مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٩

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٩

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٣
ISBN: 964-5665-08-6
الصفحات: ٣٩٦

بحث كلامي :

الآية المباركة تدلّ على وجوب اتخاذ الحذر ، وهو حكم عقلي ـ بل أمر فطري ـ كشف عنه الشرع ، والحذر : هو طريق الاحتياط يعمّ في جميع الأشياء ويختلف حسب متعلّقه ، أي المخوف.

والفرق بينه وبين الكيد ، هو أنّ الكيد يحتال الإنسان ليوقع غيره في مكروه ، والحذر هو احتيال الشخص لخروج نفسه عن مكروه ، فالتنافي بينهما واضح. فما قيل من أنّه نوع من الكيد ، غير صحيح.

والتقديرات من اللّه سبحانه وتعالى لا يرفعها الحذر أصلا ؛ لأنّها كائنة حتّى في ظرف الحذر ، بل المقدّرات الإلهيّة غير مربوطة بالظروف الّتي حصلت باختيار الإنسان بنفسه ، كما عن نبيّنا الأعظم : «المقدور كائن والهم فضل» ـ وما قيل : «الحذر لا يغني القدر» ، فالتقديرات الإلهيّة كائنة مهما كانت الظروف والحالات.

إن قلت : لو كان التقدير في الحرب مثلا الغلبة ، فلا فائدة في الحذر ، وإن كان مقتضاه المغلوبيّة فلا نفع فيه ، فلا فائدة في الحذر على التقديرين.

قلت : الأمر بالحذر لا ينافي التقدير كما مرّ. وإنّ الأوامر التشريعيّة الّتي هي في مقام تكميل العبد ، غير مرتبطة بالأمور التكوينيّة الّتي منها التقديرات ، وقد يكون الحذر من مقدّمات الفعل الّذي تعلّق القدر به ، وقد يكون نفس الحذر أيضا مقدّرا.

وبالجملة : أنّ القدر هو جريان الأمور وفق نظام معين متين فيه الأسباب والمسبّبات ، واللّه تعالى قدّر أن يكون الفعل واقعا إذا لم يتّخذ الإنسان الحذر ولم يتهيّأ في دفع الضرر عن نفسه ، فيكون الحذر من جملة الأسباب ويكون العمل بالحذر عملا بنفس القدر ، لا أن يكون منافيا له أو لا نفع فيه ، هذا موجز الكلام في المقام ، ويأتي التفصيل في مسألة القضاء والقدر الّتي تأتي في الموضع المناسب إن شاء اللّه تعالى.

٤١

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧٧) أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (٧٨) ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (٧٩) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (٨٠))

بعد ما حثّ المؤمنين على الجهاد وأمرهم باتّخاذ الحذر من الأعداء ، وذكر حال المبطئين لضعف إيمانهم ، وبيّن عزّ وجلّ نواياهم وفساد عقيدتهم ، ثمّ أمر المؤمنين بالقتال في سبيله وإنقاذ المستضعفين.

تعقيبا لتلك الأوامر والتوجيهات الربوبيّة ذكر جلّ شأنه في هذه الآيات حال طائفة أخرى من ضعاف الإيمان الّتي بقيت من رواسب الجاهليّة في نفوسهم ، فكانت تطفو وتظهر في بعض الأحيان ، فلما دخلوا في الإيمان خمدت نفوسهم واستثقلوا القتال ، ولم يكن عندهم حماسة له لخوفهم على ما كان عندهم من متاع الحياة الدنيا. وهذه الآيات المباركة تبيّن سبب ذلك ، وهو حبّهم للدنيا والمتاع القليل المستحوذ على جميع مشاعرهم.

٤٢

وفي هذه الآيات توجيهات قيّمة لهؤلاء ، وقد أمرهم عزّ وجلّ بجملة من الأمور الّتي تهذّب نفوسهم ، وبيّن لهم بعض الحقائق الواقعيّة الّتي تصلح نفوسهم.

ولا يخفى ارتباط هذه الآيات بسابقتها.

التفسير

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ).

الخطاب يقصد به الّذين لم يستقر الإيمان في قلوبهم ، وهم فئة ضعيفة الإيمان ، قد كانت تدفعها إلى القتال دوافع كانت معروفة في الجاهلية ، من نزعة العصبيّة ، والحميّة ، والكبرياء ونحو ذلك ، وهي نزعات سيئة جاهليّة بقيت عالقة في نفوسهم ، لم يمحها الإيمان لعدم رسوخه في قلوبهم ، فكانوا يطلبون القتال جريا على ما تعوّدوا عليه ، فعند ما استقرّ بهم المقام في مدينة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وطاب لهم العيش وركنوا إلى الحياة الدنيا ، فلم يعد لهم ذلك الحماس وكرهوا الجهاد ، خوفا على ما حصلوه من المتاع ، لئلّا يضيّعه القتال ، فرضوا ما كتب عليهم من الجهاد.

والمراد بكفّ الأيدي الإمساك عن القتال والاعتداء ، وربما يكون ذلك كناية عن ترك مطلق ما لا يكون مرضيّا للّه تعالى ، ولعلّه لأجل ذلك ورد في تفسيره عن الصادق عليه‌السلام: «كفّوا ألسنتكم» ؛ لأنّ كفّ اللسان موجب لكفّ الأيدي ، بل هو السبب التامّ في كفّ الأيدي.

وكيف كان ، فالآية المباركة في مقام التعجيب من حالهم ابتداء ؛ لأنّهم كانوا يستعجلون قتال الكفّار ويرفضون الإمساك. وترشدهم إلى ما هو الأصلح لهم وما يوجب تمكين الإيمان في قلوبهم.

قوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاة َ).

إرشاد لهم بالاشتغال بما يوجب زيادة الإيمان واستقراره في قلوبهم ، وقد

٤٣

ذكر عزوجل أمرين هما من أهمّ الأمور في هذا الدين ، أحدهما يهتمّ بما يرتبط بين العبد وخالقه ـ وهي الصلاة الّتي فيها الخشوع ، والخضوع ، والعبادة لله الواحد الأحد.

والثاني يعتني بما بين أفراد المؤمنين ، وهي الزكاة الّتي تزيد في تماسكهم ، وتحتوي روح التعاون والتراحم بينهم. وهما من شعائر هذا الدين القويم تزيدان في إيمان المؤمنين وتمكّنه في قلوبهم ، وبهما يشتدّ أمر الدين ويقوم صلبه ، وتتهيّأ نفوسهم للقتال ومصارعة الباطل في ميدان الجهاد ، وبدون ذلك ليس لهم أي استعداد للقتال ، كما أنّه لولا ذلك لآل أمر الدين إلى الزوال وانفصمت عراه وانهدمت أركانه.

قوله تعالى : (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ).

تصوير لحالهم من داخل نفوسهم وإظهارها بأنّها لم تكن على استعداد للقتال.

والمراد من الناس هم الكفّار ، أي أنّهم يخافون الكفّار لئلّا يقتلوهم ، وهذا يكشف عن اشتغال نفوسهم وتعلّق قلوبهم بما أوجب تكاسلهم وتقاعسهم عن القتال ، وهذا ما يبيّنه عزوجل في الآية التالية ، وهو متاع الدنيا الفانية الزائلة.

قوله تعالى : (كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً).

أي يخشون الكفّار كما يخشون الله تعالى بأن ينزل عليهم عذابه بتركهم أوامره وإعراضهم عن طاعته ، ولما كان التساوي بين أمرين يقتضي الميل إلى أحدهما تارة والى الآخر اخرى ، إلّا أنّهم رجّحوا خشية الناس ، فكانت خشيتهم أشدّ من خشية الله تعالى ؛ لأنّ الجبن قد تمكن في قلوبهم.

و (خشية) منصوب على الحاليّة أو على التمييز ، كما سيأتي.

٤٤

قوله تعالى : (وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ).

عطف على جواب (لمّا) ، أي : فلما كتب عليهم القتال قالوا : ربنا لم كتبت علينا القتال ، ويحتمل أن يكون عطفا على قوله : (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ).

وكيف كان ، فالآية الشريفة تحكي مقالتهم في تعبير دقيق ينبئ عن تقاعسهم وتكاسلهم الشديدين ، حيث صدر عنهم هذا الاعتراض على حكمه تعالى ، والإنكار على إيجابه القتال ، وهو دليل على ضعف إيمانهم ، فإن من خلص إيمانه لا يعترض على حكمه عزوجل.

قوله تعالى : (لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ).

بيان لموقفهم المتثاقل المتلهّف على تأجيل القتال ولو كان الأجل قريبا ، فهم إنّما يتمنّون التخفيف برفع القتال عنهم لمحض الهرب ، حبّا منهم في البقاء.

فالآية الكريمة ببلاغتها وأسلوبها البديع فيها تصوير عجيب لنفسياتهم الضعيفة ، وشدّة تكاسلهم. وظاهرها أنّهم يطلبون الهرب والاستزادة في كفّهم عن القتال والتخلّص عنه ، وليس المراد منها تأخيرهم إلى بلوغ أجلهم وموتهم حتف أنفهم ، ولو كان أجلا قريبا ـ كما ذكره جمع من المفسّرين ـ لأنّهم إنّما يتمنّون رفع القتال لأجل البقاء والتمتع بالحياة الدنيا ، فكيف يطلبون الموت العاجل.

قوله تعالى : (قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ).

بيان للعلّة الحقيقيّة لهذا الموقف المتقاعس المتثاقل فيه إلى تأجيل القتال ، لأنّ نفوسهم تعلّقت بالحياة الدنيا وأحبّوها حبّا استحوذ على أحاسيسهم ، فتمنّوا الاستزادة في حياتهم إلى أقصى ما يمكن ، فطلبوا منه عزوجل إمهالهم إلى وقت آخر.

وإنّما وصف عزوجل الحياة الدنيا بالمتاع القليل ـ وهو تعبير قرآني دقيق ـ لأنّه مهما طال بهم العمر وتمتّعوا بها فإنّها زائلة سريعة الانقضاء بالنسبة إلى الحياة الآخرة الّتي هي الباقية.

٤٥

وإنّما أمر عزوجل نبيّه الكريم بالردّ عليهم ؛ تزهيدا لهم عمّا يؤملونه ؛ وتبيينا لهم خطأ رأيهم فيه ، فإنّ المتاع الّذي يتمنّونه ويتطلعوا إليه إنّما هو قليل ومتاع مشوب بالضياع ، وهو في القلق الدائم من الحرمان منه ، فلا يكون في هذه الحياة متاع خالص من المنغّصات والمكدّرات ، ففي هذا التعبير أثر نفسي كبير لمن تعلّق حسّه بهذا العيش الدنيوي ، فإنّه مهما طلب المزيد فإنّ هناك عيشا آخر أكبر ممّا بين يديه وأوسع وأشهى وأبعد من المنغّصات ، ولا يكون مشوبا بالحرمان ، ولمثل ذلك يزهد الإنسان عن هذه الحياة ، ويرغب الأجر الدائم في الآخرة.

