مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٩

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٩

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٣
ISBN: 964-5665-08-6
الصفحات: ٣٩٦

ويستفاد من سياق الآية الشريفة أنّها نزلت في قوم اعتادوا على الخيانة وارتكاب الإثم وانهمكوا فيه ، فنهى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن أن يكون خصيما لهم ، وأن يجادل عنهم لأجل خيانتهم ، فهو تعالى يبغضهم لذلك وينهى عن المدافعة عنهم ، فلا فرق في الحكم بين قليل الخيانة وكثيرها ، فإنّهما على حدّ سواء عنده عزوجل.

قوله تعالى : (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ).

بيان لأهمّ سجاياهم الّتي امتاز بها هؤلاء الخوانون الآثمون. منها : استتارهم عن الناس واستحياؤهم منهم عند ارتكاب الخيانة والآثام ، وعدم استتارهم عن الله تعالى لأنّهم أمنوا عقابه ، فلا إيمان لهم ؛ لأنّ الإيمان جنّة واقية يمنعهم عن ارتكاب واقتراف الإثم ، وهو أحقّ من أن يستخفى عنه ويستتر منه.

وإنّما عبّر عزوجل بالاستخفاء منه تعالى وهو عليم بمنويات الصدور ولا تخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ؛ تنزيلا على زعمهم ، فإنّهم كانوا على درجة ضعيفة من الإيمان ، فلم يعتقدوا مراقبة الله تعالى لهم ، فبيّن عزوجل لهم هذه الحقيقة.

ومن ذلك يعرف أنّه لا وجه لارتكاب المجاز في المقام والقول بأنّ المراد من الاستخفاء منه تعالى الاستحياء ، فإنّه وإن كان صحيحا ، لكنّه خلاف السياق.

وممّا ذكرناه يعلم الوجه في ما ذكره بعض المفسّرين من أنّ الاستخفاء من الله تعالى أمر غير مقدور ، إذ لا يخفى على الله شيء في الأرض ولا في السماء ، فطرفه المقابل له ـ اعني عدم الاستخفاء ـ أيضا أمر اضطراري غير مقدور ، وإذا كان كذلك لم يتعلّق به لوم ولا تعيير ، كما هو ظاهر الآية الشريفة ، فالظاهر أنّ الاستخفاء كناية عن الاستحياء ؛ ولذلك قيّد قوله : (وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ) بقوله : (وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ) ، الدالّ على أنّهم كانوا يدبّرون ما لا يرضى من القول ، أي : التبرّي من هذه الخيانة المذمومة ، كما قيّده عزوجل بقوله : (وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً) ، الّذي يدلّ على إحاطته تعالى بهم

٢٤١

في جميع الأحوال حتّى حال ارتكاب الجرم وصدور المعصية ، فيكون التقييد بهذين القيدين من قبيل ذكر العامّ بعد الخاصّ ، وهو في الحقيقة تعليل لعدم استخفائهم من الله تعالى بعلّة خاصّة ثمّ بأخرى عامّة.

وما ذكره قدس‌سره تطويل بلا طائل تحته ، فإنّ ما يذكره عزوجل من الآيات التالية كفيل في بيان المراد من عدم استخفائهم من الله ، وهو التنزيل على ما كانوا يعتقدونه ، وإنّه مذكور على ما كانوا يتخيّلونه من عدم حضوره عزوجل وأمنهم من عقابه ، بخلاف استخفائهم من الناس ، فإنّهم لم يكونوا في مأمن من عقابهم وتوبيخهم ، فكان الردّ عليهم حاسما ، من أنّه معهم يعلم ما يبيّتون ما لا يرضى من القول ، وأكّد ذلك بأنّه محيط بهم.

وما ذكره أخيرا من الآيتين المباركتين الأخيرتين تعليل لعدم استخفائهم من الله تعالى صحيح ، فهو عزوجل أحقّ من أن يستخفى منه ـ بأن لا يعصى لا جهرا ولا خفاء ـ فالاستخفاء منه تعالى أمر مقدور بترك المعصية والإثم ومراقبته عزوجل في جميع الأحوال.

قوله تعالى : (وَهُوَ مَعَهُمْ).

تعليل لعدم استخفائهم منه جلّ شأنه ، فهو معهم يعلم ما تكنّ به صدورهم ويرى أعمالهم ويسمع أقوالهم. ومعيّته تعالى لخلقه معيّة قيوميّة إحاطيّة علميّة ، لا معيّة زمانيّة ومكانيّة ، فإنّه تعالى محيط بهما.

قوله تعالى : (إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ).

تقدّم الكلام في مادة (بيّت) ، والمراد به التدبير ليلا وفي الخفاء بما لا يرضاه عزوجل من القول والفعل ، كالتبريّ من الخيانة ورمي البريء بها وشهادتهم عليها زورا ، فيكون المراد من القول الأعمّ منه ومن الفعل المترتّب عليه ، فكانوا يدبّرون ما لا يرضاه عزوجل في الخفاء وينسبونه إلى البريء.

٢٤٢

قوله تعالى : (وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً).

تعليل عامّ يبطل زعمهم في عدم استخفائهم من الله تعالى وتدبيرهم القول ، فإنّه عزوجل محيط بهم في جميع الأحوال ، فيعلم أفعالهم وأقوالهم وسرّهم وعلنهم ، عالم بجميع خصوصياتهم لا يعزب عن علمه شيء ولا يفوته أمر.

قوله تعالى : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا).

