مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٩

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٩

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٣
ISBN: 964-5665-08-6
الصفحات: ٣٩٦

اليتيم ، والسعيد من وعظ بغيره ، والشقي من شقي في بطن أمّه ، وإنّما يصير أحدكم الى موضع أربع أذرع ، والآمر بآخره ، وملاك العمل خواتمه ، وشرّ الروايا روايا الكذب ، وكلّ ما هو آت قريب ، وسباب المؤمن فسوق ، وقتال المؤمن كفر ، وأكل لحمه من معصية الله ، وحرمة ماله كحرمة دمه ، ومن يتأوّل على الله يكذّبه ، ومن يغفر يغفر له ، ومن يغضب يغضب الله عنه ، ومن يكظم الغيظ يأجره الله به ، ومن يصبر على الرزية يعوّضه الله ، ومن يتبع السمعة يسمع الله به ، ومن يصبر يضعف الله له ، ومن يعص الله يعذبه الله. اللهم اغفر لي ولأمّتي ـ قالها ثلاثا ـ استغفر الله لي ولكم».

أقول : أمّا بالنسبة إلى صلاة الفجر وإكلائه على بلال ، فإنّه لا ينافي العصمة ؛ لأنّ ذلك لمصلحة يراها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كالتشريع العملي وغيره. وأمّا بالنسبة بخطبته صلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّها من جوامع الكلم الّتي خصّ الله به نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإنّها تنبع عن لسان الوحي ، وإنّها جامعة لخير الدنيا والآخرة ، وبها تحصل السعادة وشرف العبوديّة ، وتحتاج هذه الخطبة الشريفة إلى تفصيل يخرج عن موضوع الكتاب.

بحث عقائدي :

المستفاد من الآيات المباركة ـ ومنها هذه الآية الشريفة ـ أنّ عبادة غير الله تعالى ضلال وخسران وتوجب الهلاك والدمار في الدنيا والآخرة ، والأدلّة العقليّة تثبت ذلك أيضا ، وأنّ الفطرة المستقيمة تدلّ على أنّ العبادة لا تليق بما سواه جلّ شأنه ؛ لأنّ العبادة هي منتهى التذلّل ، ولا يستحقّها إلّا من له غاية الأفضال.

والعبادة تارة : تسخيريّة ، أي : تكوينيّة ، وهي عامّة تلازم الخلق وعالم الإمكان ، قال تعالى : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) [سورة النحل ، الآية : ٤٩] ، وقوله تعالى : (يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً

٣٠١

لِلَّهِ) [سورة النحل ، الآية : ٤٨] ، وقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) [سورة الحج ، الآية : ١٨] ، ولا يترتّب على هذا القسم سوى الكمال الذاتي النفسي.

وأخرى : اختياريّة ، أي : لا جبر في البين ، قال تعالى : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) [سورة الإنسان ، الآية : ٣] ، ولا بدّ في هذا القسم من التقرير الشرعي ، ويترتّب عليها الكمالات المعنويّة ـ كالتقرّب إليه تعالى والوصول إلى أعلى المقامات ـ والآثار الوضعيّة.

ومنشأ العبادة الشعور بالافتقار بأي مرتبة كان الشعور ، كما ثبت في الفلسفة الإلهيّة ، فهو الدافع للعبودية له جلّ شأنه ؛ ولذلك لا بدّ في المعبود من الصفات المتفرّد بها ، ويكون هو في منتهى الكمال ، وذلك مختصّ بالله جلّت عظمته ، وغيره لا يستحق العبادة لافتقاره إليه جلّ شأنه ، وأنّ الفاقد للشيء لا يعطي الشيء أبدا ؛ ولذلك يكون اتّباعه غرورا ولا تكون عبادة حقيقيّة ، بل العبادة تختصّ به تعالى ؛ لافتقار الكلّ إليه واستغنائه عن الكلّ ، وأنّ الممكنات في جميع جهاتها محتاجة إليه تعالى ، وأنّ ما سواه فيء وظلال.

من لا وجود لذاته من ذاته

فوجوده لولاه عين محال

ولذلك يكون الشرك في المعبود محال عقلا ، كما أنّ الضدّ فيه تعالى كذلك ، وفي بعض الدعوات : «يا من لا ضدّ له» ؛ لأنّ ما سواه تعالى خلقه ويرجع إليه ، فلا يتصوّر الضدّية في ذلك ، لما ثبت في محلّه أنّه يشترط في الضدّين التساوي في الذات وفي الصفات ، وبعد فرض التفرّد في الذات والصفات تستحيل الضدّية ؛ لأنّه ليس كمثله شيء ، فاتّباع غيره تعالى مجرّد غرور ولا تكون عبادة حقيقة ، كما مرّ.

وإنّ العبادة لا تليق إلّا للغني بالذات ، بحيث لولاه لم يكن هذا الوجود ، ولو لا أسراره لتلاشت الكائنات ، ولولا نعوته وصفاته لاضمحلت البدائع ممّا سواه ، ولم تكن لعالم الشهادة عين ولا أثر.

٣٠٢

ويمكن أن يقال : إنّ هذه العقيدة لا تختصّ بالمسلمين فقط ، بل تعمّ جميع الأديان السماويّة غير المنحرفة لما عرفت أنّها فطري ، ولعلّ المراد من الآية المباركة : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) [سورة الشورى ، الآية : ١٣] ذلك. هذا كلّه بالنسبة إلى ذاته.

