مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٩

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٩

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٣
ISBN: 964-5665-08-6
الصفحات: ٣٩٦

لارتكاب محرّم أو ترك واجب ، فإنّه محرّم أيضا ، ويدلّ عليه بعض الأخبار ، ففي صحيح محمد بن مسلم عن الصادق عليه‌السلام : «في رجل أجنب ولم يجد إلّا الثلج أو ماء جامدا ، قال عليه‌السلام : يتيمم به ولا أرى أن يعود إلى هذه الأرض الّتي توبق دينه» ، فإنّ عموم العلّة يشمل جميع ما ذكرناه. ويدلّ على العموم أيضا قوله عليه‌السلام : «من فرّ بدينه من أرض إلى أرض وإن كانت شبرا من الأرض استوجبت له الجنّة وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيّه محمد (صلوات عليهم عليهما) ، فالمهاجرة واجبة على كلّ من لم يتمكّن من إقامة دينه ، أو كانت الإقامة موبقة لدينه ويسقط الوجوب لو كان له ظهر يحميه من المشركين من عشيرة ونحوها ، فيمكنه إظهار إيمانه ويكون آمنا على نفسه.

ويظهر ممّا ذكرنا أنّ الآية المباركة عامّة لا تختصّ بعصر النزول ، وأنّ وجوب الهجرة باق ما دام المقتضي موجودا ، وهو الكفر والشرك وعدم التمكّن من إقامة شعائر الإسلام. وأمّا الحديث المروي عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا هجرة بعد الفتح» ، فإنّه محمول على نفي وجوب الهجرة عن مكّة المكرّمة بعد فتحها ؛ لأنّها صارت من بلاد الإسلام ، ولإمكان إقامة الشعائر فيها كما في كلّ بلاد الشرك إذا فتحت ودخل أهلها في الإسلام ، فإنّه لا يجب الهجرة منها لعدم المقتضي.

ويستفاد من الآية الشريفة استحباب الخروج من أرض يعصى الله تعالى فيها ، ويدلّ عليه قوله تعالى : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) [سورة العنكبوت ، الآية : ٥٦] ، وفي الحديث عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «إذا عصي الله في أرض وأنت فيها فأخرج منها إلى غيرها» ، المحمول على الاستحباب.

وهل تشمل الآية الكريمة الهجرة من الأرض الّتي لا يتمكّن فيها من إقامة شعائر الإيمان؟ فيه بحث مذكور في الكتب المفصّلة.

الثالث : يستفاد من إطلاق الآية المباركة أنّ الهجرة باقية مادام الكفر باقيا ،

٢٠١

وأنّها غير مقيّدة بزمان خاص ولا بمكان معين ، فعن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «تنقطع الهجرة حتّى تنقطع التوبة حتّى تطلع الشمس من مغربها» ، مضافا إلى الإجماع.

الرابع : مقتضى أدلّة وجوب الهجرة أنّها تنقسم إلى الهجرة الواجبة والمستحبّة والمباحة ، أمّا الأولى فكما تقدّم ، وأمّا الثانية كما إذا كان في بلاد الشرك ويمكنه إظهار الشعائر الدينيّة والعمل بها ، ومع ذلك تستحبّ الهجرة لئلّا يكثر به عددهم أو يترتّب عليه عنوان يوجب رفع شأنهم ، وأمّا الثالثة كما في موارد وجود العذر في الهجرة.

الخامس : يدلّ قوله تعالى : (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ) على أنّ كلّ هجرة لغرض ديني من طلب علم أو حجّ أو جهاد أو الفرار من بلد الشرك إلى بلد الإسلام ، أو الهجرة من الباطل إلى الحقّ ، ففي الحديث : «من دخل إلى الإسلام طوعا ، فهو مهاجر» ، وكذا الفرار إلى بلد يزداد فيه طاعة الله تعالى أو زهدا في الدنيا أو قناعة أو ابتغاء رزق طيب ، فهي هجرة إلى الله تعالى ورسوله وإن أدركه الموت في طريقه فأجره يكون على الله تعالى ؛ لأنّ المستفاد من الآية الشريفة هو طلب مرضاة الله ورسوله ، فأين ما تحقّق المقتضي شملته الآية الكريمة.

٢٠٢

(وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (١٠١) وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٠٢) فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (١٠٣) وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٠٤))

بعد ما ذكر سبحانه وتعالى بعض ما يتعلّق بالجهاد والهجرة إلى سبيله عزوجل وحثّ عليهما بأتمّ وجه وأكمل بيان أراد جلّ شأنه أن يبيّن حكم المجاهدين مع أعداء الله تعالى في العبادات إذا أحاطهم الخوف ومانع عن ذكره جلّت عظمته ، وحكم صلاة الخوف وبيان الصورة الّتي يؤدى بها.

وبمناسبة الهجرة من دار الكفر والشرك والضلال إلى دار الإسلام بيّن سبحانه وتعالى حكم الصلاة في السفر من القصر فيها ، بعد بيان الحكمة في تشريع القصر فيها.

