مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٩

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٩

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٣
ISBN: 964-5665-08-6
الصفحات: ٣٩٦

والانقياد لرسوله وميل عن التوحيد الّذي هو أصل الدين وأساس كلّ كمال ، وكفى بذلك صارفا عن الغفران ونيل كلّ توفيق وهداية.

قوله تعالى : (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً).

تعليل لعدم غفران الله تعالى للمشرك ؛ لأنّ الشرك يوجب الضلال والبعد عن الصراط المستقيم ، وفيه فساد للعقل والفطرة ورجوع عن سبيل الرشد ، فلا يجتمع معه خير أو خلق كريم ، بل لا يمكنهما أن يضعا مفاسد الشرك وشروره ، فلا يكون مؤهّلا لنيل رحمته والعروج إلى جواره عزوجل ؛ ولذا وصفه تعالى بالضلال البعيد لعظم أثره وشدّته.

وتقدّم مثل هذه الآية الشريفة في هذه السورة أيضا ؛ ولعلّ الوجه في تكرارها ـ والله العالم ـ إمّا لأجل بيان أهميّة الشرك وعظم أمره. أو للإعلام بأنّه الأصل في صدّ الإنسان عن الكمال ، وعائق كبير عن تهذيب النفس وتحليتها بالمكارم والفضائل.

وإمّا لبيان الآثار المترتّبة على الشرك بالله العظيم ، فقد ذكر عزوجل في الآية المباركة السابقة أنّ الشرك سبب للافتراء والكذب ؛ لأنّه يوجب الإعراض عن داعي الفطرة الّذي يدعو إلى التوحيد ، الّذي هو أساس كلّ دين ، وهذا هو الافتراء والكذب ؛ لأنّه تغرير للنفس وإبطال لجميع المعارف الإلهيّة وإعراض عن كلّ خلق كريم ومانع عن التخلّق بالأخلاق الإلهيّة. وفي هذه الآية الشريفة يبيّن عزوجل أثرا آخر من آثار الشرك ، وهو الضلال البعيد ، أي : إبعاد للإنسان عن كلّ هداية تكوينيّة وتشريعيّة. وصرف له عن الفطرة المستقيمة الداعية إلى الاستكمال بالكمالات الواقعيّة.

وإمّا للإشارة إلى نبذ الشرك بجميع أقسامه ، الشرك في الذات والفعل والعبادة ، وقد تكفّلت الآية السابقة لنفي الشرك في الذات والعبادة ، وفي المقام يبيّن نفي الشرك في الذات والفعل.

٢٨١

وبأحد هذه الوجوه يمكن رفع التكرار ، مع أنّه لا تكرار لاختلاف الموردين ، فراجع تفسير الآية الكريمة المتقدّمة أيضا.

قوله تعالى : (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً).

بيان للآية المباركة السابقة ؛ ولذا ترك العطف بينهما. ومادة (أن ث) في جميع اشتقاقاتها تدلّ على الانفعال والتأثّر ، يقال : أنث الحديد أنثا ، أي : انفعل وتأثّر فلان. وأنّث المكان إذا تأثّر وأسرع في الإنبات وجاد ، وسمّى الأنثى من الحيوان أنثى لأنّها المنفعلة ، كما أنّ الأصنام والأوثان وكلّ معبود دون الله تعالى سمّيت إناثا لكونها منفعلات قابلات ، ليس في وسعهن أن يفعلن أمرا ، وعاجزات لا تدفع عن أنفسهن شيئا ، قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ* ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [سورة الحج ، الآية : ٧٣ ـ ٧٤] ، وقال تعالى في حقّهن : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً) [سورة الفرقان ، الآية : ٣] ، ويستفاد من هذه الآيات المباركة انفعال كلّ مخلوق ما سوى الله تعالى ، فإنّ الله هو القوي العزيز وما سواه ضعيف عاجز لا يملك لنفسه شيئا ؛ لأنّ الموجودات بإضافة بعضها إلى بعض ثلاثة أقسام : فاعل غير منفعل أصلا ، وهو الله سبحانه وتعالى فقط. ومنفعل غير فاعل ، وهو الجمادات. وفاعل من وجه ومنفعل من وجه آخر ، كالملائكة والإنس والجنّ ، فإنّهم بالإضافة إلى الله منفعلة لكونهم مخلوقين ، وبالإضافة إلى مصنوعاتهم فاعلة.

ويؤيّد ما ذكرنا أنّ العرب كانت تصف كلّ ضعيف بالأنوثة ، ولعلّ تسميتهم لمعبوداتهم بأسماء الأنثى لكونها جمادات منفعلة لا فعل لها ، كما حكى سبحانه وتعالى عنها في القرآن الكريم ، وهو جلّت عظمته يذكّرهم بانفعالها وينبّههم على جهلهم وعدم قدرتها ؛ ليظهر بطلان ألوهيتها.

٢٨٢

وقد وردت هذه المادّة في القرآن الكريم في ما يقرب من ثلاثين موضعا ، قال تعالى حكاية عن امرأة عمران عليها‌السلام : (فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) [سورة آل عمران ، الآية : ٣٦] ، وقال تعالى : (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى) [سورة النجم ، الآية : ٢١] ، وقال تعالى : (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ) [سورة النحل ، الآية : ٥٨] ، وغيرها من الآيات الكريمة.

ويستفاد من الحصر والعموم في قوله تعالى : (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً) أولوية ما ذكرناه من غيره ممّا ذكره المفسّرون ، فإنّه عزوجل يصف ما يعبدون من دونه بكونها إناثا ، وإن كان ذكرا غير أنثى كعيسى المسيح عليه‌السلام ، أو بوذا ، أو برهما ، وغيرهم ممّن ادّعوا الألوهيّة فيهم ، لكونهم ضعفاء عاجزين عن تحقيق أماني ومقاصد من يعبدونهم.

