مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٩

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٩

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٣
ISBN: 964-5665-08-6
الصفحات: ٣٩٦

وجملة (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) قيل : إنّها حاليّة بتقدير «قد» ، وقيل : إنّها عطف على (حَنِيفاً) ، وقيل : إنّها عطف على (مَنْ أَحْسَنُ) ، والحقّ أنّها جملة بيانيّة مستقلّة متضمّنة لتعليل ما سبق.

بحث دلالي :

تدلّ الآيات المباركة على أمور :

الأوّل : يستفاد من ترتّب قوله تعالى : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ) على قوله تعالى : (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) أنّ هذه الأماني من غرور الشيطان وأمانيه ، الّتي تضرّ بحال الإنسان وتصدّه عن نيل الكمال والبلوغ إلى مقام القرب وتحصيل السعادة.

الثاني : يدلّ قوله تعالى : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) على أنّ الجزاء مترتّب على العمل كترتّب المعلول على العلّة التامّة بحسب سنّة الله تعالى : (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً) [سورة فاطر ، الآية : ٤٣] ، وعمومه يشمل كلّ جزاء ، سواء كان في الدنيا أو في الآخرة ، وسواء كان الجزاء حكما شرعيّا أو لم يكن كذلك ، وهو يدلّ أيضا على أنّ ما يصيب الإنسان من السوء في الدارين إنّما يكون من سوء فعله ، وتدلّ عليه جملة من الروايات الآتية في البحث الروائي. وذكرنا أنّ إطلاق السوء يشمل حتّى السيئات العرفية ومساوئ الأخلاق ، فضلا عن المحرّمات الإلهيّة والمعاصي والمنكرات.

الثالث : يدلّ قوله تعالى : (يُجْزَ بِهِ) أنّ الجزاء يترتّب على فعله ، بلا فرق بين أن يكون متوجّها إلى نفسه أو إلى من يتعلّق به ، فما يصيب الأطفال والأعقاب إنّما يكون نتيجة فعل الآباء والأجداد ، وتدلّ عليه جملة من الروايات ذكرنا بعضها في المباحث السابقة ، وفي ذلك حكم كثيرة لعلّنا نتعرّض لها في مستقبل الكلام بعد

٣٢١

فسحة الحال ورفع الشدائد الّتي توجّهت على المؤمنين من ظالم غاشم ، نسأل الله تعالى الفرج بحوله وقوّته جلّ شأنه.

الرابع : يدلّ قوله تعالى : (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) على أنّ صرف العبد نفسه بكلّيتها لله تعالى وتسليمها إليه ، بحيث يعرض عن الأغيار حتّى صار مشاهدا للجمع في عين التفصيل ـ من أعلى المراتب الّتي يمكن أن يبلغها البشر ، وبها يستعد أن يصل إلى مقام الخلّة ، ولا يمكن الحصول عليه إلّا باتّباع ملّة إبراهيم عليه‌السلام الّذي حاز على هذا الوسام الإلهي لاجتيازه كلّ تلك المراحل الّتي يأتي بيانها.

بحث روائي :

عن علي بن إبراهيم في قوله تعالى : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ) يعني : «ليس ما تتمنّون أنتم ولا أماني أهل الكتاب أن لا تعذّبوا بأفعالكم».

أقول : الروايات في ذلك كثيرة من الفريقين ، والمستفاد منها أنّ العذاب والثواب لا يكونان إلّا على الكفر أو الإيمان والعمل الصالح كما مرّ ، وليس لأحد التحدّي في سلطانه تعالى ، وأنّه ليس لأحد ولا لأمّة التقرّب عنده عزّ اسمه إلّا بالتقوى ، فما قالته قريش : لا نبعث ولا نحاسب ، وما قالته اليهود والنصارى : (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) [سورة البقرة ، الآية : ١١١] ، أو : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) [سورة البقرة ، الآية : ٨٠] ، كلّها مجرّد أوهام لا واقع لها ، بل هو يعذّبكم ويثيبكم بأفعالكم وأعمالكم ، وأنّ الإيمان ليس بالتحلّي ولا بالتمنّي ، وإنّما الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل كما تقدّم ، وأنّ التمنيات من سبل الشيطان فلا بدّ من نبذها.

٣٢٢

وفي الدرّ المنثور عن أبي صالح قال : «جلس أناس من أهل التوراة وأهل الإنجيل وأهل الإيمان ، فقال هؤلاء : نحن أفضل منكم ، وقال هؤلاء : نحن أفضل ، فقال الله : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ) ، ثمّ خصّ الله أهل الإيمان فقال : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ)».

أقول : قريب منه ما في أسباب النزول للواحدي ، والروايات بهذا المضمون كثيرة ، وكلّها من باب التفسير للآية الكريمة.

وفي أسباب النزول للواحدي عن مسروق : «احتجّ المسلمون وأهل الكتاب ، فقال أهل الكتاب : نحن أهدى منكم ، نبيّنا قبل نبيّكم وكتابنا قبل كتابكم ، ونحن أولى بالله منكم ، وقال المسلمون : نحن أهدى منكم وأولى بالله ، نبيّنا خاتم الأنبياء وكتابنا يقضي على الكتب الّتي قبله ، فأنزل الله تعالى : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ) ، ثمّ أفلج الله حجّة المسلمين على من ناوأهم من أهل الأديان بقوله تعالى : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ) ، وبقوله تعالى : (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) الآيتين في سورة النساء».

أقول : أفلج : أي غلّب الله حجّة المسلمين على غيرهم ، وعن معن بن يزيد : «بايعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وخاصمت إليه فأفلجني» ، أي : حكم لي وغلّبني على خصمي.

