مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٩

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٩

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٣
ISBN: 964-5665-08-6
الصفحات: ٣٩٦

نظره ، فقد يختار ما هو خير لنفسه وهو في الواقع شرّ لها ، قال تعالى : (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [سورة البقرة ، الآية : ٢١٦] ، ولا يقدر الإنسان أن يميّز الخير من الشرّ إلّا بإطاعة الله وطاعة رسوله ، ومن تولّى عن ذلك يقع في السوء والسيئات ، ولا يكون إلّا من سوء اختياره ؛ لأنّه أعرض عن نظام الأسباب والمسبّبات الّذي جعله الله عزوجل وسيلة لنيل الخير والحسنات. والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ليس له سلطان على ردعه عن ذلك وإكراهه على الوصول في الطاعة ، فإنّ ذلك ليس من سنّة الله تعالى في النظام التشريعيّ ، فكانت هذه الآية المباركة بمنزلة الشرح للآية الكريمة السابقة ، فسبحان من أحكم آياته.

التاسع : يستفاد من قوله تعالى : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) شأن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ومنزلته عند الله تبارك وتعالى ، حيث لم يفصل بين طاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وطاعة نفسه جلّت عظمته ، فجعل طاعته إطاعة لنفسه عزوجل ، ولم يرد مثل هذا الشأن والمنزلة في سائر الأنبياء.

العاشر : يدلّ قوله تعالى : (وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) على نظرية الإسلام في الطاعة والإيمان ، فإنّها تنفي الطاعة عن القهر والإكراه ، ولا تؤمن إلّا بالإيمان الصادر عن الاختيار ورضاء النفس ، ويستفاد من قوله تعالى : (حَفِيظاً) ، أن إحساس الشخص بكونه مراقبا وحفيظا عليه ـ يجبره على الإيمان والطاعة ـ يجعله ذليل النفس ويخمد وجدانه عن الإحساس بالمسؤوليّة والتكليف عنده ، ففي الإسلام لا يكون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله حفيظا حتّى لا يشعر الفرد بذلك ، وهذا ما أثبته علماء التربية في العصر الحديث ، وقد سبقهم الإسلام بقرون كثيرة ، فقالوا إنّ الطاعة الصادرة عن الحرية والاختيار ترفع طبع الإنسان ، وأمّا الإذعان الناشئ عن القهر يحطّه ويستلزم إخماد الوجدان في نفسه ، لا سيما إذا طال أمد القهر ، فإنّه

٦١

يشعر بأنّه لا يحتاج إلى الرجوع إلى وجدانه واستفتاء قلبه وميل فكره مادام هناك جبر وإلزام بالامتثال.

وعلى أية حال ، فنظرية الإسلام في هذا المجال تدلّ على أنّه لا جبر على الإيمان والطاعة من الأنبياء والمرسلين ، ولم يبعث الله الرسول حفيظا ومراقبا على الناس ليراقب أفعالهم فيشعروا بالذلّ والهوان وفقدان الإحساس.

نعم ، لا بدّ من إعلامه بأنّ المخالفة تستتبع العقاب حتّى ينبع الوازع الديني من وجدان الشخص ونفسه ، لا من الخارج.

بحث روائي :

في الكافي بإسناده عن الفضيل عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «يا فضيل ، أما ترضون أن تقيموا الصلاة وتؤتوا الزكاة وتكفّوا ألسنتكم وتدخلوا الجنّة ، ثمّ قرأ هذه الآية : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) أنتم والله أهل هذه الآية».

أقول : الأسباب الّتي ذكرها عليه‌السلام لدخول الجنّة لا بدّ من توفّر الشروط فيها من الإيمان والولاية والصحّة وغيرها ، كما ذكرت في روايات أخرى مفصّلة ، وإنّما خصّ عليه‌السلام الأسباب المذكورة لأهمّيّتها.

وأما تفسير الأيدي بالألسن كما ورد في رواية الحلبيّ عن الصادق عليه‌السلام أيضا في قول الله عزوجل : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) ، قال : يعني كفّوا ألسنتكم» ، لأنّ كفّ الألسن أو الحرب باللسان مقدّمة لكفّ الأيدي ، كما مرّ في التفسير ، فإنّ كفّت الألسن عن الحقّ أو الدين أخذ كلّ منهما مكانه واشتدّ قوامه وكثر أعوانه.

وعن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «والله الّذي صنعه الحسن بن

٦٢

عليّ عليه‌السلام كان خيرا لهذه الأمّة ممّا طلعت عليه الشمس ، والله لفيه نزلت هذه الآية : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) إنّما هي طاعة الإمام عليه‌السلام ، فطلبوا القتال فلما كتب عليهم القتال مع الحسين عليه‌السلام قالوا : ربّنا لم كتبت علينا القتال؟! لولا أخّرتنا إلى أجل قريب ، وقوله : (رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ) أرادوا تأخير ذلك إلى القائم».

أقول : الروايات في ذلك متضافرة متقاربة في المعنى ، وأنّها من باب التطبيق وذكر المصداق ، لما تقدّم من أنّ الآيات المباركة تنطبق على جميع العصور والأزمان ، ولا تختصّ بعصر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّ طاعة الإمام عليه‌السلام هي طاعة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وعن علي بن إبراهيم : «أنّها ـ الآية المباركة ـ نزلت بمكّة قبل الهجرة ، فلما هاجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الى المدينة وكتب عليهم القتال فنسخ هذا ، ففزع أصحابه من هذا ، فأنزل الله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ) بمكّة (كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) ، لأنّهم سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بمكّة أن يأذن لهم في محاربتهم ، فأنزل الله : (كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) ، فلما كتب عليهم القتال بالمدينة : (وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) ، فقال الله : (قُلْ) لهم يا محمد : (مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) الفتيل القشر الّذي في النواة ، ثمّ قال تعالى : (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) يعني : الظلمات الثلاث الّتي ذكرها الله ، وهي المشيمة والرحم والبطن».

