد ثبتت بالأدلّة العقليّة والنقليّة ، بل هي ممّا يأمله الخطاة الّذين عملوا السيئات وذوو الحاجات في الدارين ، وقد ذكرنا أنّ الشفاعة لها شروط خاصّة.

منها : أنّ الشفاعة إنّما تكون في الأعمال السيئة ، فلا شفاعة في العقائد الفاسدة لجهة من الجهات ، لا سيما إذا استلزمت الشرك بالله العزيز.

ومنها : أنّ الشفاعة إنّما تكون في حقوق الله تعالى ، وأمّا في حقوق الناس فلا بدّ فيها من التراضي عن صاحب الحقّ ، ولا تنفع الشفاعة بدون رضاه.

١٥٧

ومنها : أنّ الشفاعة إنّما تكون لأولياء الله تعالى بإذنه جلّ شأنه ، قال تعالى : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) [سورة الأنبياء ، الآية : ٢٨] ، وغير ذلك من الشروط الّتي ذكرناها في بحث الشفاعة ، ولم تتحقّق واحدة منها في الفداء المزبور ، فهما على طرفي التخالف ، ولذا كانت الشفاعة أمرا مرغوبا ومحبوبا ، وأمّا الفداء بالمعنى الّذي يقوله المسيحيون ، فهو أمر لا يقبله العقل ويرفضه الشرع.

بحث عرفاني

الأنبياء ـ الّذين هم أفضل أفراد البشر وأكملهم حسب درجاتهم ـ كلّهم من مظاهر شؤونه تعالى وأفعاله ، وكلّ واحد منهم مظهر لأسمائه الخاصّة جلّ شأنه. وفضّل بعضهم على بعض بشرف تقرّبهم الى حضرته جلّت عظمته ـ وإن كان جميعهم نالوا التقرّب إليه بمكانتهم وارتباطهم معه تعالى ـ ولا يتحقّق ذلك التشرّف العظيم إلّا بأداء أمانة الحقّ الملقاة على عواتقهم وتحمّل المشاق في سبيل إعلاء كلمته عزّ اسمه والتكلّف مع المشقّة الشديدة في إبلاغ رسالته ، وتحمّل الأذى في سبيل هداية البشر الى السعادة بعد إنقاذهم من المهالك والقيام بالوساطة بينه تعالى وبين العباد.

وكلّما كانت الامة بعيدة عن الكمالات والمثل الإنسانيّة والأخلاقيّة ومنغمسة في الشرور والماديات ، كان تعب النبي وتحمّله أشدّ وتقرّبه الى الله أكثر ، ولذا ورد في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ما اوذي نبيّ مثل ما أوذيت» ولأجله ـ ولكمالات اخرى ـ تفوّق صلى‌الله‌عليه‌وآله على جميع الأنبياء وإلّا فإنّ الأنبياء جميعهم على حدّ سواء في إبلاغ الرسالة قال تعالى : (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) [سورة المائدة ، الآية : ٧٥] ، وقال تعالى : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٤٤].

وإنّما خصّ سبحانه وتعالى كلّ نبي بمعجزة خاصّة لتناسب زمانه بها

١٥٨

بالتحدّي من أهل عصره وقبولها من أمته ؛ لأنّ المعجزات الصادرة عن الأنبياء عليهم‌السلام ليست هي إلّا خوارق العادات لإثبات دعوى رسالتهم بطريقة يقتنع بها المدّعون الى الإيمان ، فيؤمنون بشريعتهم مثل إحياء الموتى وشفاء المرضى وغيرهما من معجزات المسيح عليه‌السلام ، فهي ليست إلّا كإلقاء العصا فتصير حيّة تسعى ، ونجاة بني إسرائيل من العذاب ، وغرق فرعون وغيرها من معجزات موسى عليه‌السلام الّتي تناسب عصر كلّ منهما.

وكذا معجزات نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله من تسبيح الحصا بين يديه ، ونصرته في الغزوات مع قلّة عدد المسلمين ، وتفوق حجّته على الخصام ، وإخباره عن المغيّبات ، وعروجه بجسمه الشريف الى السماء ، والبشارة بنبوّته في كتب السماء على لسان الأنبياء عليهم‌السلام ومعجزته الباقية الخالدة (القرآن) وغيرها ممّا هو كثير.

وأمّا خلق المسيح عليه‌السلام بلا أب ، فإنّه يرجع الى قدرته تعالى وعزّته ، كخلق آدم عليه‌السلام بلا أب وأم ، قال تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ) ، ولا يكون من المعجزة الّتي تصدر منه أو تظهر على يديه ؛ لأنّه لم يكن تحدّ في البين مثل نزول المائدة من السماء بدعائه ، وخلق الطير من الطين ، وإبراء الأكمه والأبرص. بل معجزة في خلقه ، وكذا رفعه الى السماء يرجع الى قدرته تعالى فيه ، فالمسيح إنسان أرضي وسماوي ، وقد أخّر هبوطه الى الأرض بعد رفعه منها حتّى يكون شاهدا على حقانيّة شريعة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله باقتدائه بمهدي هذه الامة الّذي هو من ولد محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويكون لشريعته ـ بل لجميع الشرائع الّتي جاء بها الأنبياء ـ سير استكمالي يصل الى منتهى الكمال بظهور مهدي هذه الامة الّذي هو من ولد فاطمة البضعة الطاهرة منه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فيملأ الأرض قسطا وعدلا هذا بالنسبة الى حياتهم الظاهريّة في إبلاغ مهامهم.

وأمّا أرواحهم الشريفة ونفوسهم القدسية ، فهي لا شكّ في امتيازها وتفوّقها على سائر النفوس لقربها من العقل الأوّل كما عن بعض. أو أنّها فائضة من الحضرة الإلهيّة كما عن آخرين.

١٥٩

وعن بعض الحكماء أنّ العقل الأوّل ليس إلّا نفوسهم القدسية وباقي النفوس تتشرّف بالقرب إليه بالإفاضة من المعارف إليهم ، أو التقرّب إليه تعالى بهدايتهم ، أو استكمال نفوسهم بالإلهام منه عزوجل بواسطة تلك النفوس المعبّر عنها بالعقل الأوّل.

وكيف كان ، فلا إشكال في قدسية نفوسهم وتفوّقها على البقيّة ؛ ولذا يحصل لهم المعراج الجسماني لقرب نفوسهم به تعالى وتربية أجسامهم بالتربية الرحمانيّة وتوطّن تلك الأرواح في تلك الأجسام ، وسيأتي في الآيات المناسبة تفصيل الكلام.

وأمّا نفس نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهي في مقام جمع الجمع ومظهر للاسم الجامع الإلهي أصالة ، فإنّ الكمالات والمعارف تفاض منها ، وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أوّل ما خلق الله نوري» ، وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضا : «أنا أبو الأرواح وأنا من نور الله والمؤمنون فيض نوري» ، فيستفاد منه أنّ الأرواح المقدّسة وارثة أوليّة منه ، وأنّ الأبوة هنا بمعنى الأشرفيّة والأكمليّة ، ويستفاد ذلك من بعض الآيات الشريفة كما يأتي ، فأقرب النفوس والأرواح الى نفس الأقدس هي نفوس المؤمنين حسب درجاتهم ، وهذا بحث دقيق شريف نتعرّض له مفصّلا إن شاء الله تعالى ، وإنّ قل الطالب له في هذه الأعصار.

١٦٠