مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٩

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٩

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٣
ISBN: 964-5665-08-6
الصفحات: ٣٩٦

هم مجتمعون على الإيمان ، من سبل الله تعالى ومن مظاهر طاعته عزوجل وطاعة الرسول الّتي أمرنا الله تعالى بها في عدّة آيات شريفة.

والمناط في هذا السبيل هو الاجتماع على الإيمان ، الّذي هو الحافظ لوحدة سبلهم ، والإيمان إنّما يتحقّق بطاعة الله تعالى وطاعة الرسول ، ويدلّ على ما ذكرناه قوله تعالى : (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٠١] ، وقال تعالى : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً) [سورة آل عمران ، الآية : ١٠٣] ، وقد وصف عزوجل سبيل المؤمنين بعدة أوصاف في القرآن الكريم ، منها أنّه سبيل التعاون على البرّ والتقوى ، قال تعالى : (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) [سورة المائدة ، الآية : ٢].

الثالث عشر : يدلّ قوله تعالى : (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) على النهي على شقّ عصا المؤمنين ، وأنّ مخالفتهم من معصية الله والرسول ومشاقّته.

الرابع عشر : يدلّ قوله تعالى : (نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى) على حرية ما يختاره الإنسان ، حيث إنّه عزوجل بعد ما يأمره بالطاعة له وللرسول ، وبعد ما يبيّن له سبل الهداية ويتمّ له الحجّة ، فإن أعرض عن ذلك فإنّه تولّى غير ما يريده الله تعالى ، فيدعه إلى ما يريده ويتولّاه.

الخامس عشر : يستفاد من سياق هذه الآيات المباركة أنّ وبال الشرّ يعود على صاحبه ، كما أنّ منفعة الخير تعود على فاعله ، وأنّ الأسباب الظاهريّة لا تكون منشأ للضرر لو عصم الله تعالى منه عبدا ، فالآيات الكريمة جامعة لفضائل كثيرة وناهية عن مساوئ عديدة.

٢٦١

بحث روائي :

في الكافي بسنده عن عبد الله بن سنان قال : «قال الصادق عليه‌السلام : لا والله ما فوّض الله إلى واحد من خلقه إلّا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وإلى الأئمة عليهم‌السلام ، قال الله عزوجل : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) ، وهي جارية في الأوصياء».

أقول : يستفاد من هذه الرواية أنّ الآية الشريفة في مقام الامتنان على هذه الأمّة ، ومعنى تفويض الله تعالى ذلك إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ردّ أمر دينه إليه في التطبيق ؛ لأنّه جلّ شأنه يعلم أنّ نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله يحفظ حدود دينه ويثبت قوائمه ، وفي الحديث : «فوّض الله إلى النبيّ أمر دينه ولم يفوّض إليه تعدّى حدوده» ، وأنّ الأوصياء لم ينفذوا إلّا ما أمرهم به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ممّا أودعه عندهم من الأحكام والمعارف.

وفي الكافي بسنده عن موسى بن أشيم قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : «إنّي أريد أن تجعل لي مجلسا ، فواعدني يوما فأتيته للميعاد فدخلت عليه ، فسألته عمّا أريد أن أسأله عنه ، فبينما نحن كذلك إذ قرع رجل الباب فقال : ما ترى هذا رجل بالباب؟ فقلت : جعلت فداك ، أمّا أنا قد فرغت من حاجتي فرأيك ، فأذن له فدخل الرجل فجلس ثمّ سأله عن مسائلي بعينها لم يخرم منها شيئا ، فأجابه بغير ما أجابني فدخلني من ذلك ما لا يعلمه إلّا الله. ثمّ خرج فلم يلبث إلّا يسيرا حتّى استأذن عليه آخر فأذن له فجلس ساعة فسأله عن تلك المسائل بعينها ، فأجابه بغير ما أجابني وأجاب الأوّل قبله ، فازددت غمّا حتّى كدت أن أكفر ثمّ خرج ، فلم يلبث إلّا يسيرا حتّى جاء ثالث فسأله عن تلك المسائل بعينها ، فأجابه بخلاف ما أجابنا أجمعين ، فأظلم عليّ البيت ودخلني غمّ شديد ، فلما نظر إليّ ورأى ما قد دخلني ضرب بيده على منكبي ، ثمّ قال : يا ابن أشيم ، إنّ الله فوّض إلى ابن داود ملكه فقال : (هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ) ، وإنّ الله عزوجل فوّض إلى

٢٦٢

محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر دينه فقال : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) ، وإنّ الله فوّض إلينا من ذلك ما فوّض إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

أقول : لعلّ اتّحاد المسائل من الأشخاص لأنّها كانت من الأمور الشائعة في ذلك الوقت ، واختلاف الأجوبة من الإمام عليه‌السلام إنّما كان لأجل قرائن حافّة بها لم يفهمها ابن أشيم وعرفها الإمام عليه‌السلام ، أو لأجل طرو عناوين أخرى يرى عليه‌السلام المصلحة فيها.

وكيف كان ، فقد ظهر ممّا تقدّم الوجه في الرواية.