قوله تعالى : (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى).

بيان للعلّة في نيل تلك الحياة الحقيقيّة والعيش الهنيء ، وهي التقوى بالعمل بالتكاليف الإلهيّة ، وترك ما يوجب سخطه ، والابتعاد عن ما لا يرضاه.

وإنّما أطلق سبحانه وتعالى (خير) ولم يقيّده بشيء ؛ للبيان بأنّ التقوى خير من جميع الجهات وكلّ ما يخطر على البال ، فهي خير في النوع ، وخير في بعده عن المنغّصات والكدورات ، وخير في دوامه وبقائه ، وخير بأنّه المستقرّ بعد التعب الشديد ، وخير بأنّ فيه القرب إلى الله تعالى والتمتع برضوانه عزوجل ، فلا ينبغي لهم ترك القتال والقعود عن الجهاد والتأخير إلى الأجل القريب لأجل التمتّع بالحياة الدنيا ؛ إعراضا عن ذلك النعيم الأبدي الّذي هو خير من جميع الجهات.

وفي الآية الشريفة كمال الترغيب إلى التقوى ، فإنّها الوسيلة الوحيدة للوصول إلى رضوان الله تعالى والتمتّع بالحياة الحقيقيّة. وفيها التعريض بأنّهم ركنوا الى الداني وأعرضوا عن الخير الحقيقيّ.

قوله تعالى : (وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً).

حقيقة من الحقائق الواقعيّة ، فإنّ الّذي يحرم عن متاع من أمتعة الدنيا لأجل سبيل الله تعالى ، لا يضيع جزاءه عند الله عزوجل ، وأنّ الأجر محفوظ عنده بأضعاف مضاعفة ، فلما ذا التحسّر؟! إذ لا خسران ولا ظلم هناك.

٤٦

والآية المباركة ترغيب إلى الجهاد في سبيل الله تعالى ، وردّ على من يحجم عنه خوفا على ما حصل من متاع الدنيا.

والفتيل ما يكون في شقّ نواة التمر ، أو ما يفتل بالأصابع من الوسخ على ما عرفت سابقا ، ويكنّى به عن القلّة والحقارة ، يقال : «ما أغني عنك فتيلا» ، أي شيئا بقدر الفتيل.

قوله تعالى : (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ).

بيان لحقيقة اخرى من الحقائق الّتي يدركها جميع أفراد الإنسان ، وهي أنّ الموت حتم لا مفرّ منه ولا مهرب عنه ، ولو اتّخذ لنفسه ما يتّقي به كلّ مكروه فإنه واقع حسب سير التكوين ، وأنّه مهما غفل عنه الإنسان أو تغافل عنه حسبانا منه أنّه بعيد ، فإنّه ستجيء اللحظة الّتي يتنبه فيها ويدرك تلك الحقيقة ، وتكون فيها نهايته.

والآية الشريفة بأسلوبها البديع توقظ الناس وترشدهم إلى تلك الحقيقة وتجسّمها لهم ، بحيث لا تدع أيّ مجال للشكّ والارتياب ، فتستقرّ في أنفسهم أنّ متاع الدنيا قليل.

والبروج : جمع البرج ، وأصله التبرّج بمعنى الظهور ، ومنه تبرّجت المرأة إذا أظهرت محاسنها. ومنه بروج النجوم لمنازلها المختصّة بها ، قال تعالى : (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) [سورة البروج ، الآية : ١] ، أي : الكواكب العظام سمّيت بها لظهورها ، وقال تعالى : (وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً) [سورة الحجر ، الآية : ١٦] ، أي منازل للشمس والقمر.

والمراد منه هنا البناء المعمول ، وهو الحصن ، والبروج المشيّدة هي القصور المرتفعة الحصينة الّتي أحكمت ورفع بناؤها ؛ ليأوي إليها الإنسان لدفع المكروه عنه من عدو ونحوه.

٤٧

ويمكن أن يراد منها بروج النجوم ، فيكون استعمال لفظ (المشيّدة) فيها على سبيل الاستعارة ، فتكون الآية للمبالغة ، وقد أشار إلى ذلك الشاعر :

ومن هاب أسباب المنايا ينلنه

ولو نال أسباب السماء بسلّم

ولكن سياق الآية المباركة يأبى ذلك.

ومعنى الآية الكريمة : أنّ الموت أمر لا مفرّ منه ، يأتيكم ولو كنتم متحصّنين في القصور المشيّدة والملاجي المحكمة المتينة ، فلا تعرضوا عن القتال في سبيل الله تعالى ، ولا تتوهّموا أنّكم إن لم تشتركوا فيه ولم تشهدوه تكونوا في مأمن من الموت ، فإنّ أجل الله آت ولا سبيل للهرب منه ، فيلحقكم الموت ويحلّ بكم.

قوله تعالى : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ).

بيان لحال طائفة أخرى أهمّتهم أنفسهم ، لا يرضون بحكم الله فيهم ، والّتي حكي عنها عزوجل في آية أخرى ، فقال تعالى : (وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٥٤]. وفي المقام يحكي عزوجل عنهم بعض نواياهم الفاسدة ، وأمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يجيبهم ويرشدهم إلى الحقيقة والواقع. وإنّما أمر رسوله الكريم بالجواب ؛ لأنّه واسطة الفيض ، ولأنّهم كانوا يعتقدون أنّ السيئة الّتي تصيبهم إنّما هي من ناحية وجود الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله فيهم.