أقول : لا تختصّ الآيات المباركة بمورد النزول فقط ، بل تعمّ غيره كما تقدّم ، وتفسير البروج بالمشيمة والرحم والبطن تفسير بأحد المصاديق والأفراد ؛ لأنّ الموت يصيب الإنسان حتّى لو حفظته الطبيعة في محلّ مأمون عن الكوارث والحوادث.

البيهقي في سننه عن ابن عباس : «انّ عبد الرحمن بن عوف وأصحابا له أتوا

٦٣

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا : يا نبي الله ، كنّا في عزّ ونحن مشركون ، فلما آمنّا صرنا أذلّة ، فقال : إنّي أمرت بالعفو ، فلا تقاتلوا القوم ، فلما حوّله الله إلى المدينة أمره الله بالقتال فكفّوا ، فأنزل الله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ)».

أقول : المراد من العزّة ـ في حال الشرك وحالة البعد عن الصفات الحسنة كما قاله ابن عوف ـ هي العزّة الوهميّة ، لا العزّة الواقعيّة الدائميّة ؛ لأنّ العزّة كذلك لا تكون إلّا بالإسلام ، والذلّة في حال الإسلام ، أي : الذلّة في الشعور والخيال ، ولعلّ عفو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان لمقالة ابن عوف.

وكيف كان ، فالرواية من باب التطبيق لا التخصيص.

وفي الدرّ المنثور عن قتادة قال : «كان أناس من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وهم يومئذ بمكّة قبل الهجرة يسارعون إلى القتال ، فقالوا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : ذرنا نتّخذ معاول فنقاتل بها المشركين ـ وذكر لنا عبد الرحمن بن عوف ـ كان فيمن قال ذلك ـ فنهاهم نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن ذلك قال : لم أومر بذلك ، فلما كانت الهجرة وأمروا بالقتال ، كره القوم ذلك وصنعوا فيه ما تسمعون ، قال الله تعالى : (قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً)».

أقول : يستفاد منها أنّ إصرارهم على القتال في مكّة كان لأجل الغنيمة الدنيويّة ، ولم يكن لوجه الله عزوجل.

وفيه ـ أيضا ـ : عن هشام قال : «قرأ الحسن : (قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ) قال :

رحم الله عبدا صحبها على ذلك ، ما الدنيا كلّها من أوّلها إلى آخرها إلّا كرجل نام نومة فرأى في منامه بعض ما يحبّ ، ثمّ انتبه فلم ير شيئا».

أقول : هو مأخوذ من قول نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا».

وأخرج ابن أبي حاتم عن ميمون بن مهران ، قال : «الدنيا قليل ، وقد مضى أكثر القليل وبقي قليل من قليل».

٦٤

أقول : المراد من القليل في مقابل الآخرة.

العياشي عن صفوان بن يحيى ، عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : «قال الله تبارك وتعالى : يا ابن آدم ، بمشيئتي كنت أنت الّذي تشاء وتقول ، وبقوتي أدّيت إليّ فريضتي ، وبنعمتي قويت على معصيتي ، ما أصابك من حسنة فمن الله ، وما أصابك من سيئة فمن نفسك ، وذاك أنّي أولى بحسناتك منك ، وأنت أولى بسيئاتك مني ، وذاك أنّي لا اسئل عمّا افعل وهم يسألون».

أقول : ما ورد في الرواية من القدسيات وتقدّم في المباحث السابقة مكرّرا أنّ كلّ شيء من الله تبارك وتعالى ؛ لأنّه الربّ والخالق والعالم والمدبّر. وقد جعل للإنسان الاختيار ليميّز الخبيث من الطيب بعقله ، فإذا سلك الإنسان الطريق الفاسد كان باختياره وهو المسؤول ، وإذا سلك الطريق الصحيح فمنه تعالى ؛ لأنّه تفضّل علينا بخلقه وإرائته ، بل أنّه تعالى أنعم علينا بالاختيار لما نختار ، فهو تعالى لا يسأل عمّا يفعل ، لأنّ أفعاله لا تصدر إلّا عن مصلحة وحكمة ، ولكن العباد يسألون لما اختاروا.

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن أبي حاتم من طريق علي عليه‌السلام عن ابن عباس في قوله تعالى : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) يقول : «الحسنة من عند الله ، أمّا الحسنة فأنعم الله بها عليك ، وأمّا السيئة فابتلاك الله بها». وفي قوله تعالى : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ) قال : «ما فتح الله عليه يوم بدر ، وما أصاب من الغنيمة والفتح». (وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ) قال : «ما أصابه يوم أحد أن شجّ في وجهه وكسرت رباعيته».

أقول : المراد من الابتلاء الامتحان ، والرواية موافقة للروايات الصادرة عن الأئمة الهداة عليهم‌السلام كما تقدّم.

