مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٩

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٩

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٣
ISBN: 964-5665-08-6
الصفحات: ٣٩٦

قوله تعالى : (قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَ).

الفتيا والفتوى واحدة ، يقال : أفتاه إفتاء ، وأفتيت فلانا رؤياه إذا عبّرتها له. والمعنى : يطلبون منك تبيين الأحكام الّتي أشكلت على أفهام في النساء ممّا يجب لهن وعليهن مطلقا. قل : يا محمد إنّ الله يفتي فيهن ، فقد أنزل فيهن من الأحكام ما يعلو به شأنهن وقدرهن وما يوجب سعادتهن وسعادة المجتمع ، فإنهنّ من أحد عموديه ، ولا يمكن أن يسعد مجتمع ويشقي أحد عموديه.

قوله تعالى : (وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَ).

التلاوة القراءة بعناية ، وتقع وصفا للفظ ، وقد يوصف المعنى بها أيضا كما في المقام ، أي : الأحكام المتلوة.

والآية المباركة بيان لعظمة شأن المتلو من الأحكام الّتي تتلى في القرآن الكريم في شأن النساء ، وبالجملة : بيان لما سبق ، أي : أنّ الله يفتيكم فيهن بما أنزله عزوجل من الآيات الّتي تضمّنت من الأحكام الّتي تستفتون عنها وعن غيرها.

وتبيّن الآية الكريمة أحد الأحكام المهمّة في النساء ، فقد ذكر فيها حكم يتامى النساء والازدواج بهن ، وإنّما أفردهن عزوجل بالذكر لأنّهن يستحقن العطف أكثر من غيرهن ليتمهن ، ولتوجّه الظلم إليهن أكثر ، فإنّ أهل الجاهلية كانوا لا يرثون الصغير ولا المرأة ، وكان الإرث عندهم منحصرا بمن قاتل والحريم لا قتال عليهن.

وجملة : «اللاتي لا تؤتونهن» وصف ليتامى النساء اللواتي كن يعانين من الحرمان والشقاء ، فقد كان لأهل الجاهليّة عادات سيئة وأحكام جائرة فيهن ، فكانوا يحتفظون بيتامى النساء وأموالهن ، فإن كانت ذات جمال وحسب تزوّجوا بهن واستمتعوا بجمالهن ومالهن ، وإن كانت دميمة شوهاء عضلوها عن الزواج

٣٤١

مطلقا طمعا في مالها ، فأنزل الله تعالى فيهن من الأحكام الّتي وضعت عنهن القيود وأبطلت تلك السنّة الباطلة الّتي عليهن.

والآية المباركة في مقام التوبيخ لهم في ترك ما سنّة الله تعالى وشرّعه من الأحكام ، ولعلّ قوله تعالى : (لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَ) إشارة إلى تلك الأحكام والى ذلك الحرمان الّذي كانت النساء يكابدنه نتيجة تلك العادات السيئة الّتي استحكمت في نفوسهم ، فلم يسهل عليهم قبول تغييرها.

ويحتمل أن يكون المراد من قوله تعالى : (ما كُتِبَ) الكتابة التكوينيّة ، أي ذلك التقدير الّذي قدّره عزوجل على الإنسان في أنّه إذا بلغ حدّ الكمال والنضج كان له حقّ التزويج والتصرّف في ماله ، ولا يحقّ لغيره أن يمنعه عن هذا الحقّ الإلهي ، فإنّه خلاف ما كتب الله عزوجل عليه والخلقة الّتي خلقها وقدّرها على الإنسان ، والكتابة التكوينيّة تتضمّن الكتابة التشريعيّة ، فإنّها لم تكن على خلاف تلك الكتابة أبدا.

وممّا ذكرنا يظهر أنّ الجار المحذوف في قوله تعالى : (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) هو (عن) ، أي : الرغبة عن نكاحهن اتّباعا لتلك العادة الجائرة والسنّة الباطلة ، وهو المناسب لسياق الآية الكريمة ، ويحتمل أن يكون التقدير (في) و (عن) كليهما على سبيل البدل ؛ ليشمل كلا طرفي تلك العادة الباطلة ، فإنّهم كانوا يرغبون في النكاح إذا كانت ذات جمال ومال ، ويرغبون عن نكاحهن إذا لم تكن كذلك وكان لها مال فلا يناكحوهن ولا ينكحوهن غيرهم.

قوله تعالى : (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ).

عطف على يتامى النساء ، أي : ويفتيكم في المستضعفين في الولدان في تنفيذ ما يتلى عليكم من الأحكام وإعطاء حقوقهم وترك تلك السنّة الجائرة فيهم ، فإنّهم كانوا يحرمون يتامى الصبيان أيضا من الإرث ويستضعفونهم كما تقدّم آنفا ، وتوصيفهم بهذا الوصف لإثارة العطف في النفوس.

٣٤٢

قوله تعالى : (وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ).

عطف على ما سبق ، أي : يفتيكم في أن تقوموا لليتامى مطلقا بالقسط في أنفسهم وأموالهم.

والآية الشريفة في مقام بيان إعطاء قاعدة عامّة تشمل المقام وغيره ؛ لأنّ المورد لا يكون موجبا لتخصيص الحكم العامّ ، فإنّ القسط والعدل محبوبان في كلّ حال وفي جميع الموارد ، وإنّما خصّ اليتامى بالذكر لما عرفت آنفا أنّ حالهم ادعى للرحمة والعطف ، ولوقوعهم مورد الظلم والعدوان كثيرا لضعفهم ، كما وصفهم عزوجل في الآية الكريمة السابقة.

وفي الآية الشريفة التأكيد على مراعاة العدل ، فإنّ القيام بالشيء مراعاته حالا بعد حال ، وذلك بتنفيذ كلّ ما أنزله الله تعالى من الأحكام والتشريعات والتوجيهات ، والخطاب عامّ يشمل الأولياء وغيرهم.

