مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٩

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٩

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٣
ISBN: 964-5665-08-6
الصفحات: ٣٩٦

أهل الحلّ والعقد ، الّذين تثق بهم الأمّة في سياستها وإدارة أمورها. وقيل : هم أمراء السرايا والولاة. وقيل : هم العلماء وحملة الفقه والحكمة ، وقيل : هم كبار الصحابة ، وقيل : هم الخلفاء الراشدون ، وقيل غير ذلك.

والحقّ أنّه لا دليل على كلّ واحد من تلك الأقوال ، ويكفي في وهنها تعارضها في ما بينها وعدم مناسبتها للآية الشريفة ، يضاف الى ذلك أنّ بعضها حدث بعد عصر نزول القرآن بزمان كثير ، فكيف يصحّ سلخ الآية الشريفة عن معناها وتطبيقها على مورد يتحقّق بعد نزولها.

فالصحيح هو القول بأنّ أولي الأمر في المقام هم أنفسهم في قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) [سورة النساء ، الآية : ٥٩] ، وهم الأئمة المعصومون الّذين يستنبطون من القرآن ويعرفون الحلال والحرام بما وهبهم الله تعالى من الذهن الثاقب والذوق الرفيع واختارهم لهداية الناس ، فراجع تلك الآية الشريفة.

ولم يذكر سبحانه وتعالى في المقام الردّ إلى الله تعالى كما ذكره في الآية السابقة : (فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) ؛ لأنّ الردّ في المقام لا يتضمّن حكما مولويا شرعيّا ، بخلاف الردّ في الآية السابقة ، فإنّه ردّ الحكم الشرعي ، ولا سلطة لأحد فيه إلّا الله تعالى والرسول.

قوله تعالى : (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ).

المراد من العلم هو معرفة الحقّ والصدق ممّا أشيع ، وتمييزهما من الباطل والكذب. والاستنباط هو الاستخراج ، مأخوذ من استنبطت الماء إذا استخرجته ، والنبط هو الماء المستنبط وأوّل ما يخرج من ماء البئر ، وسمّي النبط نبطا ؛ لأنّهم كانوا يستخرجون ما في الأرض من الماء ، واستنباط الحكم هو بذل الجهد في الحصول على الحكم من الأدلّة الشرعيّة.

والاستنباط في الآية الكريمة إمّا وصف للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وأولي الأمر ، أو يكون

٨١

وصفا للرادّين ، أي : أنّ الّذين أشاعوا الأخبار الكاذبة ـ حداث البلبلة والفوضى في صفوف المؤمنين ـ لو ردّوا تلك الأخبار إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والى أولي الأمر من المؤمنين بدلا من إشاعته لعرفوا حقيقته من دون الوقوع في الإشاعة والآثار السيئة المترتّبة عليها ، لأنّ قيادتهم يعرفون الحقّ والصدق فيها بحكم ما اكتسبوه من التجارب ، وما أفاضه البارئ عليهم ، أو يكون المعنى لعرف الرادّون الأخبار الصحيحة واستخرجوها من الأخبار الكاذبة.

قوله تعالى : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلاً).

بيان لرعايته عزوجل لهذه الأمة ، فإنّها هي الّتي تبعث الأمل فيهم وتحفظهم من الانهيار والضياع وتصونهم من الآثار المترتّبة على كيد المنافقين وزيغهم وأباطيلهم.

وفضل الله تعالى إن كان المراد منه الرسول الكريم والقرآن المجيد ، فالمراد من الشيطان أولياء الضلال ، كأبي سفيان ونحوه ، وإن كان المراد به ظاهر الإسلام فالمراد بمتابعة الشيطان العود إلى الكفر والجاهلية الأولى.

وعلى أي تقدير ، فالمقصود بالمتابعة المنفية هي المتابعة في ظاهر الإسلام ، لا المتابعة في الأحكام العمليّة وفروع الدين ، فإنّ أكثر الناس متابعون الشيطان إلّا النادر كما هو المعلوم ، ومنه يظهر وجه الاستثناء من غير حاجة إلى تكلّف.

وممّا ذكرنا يظهر الوجه في الاستثناء ، فيكون المعنى : لو لا فضل الله عليكم في الهداية والتوفيق للمتابعة ، لا تبعتم الشيطان وخرجتم عن الصراط المستقيم إلّا قليلا منكم ، وهم الّذين أخلصوا في إيمانهم وسلّموا أمرهم لله تعالى والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ومضمون الآية الكريمة عامّ يمكن أن يشمل جميع الموارد ، ولها مظاهر مختلفة ، فلا تختصّ بمورد خاصّ وإن كان نزولها في أمر خاص ، وتشير إلى قصة بدر الصغرى وبعث أبي سفيان نعيم بن مسعود الأشجعي إلى المدينة لبسط الخوف

٨٢

والوحشة بين الناس وتحريضهم إلى عدم الخروج إلى بدر ، لما أخبرهم بأنّ أبا سفيان قد جمع الجموع وجهّز الجيوش ، كما أخبر عزوجل في القرآن الكريم.

وقد ذكر المفسّرون للاستثناء وجوها ، فقيل : إنّ ظاهر الآية الشريفة أنّه امتنان خاص في أمر قد انقضى.