وهذه الآية المباركة وإن كانت مع الآية الشريفة السابقة في سياق واحد تدلان على كراهيّة الطائفتين للقتال ، إلّا أنّ الطائفة الأولى كرهت القتال وطلبت التأجيل ، وهذه الطائفة تزعم أنّ السيئة الّتي تصيبهم إنّما لأجل وجود الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أو من ناحية أوامره وأحكامه. وذكر جمع من المفسّرين أنّ الآية الكريمة تدلّ على أنّ هذه الطائفة هي الأولى ، ولكن يمكن أن يستفاد من القرائن التعدّد كما عرفت.

٤٨

وكيف كان ، فإنّ مثل هذا الوهم قد تخيّله جمع من أقوام الأنبياء السابقين ، قال تعالى حكاية عن قوم موسى : (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٣١].

والحسنة ما يحسن عند صاحبه من الصحّة والغنى والرخاء والخصب ونحوها ، سواء كانت مادّية ظاهريّة أو باطنيّة ، والسيئة ما يصيب الإنسان من مكروه وسوء ، كالمرض والفقر والجدب ونحوها.

وهذا الكلام إنّما يصدر عمّن لم يستقرّ الإيمان في قلبه ، قد أهمّته نفسه يدفع عنها كلّ مكروه ويجلب لها كلّ حسنة ورخاء ، ويهتمّ لذلك كلّ اهتمام ، فإذا أصابه المكروه ولم يجد لذلك حلّا لدفعه واستنفذ قواه ، التمس لذلك سببا ولم يجد ، ولضعف إيمانه يجعله على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو المؤمن الّذي يريد له الصلاح والكمال ، وهو يغفل أو يتغافل أنّ السبب من عنده الّذي لم يؤمن بالله القادر على كلّ شيء.

وإنّما نسبوا الحسنة الّتي أصابتهم إلى الله تعالى غرورا وزعما منهم بأنّ الله أكرمهم بها عناية بهم ، فلم ينسبوها إليه تعالى بشعور التوحيد والإيمان الخالص. أو لئلّا تنسب إلى الرسول الّذي هو واسطة الفيض ، وقد أحاطهم برعايته فحباهم الله تعالى ببعض الحسنات ، كما يراه المؤمنون.

قوله تعالى : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ).

السيئة ما يسوء الإنسان من شدّة أو بلاء أو فقر أو مرض أو قتل أو جدب ونحو ذلك من الضرر الدنيوي ، الّذي كان يستقبلهم بعد ما أتاهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وشيد أركان هذا الدين وأمرهم بالأوامر الّتي ترشدهم إلى ما هو الأصلح لهم ، فكانوا ينسبونها إلى وجود الرسول فيهم أو بسبب تعليماته وأوامره ، وكانوا يعتقدون أنّه لو لا ذلك لما أصابتهم السيئات وأراحهم الله تعالى منها.

وهذه المقالة تصدر عن كلّ من ضعف الإيمان في قلبه ، ولا تختصّ بهذه

٤٩

الأمّة ، فقد صدرت من اليهود وغيرهم ، قال تعالى : (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [سورة البقرة ، الآية : ١١٨].

والمعنى : وإن تصبهم بلية كالمرض والقحط وغيرهما يتشاءمون بك يا رسول الله ؛ لجهلهم وضعف عقيدتهم بك.

قوله تعالى : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ).

بيان لحقيقة من الحقائق الواقعيّة الّتي أمر عزوجل رسوله الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله بتبليغها إلى أولئك ، وهي أنّ كلّ ما يحدث في هذا العالم لا يحدث إلّا بقدر الله تعالى وقضائه ، ويدخل في نظام كوني دقيق متقن ، وكلّ ما يصيب الإنسان من حسنة أو سيئة هو من عنده جلّت عظمته ، لا من غيره ، فهو عزوجل يقبض ويبسط ما يشاء.

وهذه الحقيقة تملأ مشاعر المخلصين المؤمنين ، ولا بدّ أن تستقرّ في أفكار غيرهم حتّى يكمل إيمانهم ويستقرّ في قلوبهم وترتاح خواطرهم وتطمئن نفوسهم ، ولكن ليعلم أنّ هذه الحقيقة لا تنافي قانون الأسباب والمسبّبات ، ولا تمنع الإنسان من اتخاذ الأسباب ، كما ذكرنا ذلك في أحد مباحثنا السابقة.

قوله تعالى : (فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً).

تنديد لهؤلاء الّذين يظنّون ظنّ الجاهلية بأسلوب يقرع سمعهم ويوبخهم باستفهام ينكر عليهم مقالتهم ، ويصفهم بأنّهم لا يفقهون حديثا على الإطلاق ؛ لأنّه غابت عنهم تلك الحقيقة الكبرى الّتي يدركها كلّ من رجع إلى نفسه والى ما يحيط به من الحوادث ، فماذا أصاب عقولهم من فهمها ، ولما ذا خمدت فطنتهم وتاهت فطرتهم؟! وقد نبّههم الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله بتلك الحقيقة ، والّتي بها يزيل عنهم كلّ شكّ وريب ، ولكنّهم أعرضوا عن ذلك وشغلوا فكرهم بمتاع الحياة الدنيا ، حتّى عدّوا كالبهائم الّتي لا فهم لها بما يحيط بها من صروف الدهر.

٥٠

قوله تعالى : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ).

شرح لتلك الحقيقة وبيان لها ببيان واضح جلي. وردّ على مقالة تلك الطائفة الّتي ينسب الشرّ إلى الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله تطيّرا منهم به ، أو لأغراض اخرى خبيثة مثل تنفير الناس عنه ، أو التجريح في قيادته ونحو ذلك.