وأمّا كيفيّة العبادة ونهجها ، فلا بدّ وأن تكون بوحي منه تعالى بواسطة الأنبياء والمرسلين وتبلّغها الأولياء والصالحون ، فإنّهم سفراؤه تعالى لأجل بيان كيفيّة العبادة بتنوير الفطرة واستقامتها وتكبيت الأهواء الفاسدة والشهوات المضلّة ، فالأنبياء ليسوا هم إلّا وسائل للتقرّب إليه جلّ شأنه ومن مظاهر أسمائه ، والدالّين إليه تعالى ، بهم عرفنا الله تعالى ، وما اخترناه من نهج الهدى ، وهم المعاندون للشيطان ، ولو لاهم لاختلف النظم واختلّت كيفيّة العبادة وانطمست الفطرة ولم يتحقّق الكمال المنشود.

ولذلك يحكم العقل والفطرة باحترامهم وتوقيرهم باتباع سننهم ومنهجهم ، ولهم امتيازات خاصّة من الله تعالى في حياتهم وبعد ارتحالهم إلى الله تعالى ، حتّى موضع قبورهم لأنّها حوت أجساما كانت مورد عنايته عزوجل وتضمّنت نفوسا قدسيّة كانت مرتبطة بجلاله ، وأبدانا تقرّبت إلى وادي عزّه وقدسه ، وسرت حتّى وصلت إلى قاب قوسين أو أدنى وجعل له النار بردا وسلاما ، وأبصارا رفعت عنها الحجب حتّى رأت المشهود في الشاهد ، والشاهد في المشهود ، وأسماعا خرقت الستائر والموانع حتّى سمعت : «إنّي أنا الله» و «ادن من صاد فتوضأ» ، ووجوها رأت نور الحبيب وجماله وكبريائه ، فخرّت ساجدة مذعنة.

بل أنّ الأرض الّتي تضمّنت تلك الأبدان الطاهرة ، والمفاخر البشريّة ، ومظاهر التكبير والتهليل لها كرامة ومنزلة عند الله تعالى ، فلا بدّ أن تحترم كما

٣٠٣

تحترم أرض المسجد ، فإنّ ما ورد من الروايات في شأن تلك المحال القدسيّة المتضمّنة لأجسامهم الشريفة ، ممّا لا ينكره العقل أصلا بل يقرّره.

وأمّا زيارات تلك المواطن والأمكنة الّتي حوت تلك الأبدان الطاهرة ، فإنّها عبادة نتقرّب بزيارة أحبّ خلقه إليه ، وتلك لو تأمّلنا في الزيارات الواردة في حقّهم كلّها كانت مشحونة بذكر الله تعالى والتذكّر بكلماته ومعارفه والتبرء من الشيطان واتباعه ، وليست لزيارتهم موضوعيّة مقابل عبادة الله عزوجل ـ نستجير بالله تعالى ـ بل أنّها طريق يرشدنا إليه جلّ شأنه ، وأنّهم أحياء عند ربّهم يرزقون. وقد ثبت في محلّه أنّ الأرواح مطلقا لا تنقطع ارتباطها عن هذا العالم ، بل لها نحو علاقة خاصة (برزخية) بموضع البدن ، حتّى ورد في بعض الروايات أنّ أرواحهم تتطلّع وتعلم من زارهم وأنّهم يدعون له ، وبالنسبة إلى الأولياء والمقرّبين تكون العلاقة والارتباط أشدّ وأكثر خصوصية لزوارهم ، إذا كان الزائر من أهل الإيمان ومن الكمّل ، فيتحقّق نحو ارتباط بين الروحين إن حصلت الأهليّة ؛ ولذا أنّ أهل العرفان والمتوجّهين يرون ما لا يرون غيرهم.

نعم ، من كان بعيدا عن حريم ذاته الأقدس ، تكون علاقته وارتباط روحه بعد الحياة ضعيفا ؛ لأنّه مشغول بنفسه في عالم البرزخ ، فكلّ ما كانت الإضافة إلى الله تعالى أقرب والتفاني أشدّ كانت الآثار الوضعيّة أكثر حتّى بعد الممات ، وكلّ ما كانت الإضافة أبعد وأضعف كانت الآثار الوضعيّة أقلّ حتّى كادت تنعدم ؛ لأنّه قد يصل إلى مرحلة الجماد ، قال تعالى : (ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) ، وقال تعالى : (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً).

وما تقدّم يجري في الأولياء وعباد الله الصالحين الأبرار الّذين لهم عند الله مقام وشأن ، فيشمله العموم في قوله تعالى : (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) [سورة الحج ، الآية : ٣٢].

٣٠٤

بحث فقهي :

ذكرنا في التفسير أنّ الخلق في قوله تعالى : (فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ) أعمّ من الخلق الصوري (أي الطبيعي) ، أو الفطري الّذي هو الدين ، فالآية المباركة تدلّ على حرمة تغيير ما خلقه الله تعالى ممّا نصّ الشارع على حرمته كالتمثيل بالناس ، والخصاء في الإنسان ، وحلق اللحية في الرجل ، وغيرها ممّا هو محرّم شرعا.

وهل تشمل الآية المباركة ما لم يرد فيه من الشارع نصّ على تحريمه؟ كتغيير بعض الحيوانات الدائر في هذه الأعصار من الكبر إلى الصغر ، كما في الفيل والفرس ، وإجراء بعض العمليات التجميليّة في الإنسان إن لم يكن فيها دفع ضرر أو حفظ صحّة ، وغير ذلك من الأمور المستحدثة في هذه الأعصار وجهان؟.

مقتضى العمومات والإطلاقات غير القابلة للتقييد هو الحرمة ، فتشمل كلّ تغيير للحيوان وتبديله إلى حيوان آخر مثلا.

ومقتضى قوله تعالى : (خَلْقَ اللهِ) أنّ المناط في الحرمة هو المعارضة مع خلق الله سبحانه وتعالى بإيجاد خلق جديد ، فتقتصر الحرمة على ما كان كذلك ، أي : ما يعارض فيه خلق الله عزوجل ، فلا تشمل ما لم يكن كذلك في الإنسان كان أو في الحيوان أو في النبات.