وفي تفسير علي بن إبراهيم أنّ سبب نزول قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً) أنّ قوما من الأنصار من بني أبيرق إخوة ثلاثة كانوا منافقين بشر وبشير ومبشر ، فنقبوا على عمّ قتادة بن النعمان ، وكان قتادة بدريا وأخرجوا طعاما كان أعدّه لعياله وسيفا ودرعا ، فشكى قتادة ذلك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا رسول الله ، إنّ قوما نقّبوا على عمّي وأخذوا طعاما كان أعدّه لعياله وسيفا ودرعا ، وهم أهل بيت سوء وكان معهم في الرأي رجل مؤمن يقال له : لبيد بن سهل ، فقالوا : بنو أبيرق لقتادة : هذا عمل لبيد بن سهيل ، فبلغ ذلك لبيدا فأخذ سيفه وخرج عليهم ، فقال : يا بني أبيرق ، أترموني بالسرقة؟! وأنتم المنافقون تهجون رسول الله وتنسبون إلى قريش ، لتبينن ذلك أو لأملأن سيفي منكم ، فداروه وقالوا له : ارجع يرحمك الله ، فإنّك بريء من ذلك ، فمشى بنو أبيرق إلى رجل من رهطهم يقال له أسيد بن عروة وكان منطيقا بليغا ، فمشى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا رسول الله ، إنّ قتادة بن النعمان عمد إلى أهل بيت منا أهل شرف وحسب ونسب فرماهم بالسرقة واتّهمهم بما ليس فيهم ، فاغتمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لذلك وجاء إليه قتادة فأقبل عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال له : عمدت الى أهل بيت شرف وحسب ونسب فرميتهم بالسرقة ، وعاتبه عتابا شديدا ، فاغتمّ قتادة من ذلك ورجع إلى عمّه ، وقال : يا ليتني متّ ولم أكلم

٢٦٣

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقد كلّمني بما كرهته ، فقال عمّه : الله المستعان ، فأنزل الله تعالى في ذلك : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) ـ الآية».

أقول : وفي رواية أبي الجارود في ذيل الآية المباركة عن أبي جعفر عليه‌السلام أنّه لم يصدر منه صلى‌الله‌عليه‌وآله شيء ، وهي قال : «إنّ إنسانا من رهط بشير الأدنين قالوا : انطلقوا بنا الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ونكلّمه في صاحبنا أو نعذره ، إنّ صاحبنا بريء فلما أنزل الله تعالى : (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ) ـ الآية ، فأقبلت رهط بشير فقالوا : يا بشير استغفر الله وتب إليه من الذنوب ، فقال : والّذي أحلف به ما سرقها إلّا لبيد ، فنزلت : (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) ، ثمّ إنّ بشيرا كفر ولحق بمكّة ، وأنزل الله في النفر الّذين أعذروا بشيرا ليعذروه قوله تعالى : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ)».

والرواية من باب التطبيق ، وإنّ سبب النزول لا يخصّص الآية ، وإنّما هو من باب ذكر أحد المصاديق ، وقريب منها ما ذكره السيوطي في الدرّ المنثور ، وأبيرق طائفة من اليهود.

وفي الدرّ المنثور عن ابن عباس قال : «إنّ نفرا من الأنصار غزوا مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في بعض غزواته فسرقت درع لأحدهم ، فأظنّ بها رجلا من الأنصار فأتى صاحب الدرع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : إنّ طعمة بن أبيرق سرق درعي ، فلما رأى السارق ذلك عمد إليها فألقاها في بيت رجل بريء وقال لنفر من عشيرته : إنّي غيبت الدرع وألقيتها في بيت فلان وستوجد عنده ، فانطلقوا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا : يا نبي الله ، إنّ صاحبنا بريء ، وإنّ سارق الدرع فلان وقد أحطنا بذلك علما فأعذر صاحبنا على رؤوس الناس وجادل عنه ، فإنّه إن لم يعصمه الله بك يهلك ، فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فبرّأه وعذره على رؤوس الناس ، فأنزل الله : (إِنَّا

٢٦٤

أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً* وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً* وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً) ، ثمّ قال للذين أتوا رسول الله ليلا : (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ) ـ إلى قوله تعالى ـ (وَكِيلاً) ، يعني الّذين أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مستخفين يجادلون عن الخائنين ، ثمّ قال : (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) ، يعني السارق والّذين جادلوا عن السارق».

أقول : الرواية من باب التطبيق ، وقد ورد هذا المعنى بطرق كثيرة وباختلاف يسير ، وأمّا المضمون فهو متّفق عليه ، وكلّها من باب الجري لا التخصيص ، ولا بدّ من تطبيقها على ما لا ينافي العصمة ، كما يأتي والله العالم.

وفي أسباب النزول للواحدي : «أنزلت الآية المباركة كلّها في قصة واحدة وذلك أنّ رجلا من الأنصار يقال له : طعمة بن أبيرق أحد بني ظفر بن الحارث ، سرق درعا من جار له يقال له : قتادة بن النعمان وكانت الدرع في جراب فيه دقيق ، فجعل الدقيق ينثر من خرق في الجراب حتّى انتهى إلى الدار وفيها أثر الدقيق ، ثمّ خبّأها عند رجل من اليهود يقال له : زيد بن السمين ، فالتمست الدرع عند طعمة فلم توجد عنده وحلف لهم : والله ما أخذها وما له به من علم ، فقال أصحاب الدرع : بلى والله ، قد أولج علينا فأخذها وطلبنا أثره حتّى دخل داره فرأينا أثر الدقيق ، فلما أن حلف تركوه واتّبعوا أثر الدقيق حتّى انتهوا إلى منزل اليهودي فأخذوه ، فقال : دفعها إليّ طعمة بن أبيرق ، وشهد له أناس من اليهود على ذلك ، فقالت بنو ظفر ـ وهم قوم طعمة ـ : انطلقوا بنا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فكلّموه في ذلك وسألوه أن يجادل عن صاحبهم وقالوا : إن لم تفعل هلك صاحبنا وافتضح وبرئ اليهودي ، فهمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يفعل ـ وكان هواه معهم ـ وأن يعاقب اليهودي حتّى أنزل الله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ)».