بيان لعدم انتفاعهم بالمجادلة عنهم ، وهو دليل على أنّ المجادلة المنهيّة في صدر الآية الشريفة الّتي خوطب بها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ليس المراد منه نفس الرسول الكريم ، فإنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله معصوم لا يجادل عن الّذين يخونون أنفسهم ، بل كان واقعا من بعض المؤمنين ، إلّا أنّ الخطاب كان موجّها لرسوله الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ تعظيما للأمر وتعليما لأمته ، فإنّ الأمر بمكان من الأهميّة ؛ لأنّ فيه تضييعا للحقوق ومسّا للعدالة الإسلاميّة وترويجا للباطل وإزهاقا للحقّ ، فكان ذلك سببا في توجيه الخطاب له صلى‌الله‌عليه‌وآله ومثل هذا الأسلوب يراد منه الاستفزاز والتنبيه بأنّ الجدال عنهم لا ينفعهم ولو بذلتم غاية الجهد في ذلك ، فإنّ جناياتهم على حدّ من الكثرة والعظمة بحيث يوجب مشاقّتهم بالتوبيخ والتقريع ، لا المخاصمة والجدال عنهم.

قوله تعالى : (فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ).

أي : لو نفعهم الجدال في الحياة الدنيا ، فلا ينفعهم في يوم القيامة ، يوم حضور الأعمال ويوم الشهود. والاستفهام بمعنى الإنكار والتوبيخ.

قوله تعالى : (أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً).

أي : إذا حضرت الأعمال وتكشّفت السرائر وبرزوا لله الواحد القهّار ، فمن يكون وكيلا يدافع عنهم ، فإنّه في ذلك اليوم لا مدافع عن المجرمين ولا مجادل عنهم ولا كفيل يدبر أمرهم ويصلح شأنهم ، فهناك لا ينفع الاستخفاء من الله تعالى ، فإنّ الأعمال محفوظة لديه وهو محيط بهم.

٢٤٣

قوله تعالى : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ).

ترغيب للتوبة وحثّ إلى ترك السوء والخيانة. وبيان للمخرج من الذنب بعد وقوعه ، وإرشاد إلى أنّ المعصية الّتي يقترفها الإنسان تؤثّر في نفسه وتخلّف تبعات وآثارا عليها ، وتكتب في صحيفة أعماله ، ولا يمكن إزالتها إلّا بالرجوع إلى الله تعالى واستغفاره ، فلو فعل ذلك وجد الله جلّت قدرته توّابا رحيما.

والسوء : ما يسوء الإنسان ، ولعلّ التدريج من السوء إلى الظلم إمّا لأجل أنّ السوء يراد به التعدّي على الغير وبالظلم التعدّي على النفس ، أو من التدريج من المعصية الصغيرة إلى المعصية الكبيرة. وقيل : السوء ما دون الشرك ؛ لأنّه ظلم عظيم.

وكيف كان ، فهما مشتركان في العصيان والتعدّي على حرماته عزوجل.

قوله تعالى : (ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً).

أي : يطلب منه المغفرة بالتوبة الصادقة ، فإنّه يجد الله غفورا لذنوبه رحيما به ، ومن رحمته عزوجل أن وفّقه التوبة وأنّه يقبلها ولو بعد حين. ولعلّ الإتيان ب (ثم) إشارة إلى ذلك.

والتعبير بالوجدان لبيان سرعة الاستجابة ، وعن علي عليه‌السلام : «من اعطي الاستغفار لم يحرم المغفرة» ، وفيه الحثّ إلى التوبة والاستغفار ، وبيان إلى أنّ من لم يتب يحرم نفسه من رحمته تعالى.

وإطلاق الآية المباركة يشمل جميع الذنوب الصغائر والكبائر ، كما أنّ سياقها يدلّ على التفضّل والامتنان.

قوله تعالى : (وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ).

بيان لحقيقة من الحقائق الواقعيّة الّتي طالما غفل عنها الإنسان ، وهي أنّ الإثم الّذي يكسبه إنّما يكسبه على نفسه ولن يتخطّاه وتلحقه آثاره وتبعاته ،

٢٤٤

ويكون وباله عليه مهما تنصّل عن ذلك ورمي به غيره زورا وافتراء ، فلا بد أن يتذكّر ذلك ويجعله نصب عينيه ، فإنّه لا يجديه رمي الغير به ، أو أن يتعهّد له متعهّد ، فإنّه وحده يتحمّل إثمه ، ووزره ووباله إنّما يكون على من كسبه فليحترز عن الذنب وتعريض النفس للعقاب.

والمراد بالكسب هو الفعل بقصد الانتفاع به ؛ ولذا لا يوصف فعل الربّ بالكسب لعدم تصوّر الانتفاع فيه عزوجل ، والإثم هو الذنب.

وهذه الآية الشريفة كالمقدّمة للآية التالية المتعرّضة للرمي بالخطيئة والإثم.

قوله تعالى : (وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً).

أي : أنّ الله عليم يعلم أفعال عباده حكيم بأن جعل لكلّ فعل جزاء خاصّا ، ومن حكمته أنّه لا يؤاخذ أحدا إلّا بسبب إثمه.

وقد فسّرت هذه الآية آيات اخرى في مواضع متفرّقة من القرآن الكريم ، قال تعالى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [سورة الانعام ، الآية : ١٦٤].

وقال تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) [سورة العنكبوت ، الآية : ١٢] ، وقال تعالى : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٨٦].

قوله تعالى : (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً).

