مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٩

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٩

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٣
ISBN: 964-5665-08-6
الصفحات: ٣٩٦

الحلّ وبعضها من الحرم ، وسمّيت بذلك لبئر فيها تسمّى الحديبيّة. ويستفاد من هذه الرواية اهتمام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والمسلمين بالصلاة ، حتّى أنّ ذلك كان معروفا عند أعدائهم ، كما يستفاد منها الكيفيّة الخاصّة في صلاة الخوف ، كما تقدّم في التفسير.

وفي الكافي بإسناده عن الصادق عليه‌السلام : «صلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأصحابه في غزوة ذات الرقاع صلاة الخوف ، ففرّق أصحابه فرقتين ، أقام فرقة بإزاء العدو ، وفرقة خلفه ، فكبّر وكبّروا فقرأ وانصتوا فركع وركعوا فسجد وسجدوا ثمّ استمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قائما وصلّوا لأنفسهم ركعة ، ثمّ سلّم بعضهم على بعض ثمّ خرجوا الى أصحابهم فقاموا بإزاء العدو ، وجاء أصحابهم فقاموا خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فصلّى بهم ركعة ثمّ تشهّد وسلّم عليهم ، فقاموا وصلّوا لأنفسهم ركعة ثمّ سلّم بعضهم على بعض ، وقد قال الله تعالى لنبيّه : (إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً* وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ) ـ إلى قوله تعالى ـ (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) ، فهذه صلاة الخوف الّتي أمر الله عزوجل بها نبيّه ، وقال : من صلّى المغرب في خوف بالقوم صلّى بالطائفة الأولى ركعة وبالطائفة الثانية ركعتين ـ الحديث».

أقول : ذات الرقاع هي من إحدى غزواته الّتي حضرها بنفسه صلى‌الله‌عليه‌وآله وكان بينها وبين الهجرة أربع سنين وأيام ، وخاف الجمعان بعضهم بعضا ، فصلّى رسول الله بالمسلمين صلاة الخوف ، وذات الرقاع موضع بنجد ، وكانت قوّات أعدائهم من بني محارب وبني ثعلبة من غطفان ، وكان قوات المسلمين اربعمائة راكب وراجل ، وانهزم بنو ثعلبة وبنو محارب فيها ، وكان هدف الأعداء فيها القضاء على المدينة وغزوها.

وسمّيت الغزوة بذات الرقاع لوجوه كثيرة ، أهمّها أنّهم كانوا يشدّون على أرجلهم الخرق من شدّة الحرّ ، أو يعصبونها حتّى يسهل عليهم المشي. وقيل : إنّها اسم جبل قريب من المدينة فيها رقع سود وحمر وبيض. وقيل : إنّ الأرض كانت

٢٢١

كذلك. وقيل : رقّعوا راياتهم كذلك. وقيل : هي اسم شجرة كانت في موضع الغزوة.

وكيف كان ، تتضمّن الرواية الكيفيّة الخاصّة لصلاة الخوف ، وهي المعروفة بين الإماميّة والموافقة للقواعد العامّة ، كما ذكرنا في كتابنا (مهذب الأحكام).

وعن ابن عباس في تفسيره أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله غزا محاربا ببني أنمار فهزمهم الله تعالى وأحرزوا الذراري والمال ، فنزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والمسلمون ولا يرون من العدو واحدا ، فوضعوا أسلحتهم وخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ليقضي حاجته وقد وضع سلاحه ، فجعل بينه وبين أصحابه الوادي ، فإلى أن يفرغ من حاجته وقد درأ الوادي والسماء ترش ، فحال الوادي بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وبين أصحابه ، وجلس في ظل شجرة فبصر به غورث بن الحارث المحاربي ، فقال له أصحابه : يا غورث هذا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله قد انقطع من أصحابه ، فقال : قتلني الله إن لم اقتله ، وانحدر من الجبل ومعه السيف ولم يشعر به رسول الله إلّا وهو قائم على رأسه ومعه السيف قد سلّه من غمده ، وقال : يا محمد من يعصمك منّي الآن ، فقال رسول الله : الله ، فانكب عدوّ الله لوجهه فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأخذ سيفه ، وقال : يا غورث من يمنعك منّي الآن؟ قال : لا أحد ، قال : أتشهد أن لا إله إلّا الله وأنّي عبد الله ورسوله ، قال : لا ، ولكنّي أعهد أن لا أقاتلك أبدا ولا أعين عليك عدوا ، فأعطاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سيفه فقال له غورث : والله ، لأنت خير منّي ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّي أحقّ بذلك ، وخرج غورث إلى أصحابه فقالوا : يا غورث لقد رأيناك قائما على رأسه بالسيف فما منعك منه ، قال : الله ، أهويت له بالسيف لأضربه فما أدري من زلّخني بين كتفي فخررت لوجهي وخرّ سيفي وسبقني إليه محمد وأخذه. ولم يلبث الوادي أن سكن فقطع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أصحابه فأخبرهم الخبر وقرأ عليهم : (إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً).

أقول : ذكر صاحب المجمع الرواية عن أبي حمزة الثمالي في تفسيره.

٢٢٢

وكيف كان ، انّ الزلخ وجع يأخذ في الظهر لا يتحرّك الإنسان من شدّته. وذكر الواقدي في المغازي أنّ المشركين في غزوة ذات الرقاع كانوا من بني أنمار وثعلبة. إذا ما ورد فيها تكون نفس غزوة ذات الرقاع. ويمكن الجمع بين ما تقدّم وبين ما ذكره الواقدي بأنّ المشركين كانوا في غزوة ذات الرقاع من قبائل متعدّدة أكثرها ثعلبة وبنو محارب ومنهم بنو أنمار أيضا ، فلا تنافي حينئذ. وعلى أيّة حال لا يهمّنا ذلك.

