مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١٠

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١٠

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤١٥

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١٥٠) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٥١) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٥٢) يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (١٥٣) وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (١٥٤) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥٥) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (١٥٦) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (١٥٧) بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٥٨) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (١٥٩) فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً (١٦٠) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦١))

١٠١

الآيات المباركة تتحدّث عن فريق آخر من أعداء الإسلام والمؤمنين ، وهم اليهود ، ويذكر سبحانه وتعالى فيها أفاعيلهم الباطلة ، ويعدّد جرائمهم ومظالمهم بالنسبة الى الدين الحقّ والأنبياء الكرام.

فمنها : التفرقة في الإيمان ، فيؤمنون بالله تعالى ويكفرون برسله ، وقد عدّ سبحانه وتعالى هذه الصفة بأنّها كفر محض وأوعدهم النار.

وبيّن عزوجل في هذه الآيات المباركة أنّ المؤمنين هم الّذين لا يفرّقون بين الله ورسله. ووعدهم الأجر والغفران والعاقبة الحميدة في الدارين.

ومنها : سؤالهم إنزال الكتاب من السماء إعراضا منهم عن القرآن الكريم والوحي النازل على رسوله الأمين ، وربّما يشترك النصارى مع اليهود في هذين المطلبين ؛ لأنّهم أعرضوا عن الإسلام ولم يقتنعوا برسالة نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ومنها : سؤالهم الرؤية وقولهم : (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) جهلا بالحقيقة وعنادا للحقّ ؛ ولذلك (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ) للتجرّي في سؤالهم وبعدهم عن الواقع باختيارهم.

ومنها : اتخاذهم العجل معبودا لهم بعد ما جاءتهم البينات ولكنهم لم يتبعوها ، لانغماسهم في الجهالة باتباع سبل الشيطان.

ومنها : نقض الميثاق الغليظ الّذي أخذ منهم عند رفع الطور وتحت الشجرة ، وقد تعهّدوا أن لا يخالفوا التعاليم الإلهيّة.

ومنها : كفرهم بالآيات الّتي أتى بها موسى عليه‌السلام وسائر أنبياء بني إسرائيل.

ومنها : قتلهم الأنبياء عليهم‌السلام بغير حقّ.

ومنها : إعراضهم عن قبول الحقّ وقولهم : قلوبنا غلف.

ومنها : تقوّلهم على مريم البتول الطاهرة واتّهامهم لها بأعظم اتّهام.

ومنها : تقوّلهم إنّهم قتلوا المسيح عيسى ابن مريم. وقد ردّه عزوجل بنفي القتل والصلب عنه عليه‌السلام.

ومنها : أخذهم الربا وقد نهوا عنه.

١٠٢

ولأجل تلك الأفاعيل المنكرة وظلمهم وصدّهم عن سبيل الله تعالى وغيرها ، أنّه جلّ شأنه حرّم عليهم الطيبات وأعدّ لهم عذابا أليما جزاء لذنوبهم ، فإنّها آيات عظيمة تبيّن حقيقة هذه الطائفة المعاندة للحقّ بعد ما بيّن حقيقة الطائفة الاخرى وهم المنافقون ، ويبيّن عزوجل فيها أصل الإيمان وحقيقته ، وتذكّر المؤمنين بوعده الحقّ وأجرهم العظيم.

ولا يخفى ارتباط هذه الآيات الكريمة بما سبقتها ، فإنّها جميعا تبيّن تلك الحقيقة وتذكّر المؤمنين بأعدائهم وترشدهم الى نواياهم وخصالهم الذميمة ، حتّى يأخذوا الحذر منهم ومن مكائدهم وخداعهم.

التفسير

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ).

بيان لحقيقة الإيمان المطلوب المبني على أصلين لا يمكن التفكيك بينهما في الاعتقاد ، وهما العمودان وسائر الأمور المطلوبة في الإيمان الواقعي ترجع إليهما وتعتمد عليهما.

وهما : الإيمان بالله العظيم ، والإيمان بالرسل ، فإذا تحقّق الأوّل من دون الثاني يكون إيمانا ادّعائيا ، وفي نظر القرآن كفرا وإن لم يكن كذلك في نظرهم.

والآيات المباركة تشير الى طوائف متعدّدة ، فمنهم : من آمن بالله تعالى وكفر برسله أجمعين ، زعما منهم بأنّ العقل يكفي لهداية البشر ، أو لإنكارهم الوحي وأنّ ما جاء به الأنبياء والرسل إنّما كان من عند أنفسهم.

ومنهم : من آمن بالله تعالى وكفر ببعض الرسل ، وهم أهل الكتاب الّذين يؤمنون بالله ويفرّقون بين الرسل. فترى اليهود أنّهم يؤمنون بموسى عليه‌السلام ويكفرون برسالة عيسى ويحيى عليهما‌السلام ، كما أنّ النصارى تؤمن بموسى وعيسى عليهما‌السلام وتكفر

١٠٣

بنبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكفرهم هذا ببعض الرسل أوجب أن يكونوا في عدد الكافرين بالله تعالى ورسله جميعا ، كما بيّنه عزوجل في الآيات التالية.

ومنهم : من كفر بالله جلّ شأنه ولم يؤمن برسله ، كالمشركين وغيرهم من الكفّار المنكرين للمبدأ والمعاد والرسل ، ويأتي ما يتعلّق بهذه الطائفة في الآيات الكريمة في السور الآتية إن شاء الله تعالى.

ومنهم : من آمن بالله ورسله ، وهم المؤمنون ، ولهم فضلهم وشأنهم عند الله تعالى كما يأتي.

قوله تعالى : (وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ).

بيان للعلّة الّتي أوجبت دخول الطائفة الاولى في زمرة الكافرين ، فإنّهم وإن اعتقدوا بالله جلّ جلاله ، ولكن ذلك بوحده غير كاف في الدخول في المؤمنين ؛ لأنّ التفرقة بين الله تعالى ورسله كفر بهما معا.