وقد أعرض عزوجل في هذه الآية الكريمة عن خطابهم لسقوط فهمهم ، كما أنّها تصحّح وتوضّح لهم معالم تفكيرهم ، فإذا ضممنا هذه الآية الشريفة إلى سابقتها ، تبيّن القاعدة العريضة في الإسلام في نسبة الحوادث الكونيّة مطلقا إلى الله تعالى والى الإنسان ، فإنّ الآية الأولى تبيّن أنّ كلّ ما يقع من الحوادث الحسنة والسيئة إنّما هي بتقدير الله تعالى وقضائه ، وهذه الآية الكريمة تبيّن أنّ كلّ حسنة وخير يصيب الإنسان من عافية أو نعمة أو أمن أو رفاهية وغيرها ، فإنّما هي من الله تعالى وبفضل منه جلّ شأنه ، الّذي سخّر لنا الأرض وما عليها ، وهيّأ لنا أسباب الانتفاع منها ، ومنح لنا القدرة على ذلك. وأما السيئات فإنّما هي آثار الأعمال الّتي يعملها الإنسان ، وقد وضع قانونا متينا يوضح لنا المنهج ، فهو تعالى يعلم الخير وخصوصياته كما يعلم الشرّ وأسبابه ، ويعلم أين يكمن كلّ واحد منهما ، وبمقتضى علمه الأتم وضع لنا منهجا ربانيّا يوضح لنا طريقا يحقّق لنا خير الدنيا والآخرة ، فمن اتبع هذا المنهج فقد جلب الخير لنفسه وتحقّق مقصده ، وأمّا من خالف وأعرض عن ذلك فقد جلب الشرّ لنفسه ، ويكون من عند نفسه لعدم اتباعه شريعة الله تعالى ومنهجه القويم ، ومن ذلك يتّضح ما في هذه الآية الشريفة من دلالة حكيمة ، فهي تبيّن أنّ الحسنة من الله جلّ شأنه ، والسيئة من عند الإنسان ، فلا تعارض بين هذه الآية وسابقتها ، فإنّ الجميع إنّما يكون بمشيئة الله تعالى ، ويبيّن ذلك قوله تعالى : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ

٥١

وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) [سورة الشورى ، الآية : ٣٠] ، وسيأتي في الموضع المناسب تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : (وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً).

خطاب للرسول الكريم ، ولكن المقصود بيان الأمر للناس كافّة ، وتنزيه لمقام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله عن ما وصمه المنافقون وضعاف الإيمان ، فلا يتّصف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا بما وصفه الله تعالى به ، وهو أنّه رسول للناس كافّة ، يبلغ عن الله تعالى الشريعة ، فليس له من الأمر شيء حتّى يوصم بالشؤم ونحوه ، كما يزعمه هؤلاء ، وإنّما أراد عزوجل من إرسال الرسول الخير للناس ، وأمر بتبليغ منهج ربانيّ قويم ، فمن اتبعه فقد جلب الخير لنفسه ، ومن أعرض عنه فقد جلب الشرّ لنفسه ، وهو تعالى شهيد على ذلك ، وهذه الآية المباركة تأكيد لما ورد في سابقتها.

قوله تعالى : (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً).

تعليل لما سبق وتأييد منه عزوجل على ثبوت تلك الحقائق المتقدّمة ، فإنّه تعالى شهيد على إرساله صلى‌الله‌عليه‌وآله نبيّا ورسولا للناس كافّة. وكفى بالله تعالى شهيدا ، لأنّه عالم بجميع الحقائق ، قيوم عليها ، فلا ينبغي بعد ذلك أن يخرج أحد عن طاعة الرسول.

قوله تعالى : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ).

بعد أن أثبت عزوجل رسالته وأيّدها بالشهادة ، كان وجه الخطاب في هذه الآية الكريمة مع الناس لإعلامهم بلزوم طاعة الرسول ، وأنّه لا عذر لهم في تركها ، وأنّ طاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله طاعة الله تعالى ؛ لأنّه يبلغ عن ربّه ولا يأمر ولا ينهى من عند نفسه ، والله تعالى هو الآمر والناهي ، فهو الّذي يطاع في الحقيقة ؛ لأنّه ربّ العالمين ، وإلههم عالم بصالحهم ، فالآية المباركة بمنزلة التعليل لما ورد في الآية المتقدّمة وتثبيت لمضمونها.

٥٢

وفي الآية الكريمة إيحاء شديد في النفس بتوقير الرسول ؛ لإنّ طاعته هي الطريق الموصل إلى رضاء الله تعالى ، ويظهر ذلك بوضوح بعد ما وصمه أعداؤه من المنافقين وغيرهم بما حكاه عزوجل منهم في الآية السابقة.

قوله تعالى : (وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً).

تأكيد لوجوب طاعة الرسول ، فإنّ لزوم طاعته يستلزم عدم جواز التولّي عنها ، فمن أعرض عن طاعته الّتي هي من طاعة الله تعالى ، فإنّه لا يضرّ إلّا نفسه ؛ لأنّ مهمّة الرسول هي التبليغ عن الله تعالى ، وليس له سلطان على الناس يقهرهم على ترك المعاصي والآثام ، بل الإيمان والطاعة من الأمور الاختياريّة الّتي تتبع قناعة النفس وميلها ، قال تعالى : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [سورة القصص ، الآية : ٥٦] فالهداية من اختصاص الله تعالى وتوفيقه الّذي يتفضّل بها على من يختاره لها ؛ لأنّه العالم بمصالح عباده.