وإنّها تدلّ على عنايته جلّت عظمته برسوله الكريم ودوام إمدادته الخاصّة به بحفظه عن المشركين الّذين هم كانوا أعداء له صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولعلّ الوجه في عدم قتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الرجل لإتمام الحجّة عليه ، وأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ليس في مقام الانتقام أو التشفّي ، وأنّ الآية الشريفة المذكورة فيها إمّا من باب التطبيق ، أو من باب تعدّد النزول.

وفي الدرّ المنثور بإسناده عن ابن عباس قال : «صلّينا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بين مكّة والمدينة ونحن آمنون لا نخاف شيئا ، ركعتين».

أقول : تدلّ الرواية على أنّ القصر في الصلاة في السفر الشرعي لا يناط بالخوف ، وما ذكر في الآية المباركة من إحدى حكم التشريع لا العلّة المنحصرة بها الحكم ، كما في مثل الإسكار على ما تقدّم في التفسير.

وممّا ذكرنا يظهر الوجه في ما رواه البخاري وغيره عن حارثة بن وهب الخزاعي قال : «صلّيت مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الظهر والعصر بمنى أكثر ما كان الناس وآمنه ركعتين» ؛ فإنّ السفر الشرعي تحقّق سواء كان ذلك بمنى أو غيرها ، وهو موجب لقصر الصلاة.

وفي الكافي بإسناده عن داود بن فرقد قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام قوله تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً)؟ قال : كتابا ثابتا ، وليس إذ عجّلت قليلا أو أخّرت قليلا بالّذي يضرّك ما لم تضع تلك الإضاعة ، فإنّ الله عزوجل يقول : (أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا)».

٢٢٣

أقول : يستفاد من هذه الرواية أمور :

الأوّل : أنّ الصلاة ثابتة فلا تسقط بحال ، فتكون الرواية دليلا على القاعدة المتّفق عليها الفقهاء من أنّ «الصلاة لا تسقط بحال» إلّا إذا دلّ الدليل على سقوطها ، كما في الحائض والنفساء والمجنون والصبي المميز وغيره.

الثاني : مشروعيّة القضاء فيها ؛ لأنّ معنى الثبوت هو البقاء ، ما لم تؤد بالكيفيّة الخاصّة الّتي قرّرها الشارع ، كما ذكر ذلك في الكتب الفقهيّة.

الثالث : أنّ الصلاة يعمّ تكليفها الناس جميعا ، والتخصيص بفرقة خاصة ينافي إطلاق قوله عليه‌السلام : «كتابا ثابتا» ، فلا بد من إقامة دليل خاصّ على التقييد ، وأنّ ذكر المؤمنين في الآية المباركة من باب ذكر أشرف الناس وأحبّهم إليه جلّت عظمته ، مع أنّ للإيمان مراتب.

الرابع : يستفاد منها أنّ وقت الصلاة موسّع ؛ لأنّ في الضيق شدّة وحرجا ، وهما ينافيان رحمته الّتي وسعت كلّ شيء ، ويدلّ قوله تعالى : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [سورة الحج ، الآية : ٧٨] ، وتدلّ على ذلك أيضا روايات كثيرة.

وفي الدرّ المنثور عن ابن عباس قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أمّني جبرئيل عند البيت مرّتين ، فصلّى بي الظهر حين زالت الشمس وكانت قدر الشراك ، وصلّى بي العصر حين كان ظلّ كلّ شيء مثله ، وصلّى بي المغرب حين أفطر الصائم ، وصلّى بي العشاء حين غلب الشفق ، وصلّى بي الفجر حين حرم الطعام والشراب على الصائم ، وصلّى بي الغد الظهر حين كان ظلّ كلّ شيء مثله ، وصلّى بي العصر حين كان ظلّ شيء مثليه ، وصلّى بي المغرب حين أفطر الصائم ، وصلّى بي العشاء ثلث الليل ، وصلّى بي الفجر فأسفر ثمّ التفت إليّ فقال : يا محمد ، هذا الوقت وقت النبيّين قبلك. الوقت ما بين هذين الوقتين».

أقول : الشراك أحد سيور النعل الّتي تكون على وجهها ، والتقدير به ليس

٢٢٤

على وجه التحديد ، أي : إذا استبان الفيء في أصل الحائط من الجانب الشرقي عند الزوال ، فصار في رؤية العين قدر الشراك ، وهذا أقلّ ما يعلم به الزوال ، وإنّما يتبيّن ذلك في مثل مكّة المكرّمة والبلاد الّتي حولها ممّا يقلّ فيها الظلّ ، فإذا كان أطول النهار واستوت الشمس فوق الكعبة لم ير شيء من جوانبها ظل ، فكلّ بلد يكون أقرب إلى خط الاستواء ومعدّل النهار ، يكون الظلّ فيه أقصر ، وكلّ ما بعد عنهما إلى جهة الشمال يكون الظلّ أطول.

ويمكن أن يستدلّ بالرواية على جمع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بين الصلاتين ، والمراد من (مرّتين) يومين ، بقرينة ذيل الرواية. ولم يؤم جبرئيل لسوى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من الأنبياء العظام ، وهذا من مختصاته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما تدلّ على شرف البيت وكرامته أيضا.