وإنّما جعل ذلك من إرادتهم ؛ لبيان أنّه لم ينزل الله به من سلطان ، وإنّما كان بمحض إرادتهم واختيارهم التابع لآرائهم الفاسدة وعقائدهم السخيفة.

قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ).

تفسير وتوضيح لما أرادوه من التفرقة بين الله تعالى ورسله ، ويقولون : نؤمن ببعض الأنبياء ونكفر بالبعض الآخر ، كما فعله أهل الكتاب ـ أو الطائفة الثانية ـ مع أنّ الأنبياء عليهم‌السلام جميعا رسل الله تعالى والردّ على واحد منهم ردّ على الله تعالى ، فمن كفر بواحد منهم فقد كفر بالجميع.

والآيات الشريفة تبيّن حقيقة دينهم وما يقتضيه مذهبهم في الإيمان ببعض الأنبياء والكفر بالبعض الآخر ، فإنّ ذلك كفر في الواقع وإن لم يصرّحوا به أو لم يشعروا به.

وإنّما عبّر سبحانه وتعالى ب (وَيَقُولُونَ) ليماء الى أنّ ذلك مجرّد قول وادعاء بالألسنة ، وإلّا فالحقيقة والواقع خلاف ذلك ، وقد اقتصر تبارك وتعالى على ذكر أهل الكتاب ولم يذكر الطائفة الاخرى المنكرين للرسالة بالكليّة لسخافة مذهبهم ،

١٠٤

ووضوح بطلانه ، وإنكارهم لله تعالى ؛ ولأنّ الكلام مع أعداء الإسلام من أهل الكتاب المدّعين للإيمان.

قوله تعالى : (وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً).

عطف تفسيري لمقالتهم ، أي : يريدون من ذلك القول والتفرقة بين الإيمان أن يسلكوا منهجا معينا لهم ويبتدعوا طريقا مختصّا بهم يتبعوه ، يكون وسطا بين الإيمان والكفر. مع أنّ الحقّ لا يختلف ، والواقع لا واسطة فيه ، فإمّا الإيمان بالله تعالى ورسله جميعا من دون تفرقة بينهم ، وإمّا الكفر سواء كان بالله ورسله أو بالأخير منهما ، أو بالتفرقة بين الرسل ، فلا سبيل إلّا الإيمان بالله ورسله جميعا ؛ لأنّ الإيمان بهم إيمان بالله تعالى ، والكفر بواحد منهم كفر به عزوجل ، فلا واسطة ولا سبيل غيره ، وما سواه كفر وباطل.

قوله تعالى : (أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا).

بيان لحقيقة مذهبهم وواقع حالهم وتأكيد يزيل كلّ وهم وشكّ في إيمانهم ، فأولئك المفرّقون هم كافرون حقّا لا مرية فيه وإن لم يشعروا به ، فلم ينفعهم إيمانهم بالله وببعض الرسل إذا كفروا.

وفي تأكيد الحكم بالجملة المعرفة بين الجزءين ، وبضمير الفصل وبالمصدر المؤكّد قطع لكلّ إرادة باطلة وتقوّل فاسد ، فإنّه لا حقّ أثبت وأصحّ ممّا يحقّه الله تعالى حقّا ، والسرّ في ذلك واضح ؛ لأنّ ما يتوسّلون به في إثبات التفرقة باطل ، وأنّ لازم إيمانهم كذلك الردّ على الله عزوجل ، لأنّ الأنبياء وحدة متكاملة ، يبشّر السابق باللاحق ويدعو إليه ، كما ينوّه اللاحق بالسابق ويجعل الإيمان به من أجزاء الإيمان بدينه ، فإذا أنكر واحد منهم ، فقد أنكر الجميع ، وهو الكفر بالله العظيم ، ولشناعة الفعل كان الجزاء عظيما.

قوله تعالى : (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً).

وعيد لهم بعد ما أثبت كونهم كافرين ، ووضع المظهر موضع المضمر تذكيرا بوصفهم الشنيع ، وتعميما لجميع أصناف الكافرين ، هذا الصنف وغيرهم ، بعد ما

١٠٥

اجتمعوا في العلّة الّتي استحقّوا بها هذا العذاب المهين الّذي يشتمل على المذلّة والإهانة ، وفي قوله تعالى التفات من الغيبة الى التكلّم مع الغير ، إيماء الى أنّ العذاب تحقّق وقرب وقوعه ، وللتنبيه والإيقاظ لهم على ما غفلوا عنه.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ).

بيان للصنف المقابل لأولئك المفرّقين بين الله ورسله ، وفيه تعظيم لمقامهم وتشريف لهم ببيان عظيم أجرهم ، ومنه تظهر حقيقة الإيمان المطلوب ، وهي الإيمان بالله وعدم التفرقة بين أحد من رسله العظام (صلى الله عليهم أجمعين).

وإنّما ذكر عزوجل (أَحَدٍ) في المقام ؛ للبيان بأنّه لا بدّ أن لا يفرّق بين جميع الرسل ، سواء أكانوا ممّن اعتقد به أولئك الكافرون ومن أنكروا الإيمان به أم لم يكن منهم ، وتنطبق الآية الشريفة على أمة خاتم المرسلين صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّهم آمنوا به التزاما منهم بالإيمان بجميع المرسلين.

قوله تعالى : (أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ).

تعظيم للجزاء وإيذان بقرب الوقوع ، ويدلّ عليه أيضا كلمة (سوف) الّتي تدلّ على تأكيد الموعود به.

وإنّما لم يبيّن عزوجل نوع الأجور إيماء بأنّ المؤمنين يختلفون في الأجور ، فكلّ يعطي بحسب حاله في العمل بعد ما ثبت فيهم أصل الإيمان المطلوب.