وفيه : أنّه لا ينافي الأخذ بالعموم لتشمل الجميع ، فتكون لله تعالى توفيقات خاصّة على المؤمنين ، وأنّ له فضلا كبيرا عليهم.

وقيل : إنّ الآية الكريمة على ظاهرها ، فإنّ المؤمنين سواء المخلصون منهم أم غير المخلصين ، يحتاجون إلى فضله ورحمته ، وإن كان غير المخلصين يحتاجون إلى عناية زائدة.

وفيه : أنّه خلاف ظاهر الآية الشريفة.

وقيل : إنّ المراد بالفضل والرحمة القرآن والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وقيل : إنّ المراد بهما الفتح والظفر ، فيكون وجه الاستثناء بناء عليهما واضحا.

وقيل : إنّ الاستثناء إنّما هو في اللفظ دون الواقع ، نظير الاستثناء في قوله تعالى : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى * إِلَّا ما شاءَ اللهُ) [سورة الأعلى ، الآية : ٦ ـ ٧] ، فإنّ الاستثناء يفيد عموم الحكم بنفي النسيان ، وفي المقام الاستثناء يفيد الجمع والإحاطة.

وجميع هذه الوجوه بعيدة عن سياق الآية المباركة.

قوله تعالى : (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ).

توجيه تربويّ آخر يهمّ الرسول القائد صلى‌الله‌عليه‌وآله أكثر من غيره ، فيوجّه سبحانه وتعالى الأمر له ليعطي درسا للقدوة الواقعيّة ، ويبيّن تلك الطائفة المؤمنة الّتي خلصت لربّها في إيمانها ، وسلمت من الأوصاف الّتي وصف بها جلّ شأنه تلك الطوائف المنافقة الضعيفة في الإيمان ، فقد أمره عزوجل بالتحريض للقتال.

٨٣

والفاء في «فقاتل» للتفريع ، والأمر بالقتال متفرع على المتحصّل من الآيات السابقة. ويحتمل أن يكون تفريعا على قوله تعالى : (وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) ، أى : من أجل ذلك فقاتل في سبيل الله تعالى.

ويحتمل أن يكون تفريعا على قوله تعالى : (وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) ، أي : فقاتل إعلاء لكلمة الله واستنصر الله تعالى عليهم للمستضعفين ، ولا بأس بذلك.

ولكن الأولى هو الأوّل ، فإنّه بعد أن أمر المؤمنين بالقتال وبيّن مواقفهم المتقاعسة والمتخاذلة ، وبيّن أنّما بعث لا بلاغ الرسالة ، وليس شأنه الرقابة والجاءهم الى الطاعة. ففي هذه الآية الكريمة يأمره سبحانه وتعالى بتنفيذ التكليف والقتال في سبيل الله تعالى ـ لأنّه القدوة في كلّ مجال ـ وأنّك الرقيب على نفسك ، ولا يضرّك تثاقلهم في القتال وإحجامهم عن تنفيذ أوامر الله تعالى ، وإنّما عليك التوجيه والتحريض لغيرك.

وقوله تعالى : (لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) ، إمّا بمعنى لا تكلّف بشيء إلّا أنّ تكلّف نفسك ، فالأوّل مجهول والثاني معلوم. و «تكلّف» مرفوع ؛ لأنّه مستقبل ، ولم يجزم ؛ لأنّه ليس علّة للأوّل. وقرئ بالجزم على أن (لا) ناهية والفعل مجزوم بها ، أي : لا تكلّف أحدا إلّا نفسك ، و «نفسك» منصوب على أنّه مفعول لفعل معلوم مقدّر يفسّره الفعل المجهول الظاهر.

قوله تعالى : (وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ).

التحريض الحثّ على الشيء ، أي : حثّهم على القتال بالترغيب والوعظ والوعد في الطاعة والتوعيد على المخالفة.

والمراد بالمؤمنين هم تلك الطائفة المخلصة الصادقة في إيمانها ، والخالصة عن تلك الأوصاف الّتي وصف بها سبحانه وتعالى الطوائف الزائفة.

٨٤

قوله تعالى : (عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا).

المعروف أنّ (عسى) من الإنسان للترجّي ، ومن الله تعالى الحتم ؛ لأنّ الترجّي الحقيقي محال عليه عزوجل المحيط بكلّ شيء ، ولكن ذكرنا غير مرّة أنّ (عسى) وغيرها من أدوات الترجّي والتمنّي تستعمل في معانيها الحقيقيّة الإنشائيّة ، فهي إبراز المقصود والمطلوب بدواع مختلفة ، كالترجّي والتمنّي ونحو ذلك ، بلا فرق بين أن تكون تلك المعاني قائمة بنفس المتكلّم أو المخاطب أو بمقام التخاطب ، فيكون مفهوم (عسى) في الخالق والمخلوق على حدّ سواء ، بلا ارتكاب مجاز في الأوّل.

والمراد ب (الَّذِينَ كَفَرُوا) هم مشركو قريش وطواغيت الباطل ، والبأس القوّة والنجدة.