٢٠٣

ويأتي ذكر الصلاة بعد الحثّ الشديد إلى الجهاد والترغيب الأكيد إلى الهجرة ؛ للأهميّة العظمى بها في شريعة الإسلام ، حتّى أنّ الخوف من الأعداء وفتنتهم وتحمّل أهوال السفر ومشاقّه ومتاعبه ، لا تحول كلّ ذلك عن أداء الصلاة في أوقاتها. وإنّما تكون على قصر في كلتا الحالتين ، وبالكيفيّة الّتي ذكرها عزوجل في هذه الآيات بالنسبة إلى صلاة الخوف والمطاردة.

ويبيّن عزوجل أنّ الصلاة الّتي هي الصلة بين الإنسان وخالقه لا يمكن أن يكون الخوف المحيط به وهول السفر ومتاعبه مانعا عن أدائها مع شدّة احتياج الإنسان في لحظة الخوف إلى ذكر الله تعالى ليطمئن قلبه ، ثمّ تنتهي الآيات المباركة بالترغيب إلى ملاحقة أعداء الله تعالى وتعقيب المشركين ومقاتلتهم ، فكانت هذه الآية الكريمة ختام آيات الجهاد الّتي بدأت بالقتال وأخذ الحيطة والحذر ، قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً) [سورة النساء ، الآية : ٧١] ، فكان الختام بالآية المباركة الّتي لخّصت الموقف كلّه ، وهو الدعوة إلى القتال وملاحقة المشركين حتّى يكفّ بأس الكافرين ويدفع أذاهم عن الإسلام والمؤمنين.

وتتضمّن الآية الكريمة حقيقة من الحقائق الّتي يكون لها الأثر الكبير في حسم الموقف وتحريض المؤمنين وتهيئتهم.

التفسير

قوله تعالى : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ).

الضرب في الأرض : هو السفر والسير على ما تقدّم. والجناح الإثم المائل بالإنسان عن الحقّ ، وهو مأخوذ من الجناح الّذي في الطير ، ومنه قوله تعالى :

٢٠٤

(وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها) [سورة الأنفال ، الآية : ٦١] ، أي : مالوا إلى الصلح. ثمّ سمّى كلّ إثم جناحا. ونفي الجناح لا ينافي وجوب القصر لو تحقّقت شروطه المذكورة في السنّة ، فإنّه تعالى جرى على طريقة المخاطبات العرفيّة ، ومن آداب الملوك نفي البأس والحرج عن الشيء وإرادة الأمر به وطلب الإلزام ، لو كان في مقام التشريع أو دفع توهّم الحظر كما يأتي.

والقصر ـ بالفتح ـ كعتب خلاف المد ، يقال : قصرت الشيء إذا جعلته قصيرا بحذف بعض أجزائه أو أوصافه ، ومنه قوله تعالى : (مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) [سورة الفتح ، الآية : ٢٧] ، وقوله تعالى : (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ) [سورة الصافات ، الآية : ٤٨] ، وهي الّتي لا تمدّ نظرها إلّا إلى زوجها ، فلم يطمحن النظر إلى غيرهم ، والتعبير بنقص بعض ركعات الصلاة بالقصر من اللغة العالية الّتي جاء بها الكتاب العزيز.

والمفعول محذوف تقديره (شيئا) ، و (مِنَ الصَّلاةِ) صفة وبيان له.

والمعنى : فإذا سافرتم فلا حرج ولا مانع من أن تنقصوا شيئا من الصلاة ، وقيل : الصلاة مفعول تقصروا و (من) زائدة. والمراد من الصلاة جنسها ، فيشمل كلّ صلاة إلّا ما خرج بالدليل ، كصلاة الصبح وصلاة المغرب ، ويختصّ القصر بالصلاة الرباعيّة بتنصيفها. كما أنّ إطلاق الأرض يشمل كلّ أنحائها من البر أو البحر أو الجوّ ، كما أن عموم الضرب يشمل كلّ سفر إلّا ما خرج بالدليل كسفر المعصية ، فتشمل سفر الطاعة وسفر المباح وغيرهما.

وتقدّم أنّ نفي الجناح الدالّ على الجواز بوحده لا ينافي الوجوب إذا كان في مقام التشريع أو دفع توهّم الحظر ، كما في قوله تعالى : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) [سورة البقرة ، الآية : ١٥٨] ، فإنّه كما عرفت أنّ الطواف واجب والتعبير بنفي الجناح ـ مع أنّ المقام مقام فرض ووجوب ـ لأجل أنّ الإتمام لما كان عادة عندهم وقد ألفوه واعتادوا

٢٠٥

عليه ، كان مظنة لأنّ يخطر ببالهم أنّ عليهم نقصانا في السفر ، فنفي عنه الجناح لتطيب به نفوسهم ، وقد ذكرنا ما يتعلّق بهذا التعبير في آية الطواف أيضا فراجع.