كما أنّه تعالى لم يذكر هنا (أولئك هم المؤمنون حقا) كما في الآية المباركة السابقة ؛ للإعلام بأنّ ما ذكر إنّما هو أصل الإيمان المطلوب ، وأمّا كماله الّذي يتمّ به الإيمان حقّا ، فقد ذكر في آية اخرى ، قال تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ* الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) [سورة الأنفال ، الآية : ٢ ـ ٤].

١٠٦

ومن الآية الكريمة الأخيرة يظهر الفرق بين الوعدين ، الوعد الّذي ذكر في المقام وهو إعطاء أجورهم على أصل الإيمان ، والوعد الّذي ذكر في الآية الشريفة على كمال الإيمان وهو المغفرة والدرجات والرزق الكريم جزاء لصالح أعمالهم.

قوله تعالى : (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ).

بعد أنّ بيّن عزوجل حقيقة مذهبهم وأنّه كفر محض لتفرّقهم بين الله ورسله ، حيث آمنوا ببعض دون البعض الآخر ، ففي هذه الآيات الشريفة يؤكّد تعالى ذلك ببيان جرائمهم وظلمهم ويعدّد عليهم أفعالهم الشنيعة وعنادهم للحقّ وجحودهم له ، وخصّ بالذكر اليهود الّذين لقى الرسول الكريم ودينه الحقّ والمؤمنون منهم الأذى والعناد واللجاج في أشدّ وجوهها.

والمراد من أهل الكتاب هم الّذين فرّقوا بين الرسل وهم اليهود والنصارى كما عرفت ، وهم المراد أيضا في القرآن الكريم حيث أطلق أهل الكتاب إلّا إذا كانت قرينة على التخصيص ، والسؤال إنّما وقع من كلتا الطائفتين ـ تحكّما ومجازفة وعلى سبيل التعنت والتعجيز ـ لا يقصد الحجّة والبرهان ، لأنّهم عرفوا منزلة القرآن في الهداية ونفوس المؤمنين ، وكانوا يعلمون أنّ كتاب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله لا ينزل دفعة واحدة وإنّما ينزل نجوما متفرقة إلّا أنّهم لم يعدونه كتابا سماويا ، ولا كانوا يؤمنون به دليلا على نبوّته صلى‌الله‌عليه‌وآله جحودا واستكبارا منهم للحقّ ، فاقترحوا جزافا على الرسول العظيم صلى‌الله‌عليه‌وآله أن ينزل عليهم كتابا محرّرا بخط سماوي ، وأن يكون جملة واحدة.

واختلف المفسّرون في هذا الكتاب المقترح ، فمنهم من قال : كتاب يحتوي على شريعة هذا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله جملة واحدة ، كالألواح الّتي نزلت على موسى عليه‌السلام.

وقيل : إنّه كتاب يشهد بأنّك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وقيل : إنّه كتاب ينزّل باسم جماعتهم أو الى فرد معين من أحبارهم ، أو بأسماء من اقترحوا على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك.

١٠٧

وكيف كان ، فإنّ الظاهر من الآية الشريفة أنّهم اقترحوا من عند أنفسهم ـ جزافا وجحودا للحقّ ومن غير خضوع للحقيقة ـ إنزال كتاب من عند الله تعالى ، وكانوا يريدون من ذلك تشويه الأمر على المؤمنين الّذين آمنوا بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وقلب الحقيقة عليهم وسلب الطمأنينة من نفوسهم ؛ لأنّهم طالما كانوا يواجهون المؤمنين بمثل هذه المقترحات الباطلة لتضعيف الإيمان في قلوبهم ، وإلّا فإنّهم كانوا يعلمون أنّ القرآن نزل مع التحدّي وعرفوا عجز الناس عن معارضته وتحديه ، وهذا شأن كلّ متمرّد على الحقّ ، ومن تعوّد الجحود والكفر.

ولا يبقى بعد ذلك وجه للنزاع في أنّ المقترح هل هو كتاب خاصّ أو عامّ أو نحو ذلك ، بعد ما كان المناط هو معرفة نواياهم الخبيثة وكيدهم بالمؤمنين وجحودهم.

ولقد شابهوا المشركين في هذا المقترح الباطل المعاند للحقّ الّذي صدر منهم في ابتداء الدعوة كما حكى عنهم عزوجل فقال : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) [سورة يونس ، الآية : ٢٠] وقال تعالى : (أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ) [سورة الإسراء ، الآية : ٩٣].

ثم إنّ المفسّرين ذكروا أنّ اليهود كانوا يغشّون المؤمنين ويغرّونهم بإنزال التوراة عليهم جملة واحدة ، وأنّ شريعة موسى عليه‌السلام قد نزلت دفعة واحدة وكذلك الإنجيل ، فلم لم يكن القرآن كذلك وعلى خلاف تلك الكتب الإلهيّة ، وأرادوا من ذلك تضعيف الإيمان في قلوبهم وإثبات الشكّ في نفوسهم.

ولكن الّذي يظهر من القرآن الكريم وبعض الفقرات في التوراة خلاف ذلك ، فإنّ التوراة لم تنزل دفعة واحدة ، وإنّ النازل كذلك هو الوصايا العشر الّتي نقشت في الألواح ، فأتى بها موسى عليه‌السلام الى قومه ، ولما رأى عبادة العجل ألقى الألواح كما حكى عنه عزوجل في القرآن الكريم ، وأمّا شريعته عليه‌السلام فإنّها نزلت متفرّقة وعلى سبيل التدرج ولم تنزل مكتوبة جملة واحدة ، وسيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام في كيفيّة نزول الكتب الإلهيّة إن شاء الله تعالى.

١٠٨

قوله تعالى : (فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً).