والآية الشريفة تزيد في تحريض المؤمنين على القتال واستعدادهم له ، فإنّ العامل النفسي له الأثر المهم في الحروب ، فإذا اطمئن العدو أنّ المؤمنين على أتمّ استعداد ، وقد وطّنوا أنفسهم على القتال في سبيل الله تعالى ، وكان الباعث على ذلك هو الإيمان والاعتقاد الجازم بالنصرة الإلهيّة لهم ، من دون أن يكون إلزام وسيطرة خارجيّة عليهم ، صاروا أشدّ بأسا وأتمّ استعدادا للقاء العدو ، ولذلك التأثير الكبير في وهن العدو وخوفه.

ومن ذلك يعلم أنّ هذه الآية المباركة من الآيات المعدودة الّتي نزلت في القتال وراعت الجانب المعنويّ والنفسيّ في هذا المجال.

قوله تعالى : (وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً).

التنكيل من النكال وهو العذاب والعقاب بما يكون عبرة لغيره. وأصله من التعذيب بالنكل ، وهو القيد ، فعمّم لكلّ عذاب مع هذه الخصوصية.

وفي الآية الكريمة كمال التشجيع ببعث الرأفة والاطمينان في نفوس المؤمنين ، بأنّ الله تعالى القادر على كلّ شيء هو أشدّ قوّة من الأعداء وأشدّ تعذيبا لهم ، هو

٨٥

الّذي ينصرهم على أعدائهم ، فهو عزوجل يمنعهم من أعدائهم.

كما أنّ فيها كمال التهديد للأعداء وبعث الرعب فيهم والتقريع لهم ، ويستفاد ذلك من إظهار اسم الجلالة ، وتعليل الحكم ، واستقلال الجملة ، وتذكير الخبر.

٨٦

بحوث المقام

بحث دلالي :

يستفاد من الآيات الشريفة أمور :

الأوّل : يستفاد من قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ) منزلة من منازل الإيمان ، وهي ما إذا لم يستقر الإيمان في القلب ، ولم يستوعب المشاعر ، وهي المنزلة الضعيفة الّتي يكون فيها الفرد المؤمن قد اكتفى من الإيمان بالاسم ، وفي اللسان فقط يتظاهر بالطاعة ، وأما حالته النفسيّة فهي على تذبذب ونفاق ، يعطى الموافقة اللسانيّة ويضمر المخالفة ، وسرعان ما يظهر عدم موافقته على ما أبداه أمام الرسول القائد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويدلّ قوله تعالى : (فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ) على سرعة المخالفة وإضمار الشرّ ضدّ الإيمان والمؤمنين.

الثاني : يدلّ قوله تعالى : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) على أنّ تلك الطائفة المنافقة وغيرها من ضعفاء الإيمان وأصحاب الشرّ والفساد لا تأثير لهم في الإسلام ، ولن يصيبوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنين أذى ومكروها ؛ ولذا أمر عزوجل رسوله الكريم بالإعراض عنهم والتوجّه إليه تعالى ، فإنّه جلّ شأنه يتولّى جزائهم ويكفي المؤمنين أذاهم ، قادر على حماية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنين بالله تعالى.

الثالث : يستفاد من قوله تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) ، أنّ للقرآن الكريم الأثر الكبير في إصلاح النفوس المريضة ، وأنّ الكتاب التكوينيّ كالكتاب التشريعيّ لا اختلاف فيهما ، فإذا كان التدبّر في القرآن العظيم موجبا لرفع الشكّ والتردّد ، كذلك له الأثر في رفع شكوك النفوس وتثبيتها على الإيمان. ويستفاد من الآية السابقة الدالّة على اختلاف الجنان مع اللسان ، ومن تعقيبها بهذه الآية الدالّة على أنّ التدبّر في القرآن

٨٧

الموجب لرفع الشكّ وجلب اليقين في عدم اختلافه ، أنّ الرجوع إلى القرآن والتدبّر فيه والتفكير في معانيه والعمل بما ورد فيه ، توجب رفع الشكّ واختلاف النفوس وضعف الإيمان ، وتورث ثبات القلوب واستقامتها ، والطاعة التامّة لله والرسول.

الرابع : يدلّ قوله تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) على لزوم النظر في الجملة في الحجج والأمارات وبطلان التقليد في أصول المعارف الإلهيّة ، كما أثبتوه في علم الكلام.

الخامس : ذكرنا أنّ الآية الكريمة المتقدّمة تدلّ على أنّ القرآن ممّا يناله الفهم ، وهذا لا ينافي ما ورد أنّ للقرآن بطنا لا يمكن الوصول إليه إلّا بتفسير المعصوم عليه‌السلام ، فإن للقرآن ظاهرا يناله الفهم العادي وعليه تدور المحاورات واستفادة الأحكام الشرعيّة.

السادس : يدلّ قوله تعالى : (لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) على معجزة القرآن ، فإنّه مضافا إلى كونه لا اختلاف فيه من جانب واحد ، كذلك لا اختلاف فيه من حيث اجتماعه على جميع الجوانب المتّصلة بالإنسان في الحياة الدنيا والحياة الآخرة ، ولا اختلاف في توجيهه لجانب مع توجيهه لجانب آخر ، وتحتاج معرفة ذلك إلى التدبّر دون القراءة المسترسلة أو بقلوب مطموسة ، فلا يتبيّن له ما فيه الحقّ الّذي لا اختلاف فيه ، فيكون القرآن معجزة خالدة فيها الدلالة الواضحة على صدق من جاء به ، وهو الرسول الكريم خاتم الأنبياء سيد المرسلين صلى‌الله‌عليه‌وآله.