وممّا ذكرنا يظهر ضعف ما ذكره المفسّرون في تفسير هذه الآية الشريفة ، فقيل بأنّ المراد بالإناث اللات والعزى ومنات الثالثة وغيرها من الأصنام الّتي كانت للعرب ، فإنّهم كانوا يسمّون كلّ صنم تسمية الأنثى ، ويقولون : أنثى بني فلان ، وكانوا يجعلون عليه الحلي وأنواع الزينة كما يفعلون بالنسوان ، وقيل : المراد بها الملائكة. وقيل غير ذلك ممّا لا دليل عليه ، مضافا إلى كونه تخصيصا للآية الشريفة بغير وجه.

وكيف كان ، فإنّ في هذا التعبير شدّة الإهانة والتكبيت لمعبوداتهم والإعلام بضعفها ونفي خيرها ، وانحطاط منزلتها ، كما يدلّ على غاية الحماقة وتناهي جهلهم ، حيث يعبدون ما هو منفعل لا يقدر على شيء ويدعون القوي العزيز الفعّال لما يريد ، ويشمل أيضا كلّ معبود من دون الله تعالى وإن اختلفت المظاهر والأشكال والأفراد ، فإنّه ممّا لا شكّ فيه أنّ مظاهر العبادة تتغيّر وتختلف ، فلم يعد هناك تلك الأصنام الإناث الّتي كانت العرب يعبدونها ، وقد حلّت محلّها عبادة الذات

٢٨٣

والمذهب والدولة والجنس ، والمجتمع ، والعنصر ، والوطن ، والقومية ، والحرية ، والإنسانيّة ، والحضارة ، ونحوهما من عشرات الإناث الّتي تضاف إليها القداسة والنزاهة ، فتعبد من دون الله تعالى وتطاع وتخالف فيها أحكام الله العظيم وشريعته المقدّسة ويتغيّر فيها خلق الله تعالى ، كما نرى عليها في الجاهلية المعاصرة ، فتتّحد الجاهليتان الأولى والأخيرة في عبادة الشيطان الّتي لم تتغيّر وإن تغيّرت المظاهر وتطورت ، ويدلّ على ذلك تعقيب هذه الآية الشريفة ببيان حقيقة الشيطان وبيان خطواته المتتابعة الّتي يستحوذ بها على عباد الله تعالى ؛ لأنّ جميع تلك المظاهر في مرّ العصور تحكي عن غواية الشيطان وإضلاله للعباد.

قوله تعالى : (وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً).

بيان للآية الشريفة السابقة ، أي : أنّ طاعتهم للإناث ليست إلّا هي عبادة للشيطان المريد وطاعته.

والتعبير عن العبادة والطاعة بالدعاء ، لبيان أنّ عبادتهم مجرّد دعاء صادر حين الحاجة وليست هي واقعيّة ، كما في عبادة الواحد الأحد ، وقد عبّر سبحانه وتعالى عن طاعة الشيطان بأنّها عبادة في قوله تعالى : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ* وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) [سورة يس ، الآية : ٦١].

والشيطان : يطلق على كلّ فاسد خبيث من الجنّ والإنس ، ويسمّى كلّ خلق ذميم للإنسان شيطانا ، وفي الحديث : «الغضب شيطان ، والحسد شيطان» ، وقد يطلق على إبليس (لعنة الله تعالى عليه) كما في المقام. وتقدّم الكلام في اشتقاق هذه المادّة وأنّها من شطن ، أي : البعد عن الخير ، إن قلنا : إنّ نون الشيطان أصليّة ، وإن جعلتها زائدة كان من شاط إذا هلك أو استشاط غضبا إذا احتد فيه والتهب. والأوّل أصحّ كما تقدّم.

ومادة (مرد) تدلّ على التجرّد والملامسة ، يقال : شجر مرد ، أي : الّذي تناثر

٢٨٤

ورقه وتعرّى منه. ويقال : «رملة مرداء» ، أي : لم تنبت شيئا فيها وتجرّدت عن الزرع ، ومنه قوله تعالى : (صَرْحٌ مُمَرَّدٌ) [سورة النمل ، الآية : ٤٤] ، أي : أملس كما أنّ منه : غلام أمرد ، إذا عرى الشعر عن ذقنه وعارضيه ، ومنه قوله تعالى : (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ) [سورة التوبة ، الآية : ١٠١] ، أي : تجرّدوا للنفاق واعتادوا عليه ، وفي الحديث : «انّ أهل الجنّة جرد مرد» ، ومعنى الحديث : أنّ أهل الجنّة في غاية الكمال والجمال ، فعلى بعض أماكن بدنهم الشعر كالساعدين والساقين والمسربة (ما دقّ من شعر الصدر إلى السرة) ؛ لأنّ ضدّ الأجرد الأشعر ، وهو الّذي على جميع بدنه الشعر ، كما أنّهم «مرد» أي : مجرّدون ومعرّون عن الشوائب والقبائح ، ظاهريّة كانت أو معنويّة ، قال تعالى : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ) [سورة الحجر ، الآية : ٤٧].

والمريد : فعيل من مرد ، وسمّي الشيطان مريدا ؛ مبالغة في التجرّد عن كلّ خير ، فصار عاتيا خارجا عن الطاعة ، أو مبالغة في التلبّس بالشرّ.

قوله تعالى : (لَعَنَهُ اللهُ).