بيان إلى أنّ الخطيئة والإثم الّذي يرتكبه أحد إذا رمى به بريئا كان إثما وخطيئة اخرى. والخطيئة والإثم والذنب والسيئة في الشرع تطلق على المعصية ، ولها مدلولات متفرّقة إلّا أنّه يمكن الفرق بينها أنّ الخطيئة تستعمل في المعصية الّتي تكون من غير تعمّد ، ثمّ توسّع فيها واستعملت في كلّ ما لا ينبغي أن يقصده الإنسان ، فتكون كلّ معصية وأثرها من مصاديق الخطيئة. وبناء على ذلك تكون

٢٤٥

الخطيئة على قسمين ، فإمّا أن يكون عملا أو أثر عمل لم يقصده الإنسان ، فلا تعدّ حينئذ معصية ، ومن نسبة الخطيئة إلى الكسب الدالّ على القصد يراد من الخطيئة المعصية.

وأمّا الإثم فهو في الأصل التقصير ، أي : ما يوجب قصر صاحبه عن الكمال ، أو ما يوجب الحرمان عن الخيرات كالخمر ، فإنّها تقصر بشاربها لذهابها بعقله ، وهي توجب حرمان شاربها من الخيرات ، سواء كانت فرديّة أم اجتماعيّة أو تكون مبطلة للثواب.

وأمّا الذنب ، فهو الفعل الشنيع الّذي يتبعه الذمّ واللوم.

وذكر بعضهم أنّ الإثم هو القبيح الّذي عليه تبعة ، وأمّا الذنب فهو القبيح من الفعل ولا يفيد معنى التبعيّة ؛ ولذا يقال : أذنب الصبي ، ولا يقال : قد إثم.

وكيف كان ، فاجتماع الخطيئة والإثم في الآية الشريفة ونسبتهما إلى الكسب يدلّ على أنّ لكلّ واحد منهما مدلولا خاصّا. فالمعنى : ومن يكسب معصية ويفعل فعلا لا ينبغي أن يقصده ، كترك الواجبات وفعل المحرمات ـ كأكلّ الدم ـ أو يكسب إثما يوجب حرمان صاحبه عن الخيرات ويبقى وبالها ـ كالسرقة وقتل النفس ـ ثمّ يرمي بريئا بنسبتها إليه ، فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا.

والمراد من (يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً) نسبة الخطيئة والإثم إليه ، وزعم أنّه هو الّذي فعله افتراء.

قوله تعالى : (فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً).

البهتان هو الكذب على شخص بما يبهت منه ويتحيّر عند سماعه لفظاعته ، يقال : بهته بهتا وبهتانا فهو باهت ، والمقول مبهوت.

والإثم المبين ، أي : المبين الّذي لا شكّ فيه ولا خفاء ، واكتفى في البهتان بتنكير التفخيم. ويمكن أن يرجع وصف الإثم إلى البهتان أيضا ، وعبّر بهما تهويلا للأمر وتعظيما لحال البريء.

٢٤٦

وفي إطلاق الاحتمال بالنسبة إلى قبول وزر البهتان استعارة لطيفة ، كأنّ المفترى يفتك بالمتهم البريء ويرميه بالإثم والخطيئة ، فيوجب أن يتحمّل حملا يشغله عن كلّ خير ، لا يفارقه مدى حياته.

والآية المباركة تتضمّن أدبا من آداب الإسلام وخلقا كريما من مكارم الأخلاق. وهو ترك رمي البريء والافتراء عليه ، فإنّه خطيئة أخرى وإثم عظيم ؛ لأنّه يشتمل على الكذب والافتراء والظلم على الغير وذهاب الثقة بين المجتمع وهدم الاعتماد في الأسرة وإشاعة الفحشاء بين الأفراد ؛ ولذا كان معصية كبيرة توجب فساد الدنيا وعذاب الآخرة.

قوله تعالى : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ).

الآية الشريفة تدلّ على أنّهم كانوا يهتمّون بإضلال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ويرضونه بالدفاع عن الخائنين والمجادلة عنهم ، وهؤلاء هم الّذين خاطبهم عزوجل بقوله : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) [سورة النساء ، الآية : ١٠٩] ، وتنطبق الآية الكريمة على القوم الّذين اتّهموا بريئا وأرادوا تعريض النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله المجادلة عنهم ، كما وردت في الروايات على ما سيأتي.

أي : ولو لا فضل الله عليك بالتأييد والعصمة ، ورحمته بإخبارك وهمهم وتنبيهك بالحقّ والحقيقة ، لهمّت طائفة من الّذين يختانون أنفسهم ـ وهم قوم أبي طعمة وغيرهم على ما ستعرف ـ الّذين انتصروا للخائن وطلبوا من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله المجادلة عنهم والحكم على المتهم البريء ، وهم يعلمون حقيقة الحال ، وقد همّوا وبذلوا غاية جهدهم في إضلال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الواقع والقضاء بالحقّ ، والآية المباركة تدلّ على نفي تأثير همّهم فيه صلى‌الله‌عليه‌وآله لا نفي الهمّ مطلقا.

قوله تعالى : (وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ).

أي : أنّ إضلالهم لا يتعدّى إليك ولا يتجاوز عن أنفسهم ، فإنّ وزره ووباله

٢٤٧

راجع إليهم ، فهم الضالّون ويعملون عملهم ، وأنّهم أزالوا أنفسهم عن الحقّ وأوردوها مورد الهلاك.

قوله تعالى : (وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ).