قوله تعالى : (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِهِ عَلِيماً).

تأكيد لما سبق وتحريض إلى مراعاة تلك الأحكام بدقّة وعدم الهوادة فيها فإنّها خير ، والخير مرغوب فيه عند جميع الناس ، وبيان بأنّ حال اليتامى والمستضعفين تحتاج إلى عطف أكثر ، وأنّ الكمال فيهم هو المعاملة معهم بالفضل ، لا مجرّد العدل والقسط ، فإنّ كلّ خير يصدر منكم في شأن النساء واليتامى من دون أن يعلمه أحد ، فالله تعالى يعلمه ولا ينساه ويعد لمن آثر الخير بالوعد الجميل.

والخير عامّ يشمل كلّ فضل وزيادة في القسط ، وفي الحديث : وإذا أحسن إليهم كافؤوه بمثله أو فضل منه ، وقد ورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضا «خيركم خيركم لأهله» ، ولعلّه إشارة إلى صلة الرحم والحثّ عليها وأنّ الفضل يعود إلى فاعل الخير مطلقا.

وقد ذكر سبحانه وتعالى في هذه الآيات المباركة ثلاث مراحل لإرجاع حقوق النساء واليتامى مترتّبة متدرّجة في العمل والتنفيذ ، ولا يمكن الوصول إلى الهدف بدون ذلك ، فتكون هذه الآية الكريمة مضافا إلى اشتمالها على الأحكام

٣٤٣

تتضمّن درسا تربويّا تهذيبيّا لإصلاح النفوس المعتادة على هضم الحقوق ، وارتكاب الظلم :

فالمرحلة الأولى : ترك الظلم عليهم والإعراض عن العادة الجائرة والسنّة الباطلة الّتي كانت في الجاهليّة ، والتحذير من اتّباعها.

الثانية : مراعاة القسط والعدل بدقّة فيهم ، وعلى أتمّ الوجوه وأكملها.

الثالثة : الزيادة على ذلك بفعل الخير فيهم ، وذلك بإكرامهم والفضل عليهم ، وقد ذكر عزوجل الضمان على هذه المرحلة بقوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِهِ عَلِيماً) ، فإنّه يتضمّن الترغيب للعمل بتلك الإرشادات والتوجيهات الربوبية ، فإنّها خير لهم ، بل وأنّ خيرهم فيه ، كما يشتمل على التحذير على المخالفة فالله تعالى يعلم جميع أفعالكم ونواياكم وسيحاسبكم عليها.

قوله تعالى : (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً).

حكم اجتماعي يعالج الخلاف الواقع بين الزوجين وما يهدّد العلاقات الأسريّة بكاملها ، ويبيّن تعالى طرق الإصلاح فيها.

وممّا يلفت النظر في هذه الأحكام أنّه يتكرّر الأمر بالتقوى أكثر من مرّة ، ولعلّه لأجل أنّ هذه الأحكام لا يمكن تطبيقها ولا يكمل معها الصلاح إلّا مع التقوى ، فإنّها الركيزة الأولى في جميع الأحكام ، والقاعدة الأساسيّة الّتي تنطلق منها جميع التوجيهات ؛ لأنّها الأصل في كلّ سعادة مرجوة ، والضمان للعدل والإحسان المطلوبين في هذه الحياة الخاصّة الّتي تحفّها أمور كثيرة قد يوجب واحد منها سلب سعادتها وإيقاعها في شقاء مستمر ، فتكون له عواقب مؤلمة تؤثّر في المجتمع وحياة الأفراد ، ولأجل ذلك كان التشديد في الأمر بالتقوى حتّى وصل الحال إلى التهديد والتوعيد في عدم تنفيذها ، ممّا يبيّن أهميّة هذه الأحكام ، ولأنّ الموضوع له الأثر العظيم في سعادة المجتمع وشقائه.

والآية المباركة لا تخلو عن ارتباط بالآيات الشريفة السابقة لاشتمالها على

٣٤٤

أحكام النساء أيضا والعلاقات الأسريّة ، سواء قلنا إنّها داخلة في ما استفتوا فيه ـ وهو الحقّ ؛ لأنّه المستفاد من سياق الآية الكريمة وعمومها ـ أم كانت خارجة عنه.

والخوف : توقّع المكروه بظهور بعض أماراته وأسبابه ، وإنّما اعتبر عزوجل خوف النشوز والإعراض دون نفسهما ؛ لأنّ موضوع الصلح يتحقّق من حين ظهور العلامات والأمارات الّتي يتعقّبها الخوف.

ومادّة (نشز) تدلّ على الارتفاع يقال : أرض ناشزة ، أي : مرتفعة ، وفي حديث خاتم النبوّة : «بضعة ناشزة» ، أي : قطعة لحم مرتفعة عن الجسم ، والنشاز هو الأمر المنقطع عن غيره لسبب من الأسباب ، فيقال : زوج ناشز ، إذا ترفّع واستعلى على زوجته وترتّب عليه سوء المعاملة والتكبّر ، ويتّصف به كلّ واحد من الزوجين.

والإعراض هو الميل والانحراف عن الشيء ، وللنشوز والإعراض مظاهر مختلفة متفاوتة ، ولا يمكن الأخذ والحكم شرعا بكلّ مظهر إلّا إذا ورد من قبل الشارع أنّه نشوز أو إعراض. ولكن المتّفق عليه أنّ النشوز يتحقّق بترك المضاجعة والنفقة ، والإعراض بترك الكلام والأنس والانحراف بالوجه عن الزوجة وسوء المعاشرة ، وسيأتي في البحث الفقهي تتمة الكلام إن شاء الله تعالى.