وصف آخر ، وهو البعد عن رحمته عزوجل ، واللعن هو الإبعاد عن الرحمة مقترنا بسخط وغضب ، ويحتمل أن تكون الجملة بمنزلة التعليل للوصف الأوّل ، أي : أنّه عتى وخرج عن طاعة الله تعالى ؛ لأنّه عزوجل طرده عن كلّ خير وأبعده عن رحمته ، ويحتمل أن تكون مستأنفة على الدعاء ؛ لأنّه فعل ما يستحق اللعن والطرد ، كما أنّ قولهم : «أبيت اللعن» ، أي : ما فعلت ما تستحق اللعن به ، فحينئذ لا موضع لها من الإعراب.

قوله تعالى : (وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً).

الاتّخاذ : هو أخذ الشيء على وجه الاختصاص. والنصيب : السهم والحصّة من الشيء ، وهو مبهم لا يتبادر منه القلّة أو الكثرة ، إلّا مع القرائن الحافّة. وفي المقام يراد منها الكثرة ، قال تعالى حكاية عن إبليس : (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ

٢٨٥

* إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [سورة ص ، الآية : ٨٢ ـ ٨٣] ، وقال تعالى : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) [سورة يوسف ، الآية : ١٠٦] ، وقد ذمّ تعالى الكثرة في كثير من المواضع كما مدح القلّة ، قال تعالى : (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) [سورة سبأ ، الآية : ١٣].

والمفروض : من الفرض ، وهو القطع من الشيء الصلب أو التأثير فيه ، يقال : فرض الحديد وفرض الزند ، ولا يقال : فرض القرطاس وإنّما يقال : قطع ، ولعلّ التعبير به لأنّ متابعة الشيطان خلاف الفطرة والاستقامة.

وكيف كان ، فالمعنى : ولأجعلن من عبادك حظّا مقدّرا ، اختصّ به مقطوعا عمّن سواه ، وهم الّذين يتّبعون خطوات الشيطان الّذين اقتطعهم الشيطان عن غيرهم من عباد الله تعالى.

ويستفاد من ذلك أنّ لهم جذورا عميقة في التوحيد ، فإنّ لهم فطرة مستقيمة وعقلا داعيين إلى التوحيد والصراط المستقيم ، وهما ركيزتان يرتكز عليهما الإنسان في صراعه مع الشهوات وداعي الشرّ ، فلا بد أن يكون فعل الشيطان قويا وذا خطوات متتابعة لإضعاف هاتين الركيزتين وطمسهما ، كما حكى عزوجل في الآيات المباركة اللاحقة. ولعمري ، إنّه لا يمكن لأحد مهما بلغ من العلم والحكمة أن يصف الشيطان وخطواته وصراعه مع الإنسان بمثل ما أخبره عزوجل في هذه الآيات المباركة.

وهذا القول منه (لعنه الله) من مظاهر عتوّه وطغيانه على الله تعالى ، وقد صدر منه عند اللعن عليه ؛ عداوة وبغضا لبني آدم كما حكى عنه عزوجل في مواضع متفرّقة من القرآن الكريم.

وهذه المحاورة بينه وبين الله جلّ شأنه محاورة حقيقيّة وقعت مشافهة من اللعين وحصلت حين خلق آدم عليه‌السلام كما في سورة البقرة ، وليست هي مجرّد محاورة تكوينيّة تخبر عن حال هذا اللعين وطبعه. كما ذكره بعض المفسّرين ، وقال : إنّه مثل

٢٨٦

قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) [سورة فصلت ، الآية : ١١] ، أي : أنّ الله خلق الأرض كذلك كما خلق الشيطان هكذا ، مخبرا عن طبعه وسجيّته بصيغة القسم ، مصمما على إغواء البشر وإضلالهم.

ولا يخفى بعد ذلك ، فإنّ الظاهر أنّ المحاورة كلاميّة والمخاطبة شفهيّة ، حصلت بين الله تعالى وبين الشيطان ، وتدلّ عليه روايات كثيرة. وأمّا في التكوينيّات والحيوانات فإنّها إلهام وإبداع ، وقد ذكرنا ما يتعلّق بذلك في ما تقدّم من هذا التفسير فراجع.

ثمّ أخبر عزوجل عن خطوات الشيطان المتتابعة في إضلال الإنسان وغوايته ، وهي خطوات دقيقة متقنة وليست اعتباطيّة.

قوله تعالى : (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ).

هذه هي المرحلة الأولى من المراحل المتتابعة الّتي يستحوذ بها على عباد الله تعالى ويستعبدهم ، ويتمّ بها فساد الإنسان والبشرية بإغواء الشيطان. وحقيقة هذه المرحلة هي إضلال عباده عزوجل وإبعادهم عن الطريق المستقيم الموصل إلى الحقّ وصرفهم عن العقائد الصحيحة.

وتحصل هذه المرحلة بأمور كثيرة ، منها تعمية الأمر عليهم ، وتلبيس الواقع ، وإظهار الباطل بمظهر الحقّ ، وطمسه بإشاعة الفساد والشرّ والشهوات ، وتزيين الباطل بأبهى صورة حتّى تحصل الحيرة والاضطراب في الإنسان. وقد حكي عزوجل عن هذه الأمور في كثير من المواضع في القرآن الكريم بصورة دقيقة شاملة وواضحة ؛ لتستفيد منها البشرية على مرّ العصور ؛ لأنّ هذه المرحلة من أدقّ المراحل الّتي يتّبعها الشيطان ليفسد فيها الإنسان ، قلّما يسلم منها فرد ، وكان الأنبياء يستعيذون بالله منها ويطلبون الاستقامة منه تعالى.

٢٨٧

قوله تعالى : (وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ).