وكيف كان ، فالروايات لا تدلّ على شيء زائد غير ما يستفاد من الآية الكريمة ، وهي مع اختلافها من باب التطبيق.

وفي تفسير العياشي عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «لما نزلت هذه الآية : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) قال بعض أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما أشدّها من آية ، فقال لهم رسول الله : أما تبتلون في أموالكم وفي أنفسكم

٣٢٣

وذراريكم؟ قالوا : بلى ، قال : هذا ممّا يكتب الله لكم به الحسنات ويمحو به السيئات».

أقول : ابتلاء المؤمن في نفسه ـ بالآلام والهموم والمحن ـ أو في أمواله الموجب للحطّ والتكفير ممّا لا إشكال فيه كما دلّت عليه الآية الكريمة ، وإنّ ذلك مطابق لقاعدة أنّ الأجر على قدر المصاب ـ خصوصا لو كان المصاب في سبيل الله تعالى أو ما استلزم الانقطاع إليه عزّ اسمه ـ بلا فرق في الأجر بين المادّي أو المعنوي ، كغفران الذنوب أو بلوغ مرتبة ونيل كرامة.

وأمّا الذراري ، فإنّ محنهم وآلامهم ومصائبهم توجب الأجر للآباء ، مع أنّهم لم يصيبوا منها بشيء ؛ لأنّ هموم الأولاد والذراري توجب هموم الآباء ، ولكلّ همّ أجر ، فيردّ الأجر عليهم كما يردّ على نفس الأولاد والذراري أيضا.

أو لأنّ الآباء صاروا سببا لإيمان الذراري والأولاد أو كفرهم ، فكلّ ما طرأ على الذراري من الأجر يصل إلى الأسباب أيضا ، كما دلّت عليه الأدلّة العقليّة والنقليّة ، ففي العوالي عن الصادق عليه‌السلام : «أوحى الله إلى موسى عليه‌السلام : إنّي مجازي الأبناء بسعي الآباء ، إن خيرا فخير ، وإن شرّا فشرّ ، لا تزنوا فتزني نساؤكم ، من وطئ فراش مسلم وطئ فراشه. كما تدين تدان».

أو لأنّ فعل الأولاد يرجع بالآخرة إلى الآباء والأجداد ، فيرد عليهم الأجر كما يرد على نفس الأولاد والذاري ، ويدلّ عليه إطلاق الآية الكريمة : (يُجْزَ بِهِ) ، سواء كان الجزاء على الفاعل أو من يتعلّق به.

كما أنّ إطلاق السوء يشمل ما كان من المعاصي ـ كبيرة كانت أو صغيرة ـ أو من غيرها ، حتّى لو كان من مساوئ الأخلاق والأفعال السيئة العرفيّة الاجتماعيّة.

والروايات ـ في أنّ البلايا والمحن والهموم وما يرد على المؤمن من الظلم

٣٢٤

مكفّرة للمعاصي والذنوب ، أو يبلغ بها منزلة وكرامة عند الله تعالى فوق حدّ التواتر ، وموافقة للقاعدة العقليّة كما يأتي.

وفي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما يصيب المؤمن من نصب ، ولا همّ ، ولا حزن ، ولا غمّ حقّ الشوكة يشاكها إلّا كفّر الله تعالى من خطاياه».

أقول : لعلّ الوجه في ذلك أنّ تلك الحالات للمؤمن أقرب للانقطاع إليه جلّت عظمته ، فيكافئه الربّ الرحيم إمّا بغفران الذنوب ، أو ببلوغ منزلة.

وعن البيهقي في الأسماء والصفات بسنده عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إذا سبقت للعبد منزلة لم يبلغها بعمله ، ابتلاه الله في جسده أو في ماله ، أو في ولده ، ثمّ صبّره حتّى يبلغه المنزلة الّتي سبقت له من الله».

أقول : يستفاد منه أنّ البلوغ إلى المنزلة لا بدّ وأن يكون بالسعي ، سواء كان اختيارا أو غير اختياري ، كالمحن والبلايا ، بل لا يستحقّ منزلة منه تعالى إلّا بذلك ، ففي الأثر : «مرّ موسى عليه‌السلام على رجل في معبد له ثمّ مرّ به بعد ذلك وقد مزقت السباع لحمه ، فرأس ملقى ، وفخذ ملقى ، فقال موسى : يا ربّ عبدك كان يطيعك فابتليته بهذا؟ فأوحى الله تعالى إليه : يا موسى إنّه سألني درجة لم يبلغها بعمله فابتليته بهذا لأبلغه بتلك الدرجة» ، فتكون جميع هذه الروايات مطابقة للقاعدة من أن العبد لو لم يفتن في هذه الدنيا ـ أو في عالم البرزخ على ما تقدّم ـ ولم يبتل بالبلايا والمحن حتّى يتحقّق السعي ، لم يبلغ تلك الدرجة الكاملة في الإيمان ولم يصل إلى تلك المقامات العالية ، وهذه القاعدة في الأنبياء والأولياء أشدّ من غيرهم ؛ لأنّ معرفتهم أكثر من غيرهم ، وقد سئل نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : أي الناس أشدّ بلاء؟ قال : النبيّون ثمّ الأمثل فالأمثل من الناس ، فما يزال العبد بالبلاء حتّى يلقى الله وما عليه من خطيئة».

٣٢٥

وعن البيهقي عن عامر أخي الخضر قال : «إنّي لبأرض محارب إذا رايات وألوية فقلت : ما هذا؟ قالوا : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فجلست إليه وهو في ظلّ شجرة قد بسط له كساء وحوله أصحابه ، فذكروا الأسقام فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ العبد المؤمن إذا أصابه سقم ثمّ عافاه الله ، كان كفّارة لما مضى من ذنوبه وموعظة له فيما يستقبل من عمره ، وإنّ المنافق إذا مرض وعوفي كان كالبعير عقله أهله ثمّ أطلقوه ، لا يدري فيم عقلوه ولا فيم أطلقوه؟! فقال رجل : يا رسول الله ما الأسقام؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : أو ما سقمت قط؟! قال : لا ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : فقم عنّا فلست منّا».