والبعل : الزوج ، وأطلق على المأذون شرعا أيضا من باب الملازم الغالب ، كما في حديث التشريق : «انّها أيام أكل وشرب وبعال» وجمعه بعولة ، كالفحل والفحولة ، وبما أنّ الذكر من الزوجين ـ الّذي هو البعل ـ له استعلاء على المرأة كما قال تعالى : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) [سورة النساء ، الآية : ٣٤] ، سمّى كلّ مستعل على غيره ؛ ولذا سمّى العرب معبودهم الّذي يتقرّبون به إلى الله تعالى بعلا ، قال تعالى : (أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ) [سورة الصافات ، الآية : ١٢٥].

والمعنى : وإن خافت امرأة بأن ثبت لها من بعض الأمارات ، وتحقّق لها ذلك

٣٤٥

من بعلها نشوزا ، كترك مضاجعتها ولا يرغب في مباعلتها ، أو إعراضا بأن لا يتحدّث إليها وينصرف بوجهه عنها في المضجع.

ومن أسلوب الآية الشريفة وإيجازها البليغ حيث جعل الفعل المذكور فيها : «خافت» مفسّرا لفعل محذوف مثله ، وذكر الزوج بالخصوص وتعليق الخوف عليه فقط دون غيره ، واختصاص لفظ البعل بالذكر دون غيره من الألفاظ المستعملة في هذا المقام لتذكيرها بأنّ الزوج إنّما يكون بعلها ورئيسها ، فلا بدّ وإن تحسن المعاشرة معه ، وعلى الزوج مضاجعتها وإدارة شؤونها بالعدل والإحسان ، كلّ ذلك لأجل تنبيه المرأة بأنّه لا بدّ لها أن لا تكتفي بالوهم والوسوسة اللتين تكثران في النساء ، فلا يعتمّدن عليهما في هدم كيانهن وتقويض صرح الأسرة الّتي أكّد الشرع على إقامتها بأفضل وجه ، وقد أخذ من الزوجين العهود والمواثيق على إشادتها بالعدل والإحسان ، فيجب أخذ الحيطة والتثبت والتبيين في ما يظهر لها من أمارات النشوز والإعراض ، وتحقّق الخوف الفعلي عندها فإذا ظهر لها ذلك ، فحينئذ يأتي الإصلاح.

قوله تعالى : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً).

أي : فلا حرج ولا إثم على المرأة وبعلها أن يصلحا على النحو الّذي يتّفقان عليه بينهما ، فإذا أرادت أن تغض النظر عن بعض حقوقها في حياتها الزوجيّة ، جلبا للأنس والألفة أو استعطافا له أو احترازا عن شدّة التباغض والشحناء ودفعا للمفارقة والطلاق ، جاز لها ذلك ولا حرج عليهما.

وإنّما عبّر عزوجل بالجناح للتنبيه على أنّه لا يجب على الزوجة ، بل ليس لأحدهما جبر الآخر وإلزامه ، وإنّما هو أمر احترازي أدبي وأن المقصد هو المعاشرة بالمعروف والتراضي بالإحسان ؛ أو لنفي ما يتوهّم أن ما تعطيه المرأة للزوج من المال ـ مهرا كان أم غير ذلك ـ إنّما هو محرّم ولا يحل له أخذه.

٣٤٦

قوله تعالى : (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ).

جملة معترضة تبيّن حكما اجتماعيّا عامّا ترشد إلى أنّ الصلح في جميع الأحوال خير وحسن ، خصوصا في مورد الخصومة والتباغض والتباعد بالافتراق وغيره ؛ لأنّ في الصلح سكون النفس وهدوء البال وراحة الضمير ، وبه تتحقّق السعادة وتزول النفرة والاختلاف ، وعلى هذا تكون كلمة «خير» لبيان خيريّة الصلح لا لبيان الأفضليّة ، فإنّ الصلح والوئام خير في حدّ نفسه ، سواء كان هناك خلاف وتباغض فيرفعان بالصلح أم لم يكن.

والإسلام يدعو إلى المصالحة وإنّ دينه دين الصلح والسلام ، وقد شرّع عزوجل من الأحكام والسنن والآداب والتوجيهات ما يتحقّق به العدل والمساواة في هذه الحياة المليئة بالاضطراب وهضم الحقوق والتباغض بين الأفراد.

قوله تعالى : (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَ).

جملة اعتراضية أيضا يذكر فيها عزوجل واقع الإنسان وكمونه ، وتتضمّن السبب الّذي يوقعه في البغضاء والشحناء والشقاق والسبب الّذي يحول من الصلح والعيش بسلام.

وتبيّن الآية المباركة أنّ الشحّ والبخل غريزة من الغرائز النفسانيّة لا يخلو منها إنسان ؛ لأنّ به يحفظ منافعه ويصون نفسه من الضياع ، فإذا أطلقت هذه الغريزة وخرجت عن صون العقل والحكمة صارت رذيلة مهلكة ، وإن هذّبت صارت سببا للضبط على المعتقدات والإرادة ، أو تكون سببا لحصن النفس في الوقوع في منزلق الرذائل وسفاسف الأمور ، بل قد يصير موجبا لحفظ الأموال من التبذير والإسراف ، فالافراط في هذه الغريزة مذموم كالتفريط ، قال تعالى : (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [سورة الحشر ، الآية : ٩] ، فالشحّ موجود في كلّ نفس ، ولكن الإنسان عرضة له وهو يحضر عند ظهور المقتضي له إلّا إذا ملك زمام هذه الغريزة بما يريده الله تعالى لها من الصلاح والسعادة ، فإن تبع كلّ

٣٤٧

واحد من الزوجين الشحّ المكنون في نفسه ، آل إلى التباغض والشحناء أو المفارقة والطلاق فحينئذ لا جناح عليهما أن يصلحا بينهما بكسر سورة هذه الغريزة وتهذيبها بالإرشادات الربوبيّة والتعليمات الإلهيّة ، فيغمض كلّ واحد من الزوجين عن بعض حقوقهما. ولا بدّ أن يتذكّر كلّ واحد منهما ـ بل كلّ فرد ـ أنّ الشحّ والبخل يرجع إلى الحرص وهو ينشأ من ضعف النفس ، ويجب علاجه بالبذل والتسامح والتفكّر في أنّ الشحّ من المهلكات وممّا يضرّ النفس ويصدّها عن الكمال. ومن أقبح البخل وأمضه أن يبخل أحد الزوجين على الآخر بعد أن ارتبطا بالميثاق العظيم ، فكانت رابطتها أحقّ بالحفظ وأجدر بالوفاء ، بل لا بدّ أن يكون التسامح أوسع وأعظم ، كما أمر عزوجل في الآية التالية.