جواب عن مسألتهم تتبيّن فيه حقيقتان :

الاولى : أنّهم قوم متمادون في الجحود ومنغمسون في الجهالة والضلالة ، ينكرون الحقّ وإن جاءتهم البينة ، عرفوا بنقض العهود والمواثيق واشتهروا بالكذب والبهتان ، فمن كان هذا حاله لا يعتنى بمقترحاته ولا يجاب عن اسئلته ، ومن هنا عدّد عزوجل مظالمهم وموارد جحودهم على الحقّ وتمرّدهم على الله تعالى وأنبيائه العظام ؛ لمعرفة تلك المفاسد الأخلاقيّة وذلك الجحود والتمرّد على الحقّ.

الثانية : أنّ الله تعالى أنزل القرآن مع التحدّي ، ومقارنا مع الشهادة منه عزوجل ومن ملائكته على صدقه وواقعيته ، فكلّ مقترح في إنزال كتاب آخر غيره يكون كذبا ومقترحة (بالكسر) كاذب وجاحد للحقّ ، وقد تكفّلت هذه الجهة آيات التحدّي الّتي وردت في مواضع متعدّدة من القرآن الكريم كما في سورة الإسراء ويونس وهود والبقرة ، وكذلك الآيات المباركة الّتي تدلّ على صدق القرآن وشهادته عزوجل عنه.

وأمّا الآيات الكريمة في المقام فقد تكفّلت لبيان الجهة الاولى ، فذكر عزوجل في ردّهم أنّهم سألوا موسى عليه‌السلام أكبر ممّا سألوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله من تنزيل كتاب من السماء ، فقالوا : (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) ، أي : واضحا نعاينه بأبصارنا ، وهذا السؤال يدلّ على غاية الجهل والطغيان والعناد ، فكان أكبر من سؤال إنزال الكتاب ؛ لأنّه يدلّ على العناد واللجاج فقط.

وسؤال الرؤية وإن كان من أسلافهم إلّا أنّ الخلف لما كانوا على طريقة السلف وسيرتهم وهم جميعا في الأخلاق والصفات سواء ، فكلّ ما فعله السلف يسند الى الخلف أيضا ، وقد أسند في القرآن الكريم أفعال السلف الى الخلف في نحو ألف موضع ، وهو يدلّ على كمال الاتحاد بينهم ، قال تعالى : (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) [سورة] [البقرة ، الآية : ٤٩] ، وقال تعالى : (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ

١٠٩

جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) [سورة البقرة ، الآية : ٥٥] ، وغيرهما من الآيات المباركة ، وقد تقدّم ما يتعلّق بذلك فراجع.

قوله تعالى : (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ).

الصاعقة : هي النار السماويّة الّتي تحدث من أسباب معروفة في علم الطبيعة. وإنّها والفاقعة متقاربتان ، إلّا أنّ الثانية في الأجسام الأرضيّة والاولى في الأجسام العلويّة.

وكيف كان ، فقد عبّرت التوراة عنها بالنار ولا منافاة بينهما ، فإنّ الآية الشريفة تفسّر تلك بالنار السماويّة.

والمراد من الظلم في المقام هو تشبيه الربّ بالماديات وطلب رؤيته. وهو ظلم مع علمهم بأنّها مستحيلة بالنسبة إليه عزوجل ، لتنزّهه عن مجانسة المخلوقات ، وتقدّم في قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) [سورة البقرة ، الآية : ٥٥] الكلام في هذه المسألة ، وقلنا إنّ الآية الشريفة تدلّ على امتناع الرؤية ، فإنّ ظاهرها هو أنّ أخذهم الصاعقة لم يكن إلّا بسبب ظلمهم أنفسهم ، وهو لم يكن إلّا لأنّهم طلبوا الرؤية وإلّا لما سموا ظالمين ، ولما أخذتهم الصاعقة.

ولا ينافي ذلك أن يكون السؤال عن تعنّت من اليهود ، فإنّ كلّ ظلم منهم إنّما كان كذلك وإن اختلفت أسبابه ، والعقاب قد يكون عليهما معا أو على أحدهما.

ومن ذلك يعرف بطلان ما قيل من أنّ العقاب إنّما كان على تعنّتهم لا على سؤالهم الرؤية.

وكيف كان ، فالإماميّة يقولون بامتناع الرؤية لظواهر الآيات الشريفة ، ونصوص وردت عن الأئمة الهداة عليهم‌السلام ، وأمّا الأشاعرة فإنّهم على خلاف ذلك والمسألة معروفة في كتب الكلام.

قوله تعالى : (ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ).

أي : أنّهم ارتكبوا ظلما أشنع وهو اتّخاذ العجل للعبادة مع علمهم بأنّها

١١٠

شرك باطل ، لقيام البينات والحجج الواضحة الدالّة على توحيده والنافية للشرك ، وظهور البراهين لديهم على أنّ الله تعالى منزّه عن شؤون المادّة وشائبة الجسميّة.

قوله تعالى : (فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ).

أي : فعفونا عن ذلك الذنب حين تابوا ، والعفو هنا خاصّ ، وهو رفع القتل عنهم كما حكى تعالى عن القصة في سورة البقرة : (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [سورة البقرة ، الآية : ٥٤] ، وفيه تعليم للمذنبين ، أي : أنّهم أذنبوا فتابوا فعفونا عنهم ، فتوبوا أنتم حتّى نعفو عنكم.

قوله تعالى : (وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً).

أي : أنّ الله تعالى أتى موسى عليه‌السلام تسلّطا ظاهريا عليهم جميعا بما فيهم السامري وعجله ، فخضعوا له فأمرهم ابتداء بقتل أنفسهم توبة عن اتخاذهم العجل ، فاستولى على تمرّدهم وطغيانهم ثمّ انقادوا له فلم يخالفوه ، وبذلك صارت له حجّة بيّنة قوى بها على من ناواه.

قوله تعالى : (وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ).

أي : أنّ الله تعالى رفع الطور عليهم حتّى أخذ الميثاق منهم تحت الصخرة ، وإنّما فعل ذلك تشديدا لأمر الميثاق وتوكيدا عليه وليأخذوا ما انزل إليهم بقوة ويعلموا مخلصين ، والقصة مذكورة في سورة البقرة مرّتين ، الاولى في الآية (٦٣) والثانية في الآية (٩٦).

