مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١٠

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١٠

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤١٥

قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ).

تأكيد آخر على حياة عيسى عليه‌السلام وعدم موته و (إن) نافية بمعنى (ما) ، والجار والمجرور متعلّق بمحذوف يدلّ عليه الكلام وهو نكرة في سياق النفي فيفيد العموم ، أي : وما أحد من أهل الكتاب والضمير في «به» يرجع الى عيسى عليه‌السلام ، وأمّا الضمير في «موته» فقد اختلف فيه فقيل ـ وهو المعروف بين المفسّرين ـ أنّه يرجع إلى (أحد) المقدّر ، وعود ضمير الجمع إليه لا بأس به لكونه في معنى الجمع ، فيكون المعنى :

وإنّ كلّ أحد من أهل الكتاب قبل أن تزهق روحه ويدركه الموت ينكشف له الحقّ فيؤمن بعيسى عليه‌السلام أنّه عبد الله ورسوله ، فاليهودي يذعن أنّه رسول صادق غير دعي لم يقتل ولم يصلب ، والنصراني يعلم أنّه عبد الله ورسوله ، فليس هو إله ولا ابنه ولا ثالث ثلاثة ، ويكون عيسى عليه‌السلام شهيدا عليهم جميعا يوم القيامة ، فيشهد للمؤمن منهم في حال الاختيار والتكليف بإيمانه كما يشهد على الكافر بكفره ؛ لأنّه مبعوث وكلّ نبي شهيد على قومه قال تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) [سورة النساء ، الآية : ٤١]. واستدلّ على هذا القول بأمور.

منها : أنّ هذا المعنى هو الظاهر المتبادر ، وتخصيص عموم الآية الشريفة بخصوص الموجودين حين نزول عيسى عليه‌السلام ، كما ذكره بعضهم تخصيص بلا دليل عليه.

ومنها : ما أخرجه ابن المنذر عن شهر بن حوشب قال : «قال لي الحجاج : يا شهر ، آية من كتاب الله تعالى ما قرأتها إلّا اعترض في نفسي منها شيء ، قال الله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) وإنّي أوتى بالأسارى فاضرب أعناقهم ولا أسمعهم يقولون شيئا ، فقلت : رفعت إليك على غير وجهها ، إن النصراني إذا خرجت روحه ـ أي إذا قرب خروجها كما في رواية اخرى ـ ضربته الملائكة من قبله ومن دبره ، وقالوا : أي خبيث إنّ المسيح الّذي زعمت أنّه الله

١٢١

تعالى ، وأنّه ابن الله سبحانه ، وأنّه ثالث ثلاثة عبد الله وروحه وكلمته ، فيؤمن به حين لا ينفعه إيمانه. وأنّ اليهودي إذا خرجت نفسه ضربت الملائكة من قبله ودبره ، وقالوا : أي خبيث إنّ المسيح الّذي زعمت أنّك قتلته عبد الله وروحه ، فيؤمن به حين لا ينفعه الإيمان ، فإذا كان عند نزول عيسى عليه‌السلام آمنت به أحياؤهم كما آمنت به موتاهم. فقال : من أين أخذتها؟ فقلت : من محمّد بن علي ، قال : لقد أخذتها من معدنها. قال شهر : وأيم الله تعالى ما حدثنيه إلّا أم سلمة ، ولكنّي أحببت أن أغيظه».

وهذا الحديث يدلّ على أنّ عيسى عليه‌السلام لم يمت وسينزل فيؤمن به الأحياء من أهل الكتاب حين نزوله ، كما يدلّ على أنّ أهل الكتاب قبل نزوله عليه‌السلام أيضا يؤمنون به حين موتهم لانكشاف الحقائق حين الموت وإن لم ينفعهم هذا الإيمان ، لانقطاع التكليف حينئذ كما يدلّ عليه ردّ إيمان فرعون حين أدركه الغرق قال تعالى : (حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ* آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ* فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) [سورة يونس ، الآية : ٩٠ ـ ٩٢].

ومنها ما رواه ابن المنذر وغيره عن ابن عباس في تفسير الآية كذلك ، فقيل له : أرأيت إن خرّ من فوق بيت؟ قال : يتكلم به في الهواء ، فقيل : أرأيت إن ضربت عنقه؟ قال : يتلجلج بها لسانه» وغير ذلك من الروايات الّتي تدلّ على هذا المعنى.

والمستفاد من مجموعها أنّها تحرّضهم على الإيمان به قبل أن يضطرّوا إليه مع انتفاء الجدوى ، كما في آخر لحظات الانتزاع كما تقدّم.

القول الثاني : أنّ الضمير في «موته» يرجع الى عيسى عليه‌السلام ، والمراد به إيمان أهل الكتاب بعيسى عليه‌السلام عند نزوله من السماء في آخر الزمان ، فتختصّ الآية المباركة بخصوص الموجودين عند نزوله ، واستدلّ عليه بجملة من الروايات.

١٢٢

منها : ما أخرجه أحمد عن أبي هريرة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ينزل عيسى ابن مريم فيقتل الخنزير ويمحو الصليب ، وتجمع له الصلاة ، ويعطى المال حتّى لا يقبل ، ويضع الخراج ، وينزل الروحاء فيحجّ منها أو يعتمر أو يجمعهما».

وأشكل على هذا القول بأنّه تخصيص لعموم الآية الشريفة بالإحياء عند نزول عيسى عليه‌السلام بلا دليل ، بل هو خلاف ظاهر الآية الشريفة الدالّ على إيمان جميعهم ، وأمّا الأخبار الّتي استدلّ بها على هذا المعنى فإنّها لم ترد مفسّرة للآية المباركة.