وفي تفسير العياشي عن محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام قال : «في صلاة المغرب في السفر لا يضرّك إن تأخّرت ساعة ثمّ تصلّيها إن أحببت أن تصلّي العشاء الآخرة ، وإن شئت مشية ساعة إلى أن تغيب الشفق ، إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله صلّى صلاة الهاجرة والعصر جميعا ، والمغرب والعشاء الآخرة جميعا ، وكان يؤخّر ويقدّم ، إنّ الله تعالى قال : (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) ، إنّما عنّى وجوبها على المؤمنين ، لم يعن غيره ، إنّه لو كان كما يقولون لم يصل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هكذا وكان أعلم وأخبر ، وكان كما يقولون ، ولو كان خيرا لأمر به محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد فات الناس مع أمير المؤمنين عليه‌السلام يوم صفّين صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة ، وأمرهم عليّ أمير المؤمنين عليه‌السلام فكبّروا وهلّلوا وسبّحوا رجالا وركبانا ؛ لقول الله : (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً) ، فأمر عليّ عليه‌السلام فصنعوا ذلك».

أقول : الهاجرة نصف النهار عند اشتداد الحرّ أو من عند الزوال إلى العصر ، وسمّي بها لأنّ غالب الناس يسكنون في بيوتهم ، فكأنّهم قد تهاجروا ، وصلاة الهجرة صلاة الظهر ، وفي الدعاء : «أتراك معذبيّ وقد أظمأت لك هواجري» ، أي : حصل لي شدّة العطش في هواجري لأجل عبادتك والخضوع لك.

٢٢٥

وكيف كان ، فتدلّ الرواية على أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جمع بين الصلاتين ، وكان يقدّم ويؤخّر ، وذلك يدلّ على الاستمرار.

والمراد بقوله عليه‌السلام : «إنّما عنّى وجوبها على المؤمنين» ، أي : الوجوب الخاصّ وهو إتيان الصلوات في الأوقات الخمسة المعينة ؛ لأنّ فيه عناية خاصّة لا تشمل كلّ أحد ، فلا ينافي ما ذكرناه في رواية داود بن فرقد من شمول الوجوب لجميع الناس حتّى الكافر.

والرواية لا تدلّ على فوت الصلاة عن عليّ عليه‌السلام ، بل فوت الصلاة عن الناس الّذين كانوا معه ، كما هو المنساق منها.

وفي الكافي بإسناده عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام في قول الله تبارك وتعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) قال : يعني مفروضا ، وليس يعني وقت وقتها ان جاز ذلك الوقت ثمّ صلّاها لم تكن صلاته هذه مؤدّاة ، ولو كانت كذلك لهلك ابن داود عليه‌السلام حين صلّاها لغير وقتها ، ولكنّه متى ذكرها صلّاها».

أقول : يستفاد منها أنّ الصلاة واجبة ، وأنّ التوقيت الزمني في الصلاة المفروضة من باب تعدّد المطلوب. وأمّا صلاة ابن داود عليه‌السلام الّتي صلّاها في غير وقتها يمكن أن يكون ذلك لمصلحة فيها ، كتشريع القضاء عملا أو غير ذلك تحفّظا على العصمة في الأنبياء عليهم‌السلام.

وفي الدرّ المنثور بإسناد متّصل عن يعلى بن أمية قال : «سألت عمر بن الخطاب قلت : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، وقد أمن الناس؟ فقال لي عمر : عجبت ممّا عجبت منه فسألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن ذلك فقال : صدقة تصدّق الله بها عليكم ، فاقبلوا صدقته».

أقول : تقدّم أنّ الخوف من باب إحدى حكم التشريع ، وكانت الأسفار القديمة ـ خصوصا في صدر الإسلام ـ مقرونة بالخوف من الكفّار الّذين كانوا أعداء المسلمين. والمراد بالصدقة هو أنّ تشريع القصر في الصلاة في السفر عطيّة

٢٢٦

إلهيّة أعطاها الله لنا فنتشرّف بها بالتقرّب إليه ، وذلك شأن جميع الأحكام. ويستفاد منها أنّ القصر فيها عزيمة لا رخصة.

وفي تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى : (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ) ، أنّه معطوف على قوله تعالى في سورة آل عمران : (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ) ، وقد ذكرنا هناك سبب نزول الآية.

أقول : لعلّ المراد العطف من حيث وحدة المعنى وسياق الآيات الكريمة ، لا العطف المصطلح ، ويشهد لما ذكرنا ما روي عن ابي سفيان ، قال عند انصرافه من أحد : يا محمد ، موعدنا موسم بدر القابل إن شئت ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن شاء الله ، فلما كان القابل ألقى الله الرعب في قلبه فندم على ما قال ، فبعث نعيم بن مسعود ليخوّف المؤمنين من الخروج إلى بدر ، فلما أتى نعيم المدينة وجد المؤمنين يتجهّزون للخروج فقال لهم : إنّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ، ففتر المؤمنين فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : لأخرجنّ ولو لم يخرج معي أحد ، فأنزل الله تعالى : (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ).

وفي الدرّ المنثور عن ابن عباس في قوله تعالى : (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ) قال : «توجعون ، (وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ) قال : ترجون الخير».

أقول : الوجع أعمّ من الوجع الجسدي والنفسي ، كما أنّ الخير أعمّ من الخير الدنيوي والأخروي ، فيشمل الحياة والرزق والعلم والجاه ومآرب الدنيا الّتي فيها رضاؤه جلّ شأنه ومنازل الآخرة الّتي تنال بالشهادة.

بحث فقهي :

استدلّ فقهاؤنا الأبرار (رضوان الله تعالى عليهم أجمعين) بقوله تعالى : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) على ثبوت قصر الصلاة في السفر ، وكذا استدلّوا بها على قصر صلاة الخوف سفرا وحضرا ، وكذا صلاة المطاردة.