وإرادة الوجوب بهذا التعبير من أسمى لغة الفصاحة والبلاغة الّتي يمتاز بها القرآن الكريم. ويدلّ على ذلك صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم قالا : «قلنا لأبي جعفر عليه‌السلام : ما تقول في الصلاة في السفر ، كيف هي؟ وكم هي؟ فقال : إنّ الله عزوجل يقول : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) ، فصار التقصير في السفر واجبا كوجوب التمام في الحضر ، قالا : قلنا إنّما قال الله تعالى : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) ولم يقل افعلوا ، فكيف أوجب ذلك كما أوجب التمام في الحضر؟! فقال عليه‌السلام : أو ليس قد قال : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) ألا ترون أنّ الطواف بهما واجب مفروض ؛ لأنّ الله عزوجل ذكره في كتابه ، وصنعه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكذا التقصير في السفر صنعه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذكره الله في كتابه ، قالا : قلنا : فمن صلّى من الصلاة أربعا ، أيعيد أم لا؟ قال عليه‌السلام : إن كان قد قرأت عليه آية التقصير وفسّرت له فصلّى أربعا أعاد ، وإن لم يكن قرئت عليه ولم يعلمها فلا إعادة عليه ، والصلاة كلّها في السفر الفريضة ركعتان كلّ صلاة إلّا المغرب ، فإنّها ثلاث ليس فيها تقصير ، تركها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في السفر والحضر ، ثلاث ركعات ـ الحديث ـ» ، إلى غير ذلك من الأخبار الّتي وردت في هذا المضمون الدالّة على الوجوب ، ومقتضاها كون التقصير في صلاة السفر لو تحقّقت شروطه عزيمة لا رخصة ، فلا يجزيه الإتمام ، وممّا ذكرنا يعلم فساد جملة ممّا ذكروه في المقام ، وسيأتي في البحث الفقهي تتمة الكلام إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا).

الفتنة : هي الاختبار بالمكروه والأذى ، وفي الحديث : «انّكم تفتنون في القبور» ، أي : تمتحنون وتختبرون ، ويراد بها مسألة المنكر والنكير ، وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله :

٢٠٦

«فبي يفتنون وعني تسألون» ، أي : تمتحنون بي في الدنيا والآخرة ، ويتعرّف على إيمانكم بتصديق نبوّتي ، وتقدّم الكلام في اشتقاق هذه الكلمة ، وقد كثر استعمالها فيما أخرجه الاختبار للمكروه ، ثمّ كثر حتّى استعمل بمعنى الإثم والكفر والقتال والصرف عن الشيء ، ويراد بها في المقام الإيذاء بالقتل والضرب والتعذيب ونحوها.

والجملة شرط لنفي الجناح في قصر الصلاة ، أي : لا جناح عليكم أن تقصروا من الصلاة إن خفتم الأذيّة والتعذيب من الّذين كفروا. ومفهوم الشرط وإن كان حجّة إلّا أنّه يعتبر فيه أن يكون الشرط علّة تامّة منحصرة للجزاء ، وإلّا فلا مفهوم له كما في المقام ، فإنّ الشرط إنّما هو لبيان الواقع ، إذ أنّ في بدء التشريع الغالب كان على المسلمين الخوف في الأسفار ، فتكون الآية الشريفة لبيان أحد مصاديق القصر ، وأمّا السنّة الشريفة فقد بيّنت بقية المصاديق ودلّت على شمول القصر لجميع الأقسام والصور.

بل يمكن أن يقال : إنّ المستفاد من الأدلّة الواردة في هذا المقام أنّ السفر مستقلّ في وجوب القصر من غير مدخليّة الخوف فيه ، كما أنّ الخوف بنفسه مستقلّ في القصر أيضا ، كما سيأتي. وبناء على ذلك لا وجه لما عن بعض من اشتراط القصر في السفر بالخوف ؛ لظاهر الآية الشريفة الّذي عرفت أنّه لا حجّية فيه. على أنّه معارض بما هو أقوى حجّة على عدم الاشتراط ، وسيأتي في البحث الروائي والفقهي ما يتعلّق بذلك.

والحاصل : أنّ الخوف من الفتنة والقتل من قبيل بيان إحدى حكم تشريع القصر في السفر ، لا أن يكون شرطا فيه ، وهو أيضا من باب الغالب في الأزمنة القديمة ، لا سيما عصر نزول الآية الشريفة.

قوله تعالى : (إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً).

العدو يستوي فيه الواحد والجمع ، وقيل : هو مصدر على وزن فعول

٢٠٧

كالقبول. والجملة في موضع التعليل لتوقّع الفتنة. أي : أنّ من شأن الكافرين يكونوا لكم أعداء لا يضيعون فرصة في إيذاء المسلمين.

وقد وصف سبحانه وتعالى عداوتهم بكونها واضحة لا خفاء فيها ، كما وصف عداوة إبليس لبني آدم عليه‌السلام بذلك أيضا ، حيث قال عزوجل : (إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً) [سورة الإسراء ، الآية : ٥٣] ، فيعرف أنّ الكافرين من أولياء الشياطين.

قوله تعالى : (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ).

بيان لكيفيّة صلاة الخوف. والخطاب للرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله باعتباره إماما للمسلمين ورئيسهم ، فيكون من قبيل إيراد المثال وإرادة الجميع بطريق التجريد ، لكونه أوجز وأبلغ.

وإقامة الصلاة لهم أي : ايتانها جماعة والايتمام به صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذكر بعضهم أنّ المراد بها إقامة الصلاة المأتي بها بعد الأذان لتعدّيها باللام ، وهو خلاف سياق الآية المباركة ، بل المنساق ما ذكرناه ، وهو الدعوة إلى أدائها جماعة ، وكان هو الإمام لهم.