ولكن يمكن الجواب عن ذلك بأنّ الأخبار هذه بمجموعها يمكن الاستدلال بها ، لا سيما بعد ما ورد في بعضها من استشهاد أبي هريرة على ذلك بالآية الكريمة ، فلا يمكن الإعراض عنها.

وقد استشكل بعضهم على هذا المعنى أيضا بأنّه مبني على القول بأنّ عيسى عليه‌السلام لم يمت وأنّه رفع الى السماء قبل وفاته.

وردّ : بأنّه لا نصّ عليه في القرآن حتّى يكون قرينة له.

ولكن المناقشة بضميمة روايات صحاح متعدّدة دالّة على أنّ عيسى عليه‌السلام لم يمت وأنّه رفع عن العذاب ، لا تبقي مجالا لهذا الإشكال.

وقيل : إنّ الضمير الأوّل (به) يرجع الى الله تعالى ـ وهو خلاف ظاهر الآية الشريفة ، بل بعيد عن سياقها كما هو واضح.

القول الثالث : إنّ الضمير الأوّل (به) يرجع الى محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله. وهو بعيد جدا ، فإنّه لم يجر ذكره صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل ذلك حتّى يعود إليه الضمير. نعم ورد ذلك في بعض الروايات ولكنّه ليس من باب التفسير ، بل هو من ذكر بعض المصاديق كما هو شائع في الروايات الّتي وردت في بيان الآيات الشريفة.

والحقّ هو رجوع الضمير الثاني «موته» إلى عيسى عليه‌السلام ، فتدل الآية المباركة على حياته عليه‌السلام وإيمانهم جميعا به قبل موته عليه‌السلام ، وإن كان إيمان بعضهم اختياريا وهم الموجودون عند نزوله ، وإيمان بعضهم الآخر اضطراريا وهم الّذين

١٢٣

يموتون قبل نزوله عليه‌السلام كما عرفت ، ولا يقدح ذلك في دلالة الآية الشريفة بعد ظهور عمومها ، ويمكن أن يستدلّ عليه امور :

الأوّل : أنّه الظاهر المتبادر من سياق الآية الكريمة ، وإرجاع الضمير الثاني الى المبتدأ المقدّر يحتاج الى قرينة خاصّة لا سيما بعد رجوع الضمير الأوّل إليه عليه‌السلام ، وأفراد الضمير الثاني كما هو معلوم.

الثاني : أنّ وقوع هذه الآية الشريفة ، بعد قوله تعالى : (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) ـ الى قوله تعالى ـ (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) ، لا بدّ أن يكون لبيان معنى زائد عمّا في الآية السابقة ، وهو أنّ الّذين يدعون قتله وصلبه لا بدّ أن يذعنوا بأنّه حي لم يمت ويؤمنون به ولو كان إيمانهم اضطراريا.

الثالث : أنّ ذيل الآية المباركة (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) يدلّ على شهادة عيسى عليه‌السلام عليهم جميعا يوم القيامة ، ولا بدّ أن تكون شهادته عليه‌السلام عامّة شاملة لجميع أفراد أهل الكتاب من حين بعثته عليه‌السلام الى حين موته ، فإذا كانت هذه الآية الكريمة تدلّ على إيمانهم جميعا به قبل الموت ينتج أنّه حي ، ثمّ يمت حتّى تتمّ دلالة الآيتين المباركتين ـ الصدر والذيل ـ معا ، ويؤكّد ذلك قوله تعالى حاكيا عنه عليه‌السلام في خصوص الشهادة : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ* ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [سورة المائدة ، الآية : ١١٦ ـ ١١٧] ، فإنّه يدلّ على أنّ شهادته كانت في أيّام حياته فيهم قبل توفيه ، وذيل الآية الشريفة المتقدّمة يدلّ على أنّ شهادته كانت على الجميع ، فلو كان المؤمن به هو الجميع ـ كما يدلّ عليه صدر الآية المتقدّمة ـ فينتج أنّه لم يتوف إلّا بعد الجميع ، فهو حي ولم يمت وسيعود إليهم حتّى يؤمنوا به ، فإن أدركه أحد منهم كان إيمانه اختياريا وإلّا فيؤمنون به عند موته.

١٢٤

الرابع : جملة كثيرة من الروايات الّتي تدلّ على أنّ عيسى عليه‌السلام لم يمت وسيعود إليهم فيؤمن به أهل الكتاب ، ويأتي نقل بعضها في البحث الروائي إن شاء الله تعالى.

الخامس : أنّ هذا المعنى يجمع القولين المزبورين ، فإنّه يدلّ على أنّ كلّ أحد من أهل الكتاب يؤمن بحقيقة عيسى عليه‌السلام قبل الموت وإزهاق روحه وإن كان إيمانه اضطراريا لا ينفعه ، لانقطاع التكليف حينئذ ـ كما عرفت ـ وهو مفاد القول الأوّل ، كما يدلّ على أنّ عيسى عليه‌السلام لم يمت وسيعود ويؤمن به من كان حيّا من أهل الكتاب قبل موته عليه‌السلام ، وهذا هو مفاد القول الثاني.

وهذا المعنى الّذي استظهرناه يدلّ على إيمانهم جميعا قبل موته عليه‌السلام ، فمن كان حيا عند نزوله ، فإيمانه مبني على اختياره ، وإلّا فهو يؤمن به عند موته لانكشاف الحقائق حين الموت ، ففي الحديث : «الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا» ، أي : إذا قرب خروج الروح تظهر الحقائق وتنكشف الواقعيات فيندم على ما فعل وقصّر ، ولكن لا ينفعه الندم.