٢٢٧

والآية المباركة وإن كانت مجملة من حيث بعض الشروط وبيان الكيفيّة ، إلّا أنّ السنّة الشريفة بيّنت خصوصيات الموضوع بيانا شافيا.

وتختصّ القصر بالصلاة الرباعيّة في السفر بالشروط المذكورة في الكتب الفقهيّة ، وهي أمور :

الأوّل : أن لا يكون السفر سفر معصية ، كالسفر لأجل شرب الخمر أو السرقة أو قطع الطريق وغيرها من الفواحش ، ولا يجب أن يكون طاعة ، كالسفر للجهاد أو الحجّ المفروض ، ولو كان مباحا كسفر التجارة وجب القصر ؛ ولذا لم يقيّد في الآية المباركة الضرب بكونه في سبيل الله تعالى كما في الآية السابقة.

الثاني : أن تتحقّق المسافة الشرعيّة ، وهي ثمانية فراسخ ـ أو أربعة فراسخ إذا رجع في نفس يومه ـ أو (٤٤) كيلو متر على التفصيل المذكور في الكتب الفقهيّة. وقد اختلفت المذاهب في هذا الشرط ، فقال أبو حنيفة : مسيرة ثلاثة أيّام ولياليها بسير الإبل ومشي الأقدام بالاقتصاد في البرّ ، وجري السفينة والريح معتدلة في البحر. وقال الشافعي : التقدير بيوم وليلة. والمشهور بينهم التقدير بالفراسخ ، واختلفوا ، فقال بعضهم : إنّه أحد وعشرون فرسخا ، وقال آخرون : ثمانية عشر وآخرون خمسة عشر.

الثالث : أن يكون المسافر قاصدا للسفر ، فلا قصر على الذاهل والمتردّد ، ويستفاد هذا الشرط من ظاهر الآية المباركة : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) كما عرفت.

الرابع : استمرار القصد ، فلو عدل عن قصده قبل بلوغ المسافة الشرعيّة ، أو تردّد ، أتمّ للأدلّة الّتي ذكرناها في كتابنا (مهذب الأحكام).

الخامس : أن لا يكون ممّن بيته معه ، كأهل البوادي الّذين ينزلون البراري في محلّ العشب والكلأ ومواضع القطر واجتماع الماء ؛ لعدم صدق المسافر عليهم ، وكذا لا يكون من الّذين اتّخذوا السفر عملا وشغلا لهم ، كالمكاري والسائق والساعي

٢٢٨

والراعي ونحوهم ، فإنّ هؤلاء يتمّون في سفرهم الّذي هو عمل لهم ؛ لعدم انقطاع سفرهم ؛ ولنصوص كثيرة مذكورة في الكتب الفقهيّة.

السادس : الوصول إلى حدّ الترخص ، وهو المكان الّذي يتوارى عنه جدران بيوت البلد ويخفى عنه آذانه ؛ لصدق التلبّس بالسفر عرفا ؛ ولأدلّة أخرى مذكورة في الكتب الفقهيّة. وهناك قواطع للسفر ذكرناها في كتابنا (مهذب الأحكام).

واختلف علماء الجمهور في القصر في السفر ، فقال الشافعي : عدم وجوب القصر وأفضلية التمام ، واستدلّ بقول عائشة : «انّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقصر في السفر ويتمّ» ، وبما رواه النسائي والدار قطني : «انّ عائشة لما اعتمرت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقالت : يا رسول الله قصّرت وأتمت وصمت وأفطرت ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أحسنت يا عائشة» ، وقال مالك : إنّه يجب القصر وجوب عزيمة لا رخصة فيه ، واستدلّ بما رواه النسائي وابن ماجة عن عمر أنّه قال : «صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيّكم عليه الصلاة والسلام» ، وبما رواه الشيخان عن عائشة أنّها قالت : «أوّل ما فرض الله تعالى الصلاة ركعتين ركعتين ، فأقرّت في السفر وزيدت في الحضر» ، وذهب جمع إلى أنّ القصر في الآية الشريفة ليس هو قصر الرباعيّة في السفر المبيّن بشروطه في كتب الفقه ، فذلك مأخوذ من السنّة المتواترة ، وأمّا ما في المقام فهو في صلاة الخوف كما ورد عن بعض الصحابة ، والشروط فيها على ظاهرها.

ولكن ، عرفت في التفسير بطلان ذلك. وأمّا ما ذهب إليه الشافعي فهو مخالف لسنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومذهب أهل البيت وعمل الصحابة ، وأمّا رواية عائشة فهي مردودة من جهات كثيرة ، قد ذكرها علماء الجمهور في كتبهم.

وأمّا صلاة الخوف ، فهي مقصورة سفرا وحضرا ، جماعة وفرادى ، إلّا في الصبح والمغرب ؛ لما تقدّم من الآية المباركة والسنّة المعصوميّة. والمراد من الخوف : الخوف الّذي يكون مقتضيا لتخفيف الصلاة ، سواء كان ذلك من عدو أو لص أو

٢٢٩

سبع أو ظالم ، لا كلّ خوف ولو لم يقتض ذلك ، ويستحبّ فيها الجماعة ، ولها كيفيات ثلاثة ، كما تقدّم في التفسير وذكرناها في كتابنا (مهذب الأحكام).

وأمّا صلاة المطاردة ـ وتسمّى بشدّة الخوف والمراماة والمسايفة ، أي : التضارب بالسيف ـ فتصلّى بكلّ وجه أمكن ، فهي تابعة للقدرة ، ويبدل كلّ ما لا يقدر عليه بالأبدال الاضطرارية ، كما ذكرناه مفصّلا في محلّه.