أقول : يستفاد من هذا الحديث أمور : الأوّل : أنّ التكفير يختصّ بالمؤمن ، وأنّه امر وضعي.

الثاني : أنّ المؤمن لا بدّ وأن يصيب من البلايا والمحن ، فإذا لم يصبه شيء منهما ولو كان قليلا لم يكن إيمانه كاملا.

الثالث : أنّ الحطّة أو التطهير يكونان بعد مقام التسليم والرضا له تعالى ، فلو صدر منه شكوى إلى الناس تنافي ذلك المقام ، يكون التكفير منوطا بالشفاعة وغيرها.

الرابع : أنّ الحطّة أو التكفير إنّما يكون بعد أداء حقوق الناس ؛ للروايات الدالّة على ذلك كما مرّ.

وفي الحديث عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «انّ الجنّة محظور عليها بالدآليل» ، أي : الدواهي والمكاره.

أقول : لا فرق في ذلك بين أن يكون في هذه الدنيا أو في عالم البرزخ ، وأنّها من أي الأنواع كانت كما مرّ.

وعن البيهقي في سننه عن طريق بشير بن عبد الله بن أبي أيوب الأنصاري عن أبيه عن جدّه ، قال : «عاد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رجلا من الأنصار فأكبّ الأنصاري عليه فسأله فقال : يا نبي الله ، ما غمضت منذ سبع ليال ولا أحد يحضرني ، فقال

٣٢٦

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أي أخي اصبر ، أي أخي اصبر تخرج من ذنوبك كما دخلت فيها ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ساعات الأمراض (او البلايا) يذهبن ساعات الخطايا».

أقول : يستفاد منه أنّ التكفير أمر وضعي وإن كان مشروطا بشروط ، كما تقدّم في المباحث السابقة.

وفي تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى : (وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) قال : «هي الحنيفيّة العشرة الّتي جاء بها إبراهيم عليه‌السلام الّتي لم تنسخ إلى يوم القيامة».

أقول : إنّ العشرة الحنيفيّة قد فسّرت في بعض الروايات : «إنّ الحنيفيّة هي الإسلام» ، وإنّها مذكورة في الفقه ، ويشمل غيرها من الأحكام بطريق أولى ، وهي خمس في الرأس وخمس في البدن ، فأمّا الّتي في الرأس ، فأخذ الشارب ، وإعفاء اللحي ، وطم الشعر (أي جزه) ، والسواك ، والخلال. وأمّا الّتي في البدن فحلق الشعر من البدن ، والختان ، وقلم الأظفار ، والغسل من الجنابة ، والطهور بالماء ، وهذه الحنيفيّة الظاهرة. وأمّا أنّها لم تنسخ لكونها هي الفطرة غير القابلة للنسخ وتقدّم في قوله تعالى : (بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) [سورة البقرة ، الآية : ١٣٥] ، ما يتعلّق بالمقام.

وعن ابن بابويه في العيون بإسناده عن الحسين بن خالد عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال : «سمعت أبي يحدّث عن أبيه عليه‌السلام قال : إنّما اتّخذ الله خليلا ؛ لأنّه لم يرد أحدا ولم يسأل أحدا قط غير الله عزوجل».

أقول : وقريب منه ما عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله وتقدّم أنّ الخلّة من الخلال ، فإنّه ود تتخلل في النفس وتخالطها ولم يكن معه غيره ، وإلّا خرج عن الخليليّة والودّية.

والروايات الواردة في سبب اتّخاذ إبراهيم خليلا كثيرة ، وهي مختلفة كما سيأتي ، ويمكن رفع الاختلاف بأنّ إبراهيم عليه‌السلام إنّما صار خليلا لتخلّقه بأخلاق الله تعالى واتّصافه بسمو نعوته والانقطاع إليه ، ولم يتّصف بصفة منها دون الاخرى ، فالروايات كلّها على اختلافها صحيحة من باب ذكر بعض الصفات ، ولا يعقل أن ينقص من إبراهيم عليه‌السلام الّذي هو من مظاهر رحمته وإنّه الوفي شيئا من المكارم وسمو

٣٢٧

الصفات ، ويمكن استفادة ذلك من قوله تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً) [سورة النحل ، الآية : ١٢٠] ، أي : قائما مقام الأمّة في ذروة الصفات الحسنة وأسماها.

وقد تجلّت هذه الخلّة والمحبّة والمقام المحمود لنبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فنال شرف الوصول إلى قرب الذات وتكرّم بوسام الفخر بالتفوّق والشرف على جميع الأنبياء كما مرّ.

وفي العيون بسنده عن ابن أبي عمير عن الصادق عليه‌السلام قلت له : لم اتّخذ الله عزوجل إبراهيم خليلا؟ قال : لكثرة سجوده على الأرض».

أقول : هذه الرواية تدلّ على أنّ السبب في اتّخاذه تعالى خليلا هو الانقطاع إليه عزّ اسمه بالعبادة ، فإنّ السجود على الأرض من أجل العبادات وأسماها ، وفي بعض الروايات لكثرة صلاته على محمد وأهل بيته ، فهي أيضا منها. وفي حديث جابر بن عبد الله الأنصاري عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ما اتّخذ الله إبراهيم خليلا إلّا لإطعام الطعام والصلاة بالليل والناس نيام» ، فإنّ إطعام الطعام من مظاهر صفاته تعالى ، أي : الجود.