وعن قتادة في قوله تعالى : (وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) قال : عقوبتك بذنبك يا ابن آدم ، قال : وذكر لنا أنّ نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقول : «لا يصيب

٦٥

رجلا خدش عود ، ولا عثرة قدم ، ولا اختلاج عرق إلّا بذنب ، وما يعفو الله عنه أكثر».

أقول : المراد من قول نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّ ما يعرض على الإنسان من المكاره في هذه الدنيا إنّما هو جزاء ما اختاره من الأعمال السيئة ، فيكون نحو كفّارة ، وتقدّم تفصيل ذلك.

عن الحسن بن علي الوشا ، عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام في قوله تعالى : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) قال تعالى : «وأنت أولى بسيئاتك منّي عملت المعاصي بقوتي الّتي جعلت فيك».

وهناك روايات كثيرة جدا تدلّ على أنّ البلاء يختصّ المؤمن حسب مراتب إيمانه حتّى ورد في بعضها : «أن الله إذا أحبّ عبدا غثّه (غمسه) بالبلاء غثّا» ، وفي بعضها الآخر يتعاهده بالبلاء كما يتعاهد الرجل أهله بالهدية من الغيبة ، فكلّ ذلك إمّا أن تكون هذه البلايا حسنات له مثل زيادة الأجر ، كما عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لو كان المؤمن على جبل لقيّض الله عزوجل له من يؤذيه ليأجره على ذلك».

أو كفّارة لما صدر عنه من المعاصي ، فتكون البلية من نفسه.

أو لأجل الاختبار والامتحان حتّى يعرف مدى حبّه لله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأوليائه ورسوخ قدمه في الإيمان.

أو لأجل التذكية وتخفيف الشدائد في عالم البرزخ أو الآخرة.

أو لأجل رفع الدرجة ؛ ولذا قد يكون البلاء مستمرا. ولا بدّ في البلاء ما يكون مجانسا للمؤمن وحسب شأنه ، وإلّا أوجب انخرام قاعدة التناسب الّتي تقدّم الكلام فيها.

وفي الكافي بإسناده عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «ذروة الأمر وسنامه ومفتاحه وباب الأشياء ورضى الرحمن ، طاعة الإمام ومعرفته ، إنّ الله عزوجل يقول : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) ،

٦٦

أما لو أنّ رجلا قام ليله وصام نهاره وتصدّق بجميع ماله وحجّ جميع دهره ، ولم يعرف وليّ الله فيواليه ويكون جميع أعماله بدلالته ، ما كان له على الله حقّ في ثوابه ولا كان من أهل الإيمان ، ثمّ قال : المحسن منهم يدخله الجنّة بفضل منه».

أقول : المراد من معرفة وليّ الله هو معرفة الرسول والعمل بأوامره مع العقيدة الكاملة ، وأن معرفة أوليائه يستلزم معرفة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكذا العكس ، ولو لم يعرف وليّ الله فيواليه لا يكون أعماله وفق النظام الصحيح الكامل والمنهج الربّاني المنزّل على رسوله الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلا يستحق الثواب كما في الصحيح عن أبي جعفر عليه‌السلام : «كلّ من دان الله عزوجل بعبادة يجهد فيها نفسه ولا إمام له من الله ، فسعيه غير مقبول وهو ضالّ متحيّر».

وذيل الرواية متعلّق بصدرها ، أي : الّذين عرفوا الإمام عليه‌السلام ، المحسن منهم يدخل الجنّة ، وفي تفسير الصافي : «أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : من أحبّني فقد أحبّ الله ، ومن أطاعني فقد أطاع الله ، فقال المنافقون : لقد قارف الشرك وهو ينهى عنه ، ما يريد إلّا أن نتخذه ربّا كما اتّخذت النصارى عيسى ، فنزلت الآية».

أقول : إنّ إطاعة الرسول من إطاعة الله تعالى ؛ للتلازم العقليّ بينهما ، فإنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله في الحقيقة والواقع مبلّغ له ، فالآمر والناهي هو الله جلّ شأنه ، فإطاعة أوامره وعصيانها هو إطاعة الله وعصيانه ، ولا يمكن التفكيك بينهما ، ولا يرضى سبحانه وتعالى العمل إلّا عن طريق رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وبما بيّنه ، وإنّ شأن الأنبياء كلّهم ذلك.

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن المنذر والخطيب عن ابن عمر قال : «كنّا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في نفر من أصحابه ، فقال : يا هؤلاء ، ألستم تعلمون أنّي رسول الله إليكم؟ قالوا : بلى. قال : ألستم تعلمون أنّ الله أنزل في كتابه أنّه من أطاعني فقد أطاع الله؟ قالوا : بلى نشهد أنّه من أطاعك فقد أطاع الله ، وأن من طاعته طاعتك ،

٦٧

قال : فإنّ من طاعة الله أن تطيعوني ، وأنّ من طاعتي أن تطيعوا أئمتكم وإن صلّوا قعودا فصلّوا قعودا أجمعين».

أقول : الرواية في مقام وجوب اتّباع الأئمة الهداة المنصوص عليهم في لسان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعدم جواز التخطّي عن نهجهم ، والروايات من الفريقين في ذلك كثيرة جدا ، فعن أبي إسحاق النحوي قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : إنّ الله أدّب نبيّه على محبّته ، فقال : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ). قال : ثمّ فوّض الأمر إليه فقال : (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) ، وقال : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ). وإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فوّض إلى عليّ عليه‌السلام والأئمة ، فسلمتم وجحد الناس ، فو الله لنحبّكم أن تقولوا إذا قلنا وأن تصمتوا إذا صمتنا ، ونحن فيما بينكم وبين الله. والله ما جعل لأحد من خير في خلاف أمره».