السابع : يدلّ قوله تعالى : (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ) على ذمّ إذاعة الأنباء ونشر الأخبار الّتي لم يتأكّد الإنسان من حقيقتها ، أو تكون موجبة لإشاعة البلبلة في صفوف المؤمنين ، وقد ورد في الحديث : «كفى بالمرء كذبا أن يحدّث بكلّ ما سمعه» ، بل يستفاد منه أنّ ذلك من سبل الشيطان الّذي يريد إيقاع المؤمنين في التعب والمشقّة ، وقد بيّن عزوجل أنّ المنهج القويم في مثل تلك الحالات هو الإرجاع إلى الرسول القائد ، ومن يكون على معرفة من

٨٨

الأمور بحقائقها ، وهم الصفوة من الأمّة الّذين وهبهم الله تعالى الذهن الثاقب وألهمهم فهم الكتاب المبين ، وهم الأئمة المعصومون عليهم‌السلام قرناء القرآن العزيز ، الّذين ما أن تمسّك بهم أحد لن يضل أبدا.

الثامن : إنّما ذكر سبحانه وتعالى الأمن والخوف لأهمّيّتهما بالنسبة إلى حفظ الأمّة وكيانها واستقلالها واستعدادها للقاء العدو ، ولأنّ الآية الشريفة تشير إلى قضية بدر الصغرى وتذكّر المؤمنين بما جرى عليهم من المحن في غزوة احد إثر إشاعة الخوف وتخاذل الناس عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد تقدّم في سورة آل عمران عند قوله تعالى : (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ) [الآية : ١٧٢].

ويمكن أن يتعدّى من مورد الآية المباركة إلى كلّ ما يوجب انهيار كيان الأمّة ، وما يوجب البلبلة في الصفوف والرعب والتخاذل عن الحقّ والتخويف ونحو ذلك.

التاسع : يستفاد من قوله تعالى : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلاً) ، أنّ المؤمن لا بد أن يكون على استعداد لتلقّي الفيض الإلهي والفضل الربوبيّ بالعمل بالشريعة واتّباع الرسول ، وترك الاعتماد على النفس الأمّارة وما يوجب البعد عن الله تعالى.

وقد ذكر عزوجل جملة من ذلك في الآيات السابقة ، منها إذاعة الخوف أو الأمن وترك الايتمار بأوامر الله عزوجل والرسول والتثاقل في تنفيذها.

العاشر : يستفاد من قوله تعالى : (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) شدّة التعبير من الله سبحانه للمتثاقلين الّذين أعرضوا عن القتال واحتالوا في تركه ، كما حكى عزوجل عنهم في الآيات السابقة ، فقد أمر جلّ شأنه الرسول الكريم بتنفيذ هذا الحكم الإلهي بنفسه والقيام بالقتال لوحده والإعراض عن المتثاقلين ،

٨٩

فإنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ليس له إلّا التبليغ والتحريض ، فمن أطاع فقد أطاع ومن عصى فقد عصى ، ولا يضيق صدره من ذلك فليس له إلّا تكلّف الجهاد بنفسه.

الحادي عشر : يستفاد من قوله تعالى : (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) أنّ الله تعالى إنّما كلّف نبيّه الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله بمباشرة القتال وحده مع الكافرين لما أعطاه من القوّة والشجاعة ما لم يعط أحدا من العالمين ، وسيرته صلى‌الله‌عليه‌وآله تدلّ على ذلك ، قال علي عليه‌السلام : «كنّا إذا اشتدّ البأس اتقينا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله».

كما يستفاد من الآية الشريفة أهميّة التحريض العملي ، أي : فقاتل أنت امتثالا لأمر الله تعالى ، وحرّض بعملك المؤمنين على ذلك وحثّهم على الجهاد وقتال الأعداء.

بحث روائي :

في تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ) ، أي : يبدلون».

أقول : المراد من التبديل التغيير ، وأنّ ذلك من شعب النفاق.

وفي الدرّ المنثور عن ابن عباس في قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ) ، قال : «هم أناس كانوا يقولون عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : آمنا بالله ورسوله ، ليأمنوا على دمائهم وأموالهم ، فإذا برزوا من عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ) خالفوهم إلى غير ما قالوا عنك ، فعابهم الله فقال : (بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ) ، قال : يغيّرون ما قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله».

أقول : إنّهم كانوا يغيّرون ما يقوله النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ويبدّلون ما عهدوا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لأجل النفاق الكائن في نفوسهم القابل للإزالة.

٩٠

وفي الكافي بسنده عن سليمان الجعفري قال : «سمعت أبا الحسن عليه‌السلام في قول الله تبارك وتعالى : (إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ) قال : يعني فلانا وفلانا (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً)».

أقول : مراد الإمام عليه‌السلام من كان من أهل النفاق في أي عصر كان وفي أي مكان ، وذكر المصداق لا يوجب التخصيص.