هذا كلّه إن لم يحصل إيذاء أو إسراف ، وإلّا فالحكم واضح.

بحث عرفاني :

كما أنّ للتقرّب إلى الله تعالى والوصول إلى ساحة كبريائه مراتب كثيرة ـ شدّة وضعفا كمية وكيفيّة ـ كذلك للبعد بالنزول عن ساحة قدسه والقرب للشيطان ، وذكرنا أنّ لكلّ من الهداية والغواية أسبابا وعللا ، وإن كانت الفطرة

٣٠٥

المستقيمة تقتضي الهداية إلّا أنّ سبل الشيطان تعيقها وتحرفها عن التوجّه إلى خالقها ، المعبّر عنه بشرف العبوديّة.

وهذه الأسباب تؤثّر كثيرا في الإنسان على نحو يبعده عن الصراط المستقيم ، ولا تؤثّر فيه الحجج والبراهين وذلك باختياره ، فيصل إلى مرتبة أسفل السافلين بالمراحل المذكورة في الآيات المباركة.

وقد لا يكون كذلك ، وإنّما يكون للقلوب إقبال وإدبار ، وتملّ كما تملّ الأبدان ، وهذا حسب درجات الإيمان ، كما هو المشهود في المؤمنين ، وقد لا تؤثّر فيه أصلا كما في المعصومين من الأنبياء والأولياء وكمّل الإيمان من العرفاء ، وعن سيد العارفين وإمام الموحّدين عليّ عليه‌السلام مخاطبا الدنيا : «غرّي غيري» عند ما تمثّلت عنده ، وغيره من الروايات الواردة عنه عليه‌السلام.

وأسباب الغواية والضلالة الّتي هي من الشيطان محدودة ، بخلاف سبل الهداية الى الله العظيم ، فإنّها من مظاهر صفاته العليا ، وهي غير محدودة فلا يكون التقابل بينهما واقعيّا. مع أنّ الفطرة الخالصة الّتي خلقها الله تعالى تقتضي الهداية أيضا ، كما أنّه جلّ شأنه يحبّ خلقه ولا يرضى لهم العذاب ، قال تعالى : (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ) [سورة النساء ، الآية : ١٤٧] ، وأنّه غني ذاتا وصفات ، وأنّ الخير وأسبابه منه تعالى وإليه عزوجل ، فلا بدّ وأن تكون غير محدودة لأنّها من مظاهر صفاته.

وقد ذكر سبحانه وتعالى في الآية الشريفة أهمّ أسباب الغواية من الوعد والأمنيّة ، وأنّ الأثر المترتّب على تلك الأسباب ليس إلّا الخسران ، سواء كان خسران الجنّة ونعيمها ، أم خسران المعارف الإلهيّة والحظوظ السعيدة ، أم خسران شرف العبوديّة ، أم خسران الآلاء والنعم ، أو خسران اللقاء الّذي هو من أعظم الخسائر ، كما عن علي عليه‌السلام : «هبني صبرت على حرّ نارك ، فكيف أصبر على فراقك» ، وعن بعض العرفاء : «أعظم الخسائر من فاته اللقاء» ، فقد خاب من أحبّ

٣٠٦

شيئا دونك ويرضيه بدلا منك ، وقد خسر من أوقفته ببابك ثمّ طلب باب غيرك والتجأ الى غير جنابك وتحوّل منك إلى غيرك» ، ودعاء أبي حمزة الثمالي مشحون بهذه المعارف ، ولا يتوجّه إلى هذا القسم من الخسران إلّا من رفع عنه الحجاب برؤية الملكوت الأعلى ومنح له قبول وسام العبوديّة.

فالكلّ يطلب نعمى حيث ضلّ وما

يحظى بنعمى سوى فرد بأفراد

وجميع هذه الخسائر ترجع إلى الاختيار لما ثبت في محلّه من أنّه لا جبر ولا تفويض في البين ، فالعبد باختياره يسلك كلا من الطريقين النور أو الظلمة ، ويصل الى مراتبها ، كما أنّ كلا منهما لم يكن ذاتي الإنسان ، وهما قابلان للزوال إلى آخر لحظات العمر ، كما عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «انّ الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتّى ما يبقى بينه وبينها إلّا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنّة فيدخلها ، وأنّ الرجل ليعمل بعمل أهل الجنّة حتّى ما يكون بينه وبينها إلّا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار» ، والأوّل كثير بفضله ورحمته ، والثاني منوط برحمته ، والمراد من سبق الكتاب التذكّر والتأمّل ، فيرجع إلى الاختيار ، وللبحث ذيل يأتي في الموضع المناسب إن شاء الله تعالى.

٣٠٧

(لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٢٣) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (١٢٤) وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (١٢٥) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (١٢٦))

بعد أن ذكر سبحانه وتعالى حقيقة الإيمان والجزاء المترتّب عليه وبعض أحوال المؤمنين ، وبيّن عزوجل الكفر والشرك وموجباتهما ، وهي إطاعة الشيطان وعبادته واتّباع أوامره ، والجزاء المترتّب على ذلك ، ثمّ وعد المؤمنين وأكّد أنّ وعده صادق وقوله حقّ لا خلف فيه.

يبيّن جلّ شأنه في هذه الآيات المباركة أنّه في وعده الصادق لا يحابي أحدا من عباده ، وأنّه سيجزي المؤمنين حقّا ويجازي الكافرين صدقا ، كلا حسب عمله وأفعاله ، فالإيمان ليس بالتمنّي ولا بالتحلّي ولا بالتفاضل ، بل بما استقرّ في القلب وظهر على الجوارح وصدّقه العمل ، وليس الدين أمنيات وأهواء وشعارات وتفاخر أو تباهي ، بل الدين تطبيق عملي لكلّ ما حواه من مبادئ وتعاليم وقيم وتشريعات وتوجيهات ، فهذا هو واقع كلّ دين وحقيقته ، فلن يقوم على التمنّي ولن يحصل أحد على الجزاء العظيم الّذي وعده عزوجل للمؤمنين بمجرّد التمنّي والتفاخر والتمدّح والتشدّق بالكلام. وهذا ما أكّد عليه عزوجل في عدّة مواضع من القرآن الكريم.