بحث عرفاني :

من أسباب تزكية النفس ورقيّها الصلاة ، بل هي من أهمّها وأسماها ـ لما علم الله تعالى من وجود الشره المؤدّي إلى الهلاك والخسران في الإنسان ، جعل الطاعات والعبادات ـ خصوصا الصلاة صونا للنفس وحفظا لها عن الهلاك والخسران ، بل لرقيّها إلى مراتب الكمال ، ففي الحديث : «ما افترض الله على خلقه بعد التوحيد شيئا أحبّ إليه من الصلاة ، ولو كان شيء أحبّ إليه من الصلاة تعبّد به ملائكته ، فمنهم راكع وساجد وقائم وقاعد» ، فبها يزول الدنس كما في بعض الروايات ، وإنّها مطهرة للقلوب من المساوئ والعيوب ، وبها تفتح أبواب الغيوب ، وبها تطمئن القلوب ، وبها ترفع الدرجات ، وفيها المناجاة برفع الأستار ، وتتسع فيها ميادين الأسرار ، وبها تشرق شوارق الأنوار ، وبها تزال الحجب والأستار بالقرب إليه ، وبها تصفو المحبّة من كدر الجفاء ويتّصل المحبّ مع حبيبه في محلّ الصفا.

ولقد علم الله تعالى ضعف الإنسان ووساوس الشيطان ، فقلّل أعدادها وفرض في ليلة المعراج خمس صلوات في خمس أوقات بشفاعة نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذا لعوام الخلق ، وإلّا فالعارفون من الخواص : (الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) [سورة المعارج ، الآية : ٢٣] ، منحهم ديمومة الصلاة من الأزل إلى الأبد ،

٢٣٠

وهذا لا يدرك بالعقول القاصرة المشوبة بالمادّة الزائلة ، فلا يعقلها إلّا العالمون بالله تعالى.

وإنّ المقصود والأثر المطلوب من إقامة الصلاة معنويّتها ، لا مجرّد وجودها وشبحها ، فإنّ الإقامة هي الإكمال والإتقان ، يقال : (فلان أقام داره) ، أي : أكملها وجعل فيها كلّ ما يحتاج إليه. وإنّ إقامة الصلاة تعديلها من جميع الجهات ـ بالتوجّه فيها إليه تعالى والتقرّب بها لديه جلّ شأنه وحفظ أركانها وشرائطها حتّى تترتّب آثارها ـ فليس كلّ مصلّ مقيم ، وكم من مصلّ ليس له من صلاته إلّا التعب ، وفي بعض الأحاديث : «من لم تنه صلاته من الفحشاء والمنكر ، لم تزده من الله إلّا بعدا» ، وعن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إذا صلّى العبد فلم يتم ركوعها ولا سجودها ولا خشوعها ، لفت كما يلف الثوب الخلق ثمّ يضرب بها وجهه» ، فالمصلّون كثيرون والمقيمون قليلون وأهل الأشباح كثير وأهل القلوب وأرباب المعرفة قليل.

والتعبيرات الواردة في القرآن الكريم في مدح المصلّين أكثرها وأغلبها جاء بلفظ الإقامة أو بمعنى يرجع إليها ، قال تعالى : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) [سورة البقرة ، الآية : ٣] ، وقال تعالى حكاية عن إبراهيم (عليه أفضل الصلاة والسلام) : (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ) [سورة إبراهيم ، الآية : ٤٠] ، وقال تعالى : (وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ) [سورة الحج ، الآية : ٣٥] ، وقال تعالى : (وَأَقامَ الصَّلاةَ) [سورة التوبة ، الآية : ١٨] ، ولما ذكر المصلّين بالغفلة قال تعالى : (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) [سورة الماعون ، الآية : ٥] ، ولم يقل سبحانه وتعالى : فويل للمقيمين الصلاة ، وفي الحديث : «انّ العبد إذا قام الى الصلاة رفع الله الحجاب بينه وبينه وواجهه بوجهه وقامت الملائكة من لدن منكبه إلى الهويّ يصلّون بصلاته» ، إلى غير ذلك من الروايات والأحاديث.

والتوجّه أو الخشوع فيها على مراتب :

٢٣١

الأولى : خشوع خوف وإذلال وانكسار لعظمته وقهّاريته ، وهي للعبّاد الزهاد.

الثانية : خشوع تعظيم وهيبة وإجلال ، وهي للمتّقين الأبرار.

الثالثة : خشوع فرح وسرور وإقبال ، وهي للمقرّبين العارفين ، ويسمّى هذا المقام بقرّة العين ، قال تعالى : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) [سورة الم سجدة ، الآية : ٢٩].

الرابعة : الجمع في مقام الجمع ، وهذه تختصّ بالأولياء والمقرّبين ، فيها تتمّ التصفية وتظهر المحبّة وتفتح الأبواب ويرتفع الحجاب ، فتخرج الروح من ضيق الأشباح إلى فضاء الكمال في عالم الأرواح ، أو من ضيق الملك إلى سعة عالم الملكوت.

ولا شكّ أنّ إمداداته وإفاضاته جلّت عظمته غير محدودة بحدّ ولا بزمان معين ؛ لصدورهما عن ذات غير المتناهي.

نعم ، ترد على العبد حالات خاصّة وظروفا معيّنة يكون التوجّه فيهما إليه أشدّ وأكثر ، فلها آثار مخصوصة لنجح المقاصد وإنجاز المطالب ، منها حالة الصلاة ، خصوصا عند الانقطاع إليه تعالى كالسفر والخوف والمرض وغيرها ، ولأجل ذلك ورد الاستعانة بها وقالوا : إنّ الصلاة لا تسقط في أي حال ؛ لأنّه لا بد للعبد من حفظ الصلة بينه وبين ربّه ، وبها تتمّ المحبّة وتحصل المودّة.