٢٦٥

أقول : تقدّم منّا مكرّرا أنّ منشأ النزول لا يكون سببا للتخصيص ، بل المناط عموم الآية المباركة ، فتنطبق على موردها في كلّ عصر وزمان ، كما لا بدّ من حمل تلك الروايات والآثار على وجه لا تنافي عصمته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإلّا فلا بدّ من ردّها إلى أهلها ، وأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله همّ أن يفعل وكان الاهتمام لأجل مصلحة وقتيّة ، وإلّا كان صلى‌الله‌عليه‌وآله يعلم الحقّ والواقع. وقد وردت في قوله تعالى : (إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ) روايات في الكافي وتفسير العياشي ذكرت فيها أسماء أشخاص ، كلّها من باب التطبيق وذكر بعض المصاديق.

وعن البيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود قال : «وكان بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم ذنبا أصبح وقد كتب كفّارة ذلك الذنب على بابه ، وإذا أصاب البول شيئا منه قرّضه بالمقراض ، فقال رجل : لقد أتى الله بني إسرائيل خيرا ، فقال ابن مسعود : ما آتاكم الله خيرا ممّا آتاهم ، جعل لكم الماء طهورا وقال : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً)».

أقول : ورد مضمون هذا الأثر في رواياتنا الواردة عن الأئمة الهداة عليهم‌السلام ، وصدر الرواية كذيلها يدلّ على التشديد ، وقد منّ الله تعالى على هذه الأمّة المرحومة برفعه ، وذكرنا في كتاب الطهارة من (مهذب الأحكام) ما يتعلّق بقرض أبدانهم إذا أصابها البول.

وكيف كان ، فإنّه من باب التطبيق.

وفي الدرّ المنثور عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ما من عبد أذنب فقام فتوضّأ فأحسن وضوءه ثمّ قام فصلّى واستغفر من ذنبه ، إلّا كان حقّا على الله أن يغفر له ؛ لأنّ الله يقول : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً)».

أقول : المراد من الحقّ في هذه الرواية وأمثالها أنّه ممّا حقّق عليه القضاء

٢٦٦

والتقدير ، أو أنّه ثبت أو كتب على نفسه ، كما في قوله تعالى : (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) ، أو بمعنى اليقين.

وكيف كان ، فالرواية من باب التطبيق.

وفي تفسير العياشي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ما من عبد أذنب ذنبا واستغفر الله من ذنبه إلّا كان حقيقا على الله أن يغفر له ؛ لأنّه يقول : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً)».

وقال : «إن ليبتلي العبد وهو يحبّه ليسمع تضرّعه ، وقال : ما كان الله ليفتح باب الدعاء ويغلق الإجابة ؛ لأنّه يقول : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)» ، وما كان ليفتح باب التوبة ويغلق باب المغفرة وهو يقول : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً)».

أقول : تضرّع العبد لدى المولى نحو كمال واستكمال للعبد ؛ لأنّه يكشف عن الانقطاع إليه جلّت عظمته والتوجّه إليه ، وفي تأخير إجابة دعاء المؤمن ـ مع قطع النظر عن المصالح ـ نحو استكمال للعبد وشرف له ؛ لأنّ الله تعالى يحبّ أن يسمع تضرّعه ، هذا هو منتهى الكمال وغاية الشرف له. والمراد من الحقيق الجدير ، كما هو واضح.

وفي تفسير العياشي عن عبد الله بن سنان : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام : الغيبة أن تقول في أخيك ما هو فيه ممّا قد ستره الله عليه ، فأمّا إذا قلت ما ليس فيه فذلك قول الله : (فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً)».

أقول : لا بدّ من تقييدها من المغتاب (بالفتح) لا يكون من أهل البدع أو من الّذين أسقط الشارع احترامهم ، كما ذكرنا في المكاسب المحرّمة من (مهذب الأحكام). وفي الحديث : «انّ عائشة قالت لامرأة مرّت بها : ما أطول ذيلها ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : اغتبتيها ، قومي إليها فتحلليها».

وفي تفسير علي بن إبراهيم بسنده عن الحلبيّ عن الصادق عليه‌السلام : «انّ الله

٢٦٧

فرض التحمّل في القرآن ، قلت : وما التحمّل جعلت فداك؟ قال : أن يكون وجهك اعرض عن وجه أخيك فتحمل له ، وهو قول الله : (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ)».

أقول : المراد من الوجه الرضا ؛ لأنّ الشخص إذا أراد شيئا أقبل بوجهه عليه وإذا كرهه أعرض بوجهه عنه ، وإنّ النجوى تنافي المجاملات الأخلاقيّة المفروضة في القرآن ، إلّا في ما استثناها الآية الشريفة.