عطف تفسيري للآية الكريمة السابقة ، أي : أنّهم بهمّهم لإضلالك لا يضرّونك بل يضرّون أنفسهم بتعريضها للهلاك ووبال عملهم عليهم ، فلا يتعدّى عليك ؛ لأنّك مؤيّد من عنده تعالى ومعصوم ، فلا يضرّك ما يخطر ببالك بادئ الأمر من همّهم وشدّة جهدهم في تلبيس الحقّ بالباطل.

والآية المباركة تدلّ على نفي إضرارهم للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مطلقا وفي جميع الحالات والخصوصيات ، وهي تدلّ على عدم صدور المجادلة عنهم من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مطلقا.

قوله تعالى : (وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ).

بيان لفضله تعالى على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والرحمة له ، وهو في مقام التعليل لقوله تعالى : (وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ) ، أي : ما يضرّونك من شيء مع إنزال الله عليك القرآن والحكمة ، وهي الفصل في القضاء ، أو الاطلاع على الحقائق ودقائق الكتاب وسائر المعارف الإلهيّة. وعلّمك من الحقائق وكشف لك الأسرار المكنونة والعلوم المخزونة وخفيّات الرموز ما لم تعلم إلّا بتعليمه.

وذكر المفسّرون في تفسير الكتاب والحكمة أمورا يمكن المناقشة فيها ، فقيل : المراد من الكتاب : هو الوحي النازل لرفع اختلافات الناس ، كما في قوله تعالى : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) [سورة البقرة ، الآية : ٢١٣].

وفيه : أنّ الظاهر من الكتاب ـ في المقام ـ النازل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المقابل للحكمة ، وتعليم ما لم يعلم هو القرآن الكريم ، وهو والحكمة تكفّلا لرفع اختلاف الناس والفصل بالحقّ في القضاء.

٢٤٨

وقيل : المراد بالحكمة ما فيه من الأحكام ، وما (ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) الغيب والأقدار المخفيّة على البشر.

وفيه : أنّه لم يقم دليل عليه ، بل الحكمة متى ما أطلقت يراد بها تلك العلوم والمعارف الحقّة ، الّتي لها مدخليّة في شؤون الإنسان العمليّة والمصيريّة.

وقيل : المراد بالكتاب القرآن ، وبالحكمة السنّة ، وممّا لم تعلم الشرائع وأنباء الرسل الأوّلين ؛ وهو بعيد جدا.

وهذا العلم النازل من الله تعالى على قلبه الشريف ، هو الملاك في العصمة الّتي هي عبارة عن علم الشخص بأمور تمنعه عن ارتكاب المعصية والتلبّس بالخطإ ، فإنّ أثر هذا العلم هو منع صاحبه عن الضلال ، كما أنّ أثر الشجاعة والسخاء ونحو ذلك من السجايا الفاضلة والملكات ، مترتّب عليها تمنع صاحبها من التلبّس بما يضادها من الجبن والبخل والتبذير ونحو ذلك ، وسيأتي في البحث الفلسفي في الآيات المناسبة له ما يتعلّق بالعصمة إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : (وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً).

امتنان على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذ لا فضل أعظم من النبوّة والرحمة الإلهيّة وتعليم الكتاب والحكمة وعصمته من الوقوع في الضلال ، فذلك كلّه فضل لا يمكن أن تحويه عبارة ولا تحيط به إشارة.

قوله تعالى : (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ).

بيان للصراط المستقيم والمنهج القويم الّذي لا بد وأن يتّبعه الخائنون ، دون ما حكى عنهم عزوجل ـ كما مرّ ـ من تبييت ما لا يرضى من القول وفساد النية وسوء الفعال.

وما تضمّنته هذه الآية المباركة تعليم إلهي لسائر الناس ، وإرشاد لهم بأنّهم إذا تناجوا فلا بد أن يكون نجواهم بالخير والمعروف والإصلاح بين الناس والتأليف بينهم بالمودّة ، وإلّا فلا خير في نجواهم ويكون وزره ووباله عليهم.

٢٤٩

والنجوى : السرّ بين الاثنين ، وناجيته ، أي : ساررته ، تقول : ناجيت فلانا مناجاة ونجاء ، وهم ينتجون ويتناجون ، ونجوت فلانا انجوه نجوا ، أي : ناجيته ، وهو من نجوت السرّ أنجوه ، أي : خلصته وأفردته ، ومنه نجوّة الأرض ، أي المرتفع منها لانفراده بارتفاعه عمّا حوله. فالنجوى المسارّة مصدر ، وقد تسمّى به الجماعة ، كما يقال : قوم عدل ورضا ، قال تعالى : (وَإِذْ هُمْ نَجْوى) [سورة الإسراء ، الآية : ٤٧] ، أي : متناجون ، وفي الحديث : «دعا رسول الله صلّى الله عليه والله عليّا عليه‌السلام يوم الطائف فانتجاه ، فقال الناس : لقد طال نجواه ، فقال : ما انتجيته ولكن الله انتجاه» ، أي : أنّ الله تعالى أمرني أن أناجيه. وفي الدعاء : «اللهمّ بمحمّد نبيّك وصفيّك ، وبموسى نجيّك» ، أي : المناجي والمخاطب معك.

والضمير في (نَجْواهُمْ) يعود إلى القوم المختانين أنفسهم ، الّذين يبيّتون ما لا يرضى من القول ، والّذين يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله تعالى ، وقد غلب الشرّ عليهم فلا خير فيهم ، لا في أفعالهم ولا أقوالهم ولا في مناجاتهم فيما بينهم.