وفي الدرّ المنثور عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن جبرئيل عليه‌السلام أنّه هبط على إبراهيم عليه‌السلام وقال : «أيّها الخليل هل تدري بم استوجبت الخلّة؟ فقال : لا أدري يا جبرئيل ، قال : لأنّك تعطي ولا تأخذ».

أقول : وفي بعض الروايات : «لأنّك ترزأ ولا ترزأ» ، أي : تعطي للناس ولا تأخذ منهم شيئا ، وهذا من مظاهر الربوبيّة ومنتهى الانقطاع منه عليه‌السلام إليه تعالى.

وفي تفسير العياشي عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام : «لما اتّخذ الله عزوجل إبراهيم خليلا أتاه بشراه بالخلّة ، فجاء ملك الموت في صورة شاب أبيض عليه ثوبان أبيضان يقطر رأسه ماء أو دهنا ، فدخل إبراهيم عليه‌السلام الدار فاستقبله خارجا من الدار ، وكان إبراهيم رجلا غيورا وكان إذا خرج في حاجة أغلق بابه وأخذ مفتاحه معه ثمّ رجع ففتح ، فإذا هو برجل قائم أحسن ما يكون الرجال فأخذ

٣٢٨

بيده وقال : يا عبد الله من أدخلك داري ، فقال ربّها أدخلنيها ، فقال : ربّها أحقّ بها مني فمن أنت؟ فقال : أنا ملك الموت ، ففزع إبراهيم عليه‌السلام وقال : جئتني لتسلبني روحي ، قال : لا ، ولكن اتّخذ الله عبدا خليلا فجئت لبشارته ، قال : فمن هو لعلي أخدمه حتّى أموت ، قال : أنت ، فدخل على سارة فقال : إنّ الله تعالى اتّخذني خليلا».

أقول : لعلّ السرّ في أنّ البشرى بالخلّة كانت بتوسّط ملك الموت ؛ لأنّ الوصول بمقام الخلّة لا يكون إلّا بإماتة القوى الحيوانيّة موتا اختياريا ، فكان صورة فعل إبراهيم عليه‌السلام تجسّد له بصورة ملك الموت ، والرواية مروية عن طريق العامّة أيضا باختلاف يسير كما في الدرّ المنثور.

وفي الكافي عن الصادق عليه‌السلام : «انّ إبراهيم كان أبا أضياف ، وكان إذا لم يكونوا عنده يخرج يطلبهم وأغلق بابه وأخذ المفاتيح يطلب الأضياف ، وأنّه رجع إلى داره فإذا هو برجل أو شبه رجل في الدار ، فقال : يا عبد الله بإذن من دخلت هذه الدار؟ فقال : دخلتها بإذن ربّها ، يرد ذلك ثلاث مرات ، فعرف إبراهيم عليه‌السلام أنّه جبرئيل ، فحمد ربّه ثمّ قال : ارسلني ربّك إلى عبد من عبيده يتّخذه خليلا ، قال إبراهيم : فأعلمني من هو أخدمه حتّى أموت ، قال : أنت ، قال : وبم؟ قال : لأنّك لم تسأل أحدا شيئا قط ، ولم تسأل شيئا قط فقلت لا».

أقول : لا منافاة بين هذه الرواية وسابقتها من حيث أنّ المبشّر في هذه الرواية هو جبرئيل ، وفي الاولى ملك الموت ؛ لما تقدّم أنّ المراد من ملك هو صورة فعل إبراهيم. كما لا منافاة بين ما في هذه الرواية في الدار ، وفي الرواية الأولى : «خارجا من الدار» ، لما فيه من النكتة وهي الإشارة إلى فراغ إبراهيم عليه‌السلام من تكميل ذاته بالموت الاختياري.

ويمكن الجمع بين الروايتين بحسب الصناعة الظاهريّة بتعدّد الملك ، فملك الموت بشّره خارج الدار ، وجبرئيل في داخل الدار.

٣٢٩

وفي تفسير العياشي عن ابن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إذا سافر أحدكم فليأت أهله ممّا تيسّر ولو بحجر ، فإنّ إبراهيم عليه‌السلام كان إذا ضاق أتى قومه ، وانّه ضاق ضيقة فأتى قومه فوافق منهم أزمة ، فرجع كما ذهب فلما قرب من منزله نزل عن حماره فملأ خرجه رملا ؛ إرادة أن يسكن به من روح سارة ، فلما دخل منزله حطّ الخرج عن الحمار وافتتح الصلاة ، فجاءت سارة ففتحت الخرج فوجدته مملوء دقيقا ، فاعتجنت منه واختبزت ثمّ قالت لإبراهيم : انفتل من صلاتك فكل ، فقال لها : أنى لك هذا؟! قالت : من الدقيق الذي في الخرج ، فرفع رأسه إلى السماء فقال : اشهد أنّك الخليل».

أقول : الروايات وإن اختلفت تعابيرها وأنّها وردت من الفريقين إلّا أنّ مضامينها من حيث المعجزة وخرق العادة متّحدة ، ويستفاد منها أنّ المحبّة منه عليه‌السلام له تعالى كانت خالصة ـ كما فسّر الخلّة بها ـ وأنّه تعالى نصره ولم يخذله فيكون ذلك من مظاهر النصرة.