والمعنى : وإذا كنت فيهم يا رسول الله فصلّيت بهم جماعة وكنت أنت الإمام لهم ، والحال حال الخوف والزمن زمن فتنة الكفّار الّذين هم عدو لكم.

وذكر بعضهم أنّ ظاهر الآية الشريفة اختصاص الخطاب بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله فيكون شرط صلاة الخوف هو وجوده صلى‌الله‌عليه‌وآله فيهم ، فتكون من خواصه. ولكن هذا القول موهون لما عرفت ؛ ولقيام الدليل على ثبوت صلاة الخوف بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضا.

قوله تعالى : (فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ).

الطائفة الجماعة ، وربما تطلق على الواحد أيضا ، أي : أقسمهم إلى طائفتين ، فلتقم إحداهما معك يقتدون بك في الصلاة ، وتبقى الأخرى تجاه العدو وتراقبه ، ولم يذكر عزوجل هذه الطائفة غير المصلّين ، لدلالة ظاهر الكلام عليه.

٢٠٨

قوله تعالى : (وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ).

السلاح : اسم لما يدفع الإنسان به عن نفسه ، ويختلف ذلك باختلاف العصور. والظاهر توجّه الخطاب إلى الطائفة القائمة معه صلى‌الله‌عليه‌وآله في الصلاة ، فليأخذوا أسلحتهم ولا يدعوها وقت الصلاة.

وقيل : بتوجه الخطاب إلى الطائفة الأخرى المراقبة للعدو المستفاد من سياق الكلام. وقيل : إنّ المأمور بأخذ السلاح هو الجميع ، الطائفتين ـ المصلّين والمراقبين ـ معا. ولا يخفى ما في كلا القولين ، فإنّ أخذ السلاح في مثل هذه الحالة أمر ضروري إلّا في حال الصلاة الّتي لا قتال فيها ولا نزال ، وقد ورد النهي عن حمل السلاح حال الصلاة ، فاحتاج إلى الأمر بأخذه حالها ، ولا يوجد مثل هذه القرينة في الاحتمالين الآخرين.

ثمّ إنّ ظاهر الأمر هو وجوب حمل السلاح حال الصلاة مع العذر والخوف.

قوله تعالى : (فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ).

أي : فإذا فرغ المصلّون من السجود ، فيصبروا بعد فراغهم من الصلاة إلى وراء القوم يحرسونهم ، وتأتي الطائفة المراقبة وتأخذ أمكنتها للصلاة.

قوله تعالى : (وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ).

أي : ولتأت الطائفة الّذين لم يصلّوا لاشتغالهم بالحراسة والمراقبة ، فليصلّوا معك كما صلّت الطائفة الأولى ، وهذه الآية المباركة تحتمل وجهين.

الأوّل : أن يفرّق الإمام أصحابه فرقتين ، يصلّي بإحداهما الصلاة ركعتين ويسلّم بهم ، والثانية تحرسهم ثمّ يصلّي بالثانية ركعتين يعيدها معهم ، فتكون لهم فريضة وله نافلة ، وهذه هي صلاة بطن النخل ، صلاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأصحابه هناك ، وهذه الصلاة لا مخالفة لها مع صلاة المختار إلّا بالكيفيّة المذكورة ؛ ولذا ذكر بعض الأصحاب بجواز صلاتها في الأمن أيضا ، ولكنّه مشكل كما هو مذكور في الكتب الفقهيّة.

٢٠٩

الثاني : أن يفرّق الإمام أصحابه فرقتين يصلّي بكلّ فرقة منهم ركعة إن كانت الصلاة ركعتين ، فيصلّي بالأولى ركعة وينتظر الإمام قائما في الركعة الثانية ، حتّى يصلّوها انفرادا ويتشهّدون ويسلّمون ويذهبون إلى وجه العدو ومكان الفرقة الّتي لم تصلّ ، فتأتي الأخرى فيؤمّهم الإمام بهم للركعة الثانية وينتظرهم قاعدا حتّى يتمّوا صلاتهم ويسلّم بهم ، فتكون للطائفة الأولى تكبيرة الافتتاح ، وللثانية التسليم ، وهذه هي صلاة ذات الرقاع الّتي صلاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويشترط لها شروط مذكورة في كتب الفقه فراجع (مهذب الأحكام) ، وقد وردت هذه الصلاة في أخبار أهل العصمة (صلوات الله عليهم أجمعين).

قوله تعالى : (وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ).

أي : ولتأخذ الطائفة الأخرى ـ الّتي تصلّي كالطائفة الأولى ـ حذرهم وأسلحتهم ، ويمكن توجيه الأمر إلى الطائفتين معا ، أي : ولتأخذ الطائفتان حذرهم وأسلحتهم سواء في الصلاة أو في الحراسة ، ويؤيّده ذيل الآية الشريفة : (وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ).

وزاد تعالى في المقام الحذر ، وهو التيقّظ وجعل الحذر آلة الدفاع الّتي يتحصّن بها كالأسلحة ، وهو من الاستعارة اللطيفة ، حيث أثبت له الأخذ وهو أمر معنوي لا يتّصف به تخييلا ، وزاده عزوجل في المقام لشدّة الحيطة والتحرّس ؛ لأنّ العدو قد يميل إذا ما تنبّه أنّ المسلمين في الصلاة بعد غفلته في ابتداء الأمر عنهم ، فينتهزون الفرصة وهم في حال الركوع والسجود فيهجمون عليهم.