قوله تعالى : (وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً).

إرشاد إلى أنّ المقام لا بدّ من أن لا يقتصر فيه على مراعاة الميثاق والعهد الّذي أخذه كلّ واحد من الزوجين على الآخر ، فإنّ مراعاته أمر مفروغ عنه ، وإنّما تتطلّب هذه العلاقة إلى الإحسان زيادة على الوفاء بالعهد ، فإنّه أجلب للقلوب وادعى للتوفيق في العشرة والتقوى ، فإنّها الضمان لتثبيت العدل والإحسان المطلوبين في هذا الموقف وإرساء أسس السعادة واستمرار هذه العلاقة آمنة مطمئنة بعيدة عن ما يكدر صفوها وما يوجب انفصام عراها ، كالنشوز والإعراض ؛ ولأنّ في التقوى الموعظة للرجال والنساء بأن لا يتعدّوا حدود الله تعالى.

وفي الآية الكريمة الذكرى للمؤمنين بأنّ الله تعالى خبير بما يعملون ، لا يخفى عليه خافية ، وسيحاسبهم عليه فيجزى الّذين اتّقوا وأحسنوا الحسنى ويثيبهم عليه ويعاقب المسيء الّذي ظلم في معاشرته مع النساء وأكرههن على إلغاء حقوقهن الّتي جعلها الله تعالى لهن.

٣٤٨

قوله تعالى : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ).

حكم آخر من أحكام النساء ، وهو لزوم العدل بينهن بتطبيق ما شرّع الله تعالى لهن على الرجال في أوّل هذه السورة ، قال تعالى : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً) [سورة النساء ، الآية : ٣].

وتبيّن الآية الكريمة حقيقة اجتماعيّة ، وهي أنّ العدل بالمعنى الحقيقيّ ، وهو التساوي بين الطرفين في جميع الجهات بحيث لا يقع ميل إلى جانب في شأن من شؤون الحياة الزوجيّة كالقسمة أو النفقة ، والتعهّد ، والنظر ، والميل ، والإقبال ، والمؤانسة ، وغير ذلك ممّا لا يكاد الحصر ، فإنّه ممّا يتعذّر إقامته ولا يتحقّق وإن حرص عليه الرجل كلّ الحرص ؛ لو عورة مسلكه ودقة تطبيقه واشتباه اعلامه ، فمن الصعب جدا تشخيصه ، خصوصا في إقبال النفس والميل القلبي اللذين لا يملكهما المرء ولا يتطرّق إليهما الاختيار ، فلا يقدر أن يملك الآثار الطبيعيّة المترتّبة عليهما ، فيبيّن عزوجل أنّ العدل بحقيقة معناه الّذي أمر الله تعالى بإقامته في حياته الاجتماعيّة غير مستطاع ولا يتعلّق به التكليف ، وإنّما الّذي يمكن أن يملكه هو أن لا يميل إلى أحد الأطراف ، كما سيأتي في البحث الروائي.

وتفسّر هذه الآية الشريفة الآية الكريمة الّتي وردت في أوّل السورة ، الّتي أمرت باتّخاذ العدل بين النساء ، ويكون هذا حكما تخفيفيّا امتنانيّا منه عزوجل ، لرفع التحيّر الّذي أصاب الرجل المؤمن الورع نتيجة عدم إمكان تشخيص حقيقته وصعوبة مناله.

قوله تعالى : (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ).

بيان لما يمكن تطبيقه من معنى العدل ، وهو التسوية بين النساء بإتيان حقوقهن من غير تطرّف وعدم التعاسر معهن ونبذ الإساءة إليهن ، فلا يجور على المرغوب عنها منهن بأن يميل كلّ الميل إلى المحبوبة ويعرض عن الأخرى المرغوبة عنها ، فيذرها كالمعلّقة لا هي متزوّجة ولا هي مطلّقة ، وهذا هو العدل الّذي يمكن

٣٤٩

تطبيقه ، وهو الأقرب إلى العدل الحقيقي الّذي نفاه عزوجل عنهم ، فيكون عدلا عمليّا. وأمّا الميل القلبي الّذي لا يدخل تحت الاختيار ، فهو لا يتعلّق به التكليف.

وممّا ذكرنا يظهر أنّ صدر هذه الآية الشريفة ليس في مقام نفي مطلق العدل ، بحيث إذا انضمّ إليه قوله تعالى : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً) [سورة النساء ، الآية : ٣] ، ينتج إلغاء تعدّد الأزواج في الإسلام ، كما قاله بعض المفسّرين ، فإنّ المنفي هو العدل الحقيقي ، لا العدل العملي الّذي هو الأقرب إلى العدل المأمور به ، ويستحيل أن يتحقّق تكليف منه عزوجل ولا يمكن تطبيقه.

والحاصل : أنّ العدل المأمور به هو العدل التقريبي ، وهو العدل العملي ، مضافا الى ذلك أنّه عزوجل أباح التعدّد في قوله تعالى : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) ـ الآية [سورة النساء ، الآية : ٣] ، وحمله على مجرّد الفرض العقلي بعيد جدا يجلّ كلامه تعالى عنه ، وسيرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وبعض المؤمنين الورعين خير دليل على إمكان تطبيقه ، وهو يدفع توهّم الفرض العقلي أيضا.