وإنّما عبرّ عزوجل ب (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ) ؛ لأنّ ما تناجوا فيه من الأمور الّتي نفى عنها الخير ، فلا يحتاج إلى النجوى فيها ، أو لأنّ النجوى إن كان راجعا الى شؤونهم الخاصّة الّتي لا ربط لها بإبطال الحقّ وإحقاق الباطل ، فليس داخلا في مضمون الآية الشريفة ، وهي قليلة عندهم. أو أنّ نفي الخير عن الكثير راجع إلى نفي الخير كلّه ، باعتبار أنّ الكثير إذا لم يكن فيه الخير فقليله لا ينفع ؛ لأنّ النجوى مظنّة الإثم والعدوان ، قال تعالى : (إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [سورة المجادلة ، الآية : ١٠] ، وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ

٢٥٠

تُحْشَرُونَ) [سورة المجادلة ، الآية : ٩] ، فإنّ الإثم والعدوان إنّما يتحدّث عنهما في السرّ ، دون الخير فإنّه يتحدّث عنه في الملأ.

قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ)

إرشاد إلى أنّ الخير في كلّ نجوى واقع بين الطرفين أو أكثر لا بدّ أن يكون باعثا لهذه الأمور الثلاثة ، وهي الصدقة ، والمعروف ، والإصلاح بين الناس ، وعلى هذا فالاستثناء متّصل ، أي : أنّه لا خير في النجوى ، بل الخير فيه ما كان باعثا إلى هذه الأمور المذكورة في الآية الكريمة.

وقيل : إنّ الاستثناء منقطع على معنى لكن من أمر بصدقة أو معروف.

وكيف كان ، فهذه الأمور الثلاثة هي مجامع الخير الّتي يحتاج إليها في تنظيم أمور معاشهم ومعادهم ، وإنّها هي الّتي يحتاج فيها إلى النجوى ، وغيرها لا خير فيها.

وإنّما ذكر عزوجل هذه الأمور الثلاثة ؛ لأنّ كمالها إنّما يكون بكتمانها والتعاون عليها سرّا وجعلها نجوى.

والصدقة هي العطيّة المتبرّع بها الغير بقصد القربة. والمعروف : ما يعمّ أعمال البرّ كلّها ، والإصلاح بين الناس : هو رفع الاختلاف وإلقاء المودّة بينهم ، وتقدّم أنّ هذه الأمور الثلاثة هي الجامعة لجميع أبواب الخير ، وهو إمّا أن يكون فيه إيصال نفع إلى الغير ، وهذا على قسمين ، فإمّا أن يكون النفع جسمانيّا ومادّيا ، وهي الصدقة. وإمّا أن يكون معنويّا وروحانيّا ، وهو المعروف. وإمّا أن يكون الخير دفع المضرّة عن الغير ، وهو الإصلاح بين الناس.

وإنّما قدّم الصدقة على المعروف والإصلاح ؛ لأنّ الأمر فيها أشقّ ، فإنّ فيها بذل المال الّذي هو شفيق الروح ، بل عن عليّ عليه‌السلام : «ينام الإنسان على الثكل ولا ينام على حرب».

٢٥١

كما أنّ تخصيص المعروف والإصلاح بالذكر مع إمكان دخولهما في الصدقة لأنّ «كلّ معروف صدقة» ؛ إيذانا بالاعتناء بشأنهما وللترغيب بهما ، فإنّ المعروف يحبّه جميع الناس ، وفي الحديث عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «المعروف كاسمه وأوّل من يدخل الجنّة يوم القيامة المعروف وأهله» ، وتقدّم في عدّة آيات شريفة الأمر بفعل المعروف ، والمستفاد من مجموعها أنّ المعروف لا يتمّ إلّا بثلاث خصال : بالتعجيل ، والستر ، والتصغير.

وأمّا الإصلاح بين الناس ففيه إزالة الفساد من ذات البين ، وفيه الفضل الكبير والثواب الجزيل ، وفي الحديث عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ألا أدلّك على صدقة يحبّها الله ورسوله ، تصلح بين الناس إذا تفاسدوا ، وتقرّب بينهم إذا تباعدوا» ، وعموم الإصلاح بين الناس يشمل جميع أفراده ، في الدماء والأموال والأعراض وفي كلّ شيء يرفع الاختلاف بين الناس حتّى الكذب ، بلا فرق بين المسلمين وغيرهم ، فإنّه أمر محبوب إلّا فيما ورد من الشارع نهي بالخصوص حتّى في مثل المقام ، وفي الكافي عن الصادق عليه‌السلام : «والكلام ثلاثة ، صدق وكذب وإصلاح بين الناس» ، وفي الحديث عنه عليه‌السلام أيضا : «إنّ الله فرض التمحّل في القرآن ، فقيل : وما التمحّل؟ قال عليه‌السلام : أن يكون وجهك أعرض من وجه أخيك فتمحّل له» ، وهو قوله تعالى : (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ).

والمراد من التمحّل ارتكاب الحيل الشرعيّة في قضاء حوائج الإخوان ، وقد ضبط التجمّل بالجيم ، والتحمل بالحاء أيضا.

قوله تعالى : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ).

بيان لحال النجوى من حيث المثوبة والعقوبة ليتّضح وجه الخير في النجوى وعدمه. وينقسم المتناجون إلى قسمين : قسم يبتغي في فعله مرضاة الله تعالى ، فله الأجر العظيم ، وقسم آخر يفعل لأجل مشاقّة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله واتّباع سبيل آخر غير سبيل المؤمنين ، فسيكون جزاؤه جهنّم ، والآيات التالية بين القسمين.