ولعلّ المراد من التحمّل ارتكاب الحيل الشرعيّة في قضاء حوائج الإخوان ، وقد ضبط بالجيم (التجمّل) ، وضبط بالحاء (التحمّل) ، كما مرّ.

وفي تفسير علي بن إبراهيم عن علي عليه‌السلام قال : «إنّ الله فرض عليكم زكاة جاهكم كما فرض عليكم زكوه ما ملكت أيديكم».

أقول : إنّ بذل الجاه في سبيل قضاء حوائج الإخوان تقرّبا إلى الله تعالى من أجلّ المكارم وأسمى الفضائل ، ومن الأدب الرفيع الّذي حثّ عليه الإسلام ، وبه ينبسط العدل على وجه البسيطة وتحصل السعادة القصوى للمجتمع وشرف المنزلة لأفراده ؛ ولذا قرنه عليه‌السلام بأهمّ الفرائض الّتي بني عليها الإسلام ويدور عليها نظام اقتصاده.

وفي الكافي بسنده عن أبي الجارود قال : «قال أبو جعفر عليه‌السلام : إذا حدّثتكم بشيء فاسألوني عنه من كتاب الله ، ثمّ قال في بعض حديثه : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عن القيل والقال وفساد المال وكثرة السؤال ، فقيل له : يا ابن رسول الله ، أين هذا من كتاب الله؟ قال : إنّ الله عزوجل يقول : (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) ، وقال : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) ، وقال : (لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ)».

أقول : هذا النهي تنزيهي وإرشادي تربوي ، وقد أثبت العلم الحديث

٢٦٨

مضمون هذه الرواية وأكّد على النظام والهدوء والصمت وعدم الإسراف على الإطلاق.

وكيف كان ، فالرواية من باب التطبيق.

وفي الدرّ المنثور عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ومن سرّه أن يسلم فليلزم الصمت».

وعن البيهقي في وصية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لأبي ذر : «أوصيك بتقوى الله ، فإنّه أزين لأمرك كلّه ، قلت : زدني ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : عليك بتلاوة القرآن وذكر الله ، فإنّه ذكر لك في السماء ونور لك في الأرض. قلت : زدني ، قال : عليك بطول الصمت ، فإنّه مطردة للشيطان وعون لك على أمر دينك ، قلت : زدني قال : وإيّاك وكثرة الضحك ، فإنّه يميت القلب ويذهب بنور الوجه ، قلت : زدني ، قال : قل الحقّ ولو كان مرّا ، قلت : زدني ، قال : لا تخف في الله لومة لائم ، قلت : زدني ، قال : ليحجزك عن الناس ما تعلم من نفسك».

أقول : هذه الوصية جامعة لخير الدنيا ونعيم الآخرة ، وبها ينال الإنسان شرف العبوديّة وكمال الانقطاع إليه جلّ شأنه ويزيد عرفان العبد وفضله وتقواه ويصلح المجتمع عن كلّ عيب ، وقد مدح الصمت في كثير من الروايات ، فإنّ المؤمن العارف والمتوجّه يكون كلامه صمتا وصمته كلاما ، وببالي كان بعض مشايخنا من أهل العرفان والتوجّه كثير الصمت وكثير الذكر ، وقد ظهرت على يديه كرامات كما شاهدناها.

وفي تفسير العياشي بسنده عن الصادق عليه‌السلام في قوله تعالى : (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) يعني بالمعروف القرض.

أقول : الروايات في ذلك مستفيضة بين الفريقين ، وهو من باب ذكر أحد المصاديق.

٢٦٩

وفي الدرّ المنثور عن سفيان بن عبد الله الثقفي ، قال : «قلت : يا رسول الله مرني بأمر اعتصم به في الإسلام ، قال : قل : آمنت بالله ، ثمّ استقم ، قلت : يا رسول الله ما أخوف ما تخاف عليّ؟ قال : هذا ، وأخذ رسول الله بطرف لسان نفسه».

أقول : الروايات في مدح الصمت كثيرة بين الفريقين ، فعن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من سرّه أن يسلم فليلزم الصمت».

وعن البيهقي بسنده عن أنس : «انّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لقي أبا ذر فقال : ألا أدلك على خصلتين هما أخف على الظهر وأثقل في الميزان من غيرهما؟ فقال : بلى يا رسول الله ، قال : عليك بحسن الخلق وطول الصمت ، والّذي نفسي بيده ما عمل الخلائق بمثلهما».

أقول : ورد مضمون هذه الرواية عن أئمتنا عليهم‌السلام أيضا ، وعن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «انّ أكثر خطايا ابن آدم في لسانه».

العياشي بسنده عن أحدهما عليهما‌السلام قال : «لما كان أمير المؤمنين عليه‌السلام في الكوفة أتاه الناس فقالوا : اجعل لنا إماما يؤمنا في شهر رمضان ، فقال : لا ، ونهاهم أن يجتمعوا فيه ، فلما أمسوا جعلوا يقولون : ابكوا في رمضان ، وارمضاناه ، فأتاه الحارث الأعور في أناس فقال : يا أمير المؤمنين ، ضجّ الناس وكرهوا قولك ، فقال عند ذلك : دعوهم وما يريدون ، ليصلّي بهم من شاء وائتم قال تعالى : (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً)».

أقول : لعلّ نهيه عليه‌السلام إمّا لأجل عدم مشروعيّة الجماعة في النوافل ، كما ثبت عندنا ، أو أنّ النهي كان موقتا لمصالح كان يراها وبعد ما رأى عدم الانقياد منهم خلّى سبيلهم.