ثمّ إنّه يمكن أن يستشكل على هذا المعنى بوجوه ، منها : ما تقدّم في القول الثاني وقد أجبنا عنه.

ومنها : أنّ بعض الآيات المباركة الّتي وردت في مواضع متفرّقة ربما يستفاد منها خلاف ذلك ، فإنّ قوله تعالى : (وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) يدلّ على أنّ غلف القلوب هو نقمة عظيمة كتبها الله تعالى عليهم ، لسوء أفعالهم وقبح صفاتهم وفساد أخلاقهم كما عرفت في تفسيره آنفا ، فلا يؤمن هذا الجمع بما هو جمع الى يوم القيامة.

ولكن ذكرنا سابقا أنّ هذه الآية الشريفة لا تدلّ على انتفاء الإيمان منهم البتة ، بل الإيمان يتحقّق منهم ولو كان المؤمنون قليلا من كثير ، يضاف الى ذلك أنّ قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) يدلّ على تحقّق

١٢٥

الإيمان منهم قبل الموت ، سواء كان إيمانا مقبولا أم لم يكن بأن كان اضطراريا ، فهو يدلّ على وقوع أصل الإيمان منهم.

كما أنّ قوله تعالى : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) [سورة آل عمران ، الآية : ٥٥] يدلّ على أنّ من يكفر بعيسى عليه‌السلام منهم من هو باق الى يوم القيامة ، وإن كانوا مغلولبين من قبل المؤمنين به.

ولكن الإنصاف أنّه لا يدلّ على بقائهم بعنوان كونهم أهل الكتاب وكافرين بعيسى عليه‌السلام بالخصوص ، بل الآية الشريفة تدلّ على أن الّذين آمنوا بعيسى عليه‌السلام سوف يكون لهم منزلة وشوكة بعد نزوله وإيمان الناس به واتّحاد الأديان كلّها في الاعتقاد ، وأنّهم فوق الّذين كفروا الّذين يعاندون الحقّ.

كما أنّ الاستدلال بقوله تعالى : (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) [سورة المائدة ، الآية : ١١٧] على بقاء الكافرين بعد توفي عيسى عليه‌السلام غير وجيه ؛ لأنّ ظاهر الآية الشريفة تبيّن أنّه نبي مبعوث الى الناس جميعا ، وأنّه منزّه عمّا نسب إليه ، سواء كان من اليهود أم النصارى أم غيرهم ، فهو بريء ممّا نسب إليه الناس مطلقا ، فتكون شهادته على أعمالهم جميعا ، ورقابته عزوجل بعد توفيه عليه‌السلام لم تختص بأهل الكتاب بل الناس كلّهم. وأنّه سيبقى الكافرون لكن لا بعنوان كونهم من أهل الكتاب فقط.

والمتحصّل من جميع ذلك : أنّ الآية الشريفة في المقام بضميمة سائر الآيات الكريمة تدلّ على أنّ جميع أهل الكتاب بل جميع الناس سوف يؤمنون بعيسى عليه‌السلام ، وأنّه حي لم يمت ويعود فيؤمن به الأحياء ، فتتّحد الأديان كلّها ، وأمّا من مات من أهل الكتاب قبل نزوله فإنّه يؤمن بحقّيته عند موته ، وتقدّم ما يتعلّق بعدم موت عيسى عليه‌السلام في سورة آل عمران فراجع ، وسيأتي في البحث الروائي والتاريخي ما يتعلّق به.

ثمّ إنّ الزمخشري ذكر في المقام أنّ الآية الكريمة يجوز أن يراد منها أنّه لا يبقى

١٢٦

أحد من جميع أهل الكتاب إلّا ليؤمنن به على أنّ الله تعالى يحييهم في قبورهم في ذلك الزمان ويعلّمهم نزوله وما انزل إليه ، ويؤمنون به حين لا ينفعهم إيمانهم.

وما ذكره قول بالرجعة ، وقد دلّت الأدلة الكثيرة على ثبوتها وتحقّقها ، لكن لها حدودا وقيودا مذكورة في محلّها ، وليست هي بهذا العموم والشمول الّذي ذكره.

وكيف كان ، فصدور مثل هذا الكلام عن مثل الزمخشري لدليل على الاعتقاد بالرجعة الّتي ينكرها جمع كثير من علماء الجمهور ، وسيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام في هذا الموضع المهمّ إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً).

الضمير في «يكون» يرجع الى عيسى عليه‌السلام ، أي : ويوم القيامة يكون عيسى عليه‌السلام شهيدا على أهل الكتاب جميعا ممّن آمن به إيمانا صادقا ، فيشهد له كذلك ، ومن كان إيمانه اضطراريا لا ينتفع به يكون شهيدا عليهم.

وهذه الآية المباركة قرينة اخرى على أنّ الضمير في «موته» يرجع الى عيسى عليه‌السلام ، كما عرفت آنفا.

قوله تعالى : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا).

تفريع على ما سبق ، والباء للسببية ، والتنوين في (فَبِظُلْمٍ) للتفخيم ، والتنكير للتهويل ، وإبهام الظلم وهو بدل ممّا تقدّم من مخازيهم وفجائعهم ، والتعبير عن اليهود بهذا العنوان إيذانا لشناعة فعلهم وعظمة ظلمهم ، كما هو دأبه تبارك وتعالى عند تقريعهم وتذكيرهم بمظالمهم وفجائعهم التعبير به كما في غير هذا المقام أيضا ، وفيه تذكير لهم بأنّهم هم الّذين تابوا من عبادة العجل والمعاصي وأخذ منهم المواثيق.