قوله تعالى : (وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً).

تأكيد وترغيب للرجال في الإصلاح إذا ظهر منهم فساد وظلم ، والضمان في ذلك كلّه هو التقوى الّتي هي الدعامة الأولى في تطبيق الأحكام الإلهيّة ، وأنّها هي الّتي تستتبع المغفرة لكلّ ما صدر من حيف وظلم ، والرحمة بالتفضّل عليهم. وتقدّم مكرّرا أنّ الأمر بالتقوى في هذه الآيات المباركة لدقّة تطبيق هذه الأحكام والتباس معالمها ، فكان التقوى هي الضمان لها.

قوله تعالى : (وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ).

حكم علاجي بعد أن لم ينفع الإصلاح ولم يتحقّق الوفاق بوجه من الوجوه ، وحينئذ فإن أرادت المرأة وبعلها أن يتفرّقا بالطلاق خوفا من الوقوع في الحرام وحفظا للكرامة وصونا لأخلاقهما لئلّا يقعا في السيء منها ، فإنّ الله تعالى يغني كلا

٣٥٠

منهما بأن يجعله مستغنيا عن الآخر بسعة فضله وكرمه إن تفرّقا ، ويكفيه ما أهمّه من أمور الدنيا والدين ـ أي : الآخرة ـ وذلك لعموم الآية الشريفة ، فيغني الزوج بامرأة أخرى خيرا من الأولى ، تحصنه وتؤنسه وترضيه فتستقيم أمور بيته ، كما يغني المرأة بزوج آخر خيرا من الأوّل يقوم بأمرها ، يدبّر شؤونها بالنفقة والكسوة وسائر ما تتطلبه الحياة الزوجيّة ، فإنّ الله تعالى واسع حكيم.

قوله تعالى : (وَكانَ اللهُ واسِعاً حَكِيماً).

تعليل لما سبق أي : يغني كلا منهما ؛ لأنّه واسع الفضل والرحمة حكيم في أفعاله وأحكامه ، يعلم أنّ ذلك أمر فاش في أفراد هذا النوع ، فوضع حدودا وتعاليم لعلاج هذا الموقف ، فلم يتركهم سدى من غير تكليف.

قوله تعالى : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ).

تعليل آخر ، أي : أنّ الله تعالى واسع لأنّ له ما في السموات وما في الأرض خلقا وتدبيرا وملكا ، وهو الّذي يدبّر أمر الإنسان وينظم شؤونه ، فلا يتعذّر عليه الإغناء بعد الفرقة ولا الإيناس بعد الوحشة ولا الغنى بعد الفقر.

والآية المباركة تدلّ على عظيم فضله وكمال لطفه وسعة رحمته وعموم فيضه.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ).

تأكيد جديد إلى مراعاة التقوى في جميع المواقف وكلّ الأمور. ولم تكن هذه الدعوة مختصّة بهذه الأمّة بل الدعوة عامّة لجميع الأمم ، وقد أبلغت إليهم بأبلغ وجه وأتمّ أسلوب ، فكان توصية منه عزوجل لهم بمراعاة التقوى وشدّة التمسّك بها ؛ لأنّ بها تتزكّى النفوس وتنتظم الشؤون ويعبد الله تعالى ويصلح أمر الدنيا والآخرة ، ومنه الحياة الزوجيّة الّتي هي أحوج من غيرها إلى مراعاة التقوى ، لدقّة الأمور الّتي تمسّ بهذه الحياة كما عرفت آنفا.

٣٥١

قوله تعالى : (وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ).

تشديد آخر لمراعاة التقوى ، وتهديد على أنّ من أعرض عنها وتعدّى حدود الله تعالى كفرا بها ، فإنّه لا يضرّ كفره بترك العمل بالأحكام الإلهيّة ؛ لأنّه مالك الملك والملكوت وله ما في السموات وما في الأرض ، وإنّما وصّاكم بما يرجع الى خيركم ومصلحتكم رحمة بكم لا حاجة إليكم ، فلا يضرّه إعراضكم.

ومن ذلك يعلم أنّ المراد بالكفر هو الكفر العملي والإعراض عن طاعته عزوجل ، وأنّ بالتقوى تتحقّق الطاعة.

قوله تعالى : (وَكانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيداً).

الحميد أي : المحمود بذاته لذاته ، وهو من الأسماء الحسنى ، وهو يدلّ على أنّ كلّ ما في الوجود يصدر منه تعالى ، وإليه يرجع الحمد كلّه وهو مصدره. والآية الكريمة تقرير لما سبق وتأكيد لاستغنائه عمّن ما سواه ، فإنّه الغني بالذات وما سواه يحتاج إليه ، وهو محمود بذاته لذاته ، سواء حمده حامد أم لم يحمده.

كما أنّ الآية المباركة تتضمّن التهديد لمن ترك التقوى والعمل بالأحكام الإلهيّة وأصرّ على المخالفة والشقاق ، فإنّه تعالى قادر على العقوبة بما يشاء ولا نجاة عنها ؛ لأنّه الغني الحميد.

قوله تعالى : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً).

جملة استئنافية ، توطئة لما يأتي من إظهار قدرته ، فإنّ له التصرّف في خلقه كيفما يشاء إيجادا وإحياء وإماتة ، وتأكيدا لما سبق وإيذانا بأنّ جميع ما سواه مخلوق له تعالى محتاج بذاته لذاته ، وهو الوكيل عليهم يدبّر شؤونهم ويرعى مصالحهم.

ولعلّ الوجه في تكرار هذه الآية الشريفة ثلاث مرات لبيان تمام قدرته

٣٥٢

واستجماعه لجميع صفات الكمال ، ولإرشاد الناس إلى التفكّر لما في السموات وما في الأرض ممّا فيها من آيات تدلّ على وحدانيّته وعلمه الأتم وحكمته التامّة.