مرحلة ثانية تأتي بعد إبعاد عباد الله تعالى عن الحقّ ، فيجيء الإغراء بالأماني والتسويفات والإيحاء لهم بأنّ هذا الطريق الجديد هو أنفع وأجمل وأروح وأحسن عاقبة من الطريق المستقيم طريق الله تعالى ، ممّا يوجب صرفهم عن الاشتغال بما تقتضيه عبوديّتهم.

وللتمنّي الأثر الكبير في من ضعفت نفسه وضاع الطريق لديه ، وله مظاهر مختلفة ـ مثل حبّ الجاه والمال والتمنّي بطول البقاء ـ والجامع لتلك المظاهر حبّ الدنيا ، وهو السبيل الأهمّ من سبل الشيطان. وفي الحديث : «حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة» ، ويتحقّق بالتسويف في العمل والتمنّي بالأهواء الباطلة ، وتزيين الشهوات بما يميل إليه طبع كلّ فرد ، فيصدّه عن الطاعة. والتمنّي بالاستعجال باللذّات الحاضرة ، والتمنّي بأنّه ليس هناك حساب ولا ثواب ولا عقاب ولا جنّة ولا نار ، وغير ذلك من موجبات تغرير الشيطان وسبل كيده وخدعه.

وهذه المرحلة توافق طبع الإنسان المركب من النجدين ، وبها يقع الصراع المرير بينهما ، فإذا ضعفت دواعي الفطرة والعقل في فرد تغلّب الجانب الآخر ، فينسى الإنسان نفسه ، فتقوى عنده دواعي اقتراف المعاصي.

قوله تعالى : (وَلَآمُرَنَّهُمْ).

إنّه يملك أمرهم ويتمكّن من استعبادهم بعد طي المرحلتين ، وحينئذ تأتي المرحلة الثالثة بعد تلك المتقدمتين بنجاح ، فتحقّق طاعة الشيطان وعبادته ، ويستشرى الفساد والضلال ، ولا يبقى للإنسان مكانته الّتي أرادها الله تعالى ، قال عزوجل : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ* ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [سورة التين ، الآية : ٥].

ثمّ إنّ الله جلّ شأنه يبيّن مظهرين من مظاهر طاعة الشيطان وعبادته ، أحدهما خاصّ والآخر عامّ.

٢٨٨

قوله تعالى : (فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ).

مادة (ب ت ك) تدلّ على القطع والفصل والشقّ ، ويقاربها مادّة (البت) الّتي تأتي بمعنى الفصل والقطع أيضا ، إلّا أنّ البتك تستعمل في الأعضاء والشعر والريش ، يقال : بتكت الشعر ، أي : تناولت بتكة (بالكسر) منه ، أي : القطعة المتّخذة منه ، قال الشاعر :

/ / طارت وفي يدها من ريشها بتك / /

جمعها بتك ـ بالكسر والفتح ـ ومنها سيف باتك ، أي : قاطع ، ولم ترد هذه المادّة في القرآن إلّا في هذه الآية المباركة.

والمراد به قطع آذان من أصلها أو شقّها ، وهو إشارة إلى ما كانت تفعله الجاهلية من شقّ أو قطع آذان الأنعام إذا ولدت خمسة أبطن وجاء الخامس ذكرا ، وحرّموا على أنفسهم الانتفاع بها.

وفي ذكره بالخصوص لما يدلّ على سفاهة العقول وطيشها وسخافتها ، وممّا يدلّ على أنّ طاعة الشيطان وعبادته توجب طيش العقول واضطرابها وخروجها عن استقامتها كما خلقها الله تعالى ، وقد أخبر عزوجل ـ في عدّة مواضع من القرآن الكريم ـ أنّ لبعض المعاصي أثرا في اضطراب الإنسان وخروجه عن استقامته ، كما بالنسبة إلى الربا ، قال تعالى : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٧٥] ، وتقدّم ما ينفع المقام فراجع.

قوله تعالى : (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ).

اللّامات الثلاث كلّها للقسم ، ممّا تدلّ على تصميمه (لعنه الله تعالى) على إضلال عباد الله تعالى ، وينبئ ذلك عن طبعه الخبيث وسجيّته الشريرة.

وتغيير خلق الله تعالى يشمل التغيير الحسّي ـ صفة وصورة ـ كالخصاء وأنواع المثلة والتشويهات والتبديلات الّتي يأمر بها المطيعين له على أصناف خلقه

٢٨٩

عزوجل ـ والتغيير المعنوي المتمثل بالخروج عن الفطرة السويّة والإعراض عن الدين الحنيف والتعاليم الإلهيّة وتبديلها وتحريفها وتغييرها ، وإتيان أنواع الرذائل والمنكرات ، أو ترويج الباطل وإشاعة الفحشاء ، وتحويل النفس عمّا يدعو إليه داعي العقل والفطرة ، قال تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) [سورة الروم ، الآية : ٣٠] ، فإنّ فطرة الناس هي أساس الكمالات ومنبع الخيرات وأصل الفواضل والمكارم ، ولها السلطة على جميع مشاعر الإنسان إذا لم يعتريها الضلال والغواية ولم يتلبّس بما يفسد الفطرة من الرذائل والمنكرات والجرائم.

قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً).

بعد بيان حال الشيطان من التمرّد والطغيان والفساد والإفساد ، ولبعده عن رحمته تعالى ، عرّف الإنسان حاله ، فمن يطعه ويتبع أوامره ويؤثره على طاعة الله ، فقد خسر خسرانا مبينا وظاهرا ؛ لأنّه لا حقيقة له ولن يدعو إلّا إلى الحيرة والضياع في الحال أو المآل.