والمعنى : أنّه بسبب ظلمهم العظيم الخارج عن حدود الوصف والأشباه والنظائر ، حرّمنا عليهم الطيبات بعد أن أحلّها الله تعالى عليهم.

قوله تعالى : (حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ).

فقد أحلّ عزوجل كلّ الطيبات لهم ، كما يدلّ قوله تعالى : (كُلُّ الطَّعامِ كانَ

١٢٧

حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ) [سورة آل عمران ، الآية : ٩٣].

وفي تقديم (فَبِظُلْمٍ) على (حَرَّمْنا) للدلالة على الحصر ، أي : أنّ الله لم يحرّم عليهم شيئا من الطيبات إلّا بسبب مظالمهم الفجيعة ، وقد حكي عزوجل ما حرّم عليهم في قوله تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) [سورة الانعام ، الآية : ١٤٧] ، وقد ورد في التوراة ذكر بعض ما حرّم عليهم من حيوانات البرّ والبحر أيضا.

والآية الشريفة تدلّ على أنّ كلّ معصية وظلم يصدر من الإنسان له أثر خاصّ به ، سواء كان دنيويّا أم اخرويّا أم يكون كلاهما معا ، ومن تلك الآثار أنّه يوقع صاحبه في شدّة من التكليف ، فإذا كان الظلم نوعيّا صادرا من الامة ، فإنّه يوجب رفع التوسعة عليهم ، ففي الحديث : «لا تكونوا كبني إسرائيل ، شدّدوا فشدّد الله عليهم».

قوله تعالى : (وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً).

عطف على قوله تعالى : (فَبِظُلْمٍ) المتكرّر وإعراضهم المستمر ، والصدّ الّذي هو من مظالمهم الفجيعة ، فقد صدّوا عن سبيل الله بعصيانهم لأحكام الله تعالى وتعليمات موسى عليه‌السلام ومعاندتهم له وإعراضهم عن أنبيائه عزوجل وتكذيبهم لهم.

قوله تعالى : (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ).

ظلم آخر من مظالمهم الشنيعة ، وهو يدلّ على هتكهم حرمات الله تعالى ، فإنّه عزوجل حرّم عليهم الربا كما حرّمه علينا ، ولكنّهم خالفوه وأخذوا الربا حتّى عرفوا به في مرّ التاريخ.

قوله تعالى : (وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ).

أي بسبب أكلهم أموال الناس بالوجه المحرّم ، كالرشوة والخيانة وغيرهما من وجوه الظلم.

قوله تعالى : (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً).

١٢٨

عطف على (حَرَّمْنا) وهو بيان لجزائهم في الآخرة بعد بيان الجزاء في الدنيا ، فإنّهم استوجبوا بسبب ظلمهم جزاءين ..

أحدهما : في الدنيا ، وقد حكى الله تعالى بعضه ، من تحريم ما أحلّه الله تعالى من الطيبات. وهو عامّ يشمل جميع الّذين هادوا من الظالمين وغيرهم.

والآخر : في الآخرة ، وهو خاصّ بالكافرين منهم ، وهو العذاب الأليم ، والاعتداد : التهيئة.

١٢٩

بحوث المقام

بحث أدبي

«جهرة» في قوله تعالى : (فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) في موضع الحال إمّا من المفعول الأوّل أو من المفعول الثاني ، أي : معاينيين ، ولا ضير في ذلك لاستلزام كلّ واحد للآخر ، وقيل : يتعين الثاني لقربه منه.

و «تعدوا» في قوله تعالى : (وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا) بمعنى : لا تتجاوزوا ، وأصله (تعدوا) بواوين ، فاستثقلت الضمّة على لام الكلمة فحذفت فالتقى الساكنان فحذفت الواو الأولى.

وقرأه بعضهم : (لا تعدّوا) بفتح العين وتشديد الدال ، وهو افتعال من العدوان ، فأريد ادغام تاؤه في الدال فنقلت حركتها الى العين وقلبت دالا وأدغمت.

وأمّا قوله تعالى : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) ، فقيل : في الكلام مقدّر والجار والمجرور متعلّق به ، والباء للسببية. و «ما» مزيدة لتوكيدها ، ويفيد سياق الجملة الحصر ، وجوّز بعضهم أن تكون (ما) نكرة تامّة ، و «نقضهم» بدلا منها.

وقيل : إنّ المقدّر (لعنّاهم) مؤخّرا لوروده مصرّحا به.

وذهب جمع الى أنّ الجار والمجرور متعلّق «بحرّمنا» الآتي ، فيكون قوله تعالى (فَبِظُلْمٍ) بدلا من قوله تعالى : (فَبِما نَقْضِهِمْ).

وردّه بعضهم بأنّ فيه بعدا ، لكثرة الفواصل بين البدل والمبدّل منه ؛ ولأنّ المعطوف على السبب سبب ، فيلزم تأخّر بعض أجزاء السبب للتحريم ، وذكروا وجوها أخر في المقام ، فراجع المطولات.

وأمّا قوله تعالى : (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) جملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه ، مسارعة لردّ زعمهم الفاسد.

١٣٠

و «قليلا» في قوله تعالى : (فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) قيل إنّه منصوب على أنّه نعت لمصدر محذوف ، أي : إلّا إيمانا قليلا. وقد عرفت فساد هذا الاحتمال آنفا ، لأنّ الإيمان بالمعنى الّذي ذكروه ـ وهو الإيمان ببعض الأنبياء والكفر بالبعض الآخر ـ لا اعتبار به ، كما صرّح به في الآيات السابقة. والصحيح أنّه منصوب على الاستثناء من ضمير «لا يؤمنون».