٢٣٢

(إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (١٠٥) وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٦) وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (١٠٧) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (١٠٨) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (١٠٩) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً (١١٠) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١١١) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (١١٢) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (١١٣) لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١١٤) وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (١١٥))

الآيات الشريفة تبيّن بعض الحقائق الواقعيّة والدينيّة ، فهي تشير إلى أهمّ

٢٣٣

حقيقة يبتني عليها نظام السموات والأرض ، وهي العدل في جميع الأمور ، لا سيما في القضاء وعدم الجور فيه ، وترك الخيانة بتعريض البريء الى التهمة والعذاب والإغفال عن المتهم وترك الحكم عليه.

وتوصي الآيات الشريفة المؤمنين بالحقّ في القضاء وعدم الميل والجور فيه. كما تشير إلى حقيقة اخرى ، وهي عصمة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وحجيّة قضائه ، ثمّ ترشد الناس إلى ترك الخيانة في جميع الأمور وبالنسبة إلى جميع الناس.

وتعتبر المجتمع الإنساني كنفس واحدة ، فأي واحد منهم يتّهم برئيا ويخونه ، فهو يخون نفسه. وتشير إلى حادثة واحدة كنموذج فذّ في التاريخ وليست هي قصة عارضة ثمّ تنسى ، بل هي درس تربوي تبقى للأجيال وعلى مرّ الزمن ، وتطبيق عملي للعدل الرباني ، وأحد مقوّمات الإسلام دين الحقّ والعدل ، فكانت هذه الحادثة هي رمز العدالة في الإسلام ؛ ولذا ذكرها عزوجل في القرآن الكريم وأمر نبيّه العظيم بإظهار الحقّ والقضاء فيه ، مع أنّ المنافقين أرادوا منها النيل من كرامته واهتمّوا بإضلاله.

وتبتدأ القصة بأن نفرا من الأنصار غزا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في بعض الغزوات فسرقت لأحدهم درع ، فحامت حول رجل من الأنصار الشبهة ، فاتّهمه صاحب الدرع عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو منافق يقول الشعر في ذمّ المؤمنين وينسبه إلى غيره ، فلما رأى السارق ذلك عمد إلى الدرع فألقاها في بيت رجل بريء ، ثمّ وجّه قومه الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا : إنّ صاحبنا بريء ، وألحّوا عليه بأن يقضي لهم وبالغوا في أن يغيروه صلى‌الله‌عليه‌وآله على المتهم البريء وطلبوا منه صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يعذر صاحبهم على رؤوس الناس ، فنزلت الآيات الشريفة وبرّأه الله تعالى ممّا قالوا. وهي ليست قصة عابرة بل درس عملي تطبيقي كما عرفت.

وتتضمّن الآيات الشريفة بعض أخلاق الإسلام وتذمّ الخيانة في جميع الأمور ، وترتبط الآيات المباركة بما قبلها في تشريع الأحكام وإظهار صفات

٢٣٤

المنافقين. وقد أمر عزوجل فيها برعاية الحقّ وحفظه والعناية به وتطبيقه بعد أمره عزوجل في الآيات الكريمة السابقة الجهاد في سبيل الحقّ ، فكانت هذه الآيات تطبيقا عمليا للآيات الشريفة السابقة.

التفسير

قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ).

ذكرنا في إحدى الآيات الشريفة السابقة أنّ كلّ مورد في القرآن الكريم يراد منه تثبيت قدرته عزوجل وعظمته وقهّاريته وإظهار الحقّ ، كانت النسبة إليه تعالى بضمير الجمع والعظمة ، وكلّ مورد يراد منه إظهار عطفه ورحمته وحنانه وغفرانه كانت النسبة إليه بضمير المفرد ، وفي المقام إنّما أسند عزوجل الإنزال إلى ضمير العظمة تعظيما لأمر المسند ؛ ولأنّ المقام يستدعي ذلك لتثبت الحكم.

وتأكيد الحكم ب (إنّا) إيذانا بالاعتناء بشأنه ، كما أنّ تقديم المفعول غير الصريح للاهتمام والتشويق له.

والناس : يشمل جميع الأفراد المؤمن وغيره ، والبرّ والفاجر ، وإنّه أعمّ الإنس والجنّ ، لكن غلب استعماله في الإنس ، هو جمع إنس ـ لأنّهم يونسون ـ أصله أناس ادخل عليه اللام. وقيل : اسم وضع للجمع كالرهط والقوم ، واحده إنسان من غير لفظه.

والحكم بين الناس هو القضاء بينهم ، سواء في المخاصمات والمنازعات ـ لرفع الاختلاف بينهم بالحكم ـ أم غيرها ، وإنّه من أفضل الأعمال وأكملها لو كان الحاكم واجدا للصفات والحكم جامعا للشرائط الشرعيّة ، بل هو من شؤون الأنبياء وخلفائهم المعصومين.

٢٣٥

وإيجاد الرأي إن كان ممّا أراه الله تعالى لصاحب الرأي ، فهو صواب ، كرأي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكذلك رأي خلفائه المعصومين كما ستعرف ، وأمّا رأي غيرهم فلم يعلم أنّه ممّا أراه الله تعالى أو الشيطان أو النفس الأمّارة بالسوء ، الّتي هي من جنود الشيطان ، أو الخيالات الفاسدة الّتي هي من أهمّ جنوده أيضا.