أقول : المراد من التفويض الوارد فيها هو ما كان في إبلاغ المشروع لا في أصل الشرع والجعل ؛ لأنّه الرسول فيتبع ما يوحى إليه ، وذكرنا ذلك مفصّلا في محلّه ، كما أنّ المراد من التفويض إلى الأئمة عليهم‌السلام التفويض في بيان الأحكام وإقامة الحقّ وتمييزه عن الباطل ؛ لأنّهم الأدلاء إلى الله تعالى.

وكيف كان ، فالرواية تدلّ على أنّ اتّباعهم تقرّب إلى الله جلّ شأنه ، وأنّه اتّباع للرسول الكريم.

وفي الدرّ المنثور عن ابن زيد أنّه سئل عن قوله تعالى : (فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) ، قال : «هذا أوّل ما بعثه ، قال : إنّ عليك إلّا البلاغ ، ثمّ جاء بعد هذا يأمره بجهادهم والغلظة عليهم حتّى يسلموا».

أقول : للغلظة مراتب متفاوتة ، و (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ).

وفيه ـ أيضا ـ : عن ربيع بن خثيم قال : حرف وأيما حرف (مَنْ يُطِعِ

٦٨

الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) ، فوّض إليه فلا يأمر إلّا بخير.

أقول : هذا يؤيّد ما قدّمناه.

بحث فلسفي :

كانت مسألة الموت والحياة على بساط الجدل بين الفلاسفة من زمان بعيد ، فذهب كلّ جيل إلى مذهب ، بل كلّ فيلسوف إلى رأي ، حتّى أن ظهرت الأديان السماويّة وحلتها بما جاء عن خالق الموت والحياة ، وبيّنت حقيقة الموت بأنّه ليس فناء وأمرا عدميا فحسب ، وإنّما هو انتقال الروح من عالم الشهادة ، إلى عالم البرزخ والآخرة في الإنسان ، وفي غيره كما تقدّم في البحث الفلسفي في آية ١٨٥ ـ ١٨٩ من سورة آل عمران. واتّفقت في ذلك ، وقد اتّجهت الأجيال والفلاسفة إلى ما قرّرته الأديان السماويّة ، وليس هنا موضع لتفصيل آراء الفلاسفة السابقين بعد ما اتّفقت الأديان كلّها وأجمعت على أنّه انتقال الروح من هذا العالم إلى عالم آخر بعد أن تتجرّد من هذا الثقل الجسمي.

حقيقة الموت ومظهره :

الموت هو مفارقة الحياة ونهاية كلّ حي ـ ما سواه تعالى ـ في هذا الوجود حتّى أنّ المجرّدات الّتي لها الحياة كالملائكة مصيرهم إلى الموت في وقت معين.

وأنّ المتّفق عليه في حقيقته هو انتقال الروح من الهيكل البدني ـ عند ما يصبح غير مؤهّل لبقاء الروح فيه ـ إلى عالم وراء هذا العالم ، وينقطع عن هذا العالم بالمرّة وإن بقي له نوع علاقة بهذا العالم ، حسب الروايات الواردة كما يأتي في البحث الروائي في الآيات الآتية.

٦٩

ومظهره : خمود الشعور ودخول الجسد الحيوانيّ إلى حالة التحلّل والاستحالة إلى الأصول الّتي تكوّن منها ، وإن كان في نظرية الإسلام بل الأديان الإلهيّة كلّها ، أنّ هذه الاستحالة والتحلّل لم يكن دائما وإنّما يكون دورا خاصّا ومحدّدا بزمن معين ، ثمّ يرجع الهيكل الّذي كان يعيش به في عالم الشهادة ويتشخّص في يوم الجزاء به ، ويسأل منه ما صدر عنه من الأفعال ، على ما أثبته الفلاسفة في البحث عن المعاد الجسمانيّ في آية ٨ ـ ٩ من سورة آل عمران.

الحذر من الموت :

يدرك كلّ حيّ ـ مهما كان شعوره ودرجته الحيوانيّة ـ بثقل الموت وشناعته وجزعه منه ، قال تعالى : (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) [سورة الجمعة ، الآية : ٨] ، فتراه يهرب منه بتمام جهده ويدافعه بكلّ ما عنده من الوسائل إلّا أولياء الله تعالى ومن كان مرتبطا بصلة خاصّة مع مبدئ الحياة وخالقه حتّى أنّه يحنّ أيضا ، ولكن من ألم فراق التقرّب إليه جلّ شأنه بالموت وإن كان هو آنس بالموت من الطفل بثدي أمّه. والآية الشريفة : (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ). تبيّن السبب من الحذر والخوف من الموت وهو حبّ البقاء الموجود في نفس كلّ كائن حيّ ، ويكشف هذا الحبّ عن خلود الروح ، كما أثبته كثير من الفلاسفة ، إذ لو لم يكن الخلود مقدّرا للروح لما شعر الإنسان ـ أو الكائن الحي ـ به ومالت النفس إليه ، فإنّ الشعور مهما كان جزافا ـ والجزاف مستحيل في صنع الله تبارك وتعالى ، بل مستحيل في صنع النواميس الكونيّة الّتي تقود هذا الوجود وتربط بعضها مع بعض ـ لا يستطيع أن يصنع هذا الميل الشديد وذعرها العظيم من الفناء.