قوله تعالى : (وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً).

تعليل للحكم المزبور ، والخطاب للفريقين ، والأمر إرشادي إلى ما تحكم به الفطرة من وجوب أخذ الحيطة والحذر عمّا يخاف منه.

٢١٠

والميلة الواحدة ، أي : جملة واحدة مستأصلة لا يحتاج إلى حملة ثانية ، وهي مبالغة في تمنّيهم إزالة المسلمين ومحو آثارهم.

والمعنى : يتمنّى الّذين كفروا غفلتكم عن السلاح الّتي بها تدفعون عدوكم ، وعن الأمتعة الّتي بها بلاغكم في أسفاركم وأنتم متشاغلون بالصلاة ، فيحملون عليكم حملة واحدة مستأصلة.

قوله تعالى : (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ).

تخفيف إلهي وترخيص لهم في وضع السلاح والتأهّب للعدو إذا ثقل حمل السلاح عليهم إن كانوا يتأذّون من مطر ينزل عليهم ، أو كان بعضهم مرضى ، لكن يجب عليهم الحذر والتيقّظ ولا يغفلوا عن أعدائهم الّذين يودّون القضاء عليهم.

قوله تعالى : (وَخُذُوا حِذْرَكُمْ).

أمر إرشادي كما عرفت ، وهو وجوب اتّخاذ الحذر في جميع الأحوال حين وضع السلاح وحمله ؛ لئلّا يهجم عليهم العدو.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً).

وعد منه عزوجل للمؤمنين بالنصر على الّذين كفروا لتقوية قلوبهم وبعث الطمأنينة في نفوسهم بعد أمرهم بالحذر ؛ لئلّا يشعروا بالضعف ووعيد للكافرين الّذين يريدون إذلال المؤمنين والقضاء عليهم.

ويستفاد من الآية المباركة مناسبة العذاب للفعل ، فإنّ الكافرين يريدون إذلال المؤمنين ، فالله تعالى أوعدهم العذاب المهين الّذي يذلّ فيه كلّ كافر ، سواء في الدنيا بالنصر عليهم ، أو في الآخرة في نار جهنّم خالدين فيها.

قوله تعالى : (فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ).

أي : فإذا فرغتم من الصلاة واديتموها على ما قرّرها الله عزوجل ، فداوموا

٢١١

على ذكره عزوجل في حال القيام والقعود وعلى جنوبكم ، والمراد منها الذكر المستوعب لجميع الأحوال.

وتبيّن الآية المباركة مراتب القدرة والعجز في الصلاة ، فيصلّي الأصحاء والقادرون على القيام قياما ، وقعودا إذا كانوا مرضى لا يقدرون على القيام ، وعلى جنوبهم إذا لم يقدروا على القعود ، فيصلّون مضطجعين كما فسّر في بعض الأخبار ، وهو الاضطجاع على الأيمن ، وإلّا فعلى الأيسر ، وإلّا فمستلقين ، وقد وردت في هذا الاحتمال روايات متعدّدة.

وذكر جمع أنّ الآية الكريمة في مقام بيان مراتب الخوف وشدّته. وقال آخر : يعني اذكروه على كلّ حال تكونون عليها من قيام ، ولكن إطلاقها يشمل جميع ذلك كما يشمل حال الحرب وحال السلم.

وكيف كان ، فالآية الكريمة تدلّ على لزوم المراقبة وذكر الله تعالى وعدم الغفلة عنه عزوجل في جميع الأحوال ، كما يدلّ عليه قوله تعالى : (إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [سورة الأنفال ، الآية : ٤٥]. والمداومة على ذكر الله من أقوى السبل على تربية النفس وترويضها على الاستكمال وبعد الغفلة عنه ؛ ولذا ورد التأكيد على كثرة الذكر في القرآن الكريم والسنّة الشريفة.

قوله تعالى : (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ).

المراد من الاطمئنان هو الاستقرار وسكون النفس ، أي : إذا زال الخوف وقدرتم على إتيان الصلاة على ما يعتبر فيها من الشروط والواجبات الاختياريّة ، فيجب إتيان الصلاة تامّة على الوجه المأمور به مع الحفظ على أركانها وشرائطها وسائر واجباتها.

ويمكن إرجاع الآية الكريمة إلى ما قبلها ، فتكون قرينة على إرادة شدّة الخوف منها ، كما يمكن أن تجعل مقابلا لقوله تعالى : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) ، فيكون المراد هو الاستقرار في الأوطان. ويمكن الحمل على الأعمّ بحيث يشمل

٢١٢

الاستقرار في الأوطان الموجب لإتمام الصلاة ، أو الاستقرار في النفس الناشئ من زوال الخوف ، فيأتي بالصلاة على ما هي عليها من الأجزاء والشرائط ، فيوجب رفع القصر من الصلاة كمية وكيفيّة كلّ بحسب حاله.

قوله تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً).

تعليل لما سبق وتأكيد للأحكام السابقة ، واعتناء بشأن الصلاة اعتناء بليغا ، أي : إنّما شرّع حكم تلك الأقسام والأطوار لأجل أنّ الصلاة كانت على المؤمنين واجبة مفروضة ، وكانت من الواجبات الوقتيّة ، كما حدّدها عزوجل في آيات كثيرة وبيّنتها السنّة الشريفة.