والتعبير بالاتّخاذ لبيان أنّ ولاية الشيطان ليست إلّا زائفة باطلة ، ولا ولاية له على أحد ، وأنّ الولي هو الله تعالى وحده ، وغيره باطل وإن اتّخذ وليّا. كما أنّ التقييد بقوله تعالى : (مِنْ دُونِ اللهِ) ؛ لبيان أنّه ليس هناك واسطة ، فإمّا اتّباع للشيطان وطاعته المنافية لولاية الله جلّت عظمته وأوامره ، وإمّا اتّباع له عزوجل وإعراض عن الشيطان.

ويستفاد من الآية المباركة التأكيد على أنّ اتّباع الشيطان ينافي طاعة الله تعالى. وإنّما خسر متابعو الشيطان خسرانا مبينا ؛ لأنّه من استبدال رضا الله تعالى برضا الشيطان ، ولا صفقة أخسر من تلك ، فكانت خسرانا واضحا وظاهرا لكلّ فرد إن تأمّل وتفكّر في ما صار إليه.

٢٩٠

قوله تعالى : (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ).

بيان للآية الشريفة السابقة وتعليل لذيلها ، فإنّ ما أضلّ به الشيطان عباد الله تعالى ليس إلّا مجرّد وعود زائفة ، وأمانيّ باطلة حصلت من وعوده الّتي هي من وساوسه ، فكانت مجرّد وهم وتخيّل ، وهذه الوعود والأماني هي من أقوى أسباب الضلال وأشدّ حبائل الاحتيال وأعظم كيده (لعنه الله) ووساوسه ؛ ولذا اقتصر سبحانه وتعالى عليهما في هذه الآية الكريمة.

قوله تعالى : (وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً).

الغرور : هو الباطل وإيقاع النفس في الهلاك والبوار ، وعن عليّ عليه‌السلام : «إذا استولى الفساد على أهل الزمان ، فمن أحسن الظنّ بهم فقد غرّر نفسه» ، أي : أوقعها في الهلاك وسمّي الشيطان غرورا ؛ لأنّه يحمل الإنسان على محابّه ، ووراء ذلك ما يسوءه.

وأمّا أنّ وعد الشيطان باطل ؛ لأنّه لم تكن له حقيقة ، وأمانيه ليس لها واقع ، بل هي مجرّد وهم وتخييل. أليس هذا هو الخسران وإيقاع النفس في المهالك وصدّها عن المسير الاستكمالي الّذي خلق الله تعالى الإنسان لأجل ذلك؟ ألم يكن ذلك هو الغرور الّذي به وقعت الإنسانيّة في العذاب والجهالة في الدنيا قبل الآخرة؟! أليست الآثار الّتي ترتّبت على الوعود الشيطانيّة وأمانيه مضلّة ومهلكة للإنسانيّة جمعاء؟! فهذا القلق والاضطراب والتحيّر والشكّ والانحراف والشذوذ ، والخروج عن الاستقامة ، وإتيان الرذائل وارتكاب الفحشاء والمنكر وغير ذلك من أباطيل الشيطان الّذي أوقع من أطاعه وعبده فيها ، واغترّ الإنسان بها فأوقع نفسه في الخسران والهلاك ، وأي خسران أعظم من تبديل السعادة الحقيقة وكمال الخلقة إلى الشقاء والحرمان ، فكان المبدأ مضلا وفاسدا ، والواسطة افتتانا وإيهاما وتخيّلا وكذبا وخديعة ، والنهاية خسران وحرمان وشقاء ، فهل يبقى لمن أطاع الشيطان وعبده وتبجّح بولايته وتحدّى به الله تعالى عذر؟ أفلا يكون ذلك كافيا في رجوع

٢٩١

الإنسان إلى نفسه والتفكّر في حقيقته ومصيره ردعا وعبرة له؟! وفي الحديث عن عليّ عليه‌السلام : «رحم الله عبدا تفكّر من أين وفي أين والى أين».

قوله تعالى : (أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً).

بيان لسوء عاقبة من أطاع الشيطان وتولّاه من دون الله تعالى ، أي : أولئك الّذين أضلّهم الشيطان وأغواهم مستقرّهم جميعا جهنّم مرغمون فيها ، ولا يمكن الفرار منها لعدم وجود معدل ومهرب يفرّون إليه.

والمحيص : اسم مكان ، أو مصدر ميمي من : حاص يحيص إذا عدل وولي ، يقال : «وقع في حيص وبيص» إذا وقع في أمر يعسر التخلّص منه.

وإنّما وصفهم عزوجل بذلك ؛ لأنّه فسدت سريرتهم وخبثت بواطنهم باتّباعهم الشيطان ، فهم يتهافتون يوم القيامة في جهنّم وينجذبون إليها ، يستفاد أنّه لا شفاعة تدركهم وتنجيهم من عذاب جهنّم.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ).

التفات من التكلّم إلى الغيبة ؛ تعظيما للمطيعين وتنويها بجلالة مقامهم ، ثمّ الرجوع إلى التكلّم مع الغير الّذي بني الكلام عليه في الآية الكريمة للإشارة إلى قرب حضورهم ، ومن عادته عزوجل أنّه إذا ذكر حال الكافرين يذكر أحوال المؤمنين ، فيقرن بين الوعد والوعيد ؛ تتميما للفائدة وتذكيرا للطائفتين ، وترغيبا للكافرين إلى الإيمان وتخويفا للمؤمنين ، وفي المقام بيّن عزوجل حال المؤمنين وحسن حالهم وما أوجب دخولهم الجنّة ، وهو الإيمان بالله تعالى وتركهم طاعة الشيطان وفعلهم الصالحات ، فكان جزاؤهم دخول الجنّات الّتي تجري من تحتها الأنهار لتزيد روعتها وبهائها وبهجتها فتتم بها سرورهم ، فكان هنا إيمان بالله العظيم ، وفعل الصالحات ، وجنّات وخلود فيها ، وهناك طاعة الشيطان ووعود منه وتخيّل من مطيعيه وجهنّم وخلودا فيها ، فكان تقابلا كاملا بين الطائفتين ، ويزيد

٢٩٢

هنا خلود من الله تعالى وخطابا معهم : (سَنُدْخِلُهُمْ) تكريما للمؤمنين المطيعين ، وإبعادا لهم عن كلّ ما ينغّص عيشهم ، وفيه غاية القرب وعدم احتجابه عزوجل عنهم وهو وليّهم.