فلا معنى للقول بأنّ الخلود هوى من أهواء النفس ، كما ذهب إلى ذلك بعض

٧٠

الفلاسفة المادّيين ، لما عرفت من أنّ حبّ الخلود لا يكون عبثا ، بل مستندا إلى خلق ، وأنّ هوى النفس لا تستطيع أن تكون منشأ لذلك الذعر العظيم والحبّ الواقعي.

وهذا الحبّ والذعر من الموت لا يتغيّر ولا يختلف في أدوار العمر الّذي يمرّ على الإنسان ـ الّذي هو أوسع فكرا وإحساسا من بقية الكائنات الحيّة ـ فإنّه مهما بلغ من الشيخوخة يخاف الموت ويحبّ البقاء ، وإن كانت الدواعي مختلفة.

نعم ، قد يكون في الموت جانب من الراحة ، فيتمنّى الإنسان الموت كما يتمنّى التعبان الراحة ، ولكن ذلك لأجل عامل خارجي ، كفقد الإحساس وسيطرة المرض أو غير ذلك ، قال الشاعر :

وإذا الشيخ قال أف فما ملّ

حياة وإنّما الضعف ملّا

آلة العيش صحّة وشباب

فإذا وليا عن المرء ولى

ولكن أولياء الله تعالى الّذين تقرّبوا إلى الملأ الأعلى وذاقوا طعم الحياة الأبديّة والعيش السرمديّ ، ووصلوا إلى الروح والراحة يستوحشون من هذا العالم ولا يهابون الموت ، فإنّهم علموا أنّ ما (عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٩٨] ، وإن كانوا يحزنون من الاستكمال المعنويّ في هذه الدنيا.

وقد كتب ابن مسكويه رسالة في علاج الخوف من الموت لغير أولياء الله تعالى ومن شاء فليرجع إليها ، وتقدّم في البحث العرفاني في آية ـ ١٧٥ من سورة آل عمران ما يرتبط بالمقام.

أنواع الموت :

الموت يقع حسب أنواع الحياة : فمنها إرادي وهو إماتة الشهوات وترك التعرّض لها ، كما أنّ الحياة الإراديّة ما يسعى لها الإنسان في الحياة الدنيا من المآكل والمشارب وغيرهما للعيش.

٧١

ومنها : الموت الطبيعي ، وهو ما تقدّم من استرجاع الروح الكائن في الحي ، كما أنّ الحياة الطبيعيّة هي بقاء النفس السرمديّة باستكمالها من العلوم والتبرّؤ من الجهل ؛ ولذا أوصى أفلاطون طلاب الحكمة : «مت بالإرادة تحيى بالطبيعة».

ومنها : زوال القوّة العاقلة ، كقوله تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) [سورة الانعام ، الآية : ١٢٢] أي : رفعنا عنه الجهالة بحياة العلم.

ومنها : الحزن والخوف المنغص من الحياة والمكدرات للعيش ، كقوله تعالى : (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ) [سورة إبراهيم ، الآية : ١٧].

وقد يستعار الموت للأحوال الشاقّة والمتعبة ، كالفقر والسؤال والذلّ والهرم وغير ذلك.

ولعروض الموت وانتقال الروح المأنوسة بالجسد إلى عالم الآخرة ، تمرّ حالات شاقّة على الإنسان إلّا أنّها تخفّ وتسهل حسب اطمينان النفس بالله تعالى والإيمان به ، قال الصادق عليه‌السلام : «الموت للمؤمن كأطيب ريح يشمّه فيغص لطيبه فينقطع التعب والألم كلّه عنه ، وللكافر كلسع الأفاعي ولدغ العقارب وأشدّ» ، وتستمر الحالات في عالم البرزخ على ما فصّل في محلّه ، بل لعروض الموت على الحيوان فيه نوع مشقّة له ؛ لأنّ الروح كان مأنوسا بالجسد ، وللبحث تتمّة تأتي في محلّها المناسب إن شاء الله تعالى.

٧٢

(وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٨١) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (٨٢) وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٣) فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (٨٤))

الآيات المباركة تحدّث عن تلك الطائفة الّتي تكون داخلة في صفوف المؤمنين ، والّتي تكلّم عنها عزوجل في ما سبق من الآيات الكريمة. وهي فرقة منافقة تظهر الطاعة والولاء بمحضر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكنّها تنوي المخالفة وتتآمر ضدّ الإسلام ورسوله.

والآيات الشريفة تطمئن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بعدم إصابته آذاهم ، وتأمره بالإعراض عنهم والتوكّل عليه ، وسوف يحاسبهم على كلّ ما يصدر عنهم ، وقد ألزمهم عزوجل الحجّة بالرجوع إلى القرآن وتعاليمه وآدابه وأحكامه ، فإنّه لا اختلاف فيها من جهة من الجهات. وتأمر بالتفكّر في ما أنزله الله تعالى على رسوله ليملأ مشاعرهم وتتهذّب نفوسهم ، فيتركوا النفاق ويخلص إيمانهم ثمّ يأمرهم بالرجوع إلى الله تعالى والى الرسول في ما لم يعلموه من القرآن ، وسوف يرشدهم الّذين يستنبطون الدقائق والرموز من القرآن الكريم بما منحهم الله تعالى من الفهم

٧٣

الثاقب وصفاء النفس ، وهذا هو الفضل الكبير الّذي تفضّل الله تعالى علينا ، وهو ذو الفضل العظيم.