والكتاب بمعنى المكتوب أي المفروض ، وتقدّم اشتقاق هذه الكلمة في قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) [سورة البقرة ، الآية : ١٨٣].

وإنّما خصّ عزوجل المؤمنين دون سائر الناس مع أنّ الصلاة فرض على الجميع حتّى الكفّار ـ لتكليفهم بالفروع كتكليفهم بالأصول ـ اهتماما بهم ولأنّهم المستعدّون لقبول الفيض والاستكمال ، وهم الّذين يعرفون أهميّة الصلاة في تهذيب النفس والقرب لدى جنابه عزوجل ، فيكون من باب ذكر أشرف الأفراد ، لا التخصيص في التكليف ، وسيأتي في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) [سورة النساء ، الآية : ١٣٥] بعض ما يتعلّق بالمقام.

قوله تعالى : (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ).

أمر بالعزيمة والثبات في طلب أعداء الله تعالى وعدم التواني في دركهم بعد الأمر بأخذ الحذر والاستعداد ، فإنّ الأمر عظيم والشوط طويل ويحتاج إلى بذل التضحيات كما يحتاج إلى الصبر والعزيمة ، ومن المعلوم أنّ الآلام والتضحيات ليست وقفا على المؤمنين وحدهم ، فإنّ الناس كلّهم معرّضون لها ، ويتألم منها الكافر كما يتألم المؤمن. ولا شك أنّ ممّا يزيد في عزيمة المؤمن المجاهد إذا علم أنّه أحدث في العدو جرحا وخسائر ، فيشعر أنّه ليس الوحيد الّذي يتألم بل قد أحدث

٢١٣

في عدوه الألم في ذات الوقت ، إلّا أن الفارق الأعظم بين الألمين أنّ ألم المؤمن ذاهب به إلى الجنّة يغسل به خطاياه وذنوبه ويزيل العذاب ويزيد له في الدرجات كلما زاد ، ويعوّض له النعيم الأبدي الّذي لا ينغصه شيء ممّا في الدنيا ، بخلاف ألم العدو الكافر الّذي يزيد في بلائه وشقائه وعذابه.

والآية الشريفة من الآيات المعدودة الّتي تعالج الجانب النفسي في الجهاد ، حيث تبعث الطمأنينة في النفوس إذا أصابها الوهن والضعف وتتكاسل إذا تألمت من الجراح والمرض ، فتزيلها بأسلوب تربوي نفسي رصين ، فتشرح لها أولا بأنّ المقام يستدعي التضحية وتلقّي الآلام والمصائب ، ثمّ تزيد في الهمّة والتشجيع بأنّ الطرف الآخر المقابل أيضا أصابه بمثل ما أصاب المؤمنين ، ثمّ تنشط العزيمة بإثبات الفرق بين الألمين ، الألم الّذي يصيب المؤمنين فإنّ عاقبته الجنّة ويزيد الثواب ويرفع العذاب ، بخلاف الألم الّذي يصيب الأعداء الكافرين فإنّه محيط لهم ومنغص لعيشهم ويحرمهم من نعيم الدنيا ويوردهم البوار والهلاك في الآخرة ، فلا ينبغي الوهن والضعف في طلب القوم الّذين ناصبوا لكم العداء ويريدون القضاء عليكم.

قوله تعالى : (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ).

تسكين النفس عند إصابتها بالجراح والمرض والتعب وتشجيع لها ، فإنّها إذا علمت بأنّ الأعداء أصابهم مثل ما أصابها تتشجّع وتصبر على البلاء ، فليس الجراح والآلام مختصّة بهم ، بل هي مشتركة بين الفريقين ؛ لأنّهم بشر أيضا ، والألم لا بدّ أن لا يكون مانعا عن خوض اللجج وقتال أعداء الله تعالى.

قوله تعالى : (وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ).

بيان للفرق بين الفريقين الأشقياء الّذين ليس لهم أمل إلّا العيش في هذه الحياة ، فلا رجاء له في الآخرة فإذا أصابه الألم والموت انقطعت آماله وخابت أمانيه ويئس عن الحياة ، وفريق السعداء الّذين يرجون الله تعالى الظفر والفتح والمغفرة والثواب الجزيل ؛ لأنّهم يعلمون من الله تعالى ما لا يعلمه غيرهم ، وهذا هو

٢١٤

مبعث الأمل ومنبت الصبر ومنفاة لليأس والقنوط ، وهو الّذي ينشّطهم على العمل ويسوقهم إلى الهدف ، والرجاء يبعث الهمّة واليأس يميتها ، فما أبعد ما بين الفريقين ، وما أكثر ما يدعى إلى الصبر وتحمّل المشقّة في المؤمن ، بخلاف العدو الكافر.

قوله تعالى : (وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً).

أي : أنّ الله تعالى عليم بالمصالح وبجميع أعمالكم ونواياكم ، حكيم في تدبير خلقه وتشريع أحكامه ، فجدّوا في الامتثال ، فإنّ فيه عواقب حميدة ، فإنّ في أوامره ونواهيه مصالح بالغة تامّة فاطلبوها ، والآية المباركة بمنزلة التعليل لما قبلها.