٢٥٢

أي : من يأمر بالمذكورات من الصدقة ، والمعروف ، والإصلاح بين الناس ويفعل ذلك لأجل طلب رضا الله تعالى وتقرّبا إليه عزوجل ، فقد نال الخير وسيثيبه سبحانه وتعالى الأجر العظيم.

وإنّما عدل عزوجل عن الأمر إلى الفعل ؛ لبيان أنّ مجرّد الوعد غير كاف ، بل لا بدّ أن يتلبّس بالفعل ويتحقّق في الخارج.

قوله تعالى : (ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ).

بغي الشيء طلبه ، وابتغاه يدلّ على شدّة الطلب والاجتهاد فيه ، فهو أبلغ من الطلب ، أي : من يفعل من الصدقة والمعروف والإصلاح بين الناس لأجل طلب رضا الله تعالى والانقطاع إليه ـ لأنّ الأعمال بالنيّات ـ فقد فاز بالأجر منه جلّت عظمته ويمنحه من عطاياه ويشرّفه من كرمه ، فيدلّ على أنّ فعل الخير إنّما يكون مظهرا لرحمته عزوجل في ما إذا أراد مرضاة الله تعالى منه ، فيكون الخير والعمل أنفع وأدوم ويكون مظهرا من مظاهر رحمته عزوجل ، وكلّ ما كان الفعل أخلص لوجه الله تعالى كان أكمل وأنفع وأبقى ، وعلى درجات الإخلاص يثاب الفاعل.

وتدلّ هذه الآية الشريفة على نظرية الإسلام في الخير والأخلاق الفاضلة ، فإنّه يؤكّد عليه أشدّ تأكيد ويحثّ على التخلّق بها والتحلّي بالفضيلة وعمل الخير ابتغاء لمرضاة الله تعالى وخالصا لوجهه الكريم ، فهو ينظر إلى الجانب الروحاني والمعنوي أكثر من البعد المادّي ، فلا يعير للأخلاق الفاضلة إذا طلبت لأجل البعد المادّي من قضاء الحوائج وتمشية الأمور الدنيويّة وحصول النفع كما تراه عليه الجاهليّة المعاصرة والمذاهب النفعيّة في الأخلاق ، فالخلق الكريم إنّما يكون صالحا وكاملا وموجبا لإصلاح النفس إذا كان ابتغاؤه لأجل مرضاة الله تعالى ، وقد ذكرنا ما يتعلّق بذلك في أحد مباحثنا الأخلاقيّة ، فراجع.

قوله تعالى : (فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً).

أي : نعطيه مثوبة عظيمة يقصر عنها الوصف في الكثرة والصفة والمنزلة ،

٢٥٣

ويستحقر دونها ممّا فات من أعراض الدنيا ، وأمّا كون الأجر كثيرا فلأنّه دائم ، وأمّا كونه في منتهى كمال الصفات فلأنّه لا ينغصه شيء ولا يشوبه ما يعيبه ، وأمّا المنزلة فلأنّها مقارنة للتعظيم ، فإطلاق الآية المباركة يشمل جميع ما تقدّم لانتساب إعطاء الأجر إلى ذاته الأقدس وتوصيفه بالعظمة المتجلّية عن مقامه الربوبي جلّ شأنه ، وظاهر الآية المباركة من قبيل ترتّب السبب على المسبّب ، ويستفاد منها تثبيت قدرته وقهّاريته.

قوله تعالى : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى).

بيان للقسم الثاني من المتناجين بعد بيان حال المتناجين بالخير والأمر بالصدقة والمعروف والإصلاح بين الناس ، وابتغاؤهم مرضاة الله تعالى ، ووعدهم عزوجل الجزاء الأحسن.

وفي هذه الآية الشريفة يبيّن تعالى حال المتناجين بالشرّ ومخالفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله واتّباعهم طريقا غير طريق المؤمنين ، وأوعدهم عزوجل الإملاء والاستدراج ثمّ إصلائهم جهنّم وساءت مصيرا.

والمشاقّة المخالفة والمعاداة ، مشتق إمّا من شقّ العصا ، أو من الشقّ ، وهو القطعة المبانة من الشيء ، فكأنّ كلّ واحد من المتخالفين في شقّ غير شقّ الآخر. وقد ورد في القرآن الكريم هذه الكلمة تارة : بالإدغام الّتي هي لغة بني تميم ، قال تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) [سورة الحشر ، الآية : ٤].

وأخرى بالفكّ كما في المقام ، وفي سورة الأنفال ـ الآية ١٣ قال تعالى : (وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ) وهي لغة الحجاز. ولعلّ الفكّ في المقام لبيان شدّة الانفكاك بين الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ومخالفه ، كما في قوله تعالى : (وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) [سورة الأنفال ، الآية : ١٣].

والتعرّض للرسالة في قوله تعالى : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ) تعليلا لما

٢٥٤

سيذكره عزوجل ، ولبيان كمال شناعة مخالفتهم ومشاقّتهم ، والمراد من قوله عزوجل : (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى) ، أي : من بعد ما ظهر الحقّ ، وفيه من التقبيح العظيم لهم ما لا يخفى.