التفسير

قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ طاعَةٌ).

بيان لصفة اخرى من صفاتهم الذميمة ، وهي النفاق والتظاهر أمام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بالطاعة وتبطين المخالفة ، فهم يدرجون أنفسهم في المسلمين ، ويقولون للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ شأننا الطاعة لأوامرك.

وإنّما جعل المصدر مكان اسم المفعول ، أي : أمرك مطاع للمبالغة ، فهم يدعون في حضرة الرسول الكريم كمال الطاعة ومنتهى الانقياد ، والتعبير ب «طاعة» لشدّة تظاهرهم بكمال الانقياد.

و «طاعة» على الرفع ، وهي القراءة المعروفة خبر لمبتدأ محذوف ، وقرأ بعضهم على النصب ، أي نطيع طاعة.

قوله تعالى : (فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ).

مادة (ب ر ز) تدلّ على الظهور ، ومنها البراز بفتح الباء ، وهو الفضاء من الأرض ، والمراد به في المقام الخروج من مجلس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله منصرفين.

ومادة (بيت) تدلّ على التدبير والتقدير والإبرام في الليل ، يقال : أمر بيّت بليل ، إذا أحكمه ودبّره في الليل ، قال تعالى : (إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً) [سورة النساء ، الآية : ١٠٨] ، وإنّما خصّ الليل بذلك ؛ لأنّه وقت يصفو فيه الذهن ويتفرّغ فيه ، ومنه التبييت والبيات ، وهو إتيان العدو ليلا ، كما أنّ منه تبييت الصائم ، أي : القصد إلى الصوم ليلا.

٧٤

والمراد به في المقام هو عقدهم على مخالفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في الخفية ، كالّذي يدبّر في الليل والظلام ، وبينما هم في تبييتهم وظلامهم إذ القرآن يفاجئهم ويكشف عن نواياهم السيئة.

والمعنى : أنّهم إذا خرجوا من عندك عقدوا العزم على مخالفة ما قلته لهم من الأحكام والأوامر ، ويستلزم ذلك أنّهم خالفوا أنفسهم أيضا في ما أظهروه من الطاعة. ويحتمل إرجاع الضمير في «تقول» إلى الطائفة.

وإنّما اقتصر على ذكر مخالفة ما قاله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله للأهميّة ولبيان قبح ظلمهم ، وإنّما عدل عزوجل عن الماضي في قوله تعالى : (غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ) ؛ لبيان أنّ قصدهم الاستمرار على ذلك.

كما أنّ في إسناد ذلك إلى طائفة منهم دون الجميع ؛ لأجل أنّ هؤلاء هم الرؤساء الّذين كانوا يتصدّون ذلك والباقون أتباع لهم.

قوله تعالى : (وَاللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ).

توعيد لهم على قبح أفعالهم ، الّتي هي ثابتة في علم الله تعالى ، وأنّه يعلم مكرهم ويكتب في صحائفهم ما يضمرون من النوايا الفاسدة ، وسيحاسبهم عليها في الدنيا أو الآخرة ، أو فيهما معا. والكلام كناية عن التوعيد والمجازاة.

قوله تعالى : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ).

إرشاد إلى الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله بالإعراض عنهم وعدم الاكتراث بهم ، والتوكّل عليه عزوجل وتفويض الأمر إليه.

وإنّما أظهر اسم الجلالة للإشارة إلى علّة الحكم ، فإنّه المستجمع لجميع صفات الكمال ، وهو القادر على كفاية أمر رسوله الكريم منهم ، وإنّه جلّ شأنه يكفيك شرّهم ويبعد عنك كيدهم.

قوله تعالى : (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً).

لأنّه عالم بجميع الحقائق محيط بعباده وقادر على كلّ شيء ، فهو يحمي

٧٥

رسوله من كلّ سوء وضرر ، ويكف أذى الأعداء عنه. والآية المباركة تطمئن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّه لن يصيبه أذاهم.

قوله تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ).

تحريض لهم بالتدبّر في القرآن الكريم والتأمّل في معانيه ، لاستيعاب ما ورد فيه من الإرشادات والتوجيهات والأحكام المستندة على المصالح والمفاسد والدستورات المتكفّلة لسعادة الدارين ، وأنّ العمل بها يوجب الفلاح ويثبت الإيمان في قلوبهم ، فتخلص من شوائب الكفر والنفاق.

وإنّما أمروا بالتدبّر في القرآن لفساد زعمهم ؛ لأنّهم كانوا يظنون أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يشرّع لهم من نفسه ، وأنّ القرآن ، إنّما هو من عنده ، ومن صنعه صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ ولذا أمرهم بالتدبّر في القران ، الّذي هو مفتاح اليقين والإخلاص ، والفائق في جميع تعبيراته وتنسيقاته على مستوى واحد غير متفاوت وفي غاية الكمال ، لا يمكن أن يكون من صنع البشر أو عمل مخلوق مهما بلغا من الشأن في عالم التفكّر والتنسيق اللفظي أو الأدبي أو المعنوي : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) [سورة الإسراء ، الآية : ٨٨] ؛ لأنّ الطبيعة مهما بلغت من الكمال فهي مختلفة في المستويات ومتفاوتة ، فتكون نتاجها كذلك ، كما أثبته علماء الفلسفة ، فيستحيل أن يكون القرآن من عند غير الله تعالى ، إلّا أنّه يحتاج إلى تدبّر وتفهّم ، فإنّهم لو تدبّروا القرآن وتأمّلوا معانيه ، لعلموا أنّه منه جلّت عظمته ، وأنّه يهدي إلى الحقّ ولا يمكن أن يكون من عند غير الله تعالى ـ لما عرفت ـ ولكنّهم لم يتدبّروه ، فعابهم عزوجل عليه ، والسبب في ذلك ما ذكره سبحانه وتعالى في آية أخرى ، قال تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) [سورة محمد ، الآية : ٢٤] ، فهم قد أقفلوا قلوبهم عن فهم معاني القرآن ونصائحه وإرشاداته ، لتبطينهم النفاق والكفر ، ولإصرارهم على ارتكاب الآثام.