وأما «بهتانا» في قوله تعالى : (وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً) منصوب إمّا على أنّه مفعول به ل (قَوْلِهِمْ) ، وإمّا أن يكون صفة لمحذوف ، أي : قولا «بهتانا».

و «يقينا» في قوله تعالى : (وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً) صفة للمقدّر ، أي : ما قتلوه قتلا يقينا ، وقيل : إنّه مفعول مطلق لفعل محذوف ، والتقدير : (تيقنوا ذلك يقينا) ، ولكنّه تطويل بلا طائل تحته.

بحث دلالي

تدلّ الآيات الشريفة على امور :

الأوّل : يستفاد من قوله تعالى : (فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ) أنّ هذا السؤال الّذي يدلّ على عظيم جرأتهم على الله تعالى هو المقتضي للسؤال الثاني ، وهو تنزيل كتاب من السماء ، كما يدلّ على أنّ التجرّي على الله تعالى ورسله العظام ارتكز في نفوسهم من ذلك السؤال العظيم ، ولعلّه لأجل هذا صار أكبر من السؤال الثاني.

ومن ذلك يعلم أنّه لا بدّ للإنسان مراقبة أقواله وأفعاله ، فإنّه ربّما يوجب قول أو فعل سلب التوفيق عنه ويخلّف أثرا كبيرا على النفس ولو لم يظهر إلّا بعد حين.

كما يستفاد من الآية الشريفة أنّ الأقوال تكشف عن نوايا النفوس ومخفيات القلوب ، مهما حاول الشخص إخفاء منوياته والستر على بواطن نفسه إلّا أنّه قد

١٣١

تظهر على فلتات لسانه ، فتؤدي به الى الهلاك والخسران ، وتخلّف آثارا وخيمة على الذرية والأعقاب ، كما حكى عزوجل عن اليهود في الآيات المباركة المتقدّمة ، فإنّ كلّ ما حلّ بهم من البوار والخسران إنّما كان نتيجة أقوال السلف وأفعالهم الشنيعة ، كما عرفت آنفا.

الثاني : يستفاد من قوله تعالى : (وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً) أنّ النكوص عن الطاعة والإعراض عن متابعة الرسل والأنبياء والإصرار على المعاصي والآثام ، كلّ ذلك يوجب التشديد في التكليف وتفويض الأمر الى الرسل في إنزال العقاب ، وتدلّ عليه آيات كثيرة ، وتقدّم في قوله تعالى : (وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ) بعض الروايات الدالّة على ذلك أيضا ، فإن إيتاء موسى عليه‌السلام السلطان المبين إنّما كان بعد العصيان وسؤال الرؤية الّتي تدلّ على كفرهم واتّخاذ العجل معبودا ، فقد فوّض الله تعالى إليه ما يريد الأصلح لامته.

الثالث : قد ورد في هذه الآيات الشريفة النازلة في حقّ اليهود وأحوالهم لفظ الميثاق ثلاث مرّات ، واستعمل فيهم في غير المقام كثيرا ، ولعلّ الوجه في ذلك إمّا للإعلام بحقيقة حالهم بالنسبة الى العهود والمواثيق حتّى عرفوا بنقضها ، فلا يغتر غيرهم بهم.

أو لأجل كثرة إصرارهم على المعاصي وارتكاب الآثام ، فشدّدوا على أنفسهم بإحكام العهود وتشديد المواثيق عليهم ، كما حكى عزوجل عنهم ، فيعتبر غيرهم من الأمم منهم ، فلا يضيّقوا على أنفسهم بالإصرار على المعاصي حتّى لا يضيّق الله عليهم.

أو لأجل أنّ شريعة موسى عليه‌السلام الّتي هي واحدة من الشرائع الإلهيّة المعروفة تعتبر الركيزة الاولى في بقية الشرائع ، بل هي أولى شريعة كاملة بعد شريعة نوح عليه‌السلام ، وقد نزلت في مرحلة ما من النضج الفكري للإنسانيّة ، ولذا عرفت هذه الشريعة بشريعة الوصايا والمواثيق ، وأمّا شريعة خاتم النبيين صلى‌الله‌عليه‌وآله فقد عرفت بشريعة الكمال والاستكمال ، لأنّها احتضنت جميع الشرائع السماويّة ، لا سيما

١٣٢

الحنيفيّة الّتي أقرب الى الفطرة ، وأمّا شريعة عيسى عليه‌السلام فقد كانت امتدادا لشريعة موسى عليه‌السلام.

الرابع : يستفاد من القيد في قوله تعالى : (وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) أنّ قتل الأنبياء عليهم‌السلام حرام في جميع الوجوه والحالات ، وأنّه لا يكون حقّا مطلقا ، فإذا كان القتل حراما وباطلا لأنّه غير حقّ ، فيشمل الأذية والإهانة ونحوهما ؛ لأنّهما غير حقّ أيضا ، فهي حرام وباطل بالنسبة إليهم.

الخامس : يدلّ قوله تعالى : (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) على نفي القتل الّذي زعمه اليهود ونفي الصلب الّذي يزعمه النصارى ، وأنّ القتل أو الصلب كان في حقّ شبيه عيسى عليه‌السلام ، ولعلّ السرّ في هذا التشبيه هو أنّه لو رفع الى السماء ظاهرا بمرأى من الناس ، لاستحكمت شبهة الألوهيّة فيه وسرت إلى بعض المؤمنين به.