٢١٥

بحوث المقام

بحث دلالي :

تدلّ الآيات الشريفة على أمور :

الأوّل : يدلّ قوله تعالى : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) على ثبوت القصر في الصلاة ، والقصر إمّا متعلّق بالكميّة ، وهو مختصّ بالمسافر الجامع للشروط المقرّرة في السنّة ، أو بالكيفيّة وهو الّذي في صلاة الخوف ، وإمّا فيهما معا ويتحقّق في شدّة الخوف ، وتسمّى بصلاة المطاردة حين الحرب واشتداد الحال ، على التفصيل المذكور في كتب الفقه ، وقد ذكرنا في التفسير أنّ الآية المباركة مع القرائن المنضمة إليها تدلّ على كون القصر في السفر عزيمة ، لا أن تكون رخصة ، ونفي الجناح أعمّ من الرخصة. وسيأتي مزيد بيان في البحث الفقهي إن شاء الله تعالى.

ويستفاد من الآية المباركة أنّ القصر في السفر مشروط بأمرين :

الأوّل : المسافة ، ولم تبيّن الآية الكريمة مقدار المسافة ولكن حدّدتها السنّة الشريفة.

الثاني : الخوف ، فلا قصر في الأمن ، إلّا أنّ استفادة ذلك إنّما يكون من ناحية المفهوم الشرطي ، وقد ذكرنا في التفسير ما يتعلّق به فراجع.

واستدل بالآية الكريمة بعضهم على اشتراط الجماعة والسفر والخوف في صلاة الخوف ، فلا قصر فيها إذا انتفى أحد هذه الشروط ، ولكنّه مردود كما هو مذكور في كتب الفقه.

الثاني : يدلّ قوله تعالى : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) على أنّه يشترط أن يكون الضرب مقرونا بالقصد والعزم إلى المسافة المبيّنة في الشرع ، سواء كان

٢١٦

مجبورا على السير مع علمه بانتقاله إلى المسافة الشرعيّة أو لم يكن كذلك ، فالذاهل والمتردّد وفاقد القصد والعزم لمنتظر الرفقة ونحوهما لا يترخّصون في القصر ، وإطلاق الآية المباركة يدلّ على ثبوت الرخصة عند حصول الضرب والتلبّس بالسير ، إلّا أنّه مقيّد بخفاء الأذان أو الجدران بأدلّة خاصّة ، كما هي مذكورة في الفقه.

الثالث : يدلّ سياق قوله تعالى : (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) على فضل الجماعة والحثّ العظيم على إقامتها ، كما استفاضت به الأخبار.

الرابع : تدلّ الآية الكريمة على وجوب اتّخاذ الحذر من الكافرين الّذين هم أعداء الله تعالى ودين الحقّ ، والآية المباركة ترشد إلى أمر فطري ، وهو حكم الفطرة باتّخاذ الحذر ممّا يخاف منه.

الخامس : يمكن أن يستفاد من قوله تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) أنّ الصلاة من الأمور الثابتة الّتي لا تتغيّر ولا تقبل الفدية والبدل ، ولا تقبل الإسقاط ، ولعلّ ما ورد في بعض الآثار : «انّ الصلاة لا تسقط بحال» ، مأخوذ من هذه الآية الشريفة.

السادس : يدلّ قوله تعالى : (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ) على وجوب اتخاذ الحيطة والحذر والتهيؤ للقتال ، حتّى يكفّ بأس الّذين كفروا ويدفع أذاهم عن الدين الحقّ وأهله ، وتدلّ الآية الشريفة على الجهاد الطويل المرير وشدّة العزيمة.

وتتعرّض الآية الشريفة إلى أهمّ الأمور النفسيّة الّتي تؤثّر في هذا الميدان ، وهو جانب الوهن في العزيمة وتأثّر النفس بما يرد عليها من الآلام والمحن والأمراض ، وتبيّن الفرق الكبير بين الفريقين وبعد الشقّة بينهما ، كما عرفت.

السابع : تدلّ الآية المباركة : (وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ) على وعد الله تعالى بالنصر للمؤمنين لمكان إيمانهم وثباتهم عليه ، وأنّ النصر حليفهم إن

٢١٧

تحقّق منهم العمل والثبات وعدم الوهن في ابتغاء القوم ، وإلّا فلا نصرة. ورجاء المؤمنين منه تعالى أعمّ ممّا يفيض عليهم في الحياة الدنيا والآخرة.

الثامن : يدلّ قوله تعالى : (فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ) على لزوم ذكره تعالى في جميع المواطن ، ومراقبة النفس والاعتماد عليه عزوجل والتوسّل به في نجح المقاصد وإنجاز المطالب ، لا سيما في ميدان الجهاد والقتال مع أعداء الله تعالى.

التاسع : يستفاد من تكرار الصلاة في الآيات الشريفة أهميّتها ، وأنّها من السبل القربيّة الّتي يتوسّل إليه تعالى في إنجاح المقاصد ، وقد ورد في بعض الأحاديث : «انّ الصلاة قربان كلّ تقي».

بحث روائي :

في التهذيب بإسناده عن زرارة قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن صلاة الخوف وصلاة السفر ، تقصّران جميعا؟ قال : نعم ، وصلاة الخوف أحقّ أن تقصّر من صلاة السفر ، فإنّ السفر ليس فيه خوف».