٧٦

قوله تعالى : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً).

خصيصة من خصائص القرآن الكريم ومزيّة له امتاز بها على سائر الكتب ، فإنّ بشرا على وجه هذه البسيطة لا يمكنه أن يخرج كتابا يسلم فيه من الاختلاف كهذا الكتاب العزيز ، فهو معجز بجميع جهاته بأسلوبه وكلماته ، وبفصاحته وبلاغته ؛ وبأحكامه وآدابه ، وبقصصه وإرشاداته وبأصوله وفروعه ، وبحقائقه وواقعياته ، وغير ذلك ممّا لا يبلغ حدّ الإحصاء ، ويكفي في صدق ذلك أنّ الآية الكريمة تقرّر أنّه لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا.

والمراد من الاختلاف الأعمّ من التناقض في المعنى ، ونفي بعضه بعضا والتفاوت في النظم والأسلوب ، بخروج بعضه عن الفصاحة والبلاغة ونحو ذلك ، وليس المراد بالاختلاف خصوص التناقض كما يبدو لأوّل وهلة ، فإنّ القرآن هدفه واضح ، وهو إثبات الألوهية وعبادة الله الواحد الأحد المتّصف بجميع صفات الكمال ، فهو لم يخرج عن وجهته هذه ، ولكن الاختلاف أعمّ من ذلك ، فهو يشمل جميع المستويات من غير استثناء ، فإنّه يحوي من الإتقان والإحكام في تعاليمه ونصائحه وإرشاداته ما لم يحوه كتاب آخر ، ولو تدبّرت في أيّة ناحية من نواحي الحياة الّتي تمّت بصلة للإنسان ، من التربويّة والنفسيّة ـ بجميع ميادينهما ـ والاجتماعيّة والطبيعيّة وما وراءها ، لوجدته يحوي تلك باتّفاق ولا اختلاف لجانب على جانب آخر ، فهو معجزة من حيث كونه كتابا واحدا يحتاج إليه الإنسان في عصر نزوله ، كما يحتاج إليه الإنسان في العصر الحاضر الّذي يرى نفسه أعقل وأكمل من أمس ، فهو امتداد واحد في الوجود ، وهذا ما لا يتّصف به كتاب آخر ، فإنّ كلّ كتاب يخرج إنّما يفيد في برهة معيّنة من الزمن ، ثمّ يأتي كتاب أفضل آخر ، فتقلّ أهميّة الكتاب الأوّل ، وهذا هو الناموس في السير التكاملي الّذي يسير عليه الإنسان.

٧٧

ثمّ إنّ المنفي من القرآن الاختلاف بجميع وجوهه ، وإنّما وصفه بالكثرة لأنّ الكلام مشتمل على جوانب متعدّدة ، فلا بدّ أن يكون الاختلاف كثيرا ، كما في كلّ كلام آدمي إذا كان مشتملا على وجوه متعدّدة ، فليس المراد نفي الاختلاف الكثير دون الاختلاف القليل اليسير ، وهذا واضح بأدنى تأمّل.

والمستفاد من الآية الشريفة أمور :

الأوّل : أنّ القرآن ممّا يناله الفهم العادي ، فلو لم يكن كذلك لما أمر سبحانه وتعالى الناس بالتدبّر والتأمّل فيه لمعرفة الحقّ ، وأن التأمّل فيه يهدي صاحبه إلى كون القرآن من عند الله تعالى العليم بمصالح عباده الّذي يهديهم بما يصلح أمرهم.

الثاني : أنّ ما اشتمل عليه القرآن الكريم ممّا تنادي به الفطرة وملائمة للمصلحة ؛ ولذا أوجب الكمال والهداية.

الثالث : أنّ القرآن الكريم كامل مكمّل من جميع الجهات ، لا يقبل الاختلاف ولا التغيير ولا التحوّل والنسخ ولا الابطال ولا التهذيب ولا التكميل ، فلا حاكم عليه أبدا ؛ لأنّ ذلك كلّه من شؤون الاختلاف ، فإذا كان منفيا عنه بالكلّية ، فلا يقبل القرآن أيّا منها ، ويستلزم ذلك أنّ ما فيه من الشريعة والأحكام باقية ومستمرة إلى يوم القيامة ، وهذا ما تؤكّده جملة من الآيات المباركة والسنّة الشريفة.

الرابع : أنّ القرآن لما كان كاملا لا بدّ أن يكون نازلا من عند الكامل المستجمع لجميع صفات الكمال ، الّذي لا يتصوّر النقص فيه أبدا ؛ لأنّ ما نزل من عنده كامل ، كما أنّه لا بدّ أن يكون من نزل عليه كاملا ؛ لأنّه يتحمّل أعباء التفسير والتوضيح والإبلاغ إلى الناس ، وإلّا استلزم الخلف ، وتدلّ عليه آيات كثيرة منها قوله تعالى : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [سورة القلم ، الآية : ٤].

