مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٩

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٩

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٣
ISBN: 964-5665-08-6
الصفحات: ٣٩٦

الإيمان ، والمنافقين المثبطين العزائم ، فأرشدهم إلى مكائدهم وسوء سريرتهم وخبث باطنهم ، وأمرهم بما يوجب تنشيط عزائم المؤمنين وتعبئتهم ، بأمرهم بالقتال في سبيل الله تعالى ومدافعة أعداء الله الّذين يقاتلون في سبيل الطاغوت ، ووعدهم الأجر الجزيل.

وهذه الآيات المباركة تبيّن القواعد الّتي يبتني عليها الجهاد في الإسلام ، والغاية المتوخّاة منه ، وهي من الآيات المعدودة الّتي تتكفّل قواعد التعبئة العامّة في الإسلام ، وهي تعبئة عقائديّة وروحيّة وجسمانيّة حربيّة. ولا يخلو وجه ارتباط هذه الآيات بالسابقة ، فإنّها كارتباط ذي المقدّمة بالمقدّمة.

التفسير

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ).

خطاب توجيهي إلى الّذين آمنوا ، أي هم الّذين أحبّوا الإيمان وآثروه على الكفر والطغيان ، فأسلموا أمرهم إلى الله تعالى وأطاعوه في تنفيذ أوامره وأحكامه ، فأمرهم عزوجل أن يأخذوا حذرهم من الأعداء بما تقتضيه طبيعة كلّ جهاد ومعركة في سبيل الله تعالى ، وقد صدّر عزوجل الخطاب بالإيمان ؛ لإرشادهم إلى كلّ ما يتعلّق بالإيمان من التوجيهات الأخلاقيّة والتشريعيّة ، الّتي لا يلتزم بها إلّا أهل الإيمان.

ومادّة (حذر) تدلّ على الترهيب بالاحتراز عن كلّ ما يخاف منه ، ويختلف ذلك باختلاف المقامات والحالات ، ويلازم الحذر الاحتراز والاستعداد.

والحذر (بالتحريك) والحذر بمعنى واحد ، وهما مصدران ، كالأثر والإثر ، وقيل : إنّ الأوّل مصدر والثاني ما يحذر به ، وهو آلة الحذر ، ورجل حذر ، أي محترز ومستعد.

٢١

وقد اختلف المفسّرون في معنى ذلك ، فقيل : إنّه السلاح ، بحذف المضاف ، أي : آلة حذركم ، والمروي عن أبي جعفر عليه‌السلام : «خذوا عدّتكم من السلاح». ولكن عطف السلاح على الحذر في غير هذه الآية الكريمة يقتضي المغايرة ، قال تعالى : (وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) [سورة النساء ، الآية : ١٠٢].

وعن بعض : (خُذُوا حِذْرَكُمْ) أي : ما فيه الحذر من السلاح ، وقيل غير ذلك.

وكيف كان ، لا اختلاف بين الأقوال ، فإنّ الحذر من العدو يستلزم الاحتراس والاستعداد ، ويختلف ذلك فقد يكون بالقول كالكناية ونحوها ، أو بالفعل ، كمعرفة حال العدو ومعرفة وسائل كيده ومعرفة أماكنه. وقد يكون بالاستعداد كجمع السلاح وتهيأة العدّة ، وهو المراد في المقام بقرينة الآيات التالية ، وما ورد في تفسير الآية المباركة من الأئمة المعصومين عليهم‌السلام ، فيكون المعنى : خذوا حذركم من العدو واحترزوا منهم واستعدوا لهم واحترسوا منهم ، ومن المعلوم أنّ أخذ الحذر منهم يستلزم معرفة أحوالهم وسبل كيدهم ، كما يستلزم معرفة ما يحترس به وما يتحذّر به من أنواع السلاح وكيفية استعمالها ، وغير ذلك ممّا هو داخل في تثبيت الحذر منهم.

قوله تعالى : (فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً).

بيان لما أمره عزوجل باتّخاذ الحذر من العدو بالتهيّؤ التامّ للخروج إلى الجهاد والحرب مع أعداء الله تعالى ، فيكون المراد من الحذر التهيّؤ والاستعداد للحرب والقتال ، ومنه أخذ السلاح وحمله ، كما عرفت.

ومادّة (ن ف ر) تدلّ على الانزعاج عن الشيء كالفزع ، قال تعالى : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً) [سورة الإسراء ، الآية : ٤١] ، أي : ينفرون على القرآن الى غيره ، وفي الحديث : «بشّروا ولا تنفّروا» ، أي : لا تلقوهم بما يحملهم على النفور. والنفر في الجهاد إنّما يكون إلى الحرب لا عنها ، وقد

٢٢

يستعمل النفر في الخيرات كلّها ، والمعروف أنّهم كانوا إذا استنفروا الناس للحرب ينادون : النفير النفير ، وفي الحديث : «وإذا استنفرتم فانفروا» ، أي : إذا طلب منكم النصرة فأجيبوا خارجين إلى الإعانة.