أقول : المراد من الأحقيّة أفعل التفضيل ، فيقتضي اشتراك غيره معه ، أي تشترك صلاة السفر وصلاة الخوف في القصر وإن كان القصر في الخوف آكد لذكره في الآية الكريمة من باب ذكر إحدى حكم التشريع ، كما ذكرنا في التفسير ، لا أن يكون من باب الاختصاص من غير مشاركة ، نحو : زيد أحقّ بماله.

وفي التهذيب بإسناده عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «الصلاة في السفر ركعتان ليس قبلهما ولا بعد هما شيء إلّا المغرب».

أقول : متعلّق الاستثناء صدر الرواية كما هو واضح ، وليس قبل الركعتين المفروضتين شيء واجب ، وكذا ليس بعدهما. نعم يستحبّ بعدهما التسبيحات

٢١٨

الأربع وثلاثين مرّة ، كما هو مذكور في الجوامع الفقهيّة ، فراجع صلاة المسافر من (مهذب الأحكام).

وفي الكافي بإسناده عن حريز عن الصادق عليه‌السلام في قول الله عزوجل : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) قال : «في الركعتين تنقص منها واحدة».

أقول : قريب منها غيرها ، وهذه الروايات إمّا تحمل على صلاة المطاردة ، أو على التقيّة ؛ لمخالفتها لما هو المشهور بين الإماميّة وموافقتها لغيرهم.

وفي تفسير العياشي عن إبراهيم بن عمر عن الصادق عليه‌السلام قال : «فرض الله على المقيم أربع صلوات ، وفرض على المسافر ركعتين تمام ، وفرض على الخائف ركعة ، وهو قول الله : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) يقول من الركعيتن فتصير ركعة».

أقول : ما ذكرنا في الرواية السابقة يجري في هذه الرواية أيضا ، وأنّ المراد من الخائف شدّة الخوف ، أي : الخائف المطارد.

وفي الدرّ المنثور عن عليّ عليه‌السلام قال : «سأل قوم من التجار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا : يا رسول الله ، إنّا نضرب في الأرض ، فكيف نصلّي؟ فأنزل الله : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) ، ثمّ انقطع الوحي فلما كان بعد ذلك بحول غزا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فصلّى الظهر ، فقال المشركون : لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم ، هلّا شددتم عليهم؟ فقال قائل منهم : إنّ لهم مثلها أخرى في أثرها ، فأنزل الله تعالى بين الصلاتين : (إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً* وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ) فنزلت صلاة الخوف».

أقول : لا بدّ من حمل التاجر على الّذي لا يدور في تجارته ، بقرينة ما تأتي من الرواية ، وأنّ المراد بقطع الوحي في شأن المورد ـ كما هو الظاهر ـ لا مطلقا. وأنّ

٢١٩

ما نزل في الغزوة من تمام الآية الكريمة يكون من باب تعدّد النزول أو من باب التطبيق.

وفي الكافي بإسناده عن إسماعيل بن أبي زياد عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام قال : «سبعة لا يقصّرون الصلاة : الجابي الّذي يدور في جبايته ، والأمير الّذي يدور في إمارته ، والتاجر الّذي يدور في تجارته من سوق إلى سوق ، والراعي ، والبدوي الّذي يطلب مواطن القطر ومنبت الشجر ، والرجل الّذي يطلب الصيد يريد به لهو الدنيا ، والمحارب الّذي يقطع الطريق».

أقول : لا بدّ من تحقّق شرائط القصر من المسافة الشرعيّة ، واستمرار القصد ، وقطع المسافة وعدم قصد الإقامة ، ومع ذلك لا يقصّر هؤلاء ، فالرواية في مقام التخصيص لا التخصّص كما هو واضح ، وقد ذكرنا التفصيل في صلاة المسافر من (مهذب الأحكام) فراجع.

وفي تفسير القمّي نزلت ـ أي : آية صلاة الخوف ـ لما خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الى الحديبيّة يريد مكّة ، فلما رفع الخبر إلى قريش بعثوا خالد بن الوليد في مائة فارس ليستقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكان يعارض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على الجبال ، فلما كان في بعض الطريق وحضرت صلاة الظهر أذّن بلال وصلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالناس ، فقال خالد بن الوليد : لو كنّا حملنا عليهم وهم في الصلاة لأصبناهم ، فإنّهم لا يقطعون الصلاة ، ولكن تجيء لهم الآن صلاة أخرى هي أحبّ إليهم من ضياء أبصارهم ، فإذا دخلوا فيها حملنا عليهم ، فنزل جبرئيل بصلاة الخوف بهذه الآية ، ففرّق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أصحابه فرقتين ووقف بعضهم تجاه العدو وقد أخذوا سلاحهم ، وفرقة صلّوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قائما ومروا فوقفوا موقف أصحابهم ، وجاء أولئك الّذين لم يصلّوا فصلّى بهم رسول الله الركعة الثانية ولهم الأولى ، وقعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقاموا أصحابه فصلّوا هم الركعة الثانية وسلّم عليهم».

أقول : الحديبية قرية بينها وبين مكّة مرحلة واحدة ، ويقال : إنّ بعضها من

٢٢٠