وفي الدرّ المنثور في قوله تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) ، أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الضحّاك وعن قتادة أيضا : «إنّ قول الله لا يختلف ، وهو حقّ ليس فيه باطل ، وإنّ قول الناس يختلف».

أقول : لا يمكن الاختلاف في القرآن بجميع أقسامه ؛ لأنّه الميزان لتمييز الحقّ عن الباطل ، وأنّه من الحقّ والى الحقّ وفي الحقّ ، وما هو كذلك لا يتصوّر فيه الاختلاف ، وإنّما ينشأ الاختلاف من ناحية اختلاف العقول وتفاوت الاستعدادات ، وتقدّم كلام عليّ عليه‌السلام في وصف القرآن.

وفي الكافي بسنده عن عبد الله بن عجلان قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «إنّ الله عيّر أقواما بالإذاعة في قوله عزوجل : (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ) ، فإيّاكم والإذاعة».

أقول : المراد من الإذاعة الإشاعة الّتي توجب الخوف والرعب أو الترهيب في النفوس وإفشاء الباطل والفساد ، سواء كانت في حالة الحرب أو في حالة السلم ؛ لأنّ ذلك من شعب النفاق أو من ضعف الإيمان.

وفي الدرّ المنثور عن ابن عباس في قوله تعالى : (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ) قال : «هذا في الإخبار ، إذا غزت سرية من المسلمين خبّر الناس عنها ، فقالوا : أصاب المسلمين من عدوهم كذا وكذا ، وأصاب العدو من المسلمين كذا وكذا ، فأفشوه بينهم من غير أن يكون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله هو يخبرهم به».

٩١

أقول : هذا من باب ذكر أحد المصاديق ، لا من باب الحصر والتخصيص.

وفي الكافي بسنده عن عبد الحميد بن أبي الديلم ، عن الصادق عليه‌السلام قال : قال الله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) ، وقال عزوجل : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) ، فردّ أمر الناس إلى أولي الأمر منهم ، الّذين أمر بطاعتهم والردّ إليهم».

أقول : إنّها تفسّر الآية بآية اخرى ، فإنّ القرآن يفسّر بعضه بعضا.

وفي الدرّ المنثور عن ابن عباس في قوله تعالى : (وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ) : «أولي الفقه في الدين والعقل».

أقول : ينحصر ذلك في من له ارتباط كامل معه سبحانه وتعالى ، وأفاض عليه العصمة.

وفي تفسير العياشي عن عبد الله بن عجلان عن أبي جعفر عليه‌السلام في قوله تعالى : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ) قال : هم الأئمة.

أقول : الرواية من باب التفسير بالمصداق الحقيقيّ للآية الشريفة والحصر فيهم واقعي ؛ لأنّهم يعرفون الحلال والحرام ، وهم حجّة الله على خلقه ، وهم الصفوة. وقد روي هذا التفسير في روايات اخرى ، وتقدّم في الآية الشريفة : (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) ما يتعلّق بذلك.

وعن عبد الله بن جندب عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام في كتاب كتبه إليه في أمر الواقفيّة : «إنّ الله يقول في محكم كتابه : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) يعني آل محمد ، وهم الّذين يستنبطون من القرآن ويعرفون الحلال والحرام ، وهم الحجّة لله على خلقه».

أقول : قريب منه ما رواه المفيد في الاختصاص عن إسحاق بن عمار عن الصادق عليه‌السلام في حديث مفصّل ، وجميعها تدلّ على ما تقدّم ؛ لأنّهم يعرفون الحقيقة والحقيقة تعرفهم ، وهم الّذين يفهمون الكتاب والكتاب يعنيهم.

٩٢

وفي الدرّ المنثور عن ابن عباس في قوله تعالى : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ) قال : فانقطع الكلام ، وقوله تعالى : (إِلَّا قَلِيلاً) ، فهو أوّل الآية يخبر عن المنافقين. قال : (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ) قليلا ، يعني بالقليل المؤمنين».

أقول : يستفاد منه أنّ في الآية الكريمة تقديما وتأخيرا ، وهو بعيد عن سياق الآية المباركة كما مرّ في التفسير. إلّا أن يراد منه المعنى ، أي : لو لا فضل الله عليكم ورحمته لأغواكم الشيطان إلّا قليلا ، كالّذين أخلصوا دينهم لله تعالى وتوجّهوا إليه سبحانه ، وهم الصفوة من الخلق كالأنبياء والمعصومين عليهم‌السلام ، وهذا له وجه ، وتدلّ على ذلك آيات كثيرة كما يأتي التعرّض لها.

وفي تفسير العياشي عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) قال : فضل الله رسوله ، ورحمته ولاية الأئمة».

وفيه أيضا عن محمد بن الفضيل عن أبي الحسن عليه‌السلام في قوله تعالى : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) قال : «الفضل رسول الله ، ورحمته أمير المؤمنين».