وفي بعض الروايات : «انّ الملائكة قال بعضهم لبعض : اتّخذ ربّنا من نطفة خليلا ، وقد أعطاه ملكا عظيما جزيلا ، فأوحى الله تعالى إلى الملائكة اعمدوا على أزهدكم ورئيسكم ، فوقع الاتّفاق على جبرئيل وميكائيل فنزلا إلى إبراهيم في يوم جمع غنمه ، وكان لإبراهيم أربعة آلاف راع وأربعة آلاف كلب ، في عنق كلّ كلب طوق وزن من ذهب أحمر وأربعون ألف غنمة حلابة ، وما شاء الله من الخيل والجمال ، فوقف المكان في طرفي الجمع فقال أحدهما بلذاذة صوت : (سبوح قدوس) ، فجاوبه الثاني : (ربّ الملائكة والروح) ، فقال عليه‌السلام : عيداها ولكما ما لي وجسدي ، فنادت ملائكة السموات : هذا هو الكرم ، فسمعوا مناديا من العرش يقول : الخليل موافق لخليله».

أقول : صوت لذاذة ، أي : ما تهيج بها النفس وتستلذّ ، ويستفاد منها

٣٣٠

الانقطاع الكامل منه عليه‌السلام إليه تعالى والاستغناء عن ما سواه ؛ ولذا وافق خلّته معه كما مرّ.

وفي الاحتجاج للطبرسي عن أبي محمد العسكري عليه‌السلام قال : «قال الصادق عليه‌السلام : لقد حدّثني أبي الباقر عن جدّي علي بن الحسين ، عن أبيه الحسين بن علي ، عن أمير المؤمنين (صلوات الله عليهم أجمعين) ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وقد قال رجل من النصارى : يا محمد ، أو لستم تقولون : إنّ إبراهيم خليل الله ، فإذا قلتم ذلك فلم منعتمونا من أن نقول : عيسى ابن الله؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّهما لن يشتبها ؛ لأنّ قولنا : إنّ إبراهيم خليل الله ، فإنّما هو مشتقّ من الخلّة ، والخلّة فإنّما معناها الفقر والفاقة ، فقد كان خليلا والى ربّه فقيرا وإليه منقطعا ومن غيره متعففا معرضا مستغنيا ؛ وذلك لما أريد قذفه في النار فرمى به في المنجنيق ، فبعث الله إليه جبرئيل فقال له : أدرك عبدي ، فجاءه فلقيه في الهواء ، فقال له : كلفني ما بدا لك فقد بعثني الله لنصرتك ، فقال : بل حسبي الله ونعم الوكيل ، إنّي لا أسأل غيره لا حاجة لي إلّا إليه ، فسمّاه خليله ، أي : فقيره ومحتاجه والمنقطع إليه عمّن سواه ، وإذا جعل معنى ذلك من الخلّة ، فهو أنّه قد تخلّل معانيه ووقف على أسراره ولم يقف عليها غيره ، كان معناه العالم به وبأموره ، فلا يوجب ذلك تشبيه الله بخلقه ، إلّا ترون أنّه إذا لم ينقطع إليه لم يكن خليله ، وإذا لم يعلمه أسراره لم يكن خليله ، وأنّ من يلده الرجل وإن أهانه وأقصاه لم يخرج عن أن يكون ولده ؛ لأنّ معنى الولادة قائم».

أقول : معنى الرواية أنّ الأبنية تلازم الجنسيّة ، وهي محال بالنسبة إليه تعالى بخلاف الخلّة ، على ما ثبت في محلّه ، وسيأتي في البحث العرفاني ما يتعلّق بالمقام.

بحث عرفاني :

العطايا الإلهيّة والفيوضات الصادرة من المبدأ جلّ شأنه لعالم الإمكان ليست قابلة للتحديد ؛ لأنّها مفاضة من المبدأ الّذي لا يمكن تحديده ـ لا ذاتا ولا

٣٣١

صفة ـ وإنّما التحديد في المتعلّق ، وهو الاستعداد أو القابلية ، كما تقدّم ذلك في المباحث السابقة.

ومن تلك الفيوضات المعارف بجميع أنواعها ، والهداية بتمام أقسامها ـ كالهداية من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان ، ومن ظلمة الغفلة إلى نور اليقظة ، ومن ظلمة الحسّ إلى نور المعنى ، ومن ظلمة الكون إلى نور المكوّن.

والإنسان الّذي هو أشرف مخلوقات الله تعالى له شرفيّة النيل لهذه الفيوضات والعطايا والهبات أكثر من غيره ، ولو اتّصف بالإيمان فله أسماها وأجلّها وإن كان إيمانه منبثقا عن الفطرة الكائنة فيه ، قال تعالى : (فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) [سورة البقرة ، الآية : ٢١٣] ، وقال تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) [سورة الأعراف ، الآية : ٩٦] ، وقال تعالى : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) [سورة الطلاق ، الآية : ٢ ـ ٣] ، وتقدّم مكرّرا أنّ التقوى لها مراتب ، منها الإيمان بالله العظيم ، وأنّ الرزق أعمّ من المادّي والمعنوي الشامل للمعارف والإشراقات والمكاشفات ، الّتي هي أنوار التوجّه وأنوار المواجهة ، وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) [سورة الأنفال ، الآية : ٢٩] ، والفرقان الّذي هو تنوير القلب والإشراق عليه من الغيب للتمييز بين الحقّ والباطل ، يتوقّف على القابلية والاستعداد ، وهو الإيمان بالله تعالى الملازم للتقوى ، وله مبرز خارجي وهو العمل الصالح ، وقال تعالى : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً) [سورة النور ، الآية : ٢١] ، أي : ولو لا فضل الله عليكم لما نمت نفس بالخيرات والبركات ، بل أنّها ترسّبت وبقيت في حال السكون والنزول إلى الهاوية.