٣٠٨

ولم تكن الآيات الشريفة الأخيرة في سورة آل عمران ببعيدة عن الأذهان ، حيث يبيّن عزوجل فيها المنهاج الّذي لا بدّ أن نتبعه ، فقال تعالى : (أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) ، وفي هذه الآيات الكريمة تأكيد جديد ودرس عملي لنبذ كلّ تمن فارغ عن العمل وتفاخر وتفاضل يوجب البعد والبغضاء ، فإنّ الجزاء حاصل لا محالة ، وكلّ من عمل سوءا يجز به ولا يجد من دون الله وليّا ولا نصيرا ينصره من العذاب ، ومن يعمل الصالحات فسيجد الجزاء الأحسن ، وهذا هو الدين ، فلا بدّ من التسليم الكامل والإحسان والعمل واتّباع ملّة إبراهيم عليه‌السلام ، الّتي حفظت في جميع الأديان الإلهيّة وعند مشركي العرب ، وهي ملّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكانت صلة بين جميع من ذكر ، والله تعالى محيط لا تخفى عليه خافية وله ما في السموات والأرض.

التفسير

قوله تعالى : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ).

تأكيد لما ذكره عزوجل في الآيات المباركة السابقة ، وبيان أنّه ليس لأحد كرامة على الله تعالى ولا حقّ له عليه جلّ شأنه ، إلّا باتّباع تعاليمه وتطبيق شريعته وتنفيذ أوامره ، وهذا هو الدين الّذي أنزله الله تعالى على جميع أنبيائه وأمرهم بتبليغه لعباده ، وليس هو أهواء وأمنيات وتشدّق بالكلام بأن يتفاخر كلّ واحد بأنّ دينه أفضل أو أكمل وأحقّ بالاتّباع ، فإنّ هذه كلّها أماني صوريّة لا حقيقة لها ، وهي بعيدة عن واقع الدين ؛ لأنّه تطبيق عملي لما وقر في القلب واستقرّ فيه ، وتلتقي جميع الأديان في هذا الأمر ، بلا فرق بين دين الإسلام وسائر الأديان الإلهيّة ، وقد حكي عزوجل بعض صور التفاخر في مواضع اخرى من القرآن الكريم ، قال تعالى محكيا عن أهل الكتاب : (وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ

٣٠٩

وَأَحِبَّاؤُهُ) [سورة المائدة ، الآية : ١٨] ، وقال تعالى أيضا : (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا) [سورة البقرة ، الآية : ١٣٥].

وهذه الآية الشريفة تشير إلى ما زعمه بعض المسلمين وأهل الكتاب على ما ورد في شأن نزولها ـ كما يأتي في البحث الروائي ـ وقد ردّ سبحانه وتعالى على جميع تلك المزاعم بأنّ الدين لا يقوم على الأماني ، وأنّها لا تؤثّر شيئا على الإطلاق ، بل الدين عقيدة وعمل ، وأنّ الجزاء العظيم الّذي وعده الله عزوجل لهم لا يمكن تحصيله بالتمنّي والغرور ، وأنّ الله تعالى لا يضيع عمل عامل منكم ، إن خيرا فخير ، وإن شرّا فشرّ.

وهذه الآية الشريفة من الدروس التربويّة للمسلمين ، وقد كانت نبراسا لهم حين ما اعتقدوا بالإسلام ، بأنّه دين عقيدة وعمل ، وأنّه منهاج تربوي عملي ، جعلوه تطبيقا عمليا لكلّ ما تضمّنه من تعاليم وقيم ومبادئ وتوجيهات ، فكانوا على عزّ وشرف وساد الوئام والتآلف والتعاون بينهم ، ولم يكن لأحد فيهم مطمع إلّا بتبليغ دينه بالقول والفعل ، ثمّ لما حوّلوا دينهم إلى مجرّد التمنّي وخرجوا بذلك عن الدين الحقيقي ودخلوا في الغثاء الّذي تحدث عنه الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، اشتدّ الخلاف بينهم وضعفت مكانتهم ونزل قدرهم وطمع فيهم أعدائهم ، ووصلوا إلى ما هم عليه الآن من التفرقة والتشتت والخلاف ، فلم يبق من الإسلام إلّا اسمه ومن الكتاب إلّا رسمه ، ولن يعودوا إلى مكانتهم ووضعهم الّذي أراده الله تعالى ورسوله الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا بالخروج عن هذا التمنّي والدخول في الدين الحقيقي والواقع العملي المحسوس.

والأماني في قوله تعالى : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِ) تقرأ بالتشديد والتخفيف ، وهي جمع أمنية على أفعولة ، وهي الصور الخياليّة الّتي تحصل في النفس وتستلذّ بها كلّما ذكرتها ، وإنّها قد تكون عن تخمين وظنّ وقد تكون عن روية وأصل ، ولكن لما كان أكثرها عن تخمين وظنّ صار إطلاقها أكثر على ما لا حقيقة

٣١٠

له ، فأكثر التمنّي تصوّر ما لا حقيقة ولا واقع له. وحديث النفس بما يكون أو لا يكون ، وتشهّي حصول الأمر المرغوب فيه ، وعن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إذا تمنّى أحدكم فليكثر ، فإنّما يسأل ربّه» ، يعني : إذا سأل الله تعالى حوائجه الشرعيّة فليكثر ؛ لأنّ فضل الله كثير وخزائنه واسعة ورحمته عمّت كلّ شيء ، وفي المقام أطلقت على ما كان يذكره أهل الكتاب وما تفاخر به بعض المسلمين مجازا ؛ لبيان أنّها مجرّد صور خياليّة لا واقع لها ، فردّ الله تعالى مزاعمهم وبيّن أنّ الواقع غير ذلك.