قوله تعالى : (وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً).

بيان لمورد من الموارد الّتي أخذ الميثاق عليها ، أي : وقلنا لهم : إذا خرجتم من التيه ودخلتم مدينة بيت المقدس ، فادخلوها من الباب خاضعين كما أمر غير اليهود بأن يدخلوا البيوت من أبوابها.

والمراد من ذلك أنّ كلّ عمل يعمله الإنسان لا بدّ أن يكون من الوجه المشروع ولا يجوز أن يدخله من غير بابه الّذي شرّعه الله تعالى ، ولعلّ ما أخذ من بني إسرائيل من الدخول من الباب إشارة إلى ذلك أيضا ، فاتّحدت جميع الأديان

١١١

الإلهية على هذا الأمر ولا يقدح أن تكون الآية المباركة إشارة الى واقعة معينة ، فإنّه قد يترتّب حكم كلّي على واقعة جزئيّة ، كما هو معروف.

قوله تعالى : (وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ).

بيان لمورد آخر من موارد الميثاق ، أي : وقلنا لهم لا تتجاوزوا حدود الله تعالى ولا تحلّوا ما حرّمه الله تعالى في يوم السبت. ولكنّهم خالفوا أوامره عزوجل كما حكى عنهم في سورة البقرة.

قوله تعالى : (وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً).

أي : وأخذنا منهم عهدا وثيقا مؤكّدا ليأخذوا التوراة بقوّة واجتهاد ويعملوا بها ويحفظوا عهودها وحدودها.

وإنّما وصف الميثاق بكونه غليظا إمّا لأجل تعهّدهم بالعمل بالتكاليف الإلهيّة وحفظ التوراة ومراعاة عهودها والتزامهم إذا أعرضوا ، فالله تعالى يعذّبهم بأنواع العذاب ، أو لأجل عظمة الميثاق الّذي أخذ منهم ، وهو التصديق بنبوّة عيسى عليه‌السلام ونبوّة خاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله ، الّتي بشّر بها في جميع الكتب السماويّة.

قوله تعالى : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ).

تفريع على ما سبق ، وفيه تعداد لموارد ظلمهم وما خالفوا فيه من المواثيق والعهود. وبيان ما حلّ بهم من البلاء وما نالوا من الجزاء في الدنيا والآخرة.

والمجرور متعلّق بما يأتي في الآية الشريفة.

أي : بسبب نقضهم المواثيق وتحليلهم ما حرّمه الله تعالى عليهم وكفرهم ، وقتلهم الأنبياء بغير حقّ وقولهم : قلوبنا غلف ، وغير ذلك من جرائمهم ، فبسبب ذلك كلّه حرّمنا عليهم الطيبات وباءوا بالغضب وضربت عليهم الذلّة والمسكنة.

وجوّز بعضهم أن يكون الجار متعلّقا بمقدّر ، وقيل غير ذلك ، وسيأتي في البحث الأدبي ما يتعلّق بذلك.

وتعداد جرائمهم في هذه الآية الشريفة إنّما هو لبيان أنّها أفسدت جميع أخلاقهم ، وكدّرت صفاء نفوسهم ، وأطفئت نور فطرتهم ، فمرضت قلوبهم وساءت

١١٢

أحوالهم وتشتّت شملهم وذهب ريحهم وقوتهم ، فكلّ ما حلّ بهم من البلاء إنّما كان بسبب عصيانهم لله تعالى ونقضهم المواثيق وكفرهم.

قوله تعالى : (وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ).

المراد من كفرهم : مطلق أنواع الكفر الّذي صدر منهم بعد ظهور الحجج الواضحة الدالّة على صدق ما كفروا به ، وقد ذكر عزوجل بعضا منها في ما سبق وبعضها في ما سيأتي ، فمنها : كفرهم بأنّه منزّه عن شائبة الجسميّة ، حيث طلبوا رؤيته كما حكى عزوجل في صدر الآية الكريمة.

ومنها : كفرهم باتّخاذهم العجل معبودا.

ومنها : إنكارهم للمعجزات الّتي صدرت من الأنبياء.

ومنها : كفرهم بقتلهم الأنبياء بغير حقّ ، وكفرهم بإنكار نبوّة بعض الأنبياء.

وإنّما قدّم عزوجل نقض المواثيق في المقام مع أنّ الكفر كان مقدّما في الذكر آنفا ؛ لأنّ في هذه الآيات الكريمة تتعرّض للجزاء الّذي يترتّب على أعمالهم بعد ما استجابوا للحقّ وآمنوا بالله تعالى ، وبعد ما أخذ منهم المواثيق ، فكان ذكرها أنسب مع أنّ نقض المواثيق في كلّ دين يوجب الكفر ، فيكون من قبيل المعدّ والمقتضي له.

قوله تعالى : (وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ).

جريمة فظيعة تدلّ على طغيانهم على الله جلّت عظمته وتمرّدهم على الحقّ ، حيث قتلوا أنبياءه ورسله الّذين أرسلهم عزوجل لهدايتهم بغير جرم اجترحوه ، مع أنّهم معصومون من كلّ نقص وبريئون من كلّ عيب ، فلا حقّ يتوجّه عليهم ، وقد أكّد تعالى على قبيح هذا العصيان وفظاعته كونه (بِغَيْرِ حَقٍ) ، وإلّا فإنّ قتل كلّ شخص بريء ومحقون الدم هو قبيح ويكون بغير حقّ.

وللدلالة على أنّه لا حق مطلقا يتوجّه عليهم يستوجب هتك حرمتهم وقتلهم.

واكتفى القرآن الكريم بذكر القتل عليهم إجمالا من غير تسمية ، ولكن التاريخ قد سجّل عليهم قتل جملة من الأنبياء ، كزكريا ويحيى عليهما‌السلام وغيرهما.

١١٣

قوله تعالى : (وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ).