أقول : في مضمون ذلك روايات كثيرة ، وجميعها من باب ذكر المصداق الحقيقيّ ؛ لأنّ بهما تتحقّق العدالة الاجتماعيّة وتظهر آثارها ، وتتنعّم البشرية بنعم الدنيا ونعيم الآخرة وتطمئن نفوسها ، وأمّا أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله فضل ؛ لأنّه واسطة في الفيض والمبلّغ لما فيه التهذيب والرقي ، فهو السبب للكمال. وأمّا عليّ عليه‌السلام رحمته ، فلأنّه واسطة في الإفاضة وسبب الدوام والبقاء والنهج العمليّ للوصول إلى الكمال. وقد يطلق الرحمة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الفضل على أمير المؤمنين عليه‌السلام كما عن العبد الصالح عليه‌السلام في رواية محمد بن الفضيل قال : «الرحمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والفضل علي بن أبي طالب» ، والمراد من الرحمة فيها هي الرحمة الرحيميّة ، وقد سماّه الله تعالى في كتابه الكريم بالرحمة فقال : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [سورة الأنبياء ، الآية : ١٠٧] ، وقد يطلق الفضل على القرآن أيضا.

٩٣

في الكافي بإسناده عن مرازم قال الصادق عليه‌السلام : «إنّ الله كلّف رسول الله ما لم يكلّف به أحدا من خلقه ، ثمّ كلّفه أن يخرج على الناس كلّهم وحده بنفسه وإن لم يجد فئة تقاتل معه ، ولم يكلّف هذا أحدا من خلقه قبله ولا بعده ، ثمّ تلا هذه الآية : (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) ، ثمّ قال : وجعل الله له أن يأخذ ما أخذ لنفسه ، فقال عزوجل : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) ، وجعل الصلاة على الرسول بعشر حسنات».

أقول : في مضمونها روايات اخرى ، وهي تدلّ على كمال قربه صلى‌الله‌عليه‌وآله إليه تعالى وشرفه على سائر الأنبياء ، حيث لم تكن لهم هذه المزيّة وسائر المزايا الّتي له صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن سعد عن خالد بن معدان : «انّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : بعثت إلى الناس كافّة ، فإن لم يستجيبوا لي فإلى العرب ، فإن لم يستجيبوا لي فإلى قريش ، فإن لم يستجيبوا لي فإلى بني هاشم ، فإن لم يستجيبوا فإليّ وحدي».

أقول : الرواية نصّ في أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله حجّة على أهل الدنيا كافّة ، وأنّ رسالته لم تختصّ بقوم دون قوم وبعصر دون آخر ؛ لأنّ دينه ورسالته السابقة توافق الفطرة الخالصة المستقيمة ، فإذا ظهر اعوجاج فيها وانحرفت عن استقامتها ، بعدت عن الإيمان به ، وقد تختصّ رسالته لنفسه ؛ لأنّ عنده الفطرة المستقيمة واللبّ الكامل ، وتدلّ على ذلك كثير من الآيات الشريفة ، مثل قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً) [سورة سبأ ، الآية : ٢٨].

وفي تفسير العياشي عن سليمان بن خالد قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : قول الناس لعليّ عليه‌السلام إن كان له حقّ فما منعه أن يقوم به؟ قال : فقال : إنّ الله لا يكلّف هذا الإنسان وحده إلّا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال : (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) فليس هذا إلّا للرسول ، وقال لغيره : (إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ) ، فلم يكن يومئذ فئة يعينونه على أمره».

أقول : يستفاد منه أنّ إقامة الحقّ وتثبيت قوائمه في المجتمع النائي عنه لا يتمّ

٩٤

إلّا بالإعانة والاستعانة مع الآخرين ، وهذا لا ينافي التوكّل عليه تعالى والتفويض إليه جلّ شأنه ، كما ثبت في محلّه ، وإن لم يظهر له أعوان ينبغي حفظ صاحب الحقّ حقّه بما يراه من الطرق حتّى يفيقوا من غيّهم ويستعدوا للانقياد للحقّ ويتقرّبوا إليه.

وأخرج ابن منذر عن أسامة بن زيد أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لأصحابه ذات يوم : «ألا هل مشمر للجنّة ، فإنّ الجنّة لا خطر لها ، هي وربّ الكعبة نور تتلألأ وريحانة تهتز ، وقصر مشيد ، ونهر مطرد ، وفاكهة كثيرة نضيجة ، وزوجة حسناء جميلة وحلل كثيرة في مقام أبدا ، في خير ونضرة ونعمة ، في دار عالية سليمة بهيّة. قالوا : يا رسول الله ، نحن المشمرون لها. قال : قولوا : إن شاء الله ، ثمّ ذكر الجهاد وحضّ عليه».

أقول : ما ذكره صلى‌الله‌عليه‌وآله جملة من صفات الجنّة إمّا لأجل الترغيب والتحريض للجهاد أو للموعظة ، وإمّا أنّ المخاطب ليس له استعداد للتلقي بأكثر منه ، فيكون من باب : «إنّا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلّم الناس على قدر عقولهم» ، وإلّا فصفات الجنّة لا تعدّ ولا تحصى ، كما يأتي شرح ذلك في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

وفي تفسير العياشي عن أبان عن الصادق عليه‌السلام : «لما نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) قال : كان أشجع الناس من لاذ برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله».

أقول : ومن تلك يعرف مقدار تضحيته للإسلام وتفديه لله تعالى بعد إعراض الناس عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وفيه ـ أيضا ـ : عن أبي حمزة الثمالي عن عيص ، عن الصادق عليه‌السلام قال : «إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كلّف ما لم يكلّف أحد أن يقاتل في سبيل الله وحده ، وقال :

٩٥

(حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ) ، وقال : إنّما كلّفتم اليسير من الأمر ، أن تذكروا الله».