والمعنى : ومن يخالف الرسول من بعد ما ظهر له الحقّ بالدلائل والمعجزات وموافقة ما أتى به للفطرة ولم يطعه ، وإنما ذكر عزوجل القيد : (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى) ؛ لبيان شدّة المعاندة ، وأنّ المشاقة إنّما كانت عصبيّة واتّباعا للشهوات والنفس الأمّارة ، فكانت سببا لزوال الهداية وتفويتها عنهم.

قوله تعالى : (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ).

سبيل المؤمنين إنّما هو سبيل الهداية ، وما هم عليه من الحنفيّة الصافية الموافقة للفطرة الخالية عن كلّ شائبة ، كما أنّ سبيلهم إنّما يكون سبيل التقوى ، فكان سبيلهم طاعة الله ، واجتماعهم إنّما كان عليها ، وقد ورد الحثّ على اتّباع سبيلهم في عدّة مواضع من القرآن الكريم ، قال تعالى : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [سورة الانعام ، الآية : ١٥٣] ، وقال تعالى : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً) [سورة آل عمران ، الآية : ١٠٣].

قوله تعالى : (نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى).

أي : من خالف الرسول واتّبع غير سبيل المؤمنين في ما هم عليه من التقوى والهداية وإطاعة الله من ما بعد ظهر له ، نجعله على ما تولّاه من الضلالة والغواية الّتي اختارها.

والآية الشريفة تدلّ على اختيار الإنسان في أفعاله وسلوك عقائده ، وأنّ لها الأثر الكبير في هداية الإنسان وسبلها ، فإنّ الخروج عن ربقة المؤمنين والإعراض عن تعاليم سيد المرسلين ، موجب للخروج عن الفطرة المستقيمة والدخول في سلك

٢٥٥

الكافرين ، ويكفي في سلب الهداية إيكال الله تعالى الإنسان إلى نفسه وعدم توفيقه له ، وهذا هو الجزاء الدنيوي لهم حيث استدرجهم وأملاهم.

وهذه الآية المباركة تتضمّن من الحكمة القويمة والمنهج الصالح للإنسان ما لم تكن في غيرها ، ويستفاد من سياقها أنّها في مقام الامتنان على الأمّة المرحومة.

قوله تعالى : (وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً).

بيان للجزاء الأخروي بعد بيان الجزاء الدنيوي ، أي : ندخله في جهنّم جزاء لما اختاره في الدنيا من الطغيان والغواية ؛ ولذلك يصلّى جهنّم وبئس المصير الّذي يصير إليه.

والآيات الكريمة وإن نزلت في قوم معاندين للحقّ ولكن العبرة بعموم اللفظ ، لا خصوص السبب والمورد.

٢٥٦

بحوث المقام

بحث دلالي :

تدلّ الآيات الشريفة على أمور :

الأوّل : يدلّ قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) أنّ الحكم الحقيقي بين الناس والقضاء فيهم من شؤون النبوّة ، بل يستفاد منها أنّهما من مختصاتها ولا يمكن أن يتصدّى لهما إلّا إذا كان مأذونا من قبله ، ولعلّ ما ورد عن الأئمة الهداة عليهم‌السلام في شأن القضاء من أنّه من مناصب الأنبياء والأوصياء ، مأخوذ من أمثال هذه الآية المباركة.

الثاني : يستفاد من الآية الشريفة المتقدّمة أنّ القضاء والحكم بين الناس لا بدّ أن يستند إلى كتاب الله تعالى أو السنّة المباركة من ما ورد عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من قوله وفعله ، فإنّه ممّا أراه الله تعالى.

الثالث : يدلّ قوله تعالى : (وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً) أنّ أهمّ ما يفسد القضاء هي الخيانة مطلقا ، ويؤكّد ذلك تعقيب الأمر بالحكم بين الناس بالحقّ بهذه الآية الكريمة ، وأنّ الخيانة في القضاء من الظلم الّذي لا بدّ من طلب المغفرة من الله تعالى ، والتوبة من مثل هذا الظلم إنّما تتحقّق بترك الخيانة والرجوع إلى الحقّ.

الرابع : يدلّ قوله تعالى : (وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ) أنّ الدفاع عن الخائنين ومرتكبي الظلم والآثام من أسباب إعراض الله تعالى عن العبد وعدم محبّته له ، وأنّ الدفاع عنهم لا يرفعهم عنده جلّت عظمته ، فإنّه لا يؤاخذهم إلّا بذنوبهم.

الخامس : يدلّ قوله تعالى : (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ) على أنّ الخيانة إنّما تتحقّق بالاستخفاء من الناس أو الحياء منهم لئلّا يؤاخذوه بما

٢٥٧

صدر منه من المعصية والظلم ، وعدم الحياء من الله تعالى الّذي هو معهم ولا تخفى عليه خافية.

ومن ذلك يستفاد أن أساس كلّ معصية وارتكاب كلّ ظلم وسوء إنّما هي الخيانة بهذا المعنى العريض الشامل لكلّ مخالفة ، وأنّها تحصل بترك المراقبة للنفس ، وسيأتي في الموضع المناسب التفصيل في ذلك إن شاء الله تعالى.

السادس : يدلّ قوله تعالى : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ) انحصار الطريق في رفع أثر الظلم على النفس والمعصية والسوء ، بالتوبة والرجوع إلى الله تعالى وطلب المغفرة منه عزوجل ، أمّا الشفاعة للظالمين الخائنين لأنفسهم والدفاع عنهم واتّخاذ الدليل لهم ، فلا فائدة في ذلك كلّه ، فرحمته عزوجل إنّما تشمل العباد لو طلبوها من الطريق الصحيح.