وقد جعل عزوجل في المقام الحكم بين الناس الغاية لإنزال الكتاب ، نظير قوله تعالى : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) [سورة البقرة ، الآية : ٢١٣] ، إلّا أنّ الفرق بين الآيتين أنّ المقام خاصّ ، وآية البقرة عامّ ، كما يزيد المقام أيضا أنّ الله تعالى جعل حقّ الحكم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والحجيّة لرأيه ونظره.

قوله تعالى : (وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً).

جملة مستأنفة والعطف فيها من عطف جملة إنشائيّة على جملة خبريّة هي في معنى الإنشاء ، فيرجع المعنى إلى قوله : احكم بينهم ولا تكن للخائنين خصيما.

والخصيم : من يدافع عن الدعوى ونحوها ، سواء كان من أطراف النزاع والخلاف ، أم لم يكن ، وفي الدعاء : «اللهم بك خاصمت» ، أي : بما ألهمتني من الدليل والبرهان خاصمت المعاندين وأظهرت لهم الحجّة ، وفي الحديث : «إذا خاصمكم الشيطان فخاصموه بما ظهر لكم من قدرة الله تعالى» ، والذكر والأنثى فيه سواء.

وفعيل هنا بمعنى فاعل ، ويدلّ عليه قوله تعالى في ما يأتي : (وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ) ، وجمع الخصيم خصماء. وهو يشمل جميع ما يوجب تأييد الخائنين وتقويتهم بالحجّة والدفاع عنهم بالمجادلة والميل إليهم.

ولا فرق بين القوي والضعيف ، فيشمل القوى في الدعوى أيضا ، والصديق والعدو ، والمؤمن والكافر ، أو القريب والبعيد ، وغير ذلك ممّا يوجب تقوية الخيانة ؛ لإطلاق الآية المباركة ، وأنّ الخيانة مبغوضة والخائن لا كرامة له عند الله تعالى.

الآية المباركة تدلّ على نهيه صلى‌الله‌عليه‌وآله عن أن يكون مدافعا للخائنين ذابا عنهم

٢٣٦

على من يطالبهم بالحقّ ، فيبطل حقوق المحقّين ويدافع عن المبطلين ، وهي تطبيق لقوله تعالى : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) [سورة المائدة ، الآية : ٤٩].

وإطلاق الآية الكريمة يشمل النهي عن جميع أنواع الخيانة ومطلق التعدّي ، فيشمل الخيانة في أحكام الله تعالى وشريعته ، كالكفر والفسق ، والخيانة في حقوق الآخرين ، ويشهد له الأمر في صدر الآية المباركة بالحكم مطلقا ، لا خصوص نوع خاصّ منه.

والخطاب وإن كان موجّها للرسول الكريم ، إلّا أنّ المراد منه غيره ممّن كان خصيما للخائنين ، وتعليم منه عزوجل لمن يريد التصدّي لهم ، ويشهد له قوله تعالى : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا).

قوله تعالى : (وَاسْتَغْفِرِ اللهَ).

الاستغفار هو طلب الستر والمغفرة ، والغفران مصدر ، وهو منصوب غالبا بإضمار ، وفي الحديث : «كان إذا خرج من الخلاء قال : غفرانك» ، أي : اطلب غفرانك ، وفي تخصيصه بذلك دائما أقوال :

الأوّل : أنّ ذلك عبادة أتى بها جزاء لما سلف من ما أنعم الله تعالى بها عليه من العافية والرزق وإطعامه وهضمه وبقاء قوى الطعام في بدنه ، فكان يلتجأ الى هذه العبادة جزاء للإحسان.

الثاني : استغفر لترك ذكره تعالى لسانا في مدّة لبثه في ذلك المحلّ ، فكأنه رأى في ذلك تقصيرا فتداركه بالاستغفار ، وإن كان قلبه مشغولا بذكره تعالى وإنّه لا ينقطع عنه.

الثالث : أنّ ذلك من تواضع العبوديّة لعظمته جلّ شأنه ؛ لأنّ الغفران يلازم ذلّ العبوديّة.

٢٣٧

الرابع : أنّ ذلك اعتراف بعدم أداء نصيبه من الشكر الّذي خصّص له لما أنعم سبحانه وتعالى عليه من جميع الجهات.

وظاهر الخطاب في الآية المباركة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فيكون المراد منه الطلب من الله تعالى الستر على ما في طبع الإنسان من الميل الى الهوى من هضم الحقوق ، والدليل عليه قوله تعالى في ذيل الآيات المباركة : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ) ، فإنّ الآية المباركة تدلّ على عصمة الله تعالى لنبيّه الكريم بعد بذل القوم غاية جهدهم في إضلاله وإيثار الباطل لديه وتحريضه على الحقّ ، ولكن الله تعالى جعله في أمنه وأخبرهم بأنّهم لا يضرّونه ، فلا يجوز في الحكم ولا يميل الى الباطل.

ويمكن أن يكون المراد من الأمر الاستغفار لأجل أنّه عبادة تدلّ على ذلّ العبوديّة ، بل هو من شؤونها ، فلا يختصّ بما إذا كان عن ذنب ؛ ولذا ورد عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «وأنا استغفر الله في كلّ يوم سبعين استغفارة» وهو معصوم ، فإن كان الاستغفار صادرا ممّن عصمه الله تعالى ، يكون مزيدا للثواب والدرجات ، وإن كان الاستغفار صادرا ممّن حصل منه الذنب ، فيوجب عفوه وستره وغفرانه ، فأمر الله تعالى له صلى‌الله‌عليه‌وآله بالاستغفار ليس لأجل صدور ذنب عنه ، أو همّه إلى الباطل وزيفه عن الحقّ ، بل لأنّ الاستغفار عبادة ، وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله سيد العابدين ورئيسهم كما عرفت.