غلف : جمع أغلف ، وهو الّذي عليه الغلاف ليمنع نفوذ الشيء إليه ، كغلاف السيف ، وقد ورد في وصف نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «يفتح قلوبا غلفا» ، أي : مغشاة مغطاة ، يقال : قلب أغلف ، أي عليه غشاء يمنع عن قبول الحقّ ونفوذه فيه.

والمعنى : قلوبنا في أغشية تمنعها من قبول الحقّ وتأثير المواعظ فيها ونفوذ ما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله إليها ، كما في قوله تعالى : (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ) [سورة الانعام ، الآية : ٢٥] ، وما يحكى عنهم تعالى : (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ) [سورة فصلت ، الآية : ٥].

وذكر بعضهم أنّ المراد من الآية الشريفة أنّ قلوبنا في أوعية ، فلا حاجة بنا الى علم جديد سوى ما عندنا وهو كاف.

ولكن الوجه الأوّل أولى بقرينة سائر الآيات الكريمة الّتي حكي فيها حال أقوام آخرين مع الدعوة الى الحقّ.

والإباء عن الاستماع الى الحقّ لا يصدر إلّا ممّن انهمك في العصيان واستولى عليه الفساد والطغيان ، ومن أخذته العزّة بالإثم فاستكبر عن قبول الحقّ ، وهذا مرض نفسي عضال أعيى الأنبياء عليهم‌السلام عن علاجه ، وقد حكي عزوجل حال قوم نوح عليه‌السلام من الدعوة وعدم قبول الحقّ ، فقال حاكيا عنه عليه‌السلام : (وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً) [سورة نوح ، الآية : ٧].

وظاهر الآية الشريفة أنّ ادعاءهم ذلك ناشئ عن خلقتهم كذلك وإن قلوبهم خلقت مغشّاة بأغشية تمنعها من قبول الحقّ. وقد ردّ عزوجل عليهم بأنّ ذلك نشأ عن كفرهم وتمرّدهم على الله تعالى وانهماكهم في المعاصي وارتكاب الآثام فطبعت عليها.

قوله تعالى : (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ).

ردّ لزعمهم الفاسد ، أي : أنّ إباءهم عن قبول الحقّ واستماع الدعوة لم يكن

١١٤

مستندا الى كون قلوبهم في غلف ، وليس في خلق الله تعالى لقلوبهم ما يمنع عن قبول الدعوة الحقّة ، وإنّما هو راجع الى صنع الله عزوجل فيهم لأجل كفرهم وجحودهم للحقّ وعصيانهم ، ولذلك ترى أنّ منهم من يؤمن بالحقّ وإن كانوا قليلين.

وإنّما عبّر عزوجل بالطبع كالسكّة المطبوعة لبيان أنّ كفرهم الشديد وأعمالهم القبيحة قد أفسدت عليهم قلوبهم وطبعت عليها ، فصارت قاسية لا تقبل غير ما طبع عليها ، فإنّ القلوب لتتأثّر بكلّ ما يكسبه المرء وينطبع عليها كما ينطبع على الصخرة الملساء ما ينقش فيها ، فإن كان من الاعتقادات الحقّة أو الكمالات السامية والأعمال الصالحة فهي تهتز وتنمو بإذن الله تعالى ، وإلّا فتفسد وتقسي كالصخرة أو أشدّ منها ، كما حكي عزوجل حالها مع الإيمان والكفر والأعمال في مواضع متفرّقة في القرآن الكريم ، قال تعالى : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) [سورة المطففين ، الآية : ١٤] ، وقال تعالى : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [سورة البقرة ، الآية : ٧٤].

ثمّ إنّ الفرق بين الطبع (بالسكون) والطّبع (بالتحريك) هو أنّ الأوّل : الختم كما تقدّم ، والثاني هو الدنس والوسخ ، ومنه الحديث : «أعوذ بالله من طمع يهدي إلى طبع» ، أي : استجير بالله العظيم من طمع يؤدّي إلى شين وعيب.

وعن بعض اللغويين : الرين أيسر من الطبع ، وهو أيسر من الأقفال ، والأقفال أشدّ ذلك كلّه ، واستدلّ بالآيات المباركة : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ) [سورة المطففين ، الآية : ١٤] ، وقال تعالى : (طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) [سورة النحل ، الآية : ١٠٨] ، وقال تعالى : (أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) [سورة محمّد ، الآية : ٢٤].

ولكن الّذي يهوّن الأمر أنّ لكلّ منها مراتب ، فيطلق كلّ مرتبة على غيرها كما يأتي في محلّه تفصيل ذلك.

١١٥

قوله تعالى : (فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً).

تأكيد الى أنّ غلف القلوب إنّما كان من صنع أنفسهم لا من صنع الله تعالى وخلقته ، إلّا بالمعنى الّذي تقدّم من أنّ كثرة ارتكاب المعاصي والآثام والتمادي في الكفر والطغيان يوجبان إعراض الله تعالى عنها ، فيطبع الله تعالى أعمالهم فيها ، فتصير قاسية لا تقبل الحقّ ، فلم يخلق الله تعالى قلوبهم مغشية بالغشاء ، وإلّا فلا يؤمن منهم أحد أبدا ، فيكون إيمان بعضهم ولو كانوا قليلين دليلا على أنّ الغشاء على القلوب إنّما حصل من أعمالهم.

وممّا ذكرنا يعرف معنى الاستثناء في المقام ، وقد أتى به لإثبات هذه الجهة ولنفي الإلجاء الّذي يستفاد من ظاهر كلامهم ، فيرجع المعنى الى أنّهم بكفرهم وقتلهم الأنبياء وارتكابهم سيئات الأعمال وتوغّلهم في العصيان قد أفسدت أخلاقهم حتّى انطبعت تلك الآثار السيئة على قلوبهم ، فلا يؤمنون لأنّ قلوبهم في غشاء صنعوه بأنفسهم ، إلّا من هداه الله تعالى ولم يصل الى هذه المرتبة من الطغيان ، فيقبل الحقّ ويهتدي بنور الإيمان ، وقد ذكر المفسّرون في المقام أقوالا كثيرة ذكرنا جملة منها في أمثاله فراجع.