وكيف كان ، فالرواية من باب التطبيق.

وهناك بعض الروايات يدلّ على أنّ من اتّخذ إماما وولّاه في هذه الدنيا ،

٢٧٠

يكون إمامه في يوم الجزاء واستشهد فيها بالآية المباركة ، ولكن ذلك كلّه من باب التطبيق كما هو معلوم.

وعن البيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عمر قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في قوله تعالى : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى) : لا يجمع الله هذه الأمّة على الضلالة أبدا ويد الله على الجماعة ، فمن شذّ شذّ في النار».

أقول : على فرض صحّة الحديث لا بدّ وأن يكون الاجتماع على أمر لم يكن مخالفا لكتاب الله العظيم وسنّة نبيّه الكريم ، وإلّا فلا عبرة به وأن يكون المجتمعين من أهل الخبرة والمتدينين ، وفي حجيّة الإجماع الّذي هو أحد الأدلّة الّتي يعتمد عليها المجتهد شرائط ذكرناها في كتابنا (تهذيب الأصول) ، من شاء فليرجع إليه.

بحث أخلاقي :

المعروف : كلّ ما يستحسنه العقل ويقرّره الشرع من أصناف الجميل وأنواع البر ومكارم الأخلاق ، فهو في مقابل ما تكرهه النفوس ـ سواء كان مشتملا على رجحان أم لا ـ فيعمّ الواجب والمندوب وغيرهما ممّا يدخل في الحسن.

وللمعروف مراتب أحسنها ما كان فيه الصلاح والإصلاح ـ بلا فرق بين أن يتعلّق بالفرد أو الأسرة بأقسامها ـ وأسماها ما كان فيه صلاح المجتمع وإصلاحه ، وقد عدّ من المعروف ، كما في بعض الروايات ما لو كان فيه صلاح الحيوان ، أو ما فيه نفع يعود له أو يحميه من الأذى.

والجميل قد لا يختلف فيه أحد واتّفق العقلاء على حسنه وبمدح فاعله ، كإغاثة الملهوف ، وإصلاح ذات البين ، أو الخدمات الّتي فيها نفع المجتمع ، وقد لا يكون كذلك فيتّصف بالإضافة لا محالة ، وحينئذ لا بدّ وأن يرجع إلى القوانين الشرعيّة ، فما وافقها ولم تنكره فهو من المعروف ، وإلّا فلا يكون منه لاحتوائه على

٢٧١

مفسدة أو ضرر وإن لم يدركا فعلا ؛ لما ثبت في محلّه أنّ الأحكام الشرعيّة تابعة للمصالح والمفاسد وإن لم يكشف العقل المادي عنهما.

والترغيب إلى فعل المعروف يعمّ جميع المجتمعات الإنسانيّة والأديان السماويّة بل الملل المستحدثة المختلفة ، فيمكن أن يقال : إن ذا إقامة المعروف نحو حقّ على أفراد المجتمع ـ تحكم به الفطرة الخالصة ـ لأجل سوق مجتمعهم إلى الكمال المنشود ، ولإصلاحه عن الطوارئ الفاسدة ، وهذا الحقّ ثابت على أفراده ما لم يتحقّق الهدف المقصود ولم تحصل الصلة المفقودة ولم تثبت السعادة المنشودة لذلك المجتمع.

أقسام المعروف :

يختلف المعروف حسب اختلاف الفقر والحاجة إليه ، فتارة : يكون الاحتياج شخصيّا وفرديّا ، سواء كان ذلك من الكمالات المعنويّة أو المظاهر الخارجيّة. واخرى : يكون نوعيّا عامّا ، وفي كلّ منهما قد يكون المعروف خلقيّا وقوليّا أو غيرهما ، ولجميع ذلك مراتب وآثار خاصّة.

والمعروف قد يصدر من الإنسان عن شعور واختيار ـ سواء كان بباعث ديني أو إلهام سماوي ـ وقد لا يكون ذلك ، فجميع أقسامه حسن إلّا أنّ ما فيه الإخلاص لله جلّ شأنه يكون أكثر نفعا وأطول زمانا وأشدّ تقرّبا له عزوجل.

آثار المعروف :

يستفاد من الأحاديث الواردة عن المعصومين عليه‌السلام في شأن المعروف ومدحه والترغيب إليه أنّ له آثارا وضعيّة تخصّ صاحبها وفاعلها لا تنالها يد الاختيار ، وأنّها تترتّب على المعروف كترتّب الأثر على المقتضي التامّ.