والوكيل : من أسماء الله الحسنى ، والمراد به القيّم على أمور خلقه والمهيمن عليهم ، واستقلاله بشئون الموكل إليه ، وذكره في المقام إرشادا للناس جميعا أو لمن أراد التفرّق من الزوجين بالتوكّل عليه عزوجل وتفويض الأمر إليه ، فإنّ من يتوكّل على الله تعالى فهو حسبه ويكفيه من كلّ ما أهمّه ويغنيه من سعته ، وكفى به وكيلا فإنّه قادر على انجاز كلّ ما أوعده.

قوله تعالى : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ).

تأكيد جديد على ملازمة التقوى وبيان لما استفيد من التهديد من سياق الآية الكريمة المتقدّمة ، وتنبيه للناس إلى التأمّل في سنّته عزوجل في الأمم ، وتوجيه أفكارهم إلى عظيم قدرته تعالى ، وتصديره بقوله : (إِنْ يَشَأْ) للدلالة على استغنائه وعدم الحاجة الى أحد من خلقه.

وسياق الآية الشريفة بضميمة ما ذكرناه يدلّ على أنّ المراد من إذهاب الناس وإتيان آخرين ، هو إذهاب هؤلاء الّذين نكصوا عن الطاعة وأعرضوا عن التقوى بعد ما أوصاهم جميعا بملازمتها ، وإتيان أناس آخرين يطيعون الله تعالى ويتّقون ويقومون بما يحبّه ويرتضيه عزوجل ، فإنّه المالك للملك والملكوت والقادر على كلّ شيء ، يتصرّف في ملكه كيفما يشاء بما يشاء ولما يشاء. وإطلاق الآية المباركة يشمل الإذهاب الدفعي والتدريجي ، بأن يستبدل الله غير المتّقين المطيعين بإفناء الأوّلين وإهلاكهم بالمرّة وإيجاد آخرين ، أو تبديلهم بآخرين متّقين على مرّ الزمن ـ كما يأتي في البحث الروائي ـ وهذا أولى من حمل الآية الشريفة على أحد الوجهين ، كما ذهب إليه بعض المفسّرين ؛ لعموم قدرته وسنّته في خلقه ، فقد أذهب أقواما أفنى الأوّلين منهم لمّا كفروا بربّهم واستدرج آخرين حتّى أفناهم ، ثمّ أقام آخرين مكانهم فآمنوا وأطاعوه واتّقوه.

٣٥٣

وأمّا ما ذكره بعض المفسّرين من أنّ المراد من قوله تعلى : (بِآخَرِينَ) ، أي : جنسا غير جنس الناس ، فهو بعيد عن سياق هذه الآية الكريمة وإن كان يناسب قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) [سورة إبراهيم ، الآية : ٢٠] ، وردّه بعضهم بأنّه خطأ ؛ لمخالفته لاستعمال العرب ؛ أو لأنّه من قبيل المجاز ولا يتم به المراد ، فهو غير صحيح ، وسيأتي في البحث الأدبي ما يتعلّق به إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : (وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً).

تعليل لما سبق ، أي : أنّ الله تعالى إنّما يفعل ذلك ويذهبكم ويأت بآخرين مكانكم أطوع لله تعالى وأتقى ؛ لأنّه عزوجل قدير ، أي : بليغ القدرة. وإنّما أبقاكم لإظهار غناه عنكم.

والقدرة من صفات الذات ، ولا يعلم كنهها ولا حقيقتها ـ كسائر صفاته ـ إلّا الله عزوجل ؛ ولذلك إذا أريد وصفها فلا بدّ أن يكون على سبيل النفي ، أي : لا يعجره شيء.

وإتيان الفعل الماضي (الناقص) في المقام وأمثاله ؛ لبيان الثبوت والتحقّق في مثل هذه الصفات ؛ ولدفع ما قد يتوهّم أنّه يحدث في ذاته وصفاته ، فهذه الأفعال منسلخة عن الزمان لتنزّهه جلّ شأنه عن الزمان والزمانيّات ، وقد ذكرنا ما يتعلّق بذلك أيضا في ما مضى من هذا التفسير فراجع.

قوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا).

بيان للعلّة الّتي توجب صرف الناس عن التقوى وإعراضهم عن الطاعة ، وهي الإقبال على الدنيا والرغبة في متاعها ، أي : من ترك التقوى وضيّع وصيته عزوجل الّتي أوصاها لجميع الأمم ابتغاء ثواب الدنيا والرغبة في متاعها ، فإنّ ذلك خطأ وسوء تقدير منه ؛ لأنّ الله تبارك تعالى مالك الدنيا والآخرة.

٣٥٤

قوله تعالى : (فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ).

علاج لما وقعوا فيه من الخطأ وسوء التقدير ، أي : أنّ الله تعالى عنده ثواب الدنيا والآخرة ، وهو قادر على أن يعطيكم ثواب الدنيا وخيرا منه وأشرف وهو ثواب الآخرة ، فلا بدّ من التقرّب إليه تعالى وطاعته والعمل بتكاليفه حتّى ينال ما عنده ، فتكون سعادة الإنسان في التقوى ، ولا يمكن أن ينال شيئا من الدارين إلّا ما يفيضه تعالى ، وهو منحصر بالطاعة والتقوى.

قوله تعالى : (وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً).

أي : أنّ الله سميع لأقوال عباده وما يهجس في خواطرهم ، بصير لأفعالهم ، لا يخفى عليه خافية. وفيه من التوبيخ ـ بتركهم ما عنده تعالى ، وإعراضهم عن الطاعة ، والاقتصار على ما يريدونه ـ ما لا يخفى ، فلا بدّ من مراقبته عزوجل في جميع الأمور.

٣٥٥

بحوث المقام

بحث أدبي :

ذكروا في (ما) في قوله تعالى : (وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ) احتمالات ثلاثة من وجوه الإعراب.