أقول : الرواية في مقام الامتنان ؛ لأنّه تعالى كلّفه بالتحريض.

وفي تفسير العياشي عن جعفر بن محمد عليه‌السلام قال : «ما سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله شيئا قط؟ فقال : لا ، إن كان عنده أعطاه ، وإن لم يكن عنده قال : يكون إن شاء الله ، ولا كافئ بالسيئة قط ، وما لقي سرية مذ نزلت عليه : (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) إلّا وليّ بنفسه».

أقول : ما ورد في هذه الرواية من كمال الأدب الّذي خصّه الله تعالى به ، حيث قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أدّبني ربّي فأحسن تأديبي» ، وقد سار على هذا النهج آله الطاهرون والعلماء العاملون والعرفاء الشامخون ، بل المؤمنون المتوجّهون.

بحث فلسفي

قد ثبت في الفلسفة الإلهيّة ـ وغيرها ـ أنّ كلّ ما في عالم الشهادة ـ وغيرها ـ من المسبّبات والمعلولات تتبع في كمالاتها ورقيّها ـ بل في تجرّدها وبساطتها ـ أسبابها وعللها ، فكلّ ما في العلّة أو السبب من الكمال والرقي والشرف والعلو ، كان للمعلول أو للمسبّب نصيب منها حسب اللياقة والنسبة ، وقد جعلوا ذلك قاعدة مسلّمة عندهم غير قابلة للاخترام ـ كما هي شأن جميع القواعد الفلسفيّة مطلقا ـ لأنّ التخلّف عنها يستلزم سقوط التناسب والعلاقة بين الأسباب والمسبّبات والعلل والمعلولات ، فيوجب الخلف أو الانفكاك بينهما لفرض التفكيك.

ولا تنافي بين هذه القاعدة وبين قوله تعالى : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) [سورة الروم ، الآية : ١٩] ، لأنّهما من الأمور الإضافيّة ، ولكلّ منهما مراتب متفاوتة ودرجات مختلفة.

٩٦

وقد مثّلوا للقاعدة في العلل المادّية بقولهم : «كلّ اناء بما فيه ينضح» ، وتجري هذه القاعدة : «قاعدة التناسب» في جميع أقسام المسبّبات والمعلولات ، بلا فرق فيها.

نعم ، إنّ الكمال متفاوت وله مراتب شدّة وضعفا ، حقيقة ومجازا ، مادّيا ومعنويّا ، أو قد يكون خفيّا مستورا ، وقد يكون ظاهرا.

وتجري هذه القاعدة في المجرّدات أوّليّة كانت أو ثانويّة ـ وعليها بنوا أنّ الصادر الأوّل من المبدأ الفياض الأزلي لا بدّ وأن يكون فيه الكمال المطلق ـ بل عن بعضهم هو عين الكمال المطلق ـ وهو العقل الأوّل الّذي هو جامع لجميع ما يليق به من الكمال ، ومنه ينحدر بقية العقول العشرة حتّى يصل إلى العقل المادّي الفعال.

حتّى أنّ بعضهم بنوا على هذه القاعدة اختلاف رتب الملائكة ، وإن كان في ذلك بحث عندنا ، كما سيأتي في محلّه.

وعلى هذه القاعدة لا يمكن نقص ـ من الاختلاف في البيان أو الموضوع أو غيرهما ـ في القرآن الكريم ؛ لأنّه الصادر من الحيّ القيوم الأزلي ، وكذا سائر الكتب السماويّة إن لم تمسّه يد التحريف ، والقرآن مصون منه بالأدلّة الكثيرة ، كما يأتي بيانها في المورد المناسب لها.

ولذا يكون كمال القرآن بذاته ولذاته صادر عن الحقّ بلا واسطة ، وإنّ إعجازه فيه وبه ومنه جلّ شأنه بلا فصل ، فيمكن أن تكون الآية المباركة : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) إرشادا إلى ذلك.

٩٧

(مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (٨٥) وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (٨٦) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً (٨٧))

بعد ما بيّن عزوجل بعض أحوال الطائفتين المؤمنة المستقيمة الثابتة في إيمانها والمطيعة لمولاها ، والطائفة العاصية الزائغة في أقوالها وأفعالها.

يذكر جلّ شأنه في هذه الآيات المباركة وضع كلّ واحدة من الطائفتين من حيث العمل والجزاء ، فإنّ الشفاعة الحسنة تؤدّي إلى الغاية الحميدة ، وهي الشوق الى الطاعة وتحريض المؤمنين على قتال الأعداء ، فيترتّب عليها الجزاء الحسن.

وأمّا الشفاعة السيئة فتكون نتيجتها الحرمان وتخذيل الناس عن القتال ـ بحكم المناسبة مع الآيات السابقة ـ ويترتّب عليها الجزاء السيء.