وأمّا هناك ، فكان انجذاب بين النار وبين من تولّى الشيطان ؛ ليذوقوا وبال أعمالهم الّتي أوجدت التناسب بينهم وبين النار ، كما تقدّم.

والجنّات الّتي وعدها الله تعالى للمؤمنين به تشمل جنّة الأفعال ، وجنّة الصفات ، وجنّة الذات ؛ والأوّل ما يمنحها الله تعالى لعامل الفعل الحسن والعمل الصالح ، والثانية هي الّتي تمنح للصفات الحميدة أو على الأفعال الناشئة منها. والثالثة هي مقام القرب والزلفى لديه عزوجل ، وهي أعلى مراتب الجنان ، وتقدّم التفصيل في ذلك.

قوله تعالى : (خالِدِينَ فِيها أَبَداً).

زيادة في سرورهم وبهجتهم وإبعادا لهم ممّا ينغّص عيشهم ، والخلود إنّما كان نتيجة إيمانهم وأعمالهم الصالحة الّتي استولت على مشاعرهم ، فلو عمّروا طول الدهر لفعلوا الصالحات.

قوله تعالى : (وَعْدَ اللهِ حَقًّا).

مقابلا لما ذكره عزوجل في وعد الشيطان الّذي لم يكن إلّا غرورا ، فهنا وعد حقّ وصدق ، وهناك وعد الغرور ، فما أشدّ الاختلاف بينهما؟!! وإنّما وضع اسم الجلالة موضع المضمر ؛ مبالغة وتعظيما للمقام ؛ وتنويها بشرف الوعد. و (حَقًّا) منصوب مؤكّدا ، أي : وعدهم وعدا حقّا ، وقيل : إنّه منصوب على أنّه حال من (سَنُدْخِلُهُمْ).

قوله تعالى : (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً).

فإنّ ما أخبره عزوجل عن حال الشيطان وإضلاله وسوء حال من تولّاه وأطاعه ، ووعده للمؤمنين كلّه صدق وعين الحقيقة والواقع ، ولا يتمكّن غيره

٢٩٣

عزوجل أن يخبر كذلك ، فكان قوله تعالى صدقا وصوابا ، فعلى هذا تكون الجملة بيانيّة عمّا أخبره عزوجل عن وعده تعالى للمؤمنين ووعيده للكافرين ، وليست مجرّد تأكيد. وفيها الدلالة على كذب مواعيد الشيطان الّتي أغرّت من أطاعه.

و (قِيلاً) : مصدر قال يقول ، ومثله القال ، وعن ابن السكيت (رضوان الله تعالى عليه) أنّهما اسمان لا مصدران ، ونصبه في المقام على التمييز.

٢٩٤

بحوث المقام

بحث دلالي :

يستفاد من الآيات المباركة أمور :

الأوّل : يستفاد من قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) أنّ الجزاء على الأعمال ـ سواء أكان وعدا أم وعيدا ـ مترتّب على سلامة الأرواح وسعادتها أو شقائها وهلاكها ، وهما ينشئان ممّا عليه الإنسان في دار الدنيا من سلامة الفطرة وصحّة العقيدة وصالح الأعمال ، أو الانحراف عن الفطرة وفساد العقيدة واكتساب الرذائل والتدنّس بها ، فتكون درجات الجنّة ودركات النار على طبق المراتب ، وإنّ أعلاها التوحيد الكامل ، وأمّا أخسّ الدركات فهي الشرك بالله تعالى ، ولكلّ منهما صفات تناسبها. وعلى هذا يكون عدم غفران الله تعالى الشرك أمرا طبيعيّا موافقا للقاعدة الّتي تقتضي التناسب بين الجزاء والفعل. فإنّه تعالى لو ادخل المشرك الجنّة للتمتع بنعيمها كما يتمتّع المؤمن الموحّد ، فهذا نقض لسنّة الله الّتي لا تقبل التّغيير والتبديل ، الّتي قضت أن ينال كلّ واحد جزاء عمله.

الثاني : يدلّ قوله تعالى : (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً) على أنّ ما يعبد من دون الله تعالى ، ضعيف عاجز لا يقدر على تحقيق مقاصد من يعبدونها ، ويؤكّد ذلك سياق الآية الشريفة الّذي وصف الله تعالى نفسه بعدم الغفران للمشركين وغفرانه لغيرهم ، فهو القادر على كلّ شيء.

وتدلّ أيضا على أنّ ما يعبد من دون الله تعالى يصيبه كلّ ما يصيب الإناث من سائر المخلوقين من الآفات والأمراض ، والله هو القوي العزيز الّذي يمتنع عليه جميع ذلك ويستحيل أن يقع محلا للحوادث ، كما ثبت في الفلسفة الإلهيّة. وأنّ كلّ معبود من دون الله تعالى مهما بلغ من العظمة والقوّة والقدسية لدى من يعبدونه ، فإنّه ضعيف يحتاج إلى من يعينه ويساعده من كلّ مخلوق.

٢٩٥

الثالث : يدلّ قوله تعالى : (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً) على أنّ عبادتهم لتلك الإناث إنّما هي عبادة صوريّة ظاهريّة ، لا توافق ما عليه فطرتهم الداعية إلى عبادة الواحد الأحد ، فتكون عبادتهم مجرّد دعاء صادر حين الحاجة.