الأوّل : الرفع إمّا على أنّها مبتدأ والخبر محذوف ، أي : وما يتلى عليكم في القرآن يفتيكم ، ويكون (في الكتاب) متعلّقا ب (يتلى) أو بمحذوف وقع حالا من المستكن فيه ، أي : كائنا في الكتاب.

وإمّا على أنّها مبتدأ و (في الكتاب) خبره ، فتكون الجملة مستأنفة والكلام مسوق لبيان عظم شأن المتلو.

وإمّا على أنّها معطوفة على الضمير المستتر في (يُفْتِيكُمْ).

وأشكل عليه بوجهين ، أحدهما : بأنّه لا يصحّ ذلك ، كما هو المعروف في العطف.

وأجيب عنه بأنّه يصحّ للفصل.

ثانيهما : بأنّه يستلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز ؛ لأنّ الله تعالى فاعل حقيقي للفعل ، والمتلو فاعل مجازي له.

وأجيب بأنّه يصحّ الجمع بينهما في المجاز العقلي ، وأنّه شائع والإسناد فيه من قبيل الإسناد إلى السبب ، ولا يصحّ العطف.

وأمّا على أنّها معطوفة على الاسم الجليل (قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ) ، والعطف فيه من عطف المفرد على المفرد كما هو المتبادر ، ولكنّه بعيد لإفراد الضمير.

الثاني : النصب على أن يكون مفعولا لفعل محذوف ، أي : ويبيّن لكم ما يتلى ، وحينئذ تكون الجملة إمّا معطوفة على جملة (يفتيكم) ، وإمّا معترضة.

٣٥٦

الثالث : الجرّ إمّا على أنّ الواو في قوله تعالى : (وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ) للقسم ، فتكون (ما) في محلّ الخبر على القسم الّذي ينبئ عن تعظيم المقسم به وتفخيمه ، ويكون قوله تعالى : (فِي يَتامَى النِّساءِ) بدلا من قوله : (فِيهِنَ) ، والمعنى : أقسم بما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء.

وإمّا أن تكون معطوفة على الضمير المجرور «فيهن» ، بتأويل الإفتاء إلى التبيين ، والمعنى : قل الله يبيّن لكم ما يتلى عليكم في الكتاب ، وهذا هو الوجه المعروف بين البصريين ، فقد ردّ بأنّ فيه اختلالا معنويّا.

وإمّا أن تكون (ما) معطوفة على النساء في قوله : (فِي النِّساءِ).

هذه الوجوه المعروفة بين النحويين والمفسّرين.

والحقّ أنّ بعضها بعيد عن سياق الآية الشريفة ولا يخلو عن التعسّف ، وعلى أغلب الاحتمالات يكون قوله تعالى : (فِي يَتامَى النِّساءِ) متعلّقا ب (يتلى) ، أي : ما يتلى عليكم في شأنهن.

والأولى أنّها معطوفة على قوله تعالى : (قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ). والمعنى : قل الله يفتيكم في الأحكام الّتي تتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء.

وكيف كان ، ففي إتيان صيغة المضارع : «وما يتلى عليكم» ؛ للدلالة على دوام التلاوة واستمرارها ، وأنّ جملة : «اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون ان تنكحوهن» وصف ليتامى النساء. وأمّا قوله تعالى : (وَتَرْغَبُونَ) إمّا عطف على صلة «اللاتي» ، أو على المنفي وحده ، ويحتمل أن يكون حالا من فاعل «تؤتونهن» ، وحينئذ فإن جوّزنا دخول الواو على الجملة المضارعيّة الحاليّة فالأمر ظاهر ، وإلّا فلا بدّ من تقدير مبتدأ ، أي : وأنتم ترغبون ، وقد ذكرنا في التفسير ما يتعلّق بحرف الجرّ المقدّر في قوله تعالى : (أَنْ تَنْكِحُوهُنَ).

وأمّا قوله تعالى : (وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ) ، فالمعروف أنّه عطف على

٣٥٧

ما قبله ، وجوّز بعضهم الرفع على أنّه مبتدأ والخبر محذوف ، أي : خير ونحوه. واحتمل آخرون النصب من غير عطف بإضمار فعل ، أي : ويأمركم أن تقوموا.

وأمّا قوله تعالى : (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ) ، فالمعروف أنّه من باب الاشتغال ، أي : وإن خافت امرأة خافت ، واحتمل بعضهم أنّ «امرأة» مبتدأ وما بعده الخبر ، وقدّر بعضهم (كانت) لاطراد حذف (كان) بعد (ان).

والحقّ هو الأوّل لما فيه من التأكيد على تحقّق الخوف الفعلي ، كما عرفت في التفسير فراجع.

وقوله تعالى : (أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً) فالقراءة المعروفة هي ضمّ الياء وتخفيف الصاد وكسر اللّام ، وقرأ بعضهم (يصّالحا) بفتح الياء وتشديد الصاد وألف بعدها ، وأصله : يتصالحا ، فبدّلت التاء صادا وأدغمت وقرأ آخرون : (يصحا) بفتح الياء وتشديد الصاد من دون ألف بعدها ، وأصله يصطلحا ، فخفف بإبدال الطاء المبدّلة من تاء الأفعال صادا وأدغمت الأولى فيها. وقال بعضهم : إنّه أبدلت التاء صادا ابتداء. وقرئ بعضهم : (يصطلحا).

وكيف كان ، فإنّ (صلحا) منصوب على أنّه مفعول به على القراءة المعروفة ، أو يكون منصوبا بفعل مترتّب على المذكور ، أي : فيصلح حالهما صلحا ، أو منصوب على إسقاط الخافض ، أي : بصلح ، يعني : بشيء يقع بسببه المصالحة ، أو التوسّع في الظرف لا على تقدير بينهما ، وإمّا أن يكون مصدرا محذوف الزوائد.