بل أنّ شراء الحقّ سبحانه وتعالى من المؤمنين أموالهم وأنفسهم بأنّ لهم الجنّة ، كان بالعاجل لا بالآجل ، فإنّه عزّ اسمه جلّ أن يعامل العبد نقدا ويجازيه

٣٣٢

نسيئة ، وليس ذلك من شأن الكريم فكيف بأكرم الأكرمين ، فإنّ المولى الغني جلّت عظمته لو اشترى شيئا من أحد نجزه نقدا وزاد في إحسانه ورفده ، قال تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) [سورة التوبة ، الآية : ١١١] ، فعوّض المؤمنين في هذه الدنيا جنّة المعارف بأقسامها وزادهم جنّة الزخارف وادّخر لهم ما يليق بشأنهم ويمنحهم لهم في دار الآخرة.

والجنّات الممنوحة في هذه الدنيا لمن تمّ عنده رسم العبوديّة ولو بأدنى مرتبتها وحسب لياقتها ، في غاية البهجة وكمال اللذّة ومنتهى السعادة وأسماها ما يلي :

منها : جنّة المعرفة ، وهي من أعلى مراتب الجنان وأكملها ، قال بعض العرفاء المتألّهين : «في الدنيا جنّة من دخلها لم يشتق إلى جنّة الآخرة ولا إلى شيء ، ولم يستوحش أبدا. قيل : وما هي؟ قال : معرفة الله» ، ولها مراتب ودرجات تشرق بمقتضى اللياقة والاستعداد ، وبها تتمّ كلّ نقصان.

وكلّ قبيح إن نسبت لحسنه

اتتك معاني الحسن فيه تسارع

يكمل نقصان القبيح جماله

فما تم نقصان ولا ثم باشع

ومنها جنّة المقامات الّتي نالها الأنبياء والأولياء في هذه الدنيا ، كمقام الحبيبيّة الّذي اختصّ به نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو فائق على جميع المقامات والجنّات ، ويحصل هذا المقام باصطفاء النفس وجعلها تحت اختيار المحبوب ، بحيث لو لم يكن المحبوب لم يتحقّق الاصطفاء ولم يتشرّف بمقام الحبيبيّة ، ويصل إلى منزلة : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) [سورة الأنفال ، الآية : ١٧] ، وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) [سورة الفتح ، الآية : ١٠] ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أبيت عند ربّي فيطعمني ربّي ويسقيني».

وذكر بعضهم أنّ مقام الخلّة الّتي نالها إبراهيم عليه‌السلام يساوي مقام الحبيبيّة من جميع الجوانب ، ولكن التأمل التامّ وسياق الآيات المباركة يدلّ على أنّ مقام

٣٣٣

الاصطفاء والحبيبيّة فائق على مقام الخلّة بمراتب كثيرة ؛ لأنّ مقام الحبيبيّة بعد مقام الاصطفاء وجعل النفس تحت اختيار المحبوب بالمرّة ـ كما مرّ ـ ومقام الخلّة لم يصل إلى هذه الدرجة ن فمقام الاصطفاء يشمل مقام الخلّة وزيادة ن بخلاف العكس فلخاتم الأنبياء ـ الّذي له مقام الحبيبيّة ـ منزلة عظيمة لم يصل لها أحد من الأنبياء.

ومنها : مقام الخلّة الّتي اختصّت بإبراهيم عليه‌السلام من بين سائر أنبياء الله تعالى ، وهي منزلة عظمى لا ينالها أحد إلّا بعد طي مراحل كثيرة منها مرحلة العبوديّة ، والتسليم ، والخلوص ، وفناء النفس فيه عزوجل ـ وفي بعض الروايات كان جنّة إبراهيم عليه‌السلام في هذه الدنيا هي النار بعد السلام ـ. وقد اجتاز إبراهيم عليه‌السلام هذه المراحل بأحسن وجه حتّى نال جنّة الخلّة أيضا في هذه الدنيا ، وخصّه الله تعالى بها دون غيره من الأنبياء عليهم‌السلام ، فعرف بأنّه خليل الرحمن ، قال تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَ) [سورة البقرة ، الآية : ١٢٣].

وبعد الإحاطة بما ذكرناه لا نحتاج إلى صرف لفظ الخليل عن ظاهره ، لما ذكروه من أنّه تعالى منزّه عن المعنى الحقيقي ، فإنّ الخلّة الحقيقيّة شيء لا يدركها إلّا العارف بالله تعالى ومن وصل إلى هذه المرتبة ، وسيأتي في الموضع المناسب بيان أنّ الصفات الّتي تطلق على المخلوقين إذا لم يستلزم من إطلاقها على الله محال ، تطلق عليه عزوجل لكن بالمرتبة الكاملة والمعنى الأتمّ ، كالخلّة والحبّ ونحوهما.

وكيف كان ، فقد ظهر فساد ما ذكره بعض النصارى في المقام ـ كما تقدّم في البحث الروائي ـ بأنّه إذا جاز إطلاق الخليل على إنسان تشريفا ، فلم لم يجز إطلاق الابن على آخر كذلك. فإنّ إطلاق الخلّة على إنسان لم يكن تشريفا بل كان حقيقيّا ولا يستلزم منه محال ، بخلاف إطلاق الابن فإنّه يستلزم الجنسيّة والله تعالى منزّه عنها ؛ لما يترتّب عليها من الفساد فافهم.

ولمقام الخلّة آثار عظيمة ، منها : استجابه الدعاء ، فإنّه ليس معنى الخلّة

٣٣٤

الحقيقيّة إلّا استجابة دعاء الخليل من خليله ، وقد كانت دعوات خليل الرحمن الّتي ذكرها عزوجل في القرآن الكريم كلّها مستجابة.