الرابع : يدلّ تقريره عزوجل لما حكاه عن الشيطان الرجيم في قوله : (وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) على أنّ مطيعي الشيطان لا يخرجون بذلك عن كونهم عباد الله ولا ينسلخون عن هذا الشأن ، وربما يكون هذا الأمر مقتضيا لخروجهم عن طاعة الشيطان ورجوعهم إلى معبودهم الحقيقي الّذي هو خالقهم ، وفيه كمال العناية بعباده ، وأنّهم يقعون مورد لطفهم إن هم رجعوا عن غيهم وضلالهم وهيّئوا أنفسهم لنيل رحمته جلّت عظمته.

الخامس : يدلّ قوله تعالى : (وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً) على أنّ عبادة غير الله تعالى وطاعته توجب الطغيان والتمرّد على الحقّ والبعد عن الواقع ، فيهون ارتكاب كلّ رذيلة وإتيان كلّ فحشاء ومنكر ، فلا تبقى إرادة للخير ولا طمع في الفضيلة ، كما لا تبقى للفطرة سلامتها ، ولكن تتفاوت درجات الطاعة للشيطان ، ولعلّ هذا هو أحد المعاني في قوله تعالى : (فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ).

السادس : يدلّ قوله تعالى : (فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ) على أنّ التصرّف في الكائنات والسلطنة عليها إنّما تكون من شؤون بارئها وخالقها ، وليس لغيره عزوجل ذلك ، فلا تشمل كلّ تصرّف وتغيير ، فضلا عمّا ورد من الشارع المقدّس الإذن فيه كالختان وتقليم الأظافر ، والخضاب ، وقطع العضو الزائد أو الفاسد في الإنسان ونحو ذلك.

السابع : يستفاد من قوله تعالى : (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ) أنّ كلّ ما سواه عزوجل ممّا يعبده الإنسان أو يطيعه لا حقيقة له ، وإنّما هو وهم وسراب ، ومآله إنّما يكون الخسران والدمار والهلاك ، وهمّه خسران الإنسان حقيقته في الدنيا والآخرة ، كما هو معلوم.

٢٩٦

الثامن : يستفاد من قوله تعالى : (وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً) أنّ الأعمال الفاسدة والملكات الرذيلة والعقائد الباطلة تؤثّر في الإنسان أثرا بليغا ، حتّى يصل الى قلب الحقيقة فتوجب التشابه بينه وبين ما يناسبه حينئذ ، فكانت النار الّتي هي جزاء من تولّى الشيطان هي الأثر المناسب لأفعاله ، فتحصل التجاذب بينهم وبين النار ، فلا مفرّ لهم منها ولا مكان آخر يأويهم.

التاسع : إنّما جمع سبحانه وتعالى الطاعة والإيمان في الآيات المباركة : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) ؛ لبيان أنّ مجرّد الإيمان والعقيدة بلا عمل وطاعة لا يؤثّر في دخول الجنّة ، بل لا بدّ من اقتران الإيمان بالعمل الصالح.

نعم ، لكلّ منهما أثر وضعي خاصّ ، ولكن الجزاء يتوقّف على الإيمان والعمل معا ، كما مرّ.

بحث روائي :

في الدرّ المنثور عن أبي مجاز قال : «لما نزلت هذه الآية : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [سورة الزمر ، الآية : ٥٣] ، قام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على المنبر فتلاها على الناس ، فقام إليه رجل قال : والشرك بالله؟ فسكت مرّتين أو ثلاثا ، فنزلت هذه الآية : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) ، فأثبتت هذه في الزمر وأثبتت هذه في النساء».

أقول : تقدّم أنّ للشرك مراتب كثيرة ، وأنّ عدم الغفران يختصّ بالمرتبة الأخيرة منه ، وهي ما إذا مات على الشرك ولم يتب ، فلا تنافي بين الآيتين الشريفتين ، كما تقدّم في البحث الروائي في الآية المباركة ٤٨ من سورة النساء ، والتفكيك في الثبت إنّما كان من فعله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

٢٩٧

وفي تفسير العياشي عن قتيبة الأعشى قال : «سألت الصادق عليه‌السلام عن قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ)؟ قال : دخل في الاستثناء كلّ شيء» ، وفي رواية أخرى عنه عليه‌السلام أيضا : «دخل الكبائر في الاستثناء».

أقول : يستفاد من مضامين الآيات الشريفة والسنن المعصوميّة أنّ المناط في الغفران ـ أو نيل الشفاعة في يوم القيامة ـ هو الموت مع الإيمان بالله تعالى ، فإذا انسلخ الإيمان وحلّ محلّه الشرك ، فالغفران عنه بعيد ولا تشمله الشفاعة أيضا ، ويدلّ على ما ذكرنا عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ما من عبد يموت لا يشرك بالله شيئا إلّا حلّت له المغفرة ، إن شاء غفر له ، وإن شاء عذّبه» ، وتقدّم أنّ للشرك مراتب متفاوتة جدا.

وفي البخاري ومسلم والنسائي والترمذي عن أبي ذر قال : «أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : ما من عبد قال : لا إله إلّا الله ، ثمّ مات على ذلك إلّا دخل الجنّة ، قلت : وإن زنى وإن سرق؟! قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : وإن زنى وإن سرق ، قلت : وإن زنى وإن سرق؟! قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : وإن زنى وإن سرق ، ثلاثا ثمّ قال في الرابعة : على رغم أنف أبي ذر».