ويستفاد من اقتران أهل الكتاب مع بعض المسلمين أنّ هناك جهة اتّفاق بينهم ، وهي أنّ الدين واقع عملي والاختلاف في ذلك في سائر الأديان الإلهيّة ، وأنّه لو رعوها لكانت الأديان كلّها تسير في جهة واحدة ، ولما وجد الاختلاف بينها ، ولما وقعت هذه المصائب.

قوله تعالى : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ).

بيان للحقيقة والواقع في هذا الأمر العظيم الّذي قلّ ما يخلو منه مجتمع أو مذهب ، فإنّه بعد أن نفى جلّ شأنه كون التمنّي موجبا لكسب فضيلة أو جلب منفعة أو نيل جزاء ، فضلا عن الجزاء العظيم الّذي أعدّه الله تعالى للمؤمنين ، إلّا أنّ هذا النفي القاطع الحاسم قد يجعل المؤمن الّذي يدخل في دين ـ سواء كان دين الإسلام أم النصرانيّة أم اليهوديّة ـ مورد السؤال ؛ لأنّ الدخول في الدين إذا لم يكن نافعا ولم يجر له خيرا فماذا يفعل وهذه هي حاله ، بل أنّ كلّ سامع لذلك يتشوّق إلى استبانة الحقّ وحكم الله تعالى في هذا الأمر ؛ فيبيّن عزوجل الجواب في هذه الآية الكريمة عقيب تلك الآية الشريفة بغير فصل وبصيغة العموم ، فقال تعالى : إنّ كلّ من يعمل سوءا يجد جزاءه ولم يكن له وليّ ولا نصير ينصره من جزاء أعماله ، كما أنّ من يعمل من الصالحات يدخل الجنّة.

ثمّ إن إطلاق قوله تعالى : (يُجْزَ بِهِ) يشمل جزاء الدنيا ممّا قرّرته الشريعة ـ

٣١١

كالقصاص ، والحدود ، ونحو ذلك ـ وكذا الأمراض وأنواع الأسقام والهموم أو الغموم والمصائب ، ممّا لم يكن للإنسان فيه الاختيار ، كما يدلّ عليه بعض الأحاديث على ما يأتي في البحث الروائي ـ والجزاء الأخروي الّذي أوعده الله عزوجل في كتابه الكريم أو على لسان نبيّه العظيم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

كما أنّ إطلاق قوله تعالى : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً) يشمل ما إذا كان السوء من المعاصي الكبيرة أم الصغيرة ، أم غير المعاصي حتّى لو كان من مساوئ الأخلاق والأفعال السيئة العرفيّة.

قوله تعالى : (وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً).

فإنّ ترتّب هذه الآية المباركة على سابقتها كترتّب المعلول على العلّة التامّة ، فإنّ من يعمل السوء يجد جزائه وهو يتحمّل تبعاته ، ولا يصرفه عنه صارف ؛ لأنّه من الأثر الطبيعي لعمله ، ولن يتخلّف الأثر عن مؤثّره ، فلا يوجد ولي من الأولياء الّذين يواليهم يصرف عنه الجزاء ولا نصير ينصره ويدفع عنه العذاب ، إلّا أن يأذن الله تعالى لهم في الشفاعة.

ولا فرق في الولي بين من كان معصوما كالنبيّ أو الإمام ، أو غير معصوم ممّن يعتقد ولايته.

ولعلّ ذكر الولي والنصير كليهما ليشمل صارف الدنيا والآخرة ، فالولي في الدنيا والنصير في الآخرة ، أو ليشمل جميع أنحاء التقرّب من الإسلام والدين والنسب والتقرّب إلى الأولياء والأنبياء وغيرهم ممّا يعتقد نفعه.

قوله تعالى : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ).

بيان لحقيقة من الحقائق الواقعيّة ، وهي أنّ النجاة في الدنيا والآخرة إنّما تكون بالإيمان والأعمال ، وهذا هو الدين الحقيقي ، وقد اشترط عزوجل في النجاة من العذاب أمرين الإيمان قال تعالى : (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) ، وتدلّ عليه آيات أخرى ،

٣١٢

قال تعالى : (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [سورة الانعام ، الآية : ٨٨] ، فلا فائدة في العمل بدونه. والثاني العمل الصالح ، فإنّ الجزاء الأحسن إنّما يكون بإزاء العمل الصالح ، ويستفاد من ذلك أنّه لا جزاء حسنا على أعمال الكافر وإن كانت صالحة ، فلا اعتداد بها إلّا أنّه قد تفيده في تخفيف بعض أنواع العذاب ، كما تدلّ عليه بعض الأخبار ، كما أنّه لا ينال الجزاء العظيم الّذي خلا عن العمل الصالح.

و (من) في قوله تعالى : (مِنَ الصَّالِحاتِ) تبعيضيّة تدلّ على أنّ الإتيان ببعض الأعمال الصالحة يكفى في نيل الجزاء الأحسن ، ويتدارك به ما بقي من الأعمال الصالحة ، كما يتدارك به وبالتوبة آثار المعاصي والسيئات الّتي يقترفها المؤمن ، قال تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) [سورة هود ، الآية : ١١٤] ، وقال تعالى : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ) [سورة النساء ، الآية : ١٧] ، وتقدّم في قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [سورة النساء ، الآية : ١١٦] بعض الكلام ، كما مرّ تفصيل المقال في بحثي التوبة والشفاعة في سورة البقرة فراجع.