وذكر بعضهم أنّ المراد من الآية الشريفة : لا يؤمن إلّا إيمانا قليلا ، وهو الإيمان بموسى عليه‌السلام ، ولكن ذلك باطل ؛ لأنّ الإيمان القليل بالمعنى الّذي ذكر لا اعتبار به عند القرآن كما عرفت في صدر هذه الآيات المباركة.

كما أنّ ظاهر هذه الآية الكريمة أنّها في صدد ذكر كلتا الطائفتين الكافرتين اللتين طبع على قلوبهم ، والمؤمنين الّذين هم ليسوا كذلك.

قوله تعالى : (وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً).

نوع آخر من الكفر الّذي ارتكبوه وهو الكفر بعيسى عليه‌السلام ونسبة الفحشاء الى مريم العذراء الطاهرة ، والبهتان : الكذب الّذي يبهت من يقال فيه ويدهشه ويحيّره ، وهو من أقبح الكذب.

وإنّما وصف هذا البهتان بكونه عظيما إمّا لكونه قد نسب الى من كانت

١١٦

منزلتها عظيمة عند الله تعالى ، وقد اختارها الله واصطفاها على نساء العالمين مع علمهم ببراءتها ممّا نسب إليها لظهور الكرامات الدالّة على براءتها منها ، كتكليمهم عيسى عليه‌السلام وهو في المهد صبيا ، فقال : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) [سورة مريم ، الآية : ٣٠] ، فأنكروا المعجزات كلّها ونسبوا الى مريم البتول عليهما‌السلام بما هي بريئة منه وتجاهلوا منزلتها عند الله تعالى ولم يقدّروا قدرها.

وإمّا لأنّ الجزاء الّذي يترتّب على هذا البهتان كان عظيما ، وقد كانوا هم السبب في ما حلّ بهم من الغضب واللعنة.

قوله تعالى : (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ).

جريمة اخرى من جرائمهم الدالّة على كمال جرأتهم على الله تعالى والاستهزاء بآياته ورسله وتماديهم في الكذب والطغيان ، وإنّما عبّر عزوجل : (وَقَوْلِهِمْ) على سبيل التبجح ، ولبيان أنّه مجرّد قول يحكي عنهم لا حقيقة له ، وهو بعيد عن الواقع.

وقوله تعالى : (رَسُولَ اللهِ) إمّا وصف لعيسى بن مريم ، فيكون من جملة أقوالهم المحكيّة الرسالة تهكما واستهزاء بدعوته.

أو على سبيل المدح والاختصاص للإشارة الى رفعة شأنه وعظيم منزلته ولبيان فظاعة عملهم وكمال جرأتهم على الله تعالى ونفي الألوهيّة المزعومة فيه.

أو أنّ الله تعالى وضع الذكر الحسن مقام ذكرهم القبيح له ، فإنّهم قد وصفوه بأقبح الصفات.

قوله تعالى : (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ).

إبطال لما زعموه من قتلهم رسول الله تعالى عيسى ابن مريم ، والجملة في موضع الحال ، أي : والحال أنّهم لم يقتلوه ولم يصلبوه. وإنّما نفى عزوجل القتل والصلب معا عنه عليه‌السلام ، لبيان النفي التامّ ، بحيث لا يشوبه شكّ وريب فلم تصل أيديهم إليه بأي نحو من أنحاء القتل ، ودفعا به لما قد يتوهّم من أن نفي مطلق القتل عنه عليه‌السلام ، لا ينافي أن يكون قتله غير عادي ، فنفى عزوجل عنه جميع أنحائه.

١١٧

وإيماء الى الاختلاف بينهم في كيفيّة قتله عليه‌السلام ، فبعضهم قالوا : إنّهم قتلوه صلبا ، وبعض آخر قالوا : إنّهم قتلوه بغير صلب.

قوله تعالى : (وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ).

تأكيد آخر على نفي جميع أنحاء القتل المزعوم عن عيسى عليه‌السلام ، فقد وقعت لهم الشبهة والتبس عليهم أمره فأخذوا غيره فقتلوه إمّا صلبا أو غير صلب ، واشتباه الأمر في اجتماع لم يكن منتظما ولم يعرف القاتل شخصية المقتول أمر عادي ، فإنّه ربما يكون قد أخطأ من يراد قتله ، أو كان الأمر إلهيّا لحفظ رسوله فأوقع الشبه عليهم وأمر رسوله بالخروج أو بعدم حضور ذلك الاجتماع ، كما نصر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله محمّدا ليلة المبيت واشتبه الأمر على المشركين.

وكيف كان ، فاقصة معروفة في كتب التاريخ من أنّهم هجموا على ذلك الاجتماع الّذي حضر عيسى عليه‌السلام فيه فأرادوا قتله ، فألقى شبهه على غيره فقتلوه ، وقد ذكرنا ما يتعلّق بذلك في سورة آل عمران فراجع ، ويأتي أيضا في البحث التاريخي مزيد بيان.

قوله تعالى : (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ).

أي : وإنّ الّذين اختلفوا في أمر عيسى عليه‌السلام رسالة وقتلا وغيرهما لفي تردّد وحيرة منه ، فكلّ يدعي شيئا ما لهم به من علم ثابت إلّا التخمين واتباع لما يرتابه أنفسهم.

والشكّ : هنا التردّد والجهل ، فيكون أخصّ من الظن ، وإن كان يستعمل في بعض الأحيان ما يضاد اليقين ، فيشمل الشكّ والظن في اصطلاح أهل المنطق.