الخامس : أنّ المنفي عن القرآن الكريم جميع وجوه الاختلاف ، كالاختلاف في الوصف واللفظ أو المعنى ، بتناقض الأخبار أو الوقوع على خلاف المخبر به وعدم

٧٨

المطابقة للواقع أو اشتماله على ما لا يلائم ولا يلتئم مع الفطرة والعقل السليم ، كما أنّه لا يقبل المعارضة ، كما تحدّى به الرسول الكريم بالإتيان بمثله أو بعشر سور من مثله.

السادس : أنّ القرآن الكريم كتاب هداية وتربية وتوجيه ، وقد أنزله الله تعالى لتربية هذه الأمّة وإنشائها وإعدادها إعدادا كاملا ؛ لتكون أمّة صالحة ، فلا بد أن يكون جامعا وحاويا لجميع ميادين التربية في حياة الإنسان ، فهو كتاب توحيد خالص من شوائب الشرك والإلحاد ، وكتاب حكمة ومعارف حقّة ، وكتاب تربية الروح والعقل ، وتزكية النفس وتربية الجسد ، وكتاب تربية الفرد والاجتماع ، وسوق كلّ منهما إلى منتهى الكمال ، وكتاب أخلاق يحتوي على جميع الفضائل العامّة الإنسانيّة.

كما أنّه كتاب يوازن بين مطالب الجسد ومطالب الروح ، وبين الدنيا والآخرة ، بلا اختلاف يتداخل فيه جميع الشؤون المرتبطة بالإنسانيّة على نحو الاعجاز في كلّ جانب ، فهو كتاب كما وصفه عليّ عليه‌السلام : «ظاهره أنيق ، وباطنه عميق ، لا تفنى عجائبه ولا تنقضي غرائبه ، لا تكشف الظلمات إلّا به» فهدفه اعداد الإنسان الصالح وترقيه من حضيض الرذيلة إلى أوج الشرف والكمال.

السابع : ان مثل هذا الكتاب لا يمكن ان يصدر من عند غير الله تعالى ، سواء كان إنسانا أو ملكا أو مخلوقا آخر ، لأنّ غيره قرين النقص والاختلاف ، فلا يمكن أن يصدر منه ما ليس فيه الاختلاف ، وأنّ الكمال مهما بلغ من الشأن في المخلوق محدود ، والقرآن بعجائبه وغرائبه غير محدود ، فهو المعجزة الخالدة ، يخضع له العلماء وجهابذة الفكر والمرتبطون باللاهوت السرمدي الأبدي ، والمتّصلون بالمبدأ الحيّ القيوم في جميع العصور غاية الخضوع ، ويستنيرون عقولهم منه ، ويعجبون به أشدّ الإعجاب.

٧٩

قوله تعالى : (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ).

سجيّة اخرى لتلك الطائفة الّتي اتّصفت بالنفاق ، ويمكن أن تكون الآية المباركة في مقام بيان طائفة اخرى من طوائف المجتمع الإسلامي ، الّتي تكون ضعيفة في التنظيم تقبل كلّ أمر يرد عليها ، سهلة الانقياد للإشاعة ، تبثّ كلّ ما تسمعه دون تحفّظ وتدبّر ، فلا انتظام لها في شؤونها ، فكانت تذيع كلّ ما يرتبط بالأمن أو الخوف ونحوهما ، ممّا يرتبط بشئون الأمّة والمجتمع المسلم.

وإنّما اقتصر على الأمن أو الخوف لأهمّيّتهما ، فيشيعون بالأخبار الكاذبة ما يوجب تزلزل الأمن في موضع الاستعداد والأهبة ، فتزول عنهم هذه الحالة ، أو يشيعون ما يوجب الخوف فيستعدون لمنازلة العدو وهم في غنى عنه ، فكم من إشاعة تلحق الضرر بالأمة.

والآية الكريمة في مقام التعيير والذمّ لهذه الطائفة في فعلتهم هذه ، وإن كانت حسنة النيّة فيما تفعل ولم تقصد إلى هذه النتيجة السيئة الّتي تترتّب على الإشاعة ، وهي الاضطراب والخلخلة في الصفوف.

ويستفاد من الآية الكريمة أنّ ما أشيع به لا حقيقة له ، بل هو من الأراجيف الّتي كان يبثّها أعداء الإسلام في صفوف الأمة المتراصّة ؛ لا يجاد الوهن في عزائمها ، ولعلّ هذه الحالة كانت موجودة في أكثر من واقعة ، فتنطبق على واقعة بدر الصغرى الّتي تقدّم الكلام فيها في سورة آل عمران ، كما ذكرها المفسّرون.

قوله تعالى : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ).

الضمير في (ردّوه) راجع إلى الأمر الشائع من الأمن أو الخوف ، وردّ الشيء ارجاعه وإعادته ، ويتضمّن معنى التفويض أيضا.

وأما أولو الأمر ، فقد اختلفوا فيهم كاختلافهم في المراد بهم في قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) [سورة النساء ، الآية : ٥٩] ، فقيل : هم أهل الرأي والمعرفة بالأمور العامّة والقدرة على الفصل فيها ، وقيل : هم

٨٠