وذكر بعضهم أنّ (من) في الآية الكريمة زائدة ، ولكنّه بعيد عن سياق الآية المباركة الّتي هي في مقام البيان والدقّة فيه ، كما أنّ كونها تبعيضيّة تناسب الفضل الإلهي العميم.

و (من) في قوله تعالى : (مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) للتأكيد على أنّ النساء لهن المثوبة كما تكون للرجال ، ولا فرق بين الفريقين عند الله تعالى في الجزاء الحسن والأجر العظيم ، إلّا أن يكون التفاوت من ناحية أعمالهم.

كما تدلّ الآية الكريمة على تساوي النساء والرجال في أمور الدين ، وأنّ الأعمال الصالحة تصلح النفوس مطلقا ، سواء كان العامل ذكرا أم أنثى. وفيها ردّ على مزاعم بعض الناس في النساء ، حيث اعتبروهن ذليلات في الخلقة وحرموهن

٣١٣

من كثير من أمور الدنيا ، حتّى وصل الأمر إلى إهلاكهن عند بعض الأقوام ، كما كانت العادة عند مشركي العرب ، وقد تقدّم في قوله تعالى : (أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٩٤] ، فراجع.

قوله تعالى : (وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً).

تأكيد لما ذكره عزوجل آنفا من وصول كلّ من عمل الصالحات إلى الجزاء الحسن والثواب الجزيل ، من غير أن ينقص منه شيء ولو كان حقيرا تافها. كما يدلّ أيضا على أنّ النساء والرجال متساوون في نيل الجزاء ودرك الثواب ، ولا فرق بينهما في ذلك من حيث الزيادة والنقيصة ، إلّا أن يكون التفاوت من ناحية أعمالهم ، فلا يظلمون من أجور أعمالهم ولو كان بقدر النقير ، وهو الثقبة الصغيرة في ظهر النواة ، ومنها تنبت النخلة ، وصار علما للقلّة والحقارة ، وفي حديث ابن عباس في الآية الشريفة : «وضع طرف إبهامه على باطن سبابته ثمّ نقرها وقال هذا النقير» ، وتقدّم الكلام في آية ٤٩ و ٥٣ من هذه السورة في اشتقاق الكلمة. ونبّه عزوجل بعدم تنقيص الثواب ، فبالأحرى أن لا يزاد عقاب العاصي أيضا ، وإنّما لم يذكره عزوجل ؛ لأنّه أرحم الراحمين ، وفضل منه جلّت عظمته للعبيد ، والمقام مقام الترغيب الى العمل الصالح ، وعن بعض أنّ الحكمة في ذلك ـ مضافا إلى ما تقدّم ـ لئلّا يفلس العبد لو اجتمع الخصماء في يوم القيامة عنده ، فيدفع إليهم واحدة ويبقى له البقية ، وهذا من لطفه وعنايته لعباده ؛ لأنّ مظالم العباد توفّى من التضعيفات لا من أصل الحسنات ، فما ذكره يرجع بالآخرة إلى ما تقدّم.

قوله تعالى : (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ).

بعد أن بيّن عزوجل أمر الدين وأنّ حقيقته عند الله تعالى هو الاعتقاد السليم والعمل الصالح ، وأنّ السعادة منوطة بهما معا ، كما أنّ الجزاء مطلقا ـ حسنا كان أم سيئا ـ إنّما يكون على الأعمال ن فلا جزاء بدون عمل ، ولا عمل بدون

٣١٤

جزاء ، يبيّن عزوجل في هذه الآية الشريفة أنّ للإيمان مراتب متفاوتة أدناها مجرّد الدخول فيه ؛ لأنّ للدين والإيمان بالله تعالى كرامة ، وهو حسن على كلّ حال ، بل الإنسان لا مناص له عن الدين ، فإنّه أمر فطري ، وهو لا محالة يرجع إليه في كثير من شؤونه الدنيويّة والأخرويّة ، وإن أنكره بلسانه ، وأعلى تلك المراتب وأحسنها الّتي بها يجوز درجات الثواب ، الإيمان الخالص ، وهو التوحيد الكامل لله تعالى وتوجيه القلب إليه والتسليم والإحسان في العمل ، وهذا هو ملّة إبراهيم عليه‌السلام الّتي أمرنا الله تعالى باتّباعها ، وهي أيضا ملّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتقدّم في قوله تعالى : (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) [سورة البقرة ، الآية : ١١٢] ، أنّ المراد منه جعل وجهه خالصا لله تعالى لا يتوجّه لغيره أبدا ، منقادا ومستسلما له عزوجل يأتمر بأوامره وسائر تشريعاته ، خاضعا له خضوع عبوديّة ومقهوريّة ، وهذا هو الإيمان الخالص من شوائب الشرك ، وهو التوحيد الكامل الّذي به وصل الأنبياء عليهم‌السلام والأولياء إلى المقامات العالية وحازوا شرف القرب لديه عزوجل ، وفيه تظهر عبودية المؤمن ، فيكون ترتّب قوله تعالى : (وَهُوَ مُحْسِنٌ) على صدر الآية المباركة ترتّبا عليّا ، فإنّ من أسلم وجهه لله يستلزم أن يظهر عليه أمارات العبوديّة ـ على أقواله وأفعاله وحركاته وسكناته ـ ويتخلّق بأخلاق الله تعالى ، فيحسن في العمل بإتيان العبادات وترك ما ينافي العبوديّة.

وإنّما خصّ عزوجل الوجه بالذكر دون سائر أعضاء الإنسان مع أنّ الإسلام لله تعالى ، لا بدّ أن يظهر على جميع جوارحه ؛ لأنّ الوجه أهمّ مظهر للإنسان ، ومنه يعرف حالاته وما يكمنه في قلبه ويكنّه في نفسه من القرح والسرور والإقبال والإدبار والخشوع والخضوع وغير ذلك.