والاختلاف من أهل الكتاب في شأن عيسى عليه‌السلام كبير ، فاليهود زعموا قتله وإن اختلفوا في كيفيّة قتله. وبعض نفى القتل عنه رأسا والقرآن الكريم يصرّح به كما عرفت ، وقد نقلت لنا كتب التأريخ كثيرا من أباطيلهم في شأن عيسى عليه‌السلام.

وأمّا النصارى فأمرهم في نبيّهم أشدّ ، فبعضهم ادّعى ربوبيّته عليه‌السلام وأذعنوا للقتل ، ولكنهم يقولون صلب الناسوت وصعد اللاهوت ، وبعض منهم ـ وهو

١١٨

اليعقوبيّة ـ نفوا القتل عنه عليه‌السلام وقالوا : إنّه باق باتّحاد الناسوت مع اللاهوت ، وصار طبيعة واحدة ، فلم يبق له ناسوت مميّز حتّى يموت والشيء الواحد لا يمكن أن يقال له مات ولم يمت.

وبعض المحقّقين يرى أنّ المسمّى بالمسيح اثنان ، وأنّ المتقدّم المحقّ غير مقتول ، والمتأخّر المبطل هو المصلوب ، والتاريخ المعروف بالميلادي لم يعرف أنّه ضبط من ميلاد الثاني أو من ميلاد الأوّل ، وبينهما ما يزيد على خمسمائة سنة.

وكيف كان ، فقد نقل في الأناجيل المعتمدة عند النصارى أنّ المسيح عليه‌السلام قال لتلامذته : «كلّكم تشكّون فيّ في هذه الليلة» ـ (متي : ٢٦ ـ ٣١ ومرقس : ١٤ ـ ٢٧) ومع تصريحه عليه‌السلام لتلاميذه بأنّه لا خبر صادق في أمره في ذلك الوقت ، فحينئذ لا يبقى شكّ في صحّة ما قاله القرآن الكريم في حقّه.

قوله تعالى : (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِ).

الاستثناء منقطع ، والمراد من الظن في اصطلاح القرآن الكريم هو كلّ ما خالف الواقع ، كما أنّ المراد من العلم هو الاطمئنان ، وليس المراد منهما ما هو المعروف عند المنطقيين ، أي : ليس لهم ما يوجب اطمئنان النفس واليقين إلّا الحدس والتخمين.

قوله تعالى : (وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً).

الضمير يرجع الى عيسى عليه‌السلام ، وفيه التأكيد لما سبق من نفي القتل والصلب عنه عليه‌السلام وبعد أن أبطل مزاعمهم وأنّ كلّ ما قيل في شأنه هو ضرب من الحدس والتخمين ، بل هم في شكّ منه ، إذ لم يستندوا الى علم صحيح ولم يعتمدوا على حجّة قاطعة ، فيأتي القرآن الكريم ويضع الحدّ الفاصل في هذا الأمر المهمّ ، وأنّه ينفي القتل عنه يقينا ، وهو الخير اليقين الّذي ينبغي أن يعتمد عليه.

وقيل : إنّ الضمير في (قَتَلُوهُ) يرجع الى العلم ، والمراد من قتل العلم هو تمحيصه وتخليصه من شائبة الشكّ والريب ، وقيل : إنّه يعود الى الظن ، أي : ما قتلوا ظنهم يقينا ، أي : لم يثبتوا فيه. ولا يخفى بعدهما.

١١٩

قوله تعالى : (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ).

تقدّم ما يتعلّق بهذه الآية الشريفة ، في قوله تعالى : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ) [سورة آل عمران ، الآية : ٥] ، ويستفاد من كلمة الاضرار أنّ الرفع إنّما كان بالبدن والروح ، لا بالأخير فقط كما يدّعيه بعض ، فإنّه تعالى بعد أنّ نفى القتل والصلب عن بدنه وأضرب عن جميع ما قيل في ذلك ، فأثبت له الحياة وأنّه تعالى رفعه بكليهما معا يقينا ، فلو خصّصنا الرفع بالروح فقط لما كان فيه فائدة جديدة ولم تكن ميّزة خاصّة لعيسى عليه‌السلام ، إذ أنّ روح كلّ مؤمن إنّما يصعد بعد التوفّي والموت إليه عزوجل ، فيكون المراد من الرفع هو تخليصه من العذاب الّذي أزمع اليهود أن يوقعوه فيه ، ولكن لن يعرفه كيفيّة الرفع من نفس الآية الشريفة ، فلا بدّ من الرجوع الى السنّة المعصوميّة ، وقد ذكرنا ما يتعلّق بها في سورة آل عمران فراجع.

ويستفاد من الآية المباركة أنّ الرفع معجزة اخرى له عليه‌السلام ، كسائر معجزاته ومعجزات سائر الأنبياء عليهم‌السلام الّتي أثبتها لهم عزوجل ، ولا بدّ من التسليم بها وإن لم نعرف حقيقتها ، فلا يضرّ في هذه المعجزة الّتي أثبتها الكتاب العزيز له عليه‌السلام أن لا نعرف حقيقة الرفع وكنهه بأي نحو كان ، والمناط كلّه على ما يسبق إليه الظاهر وما في السنّة الصحيحة الّتي وردت من المعصومين عليهم‌السلام في تفسير الآيات الشريفة.

والآية الكريمة أوضح دلالة على أنّ عيسى عليه‌السلام لم يمت فهو حي ، فتكون قرينة اخرى على آية سورة آل عمران فراجع آية ـ ٥٥ منها أيضا.

قوله تعالى : (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً).

أي : يفعل الله ما يشاء ولا يغالب فيما يريده ، حكيم في أفعاله ومن حكمته أنّه أنقذ عبده عيسى عليه‌السلام من أيدي اليهود وألقى الشبه على غيره وسيجزي كلّ عامل بعمله.

وفي الآية الشريفة التأكيد على ما ورد في الآيات السابقة في شأن عيسى عليه‌السلام ، وفيها الدلالة على حفظه له من أيدي اليهود.

١٢٠