كما أنّه لو غيّب عنهم المسيح عليه‌السلام ورفع الى السماء في الخفاء من دون إلقاء الشبه على غيره ، لاتّهموا أهله والمؤمنين به بإخفائه فعمّهم البلاء وكثر فيهم القتل والتنكيل وفضيحة النساء طلبا لإظهاره ، ولعلّه لذلك عقّب سبحانه هذه الآية الشريفة بقوله : (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) ، وهذا هو المكر الّذي أثبته لنفسه عزوجل في قوله تعالى : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) [سورة آل عمران ، الآية : ٥٤] ، فإنّ مكره وتدبيره الخفي لا يكون إلّا جاريا على الحكمة ، وهو القوي العزيز الّذي لا يغلبه مكر الماكرين.

السادس : يستفاد من قوله تعالى : (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) أنّ الغاية من رفعه هو تكريم السيد المسيح برفعه من الأرض الّتي فيها الكافرون والفساق وتطهيره منهم الى السماء الممحضة لتسبيحه عزوجل ، فكنّى سبحانه وتعالى عن ذلك برفعه إليه ، وإلّا فإنّ الله جلّ شأنه لا يخلو عنه مكان ، ويؤكّد ذلك قوله تعالى في سورة آل عمران : (وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) [سورة آل عمران ، الآية : ٥٥].

١٣٣

السابع : يدلّ قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) على حياة السيد المسيح عليه‌السلام وأنّه حي ، وهو في مكان بعيد عن متناول أيدي الكافرين والمعاندين ، وسينزل فيؤمن به أهل الكتاب الأحياء فتتّحد الأديان ، ولعلّ هذا هو المراد من قوله تعالى : (وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا) [سورة آل عمران ، الآية : ٥٥] ؛ لأنّ النصارى الّذين يدعون الإيمان به عليه‌السلام قد أشركوا بالله العظيم وألّهوا المسيح وثلّثوا الآلهة فلم تبق لهم شريعة ، وأمّا اليهود فحالهم معروفة وقد حكى الله تعالى عنهم في مواضع متفرّقة ، فلم يبق من الّذين اتّبعوه على دين الحقّ سوى ملّة إبراهيم عليه‌السلام ، وهم المؤمنون الموحدون حقّ التوحيد من قومه ومن بعدهم المسلمون بدعوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهؤلاء فوق الّذين كفروا مستمرين الى يوم القيامة وهو يكون شهيدا عليهم ، فيحكم على المؤمنين بإيمانهم وعلى الكافرين بكفرهم.

الثامن : يمكن أن يستفاد من قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) الرجعة الّتي هي رجوع بعض المؤمنين وبعض الكافرين عند ظهور مهدي هذه الامة [عجل الله تعالى فرجه الشريف] ، نظرا لعموم قوله تعالى : (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) الشامل للأحياء الموجودين حين نزول المسيح عليه‌السلام وبعضا من غيرهم الذين ماتوا على الكفر.

وكيف كان ، فالرجعة هي من الأمور الّتي ثبتت بأدلّة كثيرة ، وسيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام فيها إن شاء الله تعالى.

التاسع : يدلّ سياق قوله تعالى : (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) على أنّ سؤالهم الرؤية لم يكن لأجل الشوق ولا لألم الفراق ، ولا لزيادة اليقين ونحو ذلك من الصفات الحسنة والغايات المحمودة ، بل كان عن عناد ولجاج وطغيان.

١٣٤

بحث روائي

في تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) أنّه نزل في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأوصيائه المعصومين ، فأقرّوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنكروا أمير المؤمنين عليه‌السلام (وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) أي : ينالوا خيرا.

أقول : هذه الرواية وأمثالها كلّها من باب الجري والتطبيق وبيان أكمل المصاديق.

وفي تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) يعني في نقضهم ميثاقهم.

أقول : الميثاق هو العهد المؤكّد ، وقد أخذ الله تعالى منهم ذلك لأجل إكمال الحجّة عليهم ؛ لأنّهم كانوا كثيرا ينقضون العهود ، فأكّده سبحانه وتعالى بالميثاق ، ومع ذلك نقضوه بكفرهم بآيات الله وقتل الأنبياء فحلّ عليهم العذاب.

وفي تفسير علي بن إبراهيم أيضا في قوله تعالى : (وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) قال : «هؤلاء لم يقتلوا الأنبياء وإنّما قتلهم أجدادهم وأجداد أجدادهم فرضوا هؤلاء بذلك ، فألزمهم الله القتل بفعل أجدادهم ، فكذلك من رضي بفعل فقد لزمه وإن لم يفعله والدليل على ذلك أيضا قوله تعالى في سورة البقرة : (قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ، فهؤلاء لم يقتلوهم ولكنّهم رضوا بفعل آبائهم فلزمهم قتلهم.

أقول : لعلّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من رضي بفعل قوم حشر معهم» مأخوذ من هذه الآيات الشريفة ، وتقتضيه القاعدة أيضا ؛ لأنّه نوع من التأييد وأنّ العقل يحكم بأنّ تأييد الظلم ظلم وقبيح ، فإنّ نفس المقدمات الّتي كانت موجودة في نفس الفاعل وبها حصل الفعل من العلم ، والاختيار ، ورفع الموانع والغرض المزعوم ، كلّها

١٣٥

موجودة في نفس هذا الشخص ، وإنّما لم يتحقّق الفعل خارجا لأجل ظروف خاصّة يترقّب فرصة رفعها حتّى يوجد الفعل ، ويشمله قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «يحشر الناس حسب نياتهم».

إن قلت : ثبت في باب التجرّي أنّه لا عقاب على الفعل المخالف للواقع ، فكيف بالنية؟! وأنّ الثواب والعقاب بيده تعالى ، فجعل الثاني على الواقع والأوّل أعمّ كما يدلّ عليه كثير من الآيات المباركة والسنّة الشريفة.