قوله تعالى : (وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً).

الحنيف : الميل عن الوثنيّة والشرك ، والملّة الحنيفيّة هي الملّة المائلة عن الشرك والوثنيّة والزائغة عن الأديان الباطلة ، وهي من صفات دين الإسلام ، وقد

٣١٥

وصف بها خليل الله تعالى لتبرّئه عن الشرك والأوثان ، ودعوته إلى عبادة الواحد الأحد.

والآية الشريفة بيان لما سبق ، أي : أنّ تسليم الوجه لله تعالى والإحسان في العمل إنّما هو في اتّباع ملّة إبراهيم عليه‌السلام والإعراض عن سائر الأديان الفاسدة والأهواء الزائفة ، ومن تبعها فقد دخل في جميع الأديان الإلهيّة ، لا سيما دين خاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لأنّها هي ملّته عليه‌السلام أيضا.

وفي الآية المباركة التأكيد على أنّ ملّة إبراهيم عليه‌السلام هي صفوة الأديان ؛ لأنّ فيها التوحيد الخالص وإحسان العمل ، وقد تردّد في القرآن الكريم كثيرا ذكر الصلة بين دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وملّة إبراهيم عليه‌السلام ؛ لأنّ إبراهيم عليه‌السلام ما كان يدعو لا إلى التوحيد ونبذ الأنداد والإحسان في العمل ، وهذه هي دعوة أشرف الأنبياء وخاتمهم صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ ولأنّ العرب ومشركي قريش بالخصوص وأهل الكتاب من اليهود والنصارى كانوا يدّعون أنّهم على دين إبراهيم عليه‌السلام ، فالآية الكريمة تأخذهم بما أقرّوا به فتقول : أن من كان على ملّة إبراهيم عليه‌السلام فلا بد أن يدخل في دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لأنّهما تلتقيان في التوحيد ونبذ الأنداد والإحسان في العمل ، وهذه حقيقة الدين الّتي لا اختلاف فيها ، والّتي أمرنا الله تعالى باتّباعها في ما سبق من الآيات الكريمة الّتي فيها ردّ على الضالّين المتّبعين للشيطان المشغولين بالأماني الخادعة.

قوله تعالى : (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً).

ترغيب إلى اتّباع ملّة إبراهيم عليه‌السلام والدخول في حقيقة الدين وبيان إلى أنّ من أسلم وجهه لله وهو محسن يسلك مسلك إبراهيم ، فيتّخذه الله تعالى خليلا ، وإيماء إلى أنّ إبراهيم هو أوّل من أسلم وجهه لله محسنا ، وإيذان بأنّ إبراهيم في نهاية الحسن ومنتهى الشرف وكمال العبوديّة ، لتخصيص اسمه الشريف بالذكر. أي : أنّ الله تعالى اصطفاه وخصّه بكرامة الخلّة ، وهي من المقامات العالية والمنازل الرفيعة ، ولن ينالها إلّا الأوحدي الّذي ترك ما سواه عزوجل لوجهه الكريم ،

٣١٦

فأورد في قلبه محبّة لمعبوده وتوجّها لخالقه ، ولم يصل الخليل إلى هذا المقام إلّا بعد اجتياز مراحل وطي منازل كثيرة ، وهي مرحلة الفتنة والافتنان ثمّ الامتحان ثمّ التسليم ، ثمّ العبوديّة ، ثمّ النبوّة ، ثمّ الرسالة ، ثمّ الخلّة ، ثمّ الإمامة ، وقد اجتازها إبراهيم عليه‌السلام كلّها بأمان ، فخصّه الله تعالى بالخلّة والإمامة ، كما يظهر ذلك من الآيات الشريفة الّتي نزلت في حقّ إبراهيم عليه‌السلام ، وفي الحديث عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام : «انّ الله تبارك وتعالى اتّخذ إبراهيم عبدا قبل أن يتّخذه نبيّا ، وإنّ الله تعالى اتّخذه خليلا قبل أن يجعله إماما» ، ولعلّ ذكره في صدر الآية المباركة وتوصيفه بكونه حنيفا لأجل بيان استعداده لنيل مقام الخلّة. وأنّ ترك ما سوى الله تعالى وتسليم الأمر إليه عزوجل ممّا يوجب استعداد الفرد للوصول إلى هذه المنزلة.

ثمّ إنّ الخلّة الإلهيّة كالخلّة الّتي هي بين الناس تبتني على فرط الحبّ بين الحبيبين وتخلّلها في القلب وتمازجها مع النفس ، إلّا أنّ الخلّة الإلهيّة تخالف الخلّة الدائرة بين الناس المبتنية على الأمور المادّية الّتي تكون الأواصر الدنيويّة فيها أشدّ من الأواصر المعنويّة الروحانيّة. وأمّا الخلّة الإلهيّة ، فهي ليس فيها خلل ، فقد أحبّه الله تعالى محبّة تامّة واصطفاه عند ما أظهر صدقه وإخلاصه لله تعالى ومحبّته له محبّة كاملة ملأت جميع مشاعره ، فلم يتوجّه إلّا إليه عزوجل ولم يتخلّلها وهن ولا ضعف ولا فترة ولا شائبة من شوائب المادّة ، وبذلك صار إبراهيم عليه‌السلام خليلا لله تعالى وبها أصبح قدوة لكلّ خليل إلهي وإماما لجميع الأنبياء والمرسلين.