السابع : يدلّ قوله تعالى : (الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ) على معنى دقيق ، وهو أنّ الإنسان إنّما خلقه عزوجل وأودع فيه غريزة خاصّة بها يطلب الكمال ويسعى له ، وقد بيّن عزوجل الطريق الّذي يوصله إليه ، ولا يمكن أن يطلبه من غير ذلك وما يطلبه ، فإنّه خيال ووهم وليس هو الكمال الحقيقي المنشود ، فمن ارتكب المعصية ويقترف الإثم والسوء ، فإنّه خان نفسه الّتي تسعى إلى الكمال وأضلّها عن الطريق المستقيم وعن ما أودعه عزوجل في فطرة الإنسان عنها وتضييعها وتعطيلها ، ولو أحرز شيئا لم يكن ذلك من الكمال المنشود.

الثامن : يستفاد من قوله تعالى : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ) أنّ الأنبياء عليهم‌السلام كسائر البشر يتأثّرون بكلّ ما يحيط بهم من قول الشرّ ، إلّا أنّ العصمة الّتي أودعها الله تعالى فيهم تحفظهم وتمنع من ظهور آثار الضلال عليهم ، فلا يضرّونهم أهل الضلال.

٢٥٨

وهذه الآية المباركة من الآيات الشريفة الّتي تدلّ على عصمة نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، الّتي هي قوّة شعوريّة علميّة إراديّة غير مغلوبة لسبب من أسباب الضلال والفساد.

وهي تدلّ على أنّ العصمة لا تخرج المعصوم عن كونه فردا من أفراد الإنسان ، بل هي موهبة الهية عظيمة وفضل كبير عليهم ، تعزف أنفسهم بها عن ارتكاب المعاصي والآثام ، كما تعزف نفوس سائر الناس وتأنف عن أكلّ ما تشمئز منه النفوس.

وهذه العصمة تثبت على جميع جوارح المعصوم وجوانحه وتظهر أثرها في الأقوال والأفعال ، فيكون في أمن من اتّباع الهوى والميل إلى الباطل ، وأساس هذه العصمة ـ كما يستفاد من هذه الآية الكريمة ـ هو العلم الّذي يمنع صاحبه عن التلبّس بالخطإ وكلّ ضلال ، كما قال عزوجل : (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) ، وهذا النوع من العلم يختلف عن إنزال الكتاب والوحي بواسطة الملك ، بل هو إلهام خاص وإلقاء في القلب ، وهذا هو علم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله المعروف الّذي يختلف عن سائر علوم الناس ، فإنّها لا تحصل إلّا بالأسباب العاديّة المعروفة في طرق اكتساب العلوم.

كما يختلف عنها في أنّه لا يتأثّر بسائر القوى الشعوريّة الاخرى ، من الوهم والخيال والضلال ، بل هو غالب عليها ، وأنّه يصون صاحبه من الضلال والخطيئة. وقد يعبّر عن هذا العلم بالعلم اللدنّي أو الملك الّذي يحفظ الإمام عليه‌السلام. وقد ورد في بعض الروايات أنّ للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام عليه‌السلام روحا تسمّى بروح القدس تسدده وتعصمه من المعصية ، ويشير إليها قوله تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) [سورة الشورى ، الآية : ٥٢] ، وتقدّم في الجزء الأوّل بحث العصمة فراجع.

٢٥٩

التاسع : يدلّ قوله تعالى : (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ) على مرجوحيّة كلّ نجوى ومسارّة ، إلّا إذا كانت تأمر بالإصلاح والصدقة والمعروف ، ولعلّ السرّ فيه أنّ النجوى من سبل غواية الشيطان ولا بدّ أن يكون الإنسان بعيدا عنها ، قال تعالى : (إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا) [سورة المجادلة ، الآية : ١٠] إلّا إذا كان في مرضاة الله تعالى وسبل رضاه عزوجل ، وهي ما ورد في هذه الآية المباركة من الصدقة والمعروف والإصلاح بين الناس ، وإنّها هي الخير الّذي لا بدّ أن يبتغيه المتناجون.

وفي ذكر الصدقة في المقام مع كونها من المعروف لعلّه لأجل مرغوبيّة المسارّة فيها ، كما أنّ إثبات الأجر العظيم في النجوى الّذي يكون في مرضاة الله تعالى ؛ لأنّه يتمحّض في الخير ويبتعد عن غواية الشيطان ، فيكون مثل هذا النجوى خيرا محضا ، ويكون الجزاء المترتّب عليه عظيما.

العاشر : يستفاد من تعقيب قوله تعالى : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى) للآية المباركة السابقة الناهية عن النجوى ، إذا لم يكن في مرضاة الله تعالى بما يبيّنه عزوجل إنّما تكون لمشاقّة الرسول ومخالفته ومعصيته ، ويفسّر هذه الآية المباركة قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى) [سورة المجادلة ، الآية : ٩].

الحادي عشر : يستفاد من قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى) أنّ المشاقّة لا تتحقّق إلّا بعد تبيّن الهدى ووضوح الحجّة وإقامة البرهان. وهنا بحث نفيس في أقسام الهداية وأصناف الناس في اتّباعها ، لا يسع الحال لذكرها ونحن في هذه الظروف الشاقّة المحزنة ـ والحمد لله على كلّ حال ـ وسنذكرها في الموضع المناسب إن شاء الله تعالى.

الثاني عشر : يدلّ قوله تعالى : (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) أنّ سبيلهم بما

٢٦٠