بل يمكن إقامة الدليل العقلي على ذلك ؛ لأنّ الأفعال الحسنة الّتي تصدر عن

٢٧٢

الإنسان تخلّف في نفس عاملها آثارا خاصّة وحالات مخصوصة ، توجب ارتياح النفس وبعدها عن القلق النفسي الموجب للأمراض المتنوّعة ، على خلاف الأفعال السيئة الّتي تخلّف التأنيب الضميري والصراع النفسي ، كما أثبتها علماء النفس قديما وحديثا ، فمن كان صادقا ـ مثلا ـ في كلامه دائما أو يغمض عن إساءة الغير له ويعفو عنه ولا يكون في مقام الانتقام ، يشعر بالراحة النفسيّة ويكون بعيدا عن الضيق والهمّ النفسي ، وفي الحديث عن الصادق عليه‌السلام : «صنايع المعروف تدفع ميتة السوء» ، وعنه عليه‌السلام أيضا : «صنايع المعروف تقي مصارع الهوان» ، أي : الذلّ ، وغيرهما من الأحاديث. وفي المأثور عن بعض الصلحاء : «انّ امرأة وضعت لقمة في فم سائل ثمّ ذهبت إلى مزرعتها فوضعت ولدها في موضع فأخذه الذئب ، فقالت : يا ربّ ولدي ، فأخذ عنق الذئب رجل واستخرج ولدها من غير أذى ، ثمّ قال : هذه اللقمة بتلك اللقمة الّتي وضعتها في فم السائل» ، فآثار المعروف تظهر على صاحبه في هذه الدنيا قبل الآخرة.

نعم ، للزمان فيها دخل قد يؤجّل لمصالح لا يعلمها إلّا الله تعالى.

وأمّا آثار المنكر والقبيح قد تظهر على صاحبه وقد تؤجّل إلى عالم الآخرة ، فإنّ مقتضى رحمته تعالى أنّه عزوجل يظهر الجميل ويستر القبيح ، وأنّ أثره القبيح قبيح يستره الله ويؤجّله إلى دار الآخرة والخلود.

عوائق المعروف :

لا شكّ أنّ الفطرة المستقيمة الإنسانيّة تميل إلى المعروف وإقامته والى الجميل وصنعه ، وإلى البر وفعله ما لم تعوقها السبل عن مسيرها الاستكمالي ، فعن الله تبارك وتعالى في القدسيات : «خلقت عبادي حنفاء» ، أي : مستعدين لقبول الحقّ وإقامة المعروف ، فالفطرة بخلقتها الأوليّة قابلة للترقي بالتربية والوصول إلى أعلى

٢٧٣

مراتب الكمالات وأسماها بالإرادة والاختيار ، ويتحقّق ذلك بفعل المعروف وبثّه وترك المنكر وإزالته.

كما أنّ الفطرة لها قابلية النزول عن خلقتها المستقيمة مع الإرادة والاختيار بالانحراف الّذي يحصل من أمور أهمّها حبّ البقاء ، والجهل ، والخوف وحبّ المال ، ويجمعها «حبّ الدنيا» ، وهو السبب لتنزّل الفطرة تدريجيا وبلا شعور ـ كما في الروايات ـ عن استقامتها المنفطرة بقوله تعالى : (كُنْ فَيَكُونُ).

والأسباب كلّها ـ سواء كانت للرقي أو للنزول ـ إراديّة اختياريّة ، ولو كان هناك أسباب غير اختياريّة ، فإنّها ترجع بالاخرة إلى الاختيار وإن كان مع الواسطة أو الوسائط ، كما ذكرنا في أحد مباحثنا السابقة.

ومن عوائق المعروف والمانع عن تحقّقه الذنوب الّتي توجب البعد عن ساحته تعالى وتطمس نور الفطرة وتكون صدّا في الطريق إلى الكمال ومانعا عن الاستكمال ، وللبحث ذيل يأتي في الموضع المناسب إن شاء الله تعالى بعد رفع هذه الشدائد وكشف هذه الغمّة وزوال الظلم وأهله بحوله وعنايته ، إنّه هو الرؤوف الرحيم.

بحث عرفاني :

الأفعال الصادرة عن الإنسان في حقيقتها ـ تكون كالأشياء النامية ـ لها صورة خارجيّة وروح يمتاز بها عن أفعال سائر الحيوانات ، فالإنسان الّذي هو أشرف المخلوقات في عالم الإمكان مركّب في واقعه من جسم وروح ، وكذا أفعاله لها صورة ـ وهي عبارة عن ما يتشخّص في الذهن من الكيفيّات ، وهذا يعمّ جميع أفعال الحيوانات ـ وروح يتفرّد بها عن بقيّة الحيوانات ، وهي أمر معنوي يحصل من التوجّه إلى الباري جلّ شأنه والسوق إلى الخالق جلّت عظمته ـ ولا ربط له

٢٧٤

بالإرادة ـ وأثره إفراد القلب له تعالى بارتباطه إلى ساحة كبريائه والتبرّي عن كلّ ما دونه تعالى ، وهو الباعث لتحقّق الإضافة إليه تعالى ، الّتي هي السبب لتحقّق الفعل خارجا ، وإذا وجد الفعل بدونها كان مجرّد صورة ، كالأفعال التعليميّة.

ويعبّر عنه في الكتاب والسنّة بالإخلاص في الأفعال العباديّة أو المضافة إليه تعالى ، المتفرّد بها الإنسان عن غيره ، قال تعالى : (فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) [سورة الزمر ، الآية : ٢] ، وقال تعالى : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [سورة البينة ، الآية : ٥] ، فكما لا قيام للأشباح إلّا بالأرواح وإلّا كانت ميتة ساقطة ، كذلك الأعمال العباديّة ، فلو لا الإخلاص والروح المعنوي فيها كانت مجرّد شبح وهيكل. ومراتب الإخلاص كدرجاتها تختلف حسب درجات الإيمان ، كما يأتي.