قلت : هذا في الأحكام الفرعيّة ولا يجري في العقائد.

وثانيا : أنّ المقام ليس من باب التجرّي أصلا ؛ لأنّ حقيقته العلم ـ أو الاطمئنان المنجز شرعا أو عقلا ـ المخالف للواقع المتعلّق بالموضوعات الخارجيّة على تفصيل مذكور في علم الأصول ، راجع كتابنا [تهذيب الأصول].

وممّا ذكرنا ظهر دفع ما يقال : من أنّ العقائد هي أفعال الجوانح ، فلا مانع من جريانه فيها كما في أفعال الجوارح ، فإنّ العقيدة ليست موضوعا خارجيا ، وإنّ الإيمان يدور مدارها.

وكيف كان ، فإنّ المقام عناد مع الواقع ـ والجهل والعلم أمران متضادان ـ أي : انتصار للباطل وتضييع للحقّ مع العلم والاختيار وذلك مبغوض عنده تعالى ، وتقدّم في سورة البقرة ما يتعلّق بالمقام.

وفي تفسير العياشي بإسناده عن الصادق عليه‌السلام في قوله تعالى : (وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) ، قال : إن تقرأ هذه الآية : «قالوا قلوبنا غلف يكبتها الى أدبارها».

أقول : لا بدّ من حمل الرواية على التفسير ، أي : تفسير هذه الآية هكذا ، وإلّا تدلّ الرواية على التحريف الّذي تنكره الإماميّة بل المسلمون ، وقد دلّت روايات على صون التنزيل عن يد التحريف ، وتعرّضنا لهذا البحث في المقدّمة للتفسير الّتي هي قيد التدوين نسأل الله تبارك وتعالى التيسر والتسهيل.

وفي العيون بإسناده عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال : سألته عن قول الله

١٣٦

عزوجل : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ) قال : الطبع على قلوب الكفّار عقوبة على كفرهم كما قال الله عزوجل (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً).

أقول : تقدّم أنّ الطبع وإن كان منه تعالى لأنّه نحو عقوبة منه على العبد إلّا أنّه باختياره كما اختار الكفر ، فالمقدّمات أو الأسباب من العبد وإيجاد المسبّب عليها منه تعالى ، وتقدّم ما يتعلّق بالاستثناء.

وفي تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى : (وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً) أي : قولهم : إنّها فجرت.

أقول : وعن ابن عباس قال : «رموها بالزنا». وكيف كان فالرواية تدلّ على شدّة عداوة اليهود مع النصارى ، حتّى بلغت باتّهام السيدة العذراء والدة المسيح اتهاما عظيما.

وفي العيون بإسناده عن علقمة عن الصادق عليه‌السلام في حديث : «ألم ينسبوا مريم بنت عمران الى أنّها حملت بصبي من رجل نجار اسمه يوسف؟!».

أقول : لعلّ الإمام عليه‌السلام في مقام بيان أنّ الكافرين فرّطوا في الطغيان وتمادوا فيه ، فقد افتروا على جميع المقدّسات حتّى بالنسبة الى الباري جلّ شأنه ، قال تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) [سورة التوبة ، الآية : ٣٠] ، فكيف بالأنبياء والأوصياء الأمثل فالأمثل ، ويستفاد ذلك من الآيات الشريفة والروايات الكثيرة.

وأخرج البخاري في تاريخه والحاكم عن علي عليه‌السلام قال : «قال لي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ لك من عيسى مثلا ، أبغضته اليهود حتّى بهتوا امه ، وأحبّته النصارى حتّى أنزلوه المنزل الّذي ليس له».

أقول : هذا شأن كلّ ولي ، فكيف بسيد الأوصياء وإمام العارفين ، فقد شقي فيه فرقتان ، أهل الإفراط وأهل التفريط ، فمن أنزله عن مقامه الّذي جعله الله تعالى

١٣٧

له وأنكره فهو شقي ، ومن رفعه عن ذلك المقام بالغلو وعظّمه بأزيد ممّا وصفه الله تعالى فهو إفراط ومعتقده كافر فهو في النار.

ثمّ إنّ الروايات الواردة عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله في فضل علي عليه‌السلام فوق حدّ التواتر بكثير ، مروية بطرق مختلفة عن العامّة والخاصّة ، وليست الروايات من باب التمجيد والترغيب ، وإنّما هي من باب إظهار الحقيقة والواقع وإعلام الحقّ الساطع ، وسيأتي ما يتعلّق بها في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

وتقدّم ما في تفسير القمي في قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) قال : حدثني أبي عن القاسم بن محمّد عن سليمان بن داود المنقري ، عن أبي حمزة ، عن شهر بن حوشب : قال لي الحجاج : يا شهر آية في كتاب الله قد أعيتني ، فقلت : أيّها الأمير أية آية هي؟ فقال : قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) ، والله إنّي لآمر باليهودي والنصراني فيضرب عنقه ثم أرمقه بعيني فما أراه يحرّك شفتيه حتّى يخمد ، فقلت : أصلح الله الأمير ليس على ما أوّلت ، قال : كيف هو؟ قلت : إنّ عيسى ينزل قبل يوم القيامة الى الدنيا ، فلا يبقى أهل ملّة يهودي ولا غيره إلّا آمن به قبل موته ويصلّي خلف المهدي عليه‌السلام ، قال : ويحك أنّي لك هذا؟ ومن أين جئت به؟ فقلت : حدّثني به محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام ، فقال : والله جئت بها من عين صافية».