ومنها : أنّ الخليل لا يرى لنفسه شيئا في مقابل مخلوقات الله تعالى وعباده ، بل يجعل نفسه مظهرا يرى فيها سائر مخلوقات الله تعالى ؛ ولذا ترى أنّ إبراهيم خليل الرحمن عليه‌السلام لا يدعو في دعواته الكريمة إلّا لأهل الإيمان مطلقا ، كما حكاها عزوجل في كتابه العزيز ، قال تعالى : محكيا عنه : (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) [سورة إبراهيم ، الآية : ٤١].

ومنها : ما جعله الله أبا الأنبياء لما له عليه‌السلام عند الله تعالى شأن عظيم وجاه رفيع.

ومنها : أمر الناس باتّباع ملّته عليه‌السلام ، كما تقدّم في سورة البقرة.

ومن الجنّات الممنوحة للمؤمنين في هذه الدنيا جنّة المؤانسة بأقسامها ـ مؤانسة ذكر ، ومؤانسة قرب ، ومؤانسة شهود ـ وتحصل هذه الجنّة بالتوجّه إليه بالإخلاص والذكر بتمام أقسامها ، كما مرّ في أحد مباحثنا العرفانيّة ، قال تعالى : (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [سورة الرعد ، الآية : ٢٨] ، ولها مراتب ومنازل.

ومنها : جنّة الخشوع ، ولا تحصل هذه الجنّة إلّا من استكمل عنده نعمة الهيبة والمعرفة وفاز بجنّة اللقا ، قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً* وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً* وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) [سورة الإسراء ، الآية : ١٠٧ ـ ١٠٩] ، ولها مراتب ، فمنها الخضوع والخشية وغيرها.

ومنها : لذّة المناجاة والتملّق عند بابه ، فهي من الجنّات الّتي أظهرها الله تعالى في هذه الدنيا ولا يعرفها إلّا أهلها من الأولياء والصالحين.

ومنها : جنّة الرغبة والرهبة ـ كما تقدّم البحث عنهما ـ إلى غير ذلك من الصفات الحسنة الّتي توجب رقي النفس وراحتها وتصل إلى مرتبة يستوحش

٣٣٥

صاحبها من الدنيا وأهلها ويأنس بالله تعالى وبأوليائه ، كما حصل لهمام عند خطبة الإمام علي عليه‌السلام ؛ ولعلّ قوله تعالى : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) [سورة النساء ، الآية : ١٢٤] الأعم من الجنّة في الآخرة والجنّة في الدنيا من الصفات الحسنة والحالات الصالحة الّتي تختصّ بالأبرار وتكون مشابهة لحالات المؤمن في جنّة الآخرة ، قال تعالى : (وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) [سورة البقرة ، الآية : ٢٥] ، وللبحث مجال واسع ، نسأل الله تعالى أن يوفقنا له بعد رفع هذه المصائب الّتي حلّت بهذه الأمّة بحقّ محمد وآله الطاهرين.

بحث فلسفي :

تكرّرت الآية الشريفة : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) في عدّة مواضع من القرآن الكريم ، وهي تشير إلى برهان قويم ، وهو : «انّ وحدة الفعل تدلّ على وحدة الفاعل» ؛ لأنّ كلّ ما برز في الوجود إنّما هو شأن من شؤونه عزوجل ، وهو الّذي يحيط بها الإحاطة التامّة ـ الوجوديّة والعلميّة والربوبيّة والقهّاريّة ـ ويستكشف من وحدة الفعل وحدة الفاعل والخالق ، وهذا من أحد الأدلّة الّتي استدلّ بها أكابر الفلاسفة على ثبوت الخالق ووحدته ، وقد اعتمد عليه بعض الفلاسفة المحدّثين. ولعلّ التأكيد عليها في القرآن الكريم لأنّ مضمونها يوافق الفطرة المستقيمة ، والقرآن الكريم يرجع الإنسان إلى فطرته ويذكّره منسيّها ، فإنّ وحدة الفعل من حيث النظام والترتيب والأثر والغاية ، لدليل على ثبوت الخالق ووحدته وعلمه الأتمّ ، وقد ذكرنا في أحد مباحثنا السابقة أنّ الأسلوب القرآني في ثبوت الخالق وصفاته العليا ، هو إرجاع الناس إلى الفطرة من جهة أمرهم بالتفكّر في خلقهم وخلق السموات والأرض وما يحيط بهم من الحوادث الكونيّة ، وهذا ما أكّد عليه القرآن الكريم في مواضع كثيرة.

٣٣٦

ثمّ إنّ هذا البرهان ، أي : وحدة الفعل الدالّة على وحدة الفاعل واستجماعه للصفات العليا ، لا ينافي القاعدة المعروفة في الفلسفة : «انّ الواحد لا يصدر منه إلّا الواحد» ، و «انّ الواحد لا يصدر إلّا من الواحد» ، فانّهما لا تنافيان البرهان القويم ؛ لأنّه أيضا يدلّ على وحدة الفعل وإن كان متعدّدا من حيث الأفراد ؛ لأنّها تشترك في وحدة النظام والأثر والغاية ، كما لا ينافي القاعدة الأخرى : «الواحد لا يصدر إلّا من واحد» ، مضافا إلى أنّ القاعدتين المزبورتين إنّما هما في المفارقات والمجرّدات ، والبرهان يجري في ما برز في الوجود من آثاره عزوجل.

وبعبارة أخرى : إذا لا حظنا المجموع من حيث اجتماعهما في وحدة جامعة ، فالبرهان يؤيّد القاعدتين ، وإن لا حظنا الأفراد من حيث كونها مظاهر عظمته وربوبيّته ، فهي تدلّ على وحدة الفاعل أيضا.

والقاعدة ذات مدلولين ، مدلول مطابقي هو ما ذكرناه وما ذكره الفلاسفة في مفادها ، ومدلولها الالتزامي ، وهو أنّ وحدة الفعل تدلّ على وحدة الفاعل ، فاشتركت القاعدة مع البرهان ، فيمكن أن تجعل الآيات الشريفة المتقدّمة دليلا على القاعدتين المزبورتين أيضا.