ومادّة (خلل) تدلّ على الحاجة والفقر ، ومنه سمّي الخليل خليلا ؛ لأنّ كلّ واحد من الخليلين محتاج إلى وصال الآخر وغير مستغن عنه ، وإلى هذا المعنى يمكن إرجاع بقية المعاني الّتي ذكرت لهذه المادّة ، فإنّ منها : الخلال (بكسر الخاء) ، أي : المودّة الّتي تتخلّل النفس وتخالطها ، بحيث تسلب منها الإرادة إلّا ما كانت في جهة إرادة الحبيب ، كما قال الشاعر :

قد تخلّلت مسلك الروح مني

ولذا سمّي الخليل خليلا

فإذا ما نطقت كنت حديثي

وإذا ما سكتّ كنت الغليلا

٣١٧

ومنها الخلل (بفتح الخاء) ، بمعنى أنّ كلا من الخليلين يصلح خلل الآخر ، لشدّة الوصال بينهما.

ومنها : الخلل (بالفتح) ، وهو الطريق في الرمل ؛ لأنّ الخليلين احتاج كلّ واحد الى الآخر فتوافقا من كلّ جهة.

ومنها : الخلّة (بفتح الخاء) بمعنى الخصلة والخلق ؛ لأنّهما يتوافقان في الخصال والأخلاق ، فإنّ جميع هذه المعاني ترجع إلى ما ذكرناه من شدّة الارتباط بينهما واحتياج كلّ واحد منهما إلى الآخر ، وهذا المعنى ينطبق على خليل الله عليه‌السلام لوصل حبّه له جلّ شأنه إلى درجة لم يكن له إرادة إلّا ما أراده الله تعالى ، فتخلّق بأخلاق الله تعالى ، وأمّا بالنسبة إليه عزوجل فقد أحبّ إبراهيم عليه‌السلام حبّا كاملا خالصا من كلّ نقص. وعلى أي حال فإنّ الخلّة والحبّ أمران وجدانيان لم يكد يظهر إلّا للعارف المتألّه الّذي بذل نفسه ونفيسة لله تعالى ، ولم تكن إرادة له إلّا ما يريده عزوجل ، كما عرف بذلك خليل الله تعالى ، وللخليل منزلة عظيمة إلّا أنّها لا تصل الى منزلة الحبيب ، كما تقدّم في الآيات السابقة المناسبة للمقام وسيأتي مزيد بيان في البحث العرفاني.

والخليل : فعيل بمعنى المفعول ، كالحبيب الّذي هو بمعنى المحبوب.

قوله تعالى : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ).

تعليل لما ذكره عزوجل في الآية الكريمة السابقة ، أي : أنّ الله تعالى مالك لجميع ما في السموات وما في الأرض ، وأنّ جميع الموجودات له تعالى خلفا وأمرا وملكا ، فلا يخرج عن ملكه وملكوته شيء ، فلا بدّ أن تكون عمل الصالحات له وهو يختار من عباده من يشاء ويصطفيه بمحض مشيئته ، كما اختار إبراهيم عليه‌السلام وجعله خليلا ، وأنّ اختياره لم يكن لأجل حاجة وافتقار كما في الخلّة بين الناس ، فإنّها قائمة على الفقر والحاجة بين الطرفين ، والله تعالى منزّه عنهما.

٣١٨

والآية الشريفة تدلّ على أنّ جميع ما سواه محتاج إليه عزوجل ، وهو مستغن عنها ، كما ثبت ذلك أيضا بالبراهين العقليّة.

قوله تعالى : (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً).

أي : أنّ الأشياء كلّها مسخّرة تحت إرادته وقهّاريته ، وهو محيط بها إحاطة علم وقدرة وتدبير وقهر وغلبة ، فهو محيط بأفعال عباده وسيجازيهم بها جزاء تامّا.

والآية الكريمة دليل على أنّه وحده المستحقّ للعبادة ، وإسلام الوجه إليه على كلّ حال ، وهذا هو الدين ، لا ما يذكره أهل التمنّي والأهواء الباطلة ، وفي الآية المباركة التذكير بقدرته تعالى على إنجاز وعده ووعيده.

٣١٩

بحوث المقام

بحث أدبي :

اسم (ليس) في قوله تعالى : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ) مستتر فيها يعود على الوعد بالمعنى المصدري ، أو الموعود المستفاد من سياق الآية الشريفة ، فهو قسم من الاستخدام الّذي هو من الأساليب البديعيّة المعروفة ومن المحسنات في الكلام.

والباء في قوله تعالى : (بِأَمانِيِّكُمْ) قيل : إنّها زائدة ، والحقّ أنّها مثل الباء في قولهم : (زيد بالباب) ، لم تكن زائدة.

والأماني في الموضعين بتشديد الياء ، وقرأ بعضهم بتخفيف الياء فيهما معا.

وقوله تعالى : (وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ) بالجزم عطفا على قوله تعالى : (يُجْزَ بِهِ) ، وقرأ بعضهم بالرفع استئنافا.

و (من) الجارّة في قوله تعالى : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ) تبعيضيّة ، وهي الموافقة لكرمه وسعة رحمته عزوجل ، وقيل : إنّها زائدة ، ولكنّه ليس بشيء لما عرفت غير مرّة أنّه لا معنى للزيادة في القرآن الكريم.

وقوله تعالى : (فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ) إشارة إلى من اتّصف بالعمل الصالح ، والجمع باعتبار معناها ، والإشارة بالبعيد لأجل علو مقامهم وبعد منزلتهم ، والمعروف قراءة «يدخلون» مبنيا للمعلوم من دخل ، وقرأ بعضهم مبنيا للمفعول من الإدخال.

و (دينا) في قوله تعالى : (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً) منصوب على التمييز من (أحسن) منقول من المبتدأ ، أي : ومن دينه أحسن من دين من أسلم.

(وَهُوَ مُحْسِنٌ) مبتدأ وخبر ، والجملة في موضع الحال ، و (حَنِيفاً) حال من إبراهيم أو من فاعل (اتَّبَعَ).

٣٢٠