أو لأن يعصمه الله تعالى من الوقوع في ما يوجب بعده عنه تبارك وتعالى.

أو لأجل سؤاله أن يغلبه على هوى النفس وإن كان معصوما ، ولكنّه يستلزم علوّ الدرجة له.

كما أنّه يمكن أن يكون الاستغفار لاشتغاله بالنظر في أهمّ مصالح الأمة ، مثل محاربة الأعداء ، فإنّها وأمثالها شاغلة عن عظيم مقامه.

أو عن عظيم ما مضى من أحواله ، والترقي منه إلى الأعظم لأنّ : «حسنات

٢٣٨

الأبرار سيئات المقرّبين» ، كما يحتمل أن يكون لتعليم الأمة من باب «إيّاك أعني واسمعي يا جارة».

وممّا ذكرنا يعلم فساد ما ذكره بعض المفسّرين من نسبة الذنب أو همّه إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، الّذي عصمه الله تعالى من الزلل والخطأ والذنوب كلّها ، وقد نفى الله تعالى عنه كلّ ضرر وآمنه عن كلّ ميل إلى الباطل واتّباع الهوى.

وظهر ممّا تقدّم معنى الحديث الشريف : «انّه ليغان على قلبي حتّى استغفر الله في اليوم سبعين مرّة» ، فإنّ قلبه الشريف أبدا مشغول بالله تعالى ، ولكن قد يعرض على قلبه المبارك عارض بشري من أمور الأمة والملّة ومصالحهما ، وعدّ ذلك في نفسه الأقدس تقصيرا ، فيفزع إلى الاستغفار.

أو يتذكر رقيّ نفسه الشريفة من عظيم إلى أعظم فيتوجّه إليه بالاستغفار ، وبه يحصل الرقي. ومنه يظهر شأن الاستغفار من بين الأذكار.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً).

أي : أنّ الله تعالى يحبّ المغفرة والرحمة ، فمن استغفره واسترحمه يجد الله غفورا رحيما دائما في تمام الأحوال وجميع العوالم.

قوله تعالى : (وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ).

المجادلة المخاصمة ، قيل : من الجدل ، وهو الفتل ، ومنه رجل مجدول الخلق ، أي : محكم الفتل ، ويقال للصقر : الأجدل ، وفي حديث عليّ عليه‌السلام حين وقف على طلحة وهو قتيل : «عزيز عليّ أبا محمد أن أراك مجدّلا تحت نجوم السماء» ، أي : مرميا قتيلا ملقى على الأرض.

وقيل : إنّه مأخوذ من الجدالة ، وهي وجه الأرض ، ومنه الحديث الشريف : «أنا خاتم النبيّين في أم الكتاب ، وإنّ آدم لمنجدل في طينته» ، أي : ملقى على الجدالة وهي الأرض ، فكأن كلّ واحد من الخصمين يريد أن يلقي صاحبه عليها ، ومنه : تركته مجدلا ، أي : مطروحا على الجدالة ، كما مرّ في الحديث السابق أيضا.

٢٣٩

و (يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ) أي : يخونونها ويحملونها على ما يخالف الفطرة والدين ، فتشمل كلّ معصية ، سواء كانت خيانة أم غيرها ، إلى النفس أو إلى الغير ، فإنّ وبالها راجع إليها بالآخرة ؛ لأنّ كلّ معصية تعدّ خيانة للنفس كما يعدّ ظلما لها. وربما تكون الخيانة إلى الغير أخذ ؛ لأنّه يجب احترامه وحفظه ومراعاة العهد معه ، فيكون التعدّي عليه بالخيانة في ماله أو في عرضه أو في غيرهما خيانة له وللنفس ، ولعلّ التعبير به لبيان هذه الجهة أيضا.

وسياق الآية المباركة يدلّ على حرصهم واستمرارهم عليها ، وقد ورد مثله في قوله تعالى : (كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) [سورة البقرة ، الآية : ١٨٧] ، وتقدّم ما يتعلّق به فراجع.

ولا يختصّ مضمون الآية المباركة بعصر النزول ، فإنّ في كلّ عصر يوجد من يكون خائنا للنفس بارتكاب المعاصي والآثام ، كما أنّ النهي وإن كان موجّها إلى الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكنّه تشريع موجّه إلى جميع المكلّفين ، فلا يجوز المدافعة عمّن يخون نفسه بارتكاب المعاصي وجعل نفسه عرضة للخيانة.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً).

الخوّان فعّال من أبنية المبالغة ، أي : كثير الخيانة ، وهو يدلّ على استمرارهم عليها وتعظيم الأمر فيها.

والأثيم صفة مشبهة ، وهو المنهمك في الإثم ، وإنّما قدّم عزوجل الخيانة على الإثم لأنّها السبب له.

وتعليق البغض وعدم المحبّة بهؤلاء ؛ لبيان إفراطهم في الخيانة والإثم وأمنهم من العقاب الإلهي ؛ لأنهم اعتادوا الخيانة وألفوا الإثم ، فلم يعد ينفرون منه ، لا لأجل أنّه تعالى يبغض كثير الخيانة ، فهو عزوجل لا يحبّ قليلها كما لا يحبّ كثيرها. وقد عدّ عزوجل جملة من خياناتهم ومآثمهم ومعاصيهم ، بالنسبة إلى الله تعالى والى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ودين الحقّ والمؤمنين في جملة من الآيات الكريمة.

٢٤٠