وإنّما قال عزوجل : (حَفِيظاً) ، أي : مبالغا في الحفظ دون حافظ ؛ لأنّ الرسالة لا تنفكّ عن الحفظ ؛ لأنّ الأحكام الإلهيّة تحفظ الإنسان المؤمن بها عن ارتكاب المعاصي والآثام.

٥٣

بحوث المقام

بحث أدبي :

(لمّا) في قوله تعالى : (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ) حرف وجوب ، لوجوب لا ظرف بمعنى حين ، فإنّه لو كانت كذلك لكان لها عامل ، وإذا الفجائية لا يعمل ما بعدها في ما قبلها ، كما هو معروف في علم النحو.

و (أشد) في قوله تعالى : (أَوْ أَشَدَّ) على الحاليّة من قوله تعالى : (خَشْيَةً) الّتي هي منصوبة على التمييز ، أي : يخشون الناس خشية مثل خشية الله أو خشية أشدّ خشية من خشية الله ، فأشدّ أفعل التفضيل ، والمفضل عليه محذوف وتقديره من خشية الله.

وجوّز بعضهم أن يكون هذا العطف من عطف الجمل ، أي : يخشون الناس كخشية الله أو يخشون أشدّ خشية ، على أن يكون الأوّل مصدر والثاني حالا.

وأورد عليه بأنّ حذف الجمل بعيد ، وأنّ حذف المضاف أهون منه.

وقيل : إنّ التمييز بعد اسم التفضيل قد يكون ما انتصب عنه ، نحو : (فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً) ، فإنّ الحافظ هو الله تعالى ، كما لو قلت : الله خير حافظ بالجر ، فلا مانع على هذا أن تكون الخشية نفس الموصوف من أن يكون للخشية خشية أخرى ، كأن يقال : أشدّ خشية بالجرّ ، والمسألة مفصّلة في علم النحو.

و «أو» في قوله تعالى (أَوْ أَشَدَّ) بمعنى بدل ، وقيل : للتفريع ، وقيل : للتخيير.

وجملة : (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ) ، قيل : إنّها لا محلّ لها من الإعراب ، وقيل : إنّها داخلة في حيز القول المأمور به ، فمحلّها النصب ، وذكر جمع من العلماء أنّ ما تقدّم على هذه الجملة جواب لقولهم : «لم كتبت علينا القتال» ، فالجواب : «قل متاع الدنيا» ، وهذه الجملة جواب لقولهم : «لو لا أخرتنا».

٥٤

واختلف في تخريج الرفع في «يدرككم» ، فقيل : إنّها على حذف الفاء ، وقيل : إنّه على تقدير مبتدأ معها ، أي : «فأنتم يدرككم» ، وقيل : هو مؤخّر من تقديم وجواب الشرط محذوف ، أي : يدرككم الموت أينما تكونوا يدرككم.

وأشكل عليه بوجوه ، والمسألة محرّرة في كتب النحو ، فمن شاء فليراجعها.

والمعروف قراءة : «مشيدة» بالتشديد ، وقرأ بعضهم بالتخفيف وفتح الميم ، كما في قوله تعالى : (وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) [سورة الحج ، الآية : ٤٥] ، وقرأ آخر بكسر الياء على التجوّز ، كقوله تعالى : (عِيشَةٍ راضِيَةٍ) [سورة القارعة ، الآية : ٧].

و «أين» في قوله تعالى : (أَيْنَما تَكُونُوا) ظرف مكان ، وتأتي شرطا فيزاد «ما» بعدها ، وقد تخلو عن «ما» وتكون استفهاما ، ولم يسمع زيادة «ما» بعدها ، و «لو» وصليّة ، لا أن تكون شرطية.

وقوله تعالى : (لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ) بليغ جدا ؛ لأنّ نفي المقاربة أبلغ من نفي الفعل ، كما هو واضح.

ونصب «رسولا» في قوله تعالى : (وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً) على الحال المؤكّدة للجملة الّتي هي : «وأرسلناك».

بحث دلالي :

يستفاد من الآيات الشريفة أمور :

الأوّل : يستفاد من قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) الحالة النفسانيّة لبعض المؤمنين الّذين يندفعون في ابتداء الأمر إلى الإيمان اندفاعا لم يكن على استقرار وثبات ، وإنّما كان لأجل أمور وقتيّة ، فلما يأتي الاختبار الإلهي إذا هم يحجمون عن العمل بالتكاليف ، والقرآن إنّما يريد من المؤمن أن يكون على ثبات واستقرار ، يتبع أوامر الله تعالى بدقّة وإتقان ،

٥٥

وإنّما يكون كذلك إذا كان مستسلما لله تعالى عاملا بشريعته ، فإنّ للعمل والطاعة الأثر الكبير في استقرار الإيمان في القلب والثبات عليه ؛ ولذا كانت الأحكام الإلهيّة اختبارات واقعيّة لبيان درجات الإيمان عند المؤمنين ، تبعا لشدّة إخلاصهم وضعفه.

وهذا لا يختصّ بالإسلام ، بل هو أمر طبيعي في كلّ دين وملّة ، خالقيّة كانت أم خلقيّة ، فإنّه لا بدّ من الاختبار ليعرف مدى استقامة الشخص وثباته عليه.