حقيقة الإخلاص :

وهي من الحقائق المحجوبة ولا تعرف إلّا بالأثر ، ولا يمكن وصفها وإن أدركها العرفاء الشامخون ، فإنّها تشرق على القلب وتنوّر النفس ويتشرّف المؤمن بالإخلاص إلى أعلى مراتب الكمال بلذّة ذلّ العبوديّة له تعالى ، وبه يخرق الحجب ويصل إلى معدن العظمة ، فعن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «انّه سئل عن الإخلاص فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : حتّى اسأل جبرائيل ، فلما سأله قال : اسأل ربّ العزّة ، فلما سأله قال له : هو سرّ من أسراري أودعه قلب من أحببت من عبادي ، لا يطلع عليه ملك فيكتبه ولا شيطان فيفسده» ، وعن سيد العرفاء أمير المؤمنين عليه‌السلام : «هو أن تعبد الله كأنّك تراه» ، فحقيقة الإخلاص يدركها الخلّص من عباده ، ولكنّها لا توصف ، والإخلاص من أعلى مراتب التفويض.

٢٧٥

درجات الإخلاص :

كما أنّ للعبوديّة درجات ، ولكلّ منها مراتب ، ولكلّ مرتبة منزلة حسب درجات الإيمان ومراتب المعرفة ومنازلهما ، وأنّ التقرّب لديه جلّ شأنه يحصل بجميعها ، وأنّ أسمى المراتب وأعلى الدرجات قبوله عزّ اسمه بالعبوديّة ـ وإن كان للقبول مراتب أيضا ـ فإنّه هو الفوز العظيم ، فعن بعض العرفاء : «قيل له بعد وفاته ـ في الرؤيا ـ : كيف حالك مع الملكين (النكير والمنكر)؟ فقال : لما قالا لي : من ربّك؟ قلت لهما : اسألا ربّي ، فإن قال : هو عبدي وأنا ربّه ، يكفي ، وإلّا فلو قلت : هو ربّي وأنا عبده مرارا لا يفيد بلا قبوله» ، كذلك للإخلاص له درجات ، وفي كلّ منها مراتب ، وفي كلّ مرتبه أنواع أهمّها وجامعها أقسام ثلاثة : إخلاص العوام ، وإخلاص الخواص ، وإخلاص أخصّ الخواص. وإن شئت قلت : مطلق الإخلاص ، وإخلاص المحبّين ، وإخلاص الموحّدين.

والأوّل : هو الإخلاص في العبادة لأجل الحظوظ ـ سواء كانت دنيويّة أم أخرويّة ـ كحفظ البدن وسعة المال والقصور والحور.

والثاني : لأجل السعادة الأخرويّة والدخول في الجنّة دون الحظوظ الدنيويّة.

والثالث : هو إخراج الحظوظ بالكليّة ، بل الإخلاص لأجل جنّة الشوق بالقرب له جلّت عظمته : «وفؤادي ليس فيه غيره».

ولكلّ من هذه الأقسام مراتب كما مرّ ، وأنّ جميعها حسن إلّا أن أسماها وأعلاها القسم الأخير ، وفي دعاء كميل : «هب لي صبرت على حرّ نارك ، فكيف اصبر على فراقك» ، وعن سيد العرفاء المتألّهين الشامخين أمير المؤمنين عليه‌السلام : «الهي عبدتك لا خوفا من نارك ولا طمعا لجنّتك ، بل رأيتك أهلا لذلك فعبدتك» ، وعن بعض العرفاء المتألهين :

ليس سؤلي من الجنان نعيما

غير أنّي أحبّها لأراكا

٢٧٦

ولهذا القسم درجات ومراتب ، نسأل الله العظيم الفوز بمرتبة منها ، ولا تنال هذه النعمة الكبرى إلّا لمن عصمة الله تعالى وأمدّه بحقّ اليقين بالتجلّي له ، وكشف الأسرار له بإفاضة العلوم عليه ، وقرّبه إلى ساحته بخلع الأنداد عنه ، وكرّمه بتطهير النفس بمخالفة الهوى ونبذ الأغيار ، وشرّفه بالرقي إلى مقام عرفانه بالتوجّه إليه والقرب لديه.

منافيات الإخلاص :

الصفات الحميدة تقابلها الحالات السيئة ، وتفسدها الصفات المنافية لها ، فالشجاعة مثلا يفسدها الخوف ؛ لأنّه ينافيها ولا يمكن الجمع بين المتنافيين في النفس ، وكذا القناعة ينافيها الحرص والجشع ، كما أنّ الزهد ينافيه طول الأمل ، وكذا غيرها من الصفات.

والإخلاص ينافيه أمور كثيرة ؛ لأنّ سبب الإخلاص لله تعالى المعرفة والخوف ، فإذا زال أحدهما لم يتحقّق الإخلاص. وأهمّ ما ينافي الإخلاص أمور :

منها : الريا ـ نستجير بالله العظيم منه ـ فعن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الله تعالى في القدسيات : «أنا أغنى الشركاء ، من أشرك معي غيري تركته لغيري» ، وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أخوف ما أخاف على أمّتي الشرك الخفي ، وهو الريا» ، وغيرهما من الروايات ، وأنّه دقيق جدا ، «أدق من دبيب النمل في صخرة ملساء» ، وسببه حبّ الدنيا بأقسامه ، وللتخلّص منه طرق كثيرة لا يسع المجال للتعرّض لها.

ومنها : العجب بالعمل ، فإنّه مناف للإخلاص وقادح في كمال العمل ، وقد ورد في ذمّه روايات كثيرة.