ثمّ يذكر سبحانه وتعالى في ضمن هذه الآيات المباركة التحيّة ، فإنّ فيها الحياة ونبذ الفرقة والاختلاف. وذكر هذه الآية الشريفة في هذا المقام لبيان القاعدة الأساسيّة في الإسلام ، وهي السعي إلى السلام ، إلّا إذا اضطرّ إلى الحرب والقتال ، فهو إنّما يكون وسيلة لإقرار السلام ، لا لأجل القتال.

ويذكر عزوجل القاعدة العريقة في القتل والجهاد والسلم والأمان ، وهي إقرار توحيد الله تعالى ، فهو التوجيه العقائدي الصارم في جميع ميادين هذا الدين ، ولا يخلو ارتباط هذه الآيات الكريمة بسابقتها ، كما عرفت.

٩٨

التفسير

قوله تعالى : (مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها).

مادة (شفع) تدلّ على ضمّ شيء إلى شيء ، ومنه الشفع ، أي : ضمّ واحد إلى واحد ، وهو الزوج في العدد. والشفعة ، لأنّها ضمّ الشريك نصيبه إلى نصيب شريكه.

وأمّا الشفاعة ، فهي الانضمام إلى آخر ليكون ناصرا له أو دافعا عنه ، فهو نوع توسّط لترميم نقص أو حيازة مزيّة ، وتقدّم في مبحث الشفاعة أنّ لها السببيّة في الجملة لإصلاح شأن من شؤون المشفوع له ، وهذا هو مقصد الشفيع ، فتكون الغاية من الشفاعة إيصال المنفعة إلى المشفوع له ، فلا بدّ وأن يكون للشفيع منزلة عند المشفوع ، ويكون له نصيب من الخير أو الشرّ المترتّبين على الشفاعة.

والشفاعة إمّا تكوينيّة كما في قانون العلل والمعلولات ، أو تشريعيّة ، وهي الّتي تكون بإذن الله تعالى ، كما في قوله عزوجل : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) [سورة الأنبياء ، الآية : ٢٨] ، فراجع بحث الشفاعة عند قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٥٤].

والنصيب والكفل بمعنى واحد ، وهو الحظ. وقيل : إنّ النصيب هو الحظّ المنصوب ، أي : المعيّن فيشمل الزيادة ، والكفل هو المثل المساوي أو الحظ الّذي فيه الكفاية.

وإنّما ذكر النصيب في الحسنة لأنّ جزاء الحسنة يضاعف ، وذكر الكفل في السيئة لأنّ من جاء بالسيئة لا يجزى إلّا مثلها ، فتكون الآية المباركة إشارة إلى لطفه عزوجل بعباده.

وعموم الحسنة يشمل كلّ ما يطلق عليه الحسنة ، ومنها الدعاء للمؤمنين.

٩٩

والمعنى : من يجعل نفسه شفيعا لآخر في حسنة ، يكون له حظ وافر ممّا يترتّب على شفاعته من الخير في الدنيا والثواب الجزيل في الآخرة ؛ لأنّ الشفيع ذو نصيب من الخير والشرّ المترتبتين على شفاعته لما كان فيها نوع من السببيّة ، كما عرفت.

واختلف العلماء في المراد من هذه الآية الكريمة ، والمستفاد منها أنّها تدلّ على تحريض المؤمنين على مراعاة الحقوق إمّا بدفع الشرّ ، أو جلب المنفعة ابتغاء وجه الله تعالى ، وتنبههم لأن يكونوا على يقظة من شفاعتهم ، فلا يشفعوا حتّى يعرفوا الأثر المترتّب عليها ، فإذا كانت في خير وحسنة فلا بأس بالشفاعة فيها ، وإن كانت في شرّ وفساد فلا بدّ من الاجتناب عنها ، فإنّ فيها إشاعة للشرّ وترويجا للباطل وتأييدا لأهل الظلم والطغيان والنفاق ، وفي ذلك الفساد العظيم.

وبمناسبة ذكر هذه الآية الشريفة بعد الآيات السابقة الّتي أمر فيها نبيّه الأعظم بالقتال منفردا لأجل حفظ كيان هذه الامة ، تأتي هذه الآية الكريمة وتأمر المؤمنين بنصرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والانضمام إليه في هذا الخير العظيم ، فإنّ فيه نصرة الحقّ وإقامة شريعة الله تعالى ، فيكون لهم الشرف والنجاة في الدنيا والثواب الجزيل في الآخرة ، ففي الآية الشريفة تحريض للمؤمنين على قتال أعداء الله تعالى ، وأنّه يكون لهم الجزاء الحسن عنده تعالى.

قوله تعالى : (وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها).

بيان للشفاعة المخالفة للشفاعة الحسنة ، وتشمل كلّ ما كان سيّئة ، كالانضمام إلى العدو وتخذيل المؤمنين ، والإعانة على السيئات ، والدعاء على المؤمن ، ومنها الشفاعة في إسقاط حدّ من حدود الله تعالى ، ففي الحديث : «من حالت شفاعته دون حدّ من حدود الله تعالى ، فقد ضادّ الله تعالى في ملكه ، ومن أعان على خصومة بغير حقّ ، كان في سخط الله تعالى حتّى ينزع» ، فمن يشفع الشفاعة السيئة يكن له مثل الوزر المترتّب على تلك السيئة ، فإنّ الكفل والنصيب والمثل واحد.

١٠٠