أقول : تقدّم أنّ المراد من قول : «لا إله إلّا الله» مع الشرائط والموت مع العقيدة به ، لا مجرّد التلفّظ به ، ولعلّ المراد من ذيل الحديث أنّ الغفران لا يكون تحت سلطة العباد ، بل هو مختصّ به تعالى ، ولا بدّ من تقييده بعدم وجود مظالم العباد عليه ، وإلّا يتوقّف الغفران على أدائها أو إسقاطها ، كما مرّ في الروايات السابقة.

وعن البيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «قال الله عزوجل : من علم أنّي ذو قدرة على مغفرة الذنوب ، غفرت له ولا أبالي ما لم يشرك بي شيئا».

٢٩٨

أقول : إنّ مغفرته تعالى لذنوب عباده من مظاهر صفاته ، فلا يكون له حدّا محدودا.

نعم ، لو تعلّق بذنوب شخص يثبت له التحديد من ناحية المتعلّق. وأمّا عدم غفرانه تعالى للمشركين ؛ لعدم لياقتهم وعدم أهليّتهم لشمول الرحمة لهم ، كما عرفت في التفسير.

وفي تفسير العياشي بسنده عن جابر ، عن أبي جعفر عليه‌السلام في قول الله تعالى : (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ) قال : «أمر الله بما أمر به».

أقول : لأنّ أوامر الله تعالى هي دينه ، والدين هو الفطرة المستقيمة ؛ ولذلك عبّر عنه في بعض الروايات بدين الله.

وعن الطبرسي في قوله تعالى : (فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ) قال : ليقطعوا الآذان من أصلها ، وهو المروي عن الصادق عليه‌السلام.

أقول : تقدّم ذلك أيضا من بعض المفسّرين ، وأنّ المراد به قطع آذان البحائر والسوائب والأنعام ويحرّمونها بذلك على أنفسهم ويجعلونها للأصنام ، كما مرّ في التفسير.

وفي تفسير العياشي بسنده عن جابر ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «كان إبليس أوّل من ناح وأول من تغنّى وأوّل من قال حدى ، قال : لما أكل آدم من الشجرة تغنّى ، فلما هبط حدى به ، فلما استقرّ على الأرض ناح فاذكره ما في الجنّة ، فقال آدم عليه‌السلام : ربّ هذا الّذي جعلت بيني وبينه العداوة ، لم أقو عليه وأنا في الجنّة ، وإن لم تغني عليه لم أقو عليه ، فقال الله تعالى : السيئة بالسيئة والحسنة بعشر أمثالها ـ إلى سبعمائة ـ قال : ربّ زدني ، قال : لا يولد لك ولد إلّا جعلت معه ملكين يحفظانه ، قال : ربّ زدني ، قال : التوبة معروضة في الجسد ما دام فيه الروح ، قال : ربّ زدني ، قال : اغفر الذنوب ولا أبالي ، قال : حسبي ، فقال إبليس : ربّ هذا الّذي كرّمته عليّ وفضّلته وإن لم تفضّل عليّ لم أقو عليه ، قال : لا يولد له ولد إلّا ولك ولدان ، قال :

٢٩٩

ربّ زدني ، قال : تجري منه مجرى الدم في العروق ، قال : رب زدني ، قال : تتّخذ أنت وذرّيتك في صدورهم مساكن ، قال : ربّ زدني ، قال : تعدهم وتمنّيهم ، وما يعدهم الشيطان إلّا غرورا».

أقول : أمّا ما منحه الله تعالى لآدم ؛ فلأنّه الكمال ، وأنّ آدم في طريق الاستكمال. وأمّا ما منحه الله تعالى للشيطان فلأن به يتحقّق الاختيار في الخلق.

أخرج البيهقي في الدلائل عن عقبة بن عامر قال : «خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في غزوة تبوك ، فأشرف رسول الله فلما كان منها على ليلة فلم يستيقظ حتّى كانت الشمس قيد رمح ، قال : ألم أقل لك يا بلال أكلئنا الليلة؟ فقال : يا رسول الله ذهب بي النوم فذهب بي الّذي ذهب بك ، فانتقل رسول الله من ذلك المنزل غير بعيد ثمّ صلّى ، ثمّ هدر بقية يومه وليلته فأصبح بتبوك فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثمّ قال :

أما بعد : فإنّ أصدق الحديث كتاب الله ، وأوثق العرى كلمة التقوى ، وخير الملل ملّة إبراهيم ، وخير السنن سنّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأشرف الحديث ذكر الله ، وأحسن القصص هذا القرآن ، وخير الأمور عوازمها ، وشرّ الأمور محدثاتها ، وأحسن الهدى هدى الأنبياء ، وأشرف الموت قتل الشهداء ، وأعمى العمى الضلالة بعد الهدى ، وخير العلم ما نفع ، وخير الهدى ما اتّبع ، وشرّ العمى عمى القلب ، واليد العليا خير من اليد السفلى ، وما قلّ وكفى خير ممّا كثر وألهى ، وشرّ المعذرة حين يحضر الموت ، وشرّ الندامة يوم القيامة ، ومن الناس من لا يأتي الصلاة إلّا دبرا ، ومنهم من لا يذكر الله إلّا هجرا ، وأعظم الخطايا اللسان الكذوب ، وخير الغنى غنى النفس ، وخير الزاد التقوى ، ورأس الحكمة مخافة الله عزوجل ، وخير ما وقر في القلوب اليقين والارتياب من الكفر ، والنياحة من عمل الجاهليّة ، والغلول من جثاء جهنّم ، والكنزكي من النار ، والشعر من مزامير إبليس ، والخمر جماع الإثم ، والنساء حبالة الشيطان ، والشباب شعبة من الجنون ، وشرّ المكاسب كسب الربا ، وشرّ المآكل مال

٣٠٠