وتعدّ هذه الآية الشريفة من الآيات المعدودة الّتي تشرح تلك النفوس الضعيفة الّتي آمنت بالإسلام ولم يكن بعد قد استقرّ في القلوب ؛ ولذا كانت على خوف من الله تعالى لعلمهم بأنّه سيؤاخذهم على كلّ صغيرة وكبيرة. وعلى خوف من الناس ؛ لأنّ الجبن قد تمكّن في نفوسهم ، فهي لا تقدر أن تقابلهم في ميدان القتال ، وهم على خوف من القتل ، فكانوا يطلبون التأخير ليضمنوا لأنفسهم الأمرين ، أي عدم وقوعهم في مخالفة الله تعالى ، والنجاة من القتل. والآية المباركة تبيّن أنّ المطلوب منهم غير ذلك ، وهو الثبات والاستقامة لا الترويغ والمناورة ، فالدين ليس اندفاعا شخصيّا أو جماعيّا لأجل أمر قد يتوهّم أنّه الصالح لهم ، وليس هو من مقاييس البشر النفعيّة ، بل الدين تابع لمقاييس ربّانيّة حكيمة موضوعة لصالح الناس ، ولا بد أن يكون الدين مأخوذا من صاحب الشرع ؛ لأنّه أعلم بمصالحهم ، وقد نبّه عزوجل في هذه الآية الشريفة أنّ الأصلح لهم في ابتداء الأمر بترويض نفوسهم بالطاعة والعمل بالصلاة وأداء الزكاة ، فإنّ لهما الأثر الكبير في ذلك ، ثمّ انتظار ما يقضي به الله تعالى من الأحكام ، فإنّ الدين هو الطاعة لله ولرسوله.

الثاني : يستفاد من قوله تعالى : (قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى) إنّ العلّة في الإعراض عن الطاعة هي التوجّه إلى الدنيا والتطلّع على متاعها وحبّها ، فإنّ ذلك هي العلّة التامّة للوقوع في المخالفة.

٥٦

وربّما يكون التوصيف بالقليل ؛ لأنّه مقابل الآخرة الّتي لها الدوام والتأبيد ، ففي الحديث عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «مثلي ومثل الدنيا كراكب قال قيلولة تحت شجرة ثمّ راح وتركها».

والآية الكريمة بأسلوبها البليغ لها الإيحاء النفسيّ بأن الانهماك في طلب هذا المتاع والانقطاع إلى الحياة الدنيا وعدم الإحساس بالاستكفاء ، بل لطلب المزيد أيضا ، لا بدّ أن يكون له حدّ ، وأنّه يتوقّف في زمن ما ، وأنّ الّذي استحوذ عليه قليل ، وأنّ هناك ما هو أكبر وأشهى وألذ وأمتع وأدوم ، فيحسّ بالنقصان والضياع والقلق الدائم من الحرمان منه ، ولذا نرى أنّه لا يصفو للإنسان في الأرض متاع خالص من المنغّصات ، وأنّ ذلك قد ارتكز في قرار النفس الإنسانيّ ، فتكون لهذه الآية المباركة الأثر التربويّ والنفسيّ على الإنسان ؛ ليحسّ بما وراء هذه الحياة الفانية الزائلة ويعمل له ، وينحصر الطريق إليه بالتقوى الّتي تجلب للإنسان الطمأنينة من جميع الجهات ، وهي الّتي ترفع نكد العيش في هذه الحياة ، فتكون حياة آمنة مطمئنة لا ظلم فيها ولا بخس ، وإنّ كلّ متاع حرم منه هذا الشخص في الدنيا لا يضيع عند الله عزوجل ، فلا تكون هناك خسارة حتّى يتحسّر الإنسان عليها ، هذه هي التوجيهات الإلهيّة في هذا الميدان الّذي يتطلّب ثبات النفس واستقرارها وعلمها بعدم الحرمان والخسارة.

ولعمري ، إنّه لو اجتمع جميع العلماء لإرساء قاعدة واحدة من تلك القواعد في ميدان الجهاد والقتال ، من دون الاعتماد على الوحي الإلهيّ ، لعجزوا عن ذلك ، قال تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) [سورة الإسراء ، الآية : ٨٨].

الثالث : يستفاد من قوله تعالى : (قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ) نظرية الإسلام في هذه الحياة ، فإنّها لا تدعو إلى الانصراف عنها وتركها والرضا بكلّ عيش نكد وشديد ، بل حتّى الرضا بالظلم والعذاب في الدنيا لأجل التنعّم في الآخرة ، فإنّ ذلك

٥٧

ليس من الإسلام ، بل هو يدعو إلى التمتّع بالدنيا في حدود الأسس الّتي يضعها الإسلام ، وهي أن لا تكون موجبة للصدّ عن الله تعالى وآياته ، أو تكون محرّمة ، وإلّا أورد صاحبها الهلاك.

والقرآن لا يذمّ الدنيا إلّا في هذين الموردين ، الأوّل : ما إذا كانت موجبة للصدّ عن ذكر الله تعالى.

والثاني : ما إذا كانت محرّمة على صاحبها ، أو بالتعبير القرآني الّذي ينهي عن الفتنة بمتاع الدنيا ، قال تعالى : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [سورة الأعراف ، الآية : ٣٢]. وهذه الآية المباركة لم تذمّهم على تمتعهم بما في الدنيا ، بل لأنّها صارفة عن الطاعة والعمل بأحكام الله تعالى ، وسيأتي تفصيل الكلام في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

الرابع : يدلّ قوله تعالى : (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) على أنّ الموت واقع على الإنسان على كراهيّة منه ، وأنّه يطارده حتّى يدركه في أي مكان كان ، كمطاردة الأسد فريسته حتّى يدركه. كما يستفاد من قوله تعالى : (يُدْرِكْكُمُ) أنّ الموت يتربّص بالإنسان ، يحوك حوله الدوائر حتّى يوقعه في شباكه فيدركه ، وأنّه إذا لم يدركه فلا موت وإن طلب الإنسان لنفسه جميع أسبابه ، فلا اختيار له في دفعه ، فإذا انقضت الآجال فلا بدّ من الموت ومفارقة الروح الجسد بأيّ سبب كان ، كالقتل أو شرب سم أو مرض وكلّ ما جرى عادته عزوجل يزهقها به.