أقول : إنّ ما تقتضيه القاعدة العقليّة أنّ الأديان السماويّة النازلة بواسطة الأنبياء عليهم‌السلام على وجه هذه البسيطة ، إنّما هدفها إنقاذ البشرية من الشقاء والعذاب وسوقها إلى السعادة وترقيتها ؛ للوصول الى أسمى الفضائل ومنتهى الكمال اللائق من الربّ الجليل في إفاضته على من يعمّرها ، قال تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) [سورة الأعراف ، الآية : ٦٦] ، فإن لم يكن كذلك تكون الغاية حينئذ ناقصة والنقص في تعالى مستحيل ، فالغاية لا بدّ منها.

وهذا الهدف تحقّق في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مع ما طرأ عليه من الكدر والاتعاب

١٣٨

والآلام ـ بل هذه السنّة جارية في كلّ عصر من حياة الأنبياء عليهم‌السلام ـ ولكن بعد ارتحاله وارتحالهم الى الملأ الأعلى لم يبق ذلك مع أنّه لا بدّ وأن يتحقّق ويستمر ، وإلّا يستلزم الخلف المذكور ، فتطبيق القوانين الإلهيّة على عامّة سكنة هذه الأرض ممّا لا بدّ منه ، ولا يتحقّق ذلك إلّا بإشراف شخص كامل من جميع الجهات لائق ، مؤيّد ، مرتبط بالسماء ، يعرفه جميع الأنبياء ، فهذه الصفات لا تجتمع إلّا في مهدي هذه الامة ، فبه يملأ الأرض عدلا وينشر القسط فيها ، ويرفع الظلم عنها ، ويهبط المسيح من السماء حينئذ ويقتدي بداعي الله تعالى بعد ما أشرقت الأرض بنور ربّها وتحقّقت الأهداف السماويّة ، فلا بدّ من مهدي هذه الامة وهبوط المسيح من السماء للهدف المنشود. وللكلام تتمّة يأتي التعرّض له في الموضع المناسب إن شاء الله تعالى.

وكيف كان ، فالرواية تدلّ على ما اخترناه في التفسير ، فراجع ولا حاجة للتكرار.

ثمّ إنّ السيوطي ذكر في الدرّ المنثور في ضمن الآية الشريفة (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) رواية عن شهر بن حوشب أيضا ، وتقدّمت الرواية في التفسير وهي متّفقة في أصل المضمون مع السابقة وإن اختلفت في بعض الجهات وهو لا يضرّ ، سواء كانتا من باب التعدّد في القضية أم غير ذلك.

وفي الدرّ المنثور عن ابن حبان عن أبي هريرة : انّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «الأنبياء إخوان لعلات أمهاتهم شتى ، ودينهم واحد ، وإنّى أولى الناس بعيسى بن مريم ، لأنّه لم يكن بيني وبينه نبي ، وأنّه خليفتي على امتي ، وأنّه نازل ، فإذا رأيتموه فاعرفوا ، رجل مربوع ، الى الحمرة والبياض ، عليه ثوبان ممصران ، كأنّ رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل ، فيدق الصليب ، ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويدعو الناس الى الإسلام ، ويهلك الله في زمانه الملل كلّها إلّا الإسلام ، ويهلك الله في زمانه المسيح الدجال ، ثمّ تقع الامنة على الأرض حتّى ترتع الأسود مع الإبل ، والنمار مع البقر ، والذئاب مع الغنم ، وتلعب الصبيان بالحيات لا تضرّهم. فيمكث أربعين سنة ثمّ يتوفّى ويصلّي

١٣٩

عليه المسلمون ويدفنوه.

أقول : أمّا قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الأنبياء إخوان لعلات» ، أي : أمهاتهم مختلفة وأبوهم واحد ، فإنّ أكثرهم يرجعون الى إبراهيم عليه‌السلام ، وفي حديث آخر : «الأنبياء أولاد علات» ، أو لعلّه إشارة الى أن إيمانهم واحد وشرائعهم مختلفة حسب السير الاستكمالي ، وأمّا قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «عليه ثوبان ممصّران» ، أي : الثياب الّتي فيها صفرة خفيفة.

وكيف كان ، فالرواية تدلّ على ما ذكرنا ، وذيل الحديث يدلّ على عموم ما دل أنّ كلّ حي يذوق طعم الموت إلّا الحي القيوم.

وعن البيهقي في الأسماء والصفات : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : وكيف أنتم إذا نزل فيكم ابن مريم وإمامكم منكم».

أقول : الرواية تدلّ على ما ذكرنا. والأحاديث في ظهور المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الفريقين متواترة ، وقد جمع صاحب كتاب (كنز العمال) المتقي الهندي تلك الروايات في كتاب خاصّ ، كما أنّ الروايات في نزول عيسى عليه‌السلام عند ظهور المهدي مستفيضة بين الفريقين ، فلا يبقى مجال للشكّ في كلّ منهما.

وفي تفسير العياشي عن الحارث بن المغيرة عن الصادق عليه‌السلام في قول الله : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) قال : هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

أقول : لا بدّ من حمل هذه الرواية وأمثالها على محامل ؛ لأنّها لا توافق ما تقدّم من الروايات ، ومخالفة لسياق الآيات كما ذكرنا ، ولعلّ مراده عليه‌السلام ـ والله العالم ـ أنّ الإيمان بعيسى عليه‌السلام حسب ما يريده الربّ جلّت عظمته يستلزم الإيمان برسالة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال تعالى : (وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) [سورة الصف ، الآية : ٦] ، فيظهر

١٤٠