ومنها : الاستهانة بالعمل ـ تحقيره ـ كما دلّت عليه روايات كثيرة.

ومنها : الإيكال في الأمور على غيره تعالى ، سواء كان على النفس أو غيرها.

٢٧٧

ومنها : التعمّق في حكمة الأشياء والبحث عن حكم الأحكام الشرعيّة ، فإنّه مناف للإخلاص ، كما دلّ عليه بعض الروايات ، فعن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إيّاكم والغلو في الدين» ، أي : البحث عن عللها وغوامض متعبّداتها ، وعن بعض مشايخنا من أهل العرفان ادّعاء التجربة في ذلك.

ومنها : عدم الثقة بالله العظيم ، فإنّ ذلك مناف للإيمان ، فكيف بالإخلاص ، وإنّه من المعاصي الكبيرة على ما فصّل في محلّه.

وهناك أمور أخرى منافية للإخلاص ، ذكرها علماء الأخلاق ومشايخ العرفان في كتبهم ورسائلهم ، ومن شاء فليرجع إليها.

الفرق بين الرضا والإخلاص :

تقدّم أنّ للإخلاص مراتب ، أدناها مرتبة الرضا ، بل هو كتمهيد له ؛ ولذا أنّ الإخلاص يتضمّن الرضا ولا عكس ، هذا كلّه في العبيد. وأمّا رضائه تعالى ، فهو عين محبّته ، وإنّ محبّته عين إخلاصه ، فلا يمكن التفكيك بينهما.

وممّا ذكرنا يظهر أنّ للرضا مراتب ودرجات ، وأنّ أسماها هو التفويض ، وأنّ أعلى مراتب التفويض الإخلاص ، الّذي هو مختصّ بالأولياء والصالحين.

وانّ الصفات الحسنة المذكورة في الآية المباركة من الصدقة والمعروف ، والإصلاح بين الناس ، إذا كانت صادرة لابتغاء مرضاته تعالى وخالصا لوجهه الكريم ، كان ذلك مظهرا من مظاهر أسمائه ، ويكون أدوم وأنفع للمجتمع ـ كما تقدّم ـ وإلّا فالأمر إضافي.

٢٧٨

(إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١١٦) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (١١٧) لَعَنَهُ اللهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (١١٨) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (١١٩) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢٠) أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (١٢١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً (١٢٢))

بعد ما بيّن سبحانه وتعالى أمر مشاقّة الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنّها يوجب صدّ الإنسان عن الكمال وصرف رحمته عزوجل عنه ، فيكله إلى نفسه ويخلّيه بينه وبين ما اختاره.

يبيّن جلّ شأنه في هذه الآيات المباركة العلّة في ذلك ؛ لأنّ مشاقّة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله يعدّ شركا بالله العظيم ، والله لا يغفر لمن يشرك به ، فهذه الآيات الشريفة ترشد إلى عظم أمر مشاقّة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وتعدّها من المعاصي الكبيرة العظيمة الّتي تؤدّي صاحبها إلى الهلاك والبوار ، وأنّ صاحبها لا يغفر له أبدا ، ويؤكّد ذلك قوله تعالى في موضع آخر : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ* يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ* إِنَ

٢٧٩

الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) [سورة محمد ، الآية : ٣٢ ـ ٣٤] ، ثمّ تتعرّض إلى بعض أحوال المشركين ، ويبين عزوجل فيها أنّ الشرك من وسائل كيد الشيطان وخدعه وأمانيه.

وتعدّ هذه الآيات الشريفة من أجلّ الآيات القرآنيّة الّتي تبيّن حقيقة الشيطان ، ثمّ يبيّن عزوجل بعض أحوال المؤمنين الّذين عملوا الصالحات ، وما أعدّ الله لهم من عظيم الأجر تذكيرا لهم وترغيبا للإيمان والعمل الصالح وتتميما للفائدة وتذكيرا للمشركين وتنويها لهم سوء أحوالهم ، ولبيان الفرق بين الوعدين ، وعد الشيطان الّذي هو الغرور ، ووعد الله تعالى الّذي هو الحقّ الواقع الّذي لا يخلف.

ولا يخفى ارتباط هذه الآيات الشريفة بالآيات المباركة السابقة.

التفسير

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ).

تعليل لما سبق ، أي : أنّ الله تعالى يولّي من شاقّ الرسول ما تولّى ويصليه جهنّم ؛ لأنّ المشاقّة شرك بالله العظيم ، وأنّ الله تعالى لا يغفر أن يشرك به إذا مات على الشرك ؛ لأنّه السبب في صدّه عن الكمال وتخليته عزوجل بينه وبين ما تولّاه ، ومن المعلوم أنّ الإنسان قرين الفقر والحاجة ، والشيطان يصدّه عن سبيل الحقّ ومسير الاستكمال ، إلّا من هداه عزوجل فاهتدى بهدايته واستكمل بما يريده تعالى ، وأمّا إذا رفع جلّ شأنه توفيقه عن عبده بسبب الشرك فصدّه عن الهداية ، فلا يوجد سبيل إلى الكمال ، فيكون الشرك من أهمّ الموانع عنه ، بل هو أصلها ؛ ولذا كان سببا في عدم غفران الله تعالى له أبدا ؛ لأنّه ضلال وخروج عن طاعة الله

٢٨٠