وهذه الآية الكريمة ردّ على كثير من مزاعم بعض الفلاسفة والمتكلّمين في الموت والآجال ، منهم القدريّة في الآجال ، والمعتزلة في قولهم : إنّ المقتول لو لم يقتله القاتل لعاش ، ويردّه قوله تعالى : (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ).

٥٨

ولا يخفى أنّ في تعقيب هذه الآية الشريفة بقوله تعالى : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) من اللطف ، فإنّه يستفاد منه أنّ الحسنة والسيئة اللتين تصيبان الإنسان لا دخل للاختيار فيهما أيضا ، فإنّ ذلك خاضع لإرادة البارئ عزوجل ومشيئته ، وإن كانت لأعمال الإنسان المدخليّة في تحقيق موضوعهما ، وسيأتي في الموضع المناسب تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى.

الخامس : يستفاد من قوله تعالى : (فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) جواز اتّخاذ الحصون والقلاع والبلاد ونحو ذلك ، ليتمتع بها ويحفظ فيها الأموال والنفوس ، وهي من سنن الله تعالى في عباده ، هذا لا ينافي التوكّل على الله تعالى كما عرفت في بحث التوكّل ، فإنّ من حقيقته اتّخاذ الأسباب ثمّ ترك النتيجة إلى إرادة الباري عزوجل ، وهذه الآية المباركة ردّ لمن زعم أنّ التوكّل يكون بترك الأسباب.

السادس : يدلّ قوله تعالى : (فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) أنّ لبعض الاعتقادات والأقوال الأثر في سلب فهم الإنسان وتكون سببا في منع وصوله إلى الحقيقة والواقع ، فلا بد حينئذ من الرجوع إلى من يرشده إليها ، وهم الأنبياء والمرسلون. ويدلّ على ذلك ذيل الآية الكريمة ، قوله تعالى : (وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً) ، فإنّ الرسول يرفع الجهل بما يبلغه عن الباري عزوجل ويزيل الغشاء عن الفهم.

السابع : يستفاد من قوله تعالى : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) منظما مع قوله تعالى : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) ، أنّ هنا حقيقتين لا بدّ من الالتفات إليهما والاهتمام بهما ، وإلّا اتّصفنا بسوء الفهم وشملنا قوله تعالى : (فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) ، والحقيقتان هما :

الأولى : أنّ كلّ شيء من الله تعالى ؛ لأنّه خالق الأشياء وربّ العالمين ، يعلم خصوصيات الأشياء وآثارها ، وقد وضع نظاما دقيقا متقنا للوصول إليها ، ولا بدّ للإنسان أن يسعى لمعرفتها ، وبدون ذلك لا فائدة في سعيه ويلحقه الضرر والأذى ،

٥٩

وقد كانت الحسنة من الله تعالى لأنّه عزوجل تفضّل علينا بجميع الوسائل والأسباب للوصول إلى ما نبتغيه من الحسنات.

الثانية : أنّ الإنسان لا يقع في السوء والضرّاء إلّا بفعل نفسه وتقصير منه ؛ لأنّه أهمل طريق الوصول إلى الأشياء وأعرض عن استخدام الأسباب ، وجهل استعمال السنن ، فالسوء إنّما يعرض للأشياء بفعل الإنسان نفسه وتصرّفه.

ويستفاد من الآية المباركة أنّ السيئة لا تكون وصفا ذاتيا للأشياء ، وإنّما تأتي من ناحية الإنسان ويستند إليه ، ولا ينافي هذا ما ذكرناه آنفا من أنّ جميع الأشياء تنسب إليه عزوجل ؛ لأنّ الله تعالى خلقها ووضع لها أسبابا وقواعد ونظاما معيّنا للأسباب والمسبّبات ، ولكن السيئة تستند إلى الإنسان لأنّه أهمل ذلك النظام ، فحصل السوء من فعله ، وللتوضيح نذكر مثالا نأخذه من القرآن الكريم ، وهو ما أصاب المسلمين في غزوة أحد من السوء والضرر نتيجة تقصيرهم في تنفيذ أوامر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث ترك الرماة موقعهم عند الجبل ، وإلّا كان الفوز والظفر حليفهم ، فتركوا هذا الأمر الإلهي الّذي كان يرشدهم إلى الحسنة والفوز بالظفر والغلبة.

وبالجملة : أنّ كلّ ما يجده الإنسان من لذّة وفرح وسرور وحسنة ، سواء كانت حسيّة أم عقليّة روحيّة ، فهو من الفضل الّذي ساقه الله تعالى إليه واختاره له عزوجل للتخلّق بالخلق الأفضل ؛ ليكونوا سعداء بما وهب الله تعالى لهم من أنواع النعم ، وأمّا ما يجده من السوء والضرر فمن نفس الإنسان ، ولو أمعن النظر في ما أصابه من الحزن لكان فرحه به مثل فرحه بالسار. وهذا بحث دقيق سوف نتعرّض له إن شاء الله تعالى.

الثامن : يستفاد من قوله تعالى : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) أنّ من أسباب النعم والفوز بالحسنة الطاعة لله والرسول ، وأنّ عصيانهما يجلب السيئة والنقمة ، وأنّ الإنسان لا يعرف مواطن الخير ولا يميّز الخير من الشرّ ؛ لأنّه يقصر

٦٠