٣٣٧

(وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (١٢٧) وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٢٨) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٢٩) وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللهُ واسِعاً حَكِيماً (١٣٠) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيداً (١٣١) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (١٣٢) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (١٣٣) مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً (١٣٤))

ذكر سبحانه وتعالى في الآيات الشريفة السابقة من التعاليم والأحكام والتوجيهات ما يوصل الإنسان إلى السعادة ، وذكر من اصول الدين ومن الحكمة ما يجعله حكيما مؤهّلا للوصول إلى المقامات العالية والدرجات الرفيعة.

٣٣٨

وفي هذه الآيات المباركة يذكر عزوجل من الأحكام العمليّة لتنبيه الناس الى أنّ الكمال والسعادة لا يمكن الوصول إليهما إلّا بتطبيق الأحكام العمليّة والتعاليم الإلهيّة فإنّ حقيقة الدين عند الله تعالى هي الإيمان والعمل الصالح ، بل أنّ في إسلام الوجه لله تعالى هو التسليم بما جاء في القرآن الكريم كما عرفت آنفا.

وقد ذكر في هذه الآيات الكريمة موضوعا من الموضوعات الرئيسيّة في هذه السورة ، أي : موضوع النساء وعلاقات الزوجيّة والأسرة وبعض ما يتعلّق بشأن اليتامى بعد أن كانوا والمرأة من الضعيفين اللذين هضم المجتمع حقوقهما ، فأمر عزوجل المؤمنين بوجوب مراعاة حقوقهما وحفظها. وقد ذكر سبحانه وتعالى جملة من حقوقهما في أوائل هذه السورة من الإرث ، والمهر ، والتصرّف في أموال اليتيم ، وبعض أحكام الزوجيّة ، وفي المقام وجوب العدل بين النساء إن اقتضت الضرورة بتزويج أكثر من واحدة منهن ، وأمر عزوجل بالقسط بينهن وحفظ أموال اليتامى وأمر بتوريثهن.

ثمّ ذكر جلّ شأنه بعض أحكام الاختلاف بين الزوجين ، وبيّن بعض الأمور الدقيقة الّتي تمسّ الحياة الزوجيّة ، واعتبر تعالى أنّ التقوى هي الضمان لحفظها ، والعدل والإحسان هما الأساس لتلك العلاقة الّتي هي من أهمّ العلاقات عند الإنسان وعليها تبتني سعادته في الدارين ، ويأمر تعالى بالتقوى مكرّرا ؛ لأنّها الركيزة العظمى في الشرائع الإلهيّة ، ولا سيما شريعة الإسلام ؛ ولأنّها الضمان لتلك الأحكام ، ويشدّد عليها بالتهديد على من يعرض عنها وبوصفه بالكفر ، ويهددهم بالقدرة على إذهابهم وإتيان آخرين فيتّقون ويعملون.

ثمّ يبيّن عزوجل السبب في إعراض الناس عن التقوى ، وهو حبّ الدنيا والرغبة في متاعها. ويعالج سبحانه وتعالى أخيرا الموقف بأنّ الخير إنّما يكون في ثواب الله تعالى الّذي يمنحه لمن أطاعه واتّقاه في الدنيا والآخرة ، وبذلك يرشد الناس إلى أنّ التقوى هي الّتي تضمن ثواب الدنيا والآخرة ، وأنّ الله تعالى هو الرقيب لهم يسمع أقوالهم ويرى أفعالهم فيجازيهم عليها.

٣٣٩

والآيات الكريمة تشتمل على أسلوب تربوي دقيق ، لها وقع خاص في النفوس المستعدة وتتخلّلها من الحكم والمواعظ والإرشادات والتوجيهات ممّا زاد في رصانتها وقوّتها وشدّة تأثيرها.

التفسير

قوله تعالى : (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ).

الاستفتاء : طلب الفتيا ، وهي الجواب عمّا يشكل من الأحكام وما دقّ من الأمور ، وقد استعمل في كلّ تبيين للحكم ، يقال : استفتيته فأفتاني ولا يختصّ بما يراه الإنسان باجتهاد منه كما هو المتداول في هذه الأعصار ، بل يعمّ ما إذا كان حاصلا من الوحي والإلهام ، أو ما يتحقّق بالتشريع والأمر ، كما يظهر من نسبة الفتوى إلى الله تعالى في المقام.

ومن حذف المتعلّق في الآية الشريفة وعدم ذكر أمر خاص من أمور النساء يتبيّن أنّ الاستفتاء إنّما كان في كلّ ما أحدثه الإسلام ممّا لم يكن معهودا قبله ، ولا يختصّ بالحقوق الماليّة كالإرث والمهر ونحوهما ، كما ذكره جمع من المفسّرين ؛ لقوله تعالى : (وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ) ، فإنّ ذكر شأن خاصّ من شؤونهم أو ما يتعلّق بطائفة خاصّة منهن كاليتامى ، لا يوجب تقييد العموم ، لا سيما بعد أن كان ما أبدعه الإسلام أو ما شرّعه في النساء غريبا عليهم ، لما اعتادوا عليه فيهن من استضعافهن وحرمانهن من كثير من الحقوق الاجتماعيّة والماليّة ، فكان التعميم مناسبا ، ويدلّ على ذلك أيضا ذكر أحكام النشوز والخلاف بين الزوجين وطرق الإصلاح بينهما ، فتكون الآية الشريفة ناظرة إلى جميع ما بيّنه عزوجل في أمر النساء في أوّل هذه السورة وآخرها وفي المقام.

٣٤٠