واللّام في (الصُّلْحُ خَيْرٌ) للجنس ، ويحتمل أن يكون للعهد.

و (أحضرت) في قوله تعالى : (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَ) ، متعدّ لاثنين ، بخلاف حضر ، فإنّه متعدّ لواحد ، والأوّل هو (الأنفس) القائم مقام الفاعل ، والثاني الشحّ ، أي : احضر الله تعالى الأنفس للشحّ. ويحتمل أن يكون القائم مقام الفاعل هو الثاني ، أي : أنّ الشحّ حاضر لها لا يغيب عنها أبدا ، ولا يضرّ تأنيث الفعل كما هو المعروف.

٣٥٨

و (كلّ) في قوله تعالى : (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) منصوب على المصدريّة ، والمعروف أنّها بحسب ما يضاف إليه من مصدر أو ظرف أو غيره.

وحذف النون في (فَتَذَرُوها) إمّا لأجل (أن) الناصبة المضمرة في جواب النهي. وإمّا لأجل الجازم ؛ لأنّه معطوف على الفعل قبله ، وهو الأصحّ.

و (أن) في قوله تعالى : (أَنِ اتَّقُوا اللهَ) إمّا على أنّها مصدريّة ، بتقدير الجارّ ، أي : بأن (اتَّقُوا اللهَ) ، أو تكون مفسّرة للوصية ؛ لأنّ فيها معنى القول ، وهو يرجع إلى الأوّل أيضا.

وجملة : «وان تكفروا فإن لله ما في السموات وما في الأرض» ، إمّا جملة مستأنفة خوطب بها هذه الأمّة إكراما وتعظيما لهم. وإمّا عطف على (وَصَّيْنَا) بتقدير (قلنا) ، أي : وصينا وقلنا : (وَإِنْ تَكْفُرُوا) ، فالخطاب يكون للجميع ـ لهذه الأمّة ولغيرها من الأمم ـ. وقيل : إنّه عطف على (اتَّقُوا اللهَ).

وأمّا قوله تعالى : (أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ) فقد وقع الكلام في لفظ الآخر ، في أنّه هل يشترط فيه الاتّحاد في الجنس أم لا يشترط ذلك ، فذهب جمع من العلماء إلى الاشتراط. وقالوا بأنّ لفظ (آخر) و (أخرى) وجمعهما ، لا يوصف به إلّا ما يجانس المذكور قبله ، وبذلك يشبه : سائر وبقية وبعض ، قال تعالى : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى* وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) [سورة النجم ، الآية : ١٨ ـ ١٩] ، فوصف عزوجل مناة بالأخرى لمّا جانست العزى واللات ، وقال تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [سورة البقرة ، الآية : ١٨٦] ، فإنّه وصف الأيّام بالآخر ؛ لكونها من جنس الشهر ؛ ولذلك خطّأوا قولهم : (ابتعت عبدا وجارية اخرى) ؛ لأنّ الجارية ليست من جنس العبد ؛ لأنّه مذكر وهي مؤنّثة ، كما لا يقال : جاءت هند ورجل آخر.

وذكروا في وجه ذلك بأنّ (آخر) من قبيل (افعل) الّذي يصحبه (من) ، وتحذف غالبا لدلالة الكلام عليها وكثرة استعمال (آخر) في النطق ، وحينئذ لا بدّ

٣٥٩

أن يجانس المذكور بعده ما قبله وإن حذف ما بعده ، فإذا قيل : قال المتنبئ وآخر ، أي : من الشعراء ، وذكر هؤلاء أنّه من هنا جاء الفرق بين (غير) و (آخر) ، فإنّ (غيرا) تقع على المغائر في الجنس أو الوصف ، و (آخر) لا يقع إلّا على المغائرة بين أبعاض جنس واحد.

وتطرّف آخرون حيث ذكروا أنّ (آخر) إنّما يقابل ما كان من جنسه تثنية وجمعا وإفرادا.

ولكنّه مردود بورود خلاف ذلك في كلام العرب ، قال ربيعة بن يكدم :

ولقد شفعتهما بآخر ثالث

وأبي الفرار إلى الغداة تكرمي

وقال أبو دحية النميري :

وكنت أمشي على ثنتين معتللا

فصرت أمشي على أخرى من الشجر

وكيف كان ، فقد ذهب جمع آخرون منهم نجم الأئمة الرضي إلى عدم الاشتراط واحتجّوا بأنّ الاشتراط لم يكن متّفقا عليه ، وأنّه يكفي الاشتراك بين المتقدّم والمتأخّر في عنوان واحد ؛ ولذلك صحّ أن يقال : جاءني زيد وآخر ، على تقدير : ورجل آخر ، أو يقال : اشتريت فرسا ومركوبا آخر ، لاشتراكهما في عنوان المركوبيّة ونحو ذلك ، بلا فرق بين التثنية والجمع والإفراد ، ولكن ذلك يختصّ بما إذا كان حقيقتهما واحدة وإلّا فلا يجوز ، فلا يصحّ أن يقال : رأيت المشتري والمشترى الآخر ، تريد بأحدهما الكوكب وبالآخر مقابل البائع. وبناء عليه لا يشترط الاتّفاق في التذكير أو التأنيث ، فيجوز : جاءني جاريتك وإنسان آخر ، قال عنترة :

والخيل تقتحم الغبار عوابسا

من بين منظمة وآخر ينظم

والحقّ أن يقال : إنّ (آخر) إنّما يؤتى به في مورد يتوهّم اتّحاد ما قبله لما بعده ، فتظهر به المغائرة ، وحينئذ لا تختصّ الاتّحاد في الجنس ، بل يصحّ في غيره ولو على ضرب من التأويل ، وبذلك يمكن الجمع بين الكلمات ، فمن قال بالاختصاص ـ أي :

٣٦٠