والثبات : جمع ثبة ، على وزن فعلة كحطمة ، حذفت لامها وعوض عنها تاء التأنيث ، ولامها إمّا واو ، من ثبا يثبو ، كحلا يحلو ، أو ياء مشتقّة من ثبيت على الرجل إذا أثنيت عليه ، فإنّك جمعت محاسنه ، وهي الجماعة على تفرقة أو منفردة ، قال الشاعر :

/ / وقد أغدوا على ثبة كرام / /

وثبات وجميعا منصوبان على الحال ، أي : انفروا جماعة بأن يكونوا فصائل وفرقا ، أو انفروا مجتمعين.

واختلاف النفر كذلك إنّما يكون حسب مقتضيات الحال والظروف الحربيّة ، كما أنّه قد يقتضي الحال أن يكون النفير عامّا أو يكون محدودا على قدر الحاجة ، بأن تكون سرية أو طائفة ونحو ذلك ، ومنه يظهر الترديد في الآية الشريفة.

والآية الكريمة وإن كانت في الحرب ، ولكن تدلّ على المبادرة إلى الخيرات كلّها أيضا ؛ لأنّ الحرب والجهاد في سبيل الله تعالى من أكمل الخيرات وأجلاها ، فلا ينافي المبادرة إلى مطلق الخيرات أيضا.

قوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَ).

بيان لحال بعض الأفراد ، ووصف دقيق لنفسيّتهم الّتي تكون مصدرا لحركات خاصّة وتصرّفات مخصوصة في حالة الحرب الّتي تتطلّب الثبات في العزيمة.

والآية الشريفة تصوّر تلك الحالة النفسيّة بأحسن صورة وأكملها ، بحيث لا تتأدّى تلك في عبارة اخرى مهما بلغت من الوجهة البلاغيّة ، فإنّها تدلّ على أنّ

٢٣

عملية الإبطاء الّتي تصدر من ضعفاء النفوس الّتي سيطر الخوف عليهم ، والخور والفشل قد تمكّنا في نفوسهم.

وتمثل الآية المباركة في الذهن صورة ذلك الشخص المتردّد المتثاقل الخائف ، الّذي يبطأ عن الحركة ويزيده بعدا عن الصفوف المتراصة الّتي تحارب في سبيل الله تعالى ، فهو يبطئ عن القتال ويبطئ غيره عنه أيضا ، فإذا خلص من الحرب تنفّس الصعداء ورجع فرحا مسرورا وحمد نفسه إذا سمع بوقوع القتل في صفوف المسلمين ، فيقول : «قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم شهيدا» ، وأمّا إذا سمع بنصرهم ورجوعهم مظفّرين يحملون النصر والغنيمة ، فعندئذ يتحسّر على ما فاته من الغنيمة والرجوع عن ساحة الحرب من دون أن يصيبه أذى ، ويتمنّى ويقول : «يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما». صورة رائعة تصوّرها الآية المباركة عن الحالة النفسيّة والشعور المتباطي وحالة الخوف لهؤلاء المبطئين ، فهو لا يفكر إلّا في نفسه لعدم تعمّق الإيمان في قلبه.

والخطاب في (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَ) عامّ متوجّه إلى الجميع من دون إشارة إلى طائفة معيّنة منهم ، ولم يقل : (فيهم) ، وهو توجيه تربويّ متين ؛ ليعرف المؤمنين الأقوياء الصادقين أنّ فيهم من تكون فيه هذه الحالة ، ويصفهم بذلك الوصف الدقيق ؛ ليعلم أنّ الحديث موجّه إليهم ، وأنّه هو المقصود ، وهذا أسلوب من الأساليب التربويّة الإصلاحيّة ؛ ليعدل من فيه هذه الصفة موقفه ويستقيم ويرجع الى صفوف المؤمنين ويسلك السلوك القويم ، ولا يستفاد من الآية الشريفة ما يدلّ على أنّ هؤلاء المبطئين هم المنافقون فقط ، كما زعمه بعض المفسّرين ، بل هو عامّ يشمل المنافقين وغيرهم من ضعاف الإيمان ، فإنّ في كلّ مجتمع يوجد الصالح والطالح ، ويختلف الأفراد من حيث الصفات الروحيّة والنفسيّة والأخلاق والملكات.

٢٤

و (يبطئن) من بطأ وهو التأخر عن الانبعاث في السير ، والتبطّي يطلق على البطء والإبطاء معا ، والإتيان بصيغة التشديد لما عرفت آنفا من تمكّن عملية الإبطاء في نفوسهم واستحكام هذه الصفة فيها.

قوله تعالى : (فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ).

بيان لسوء سرائرهم وضعف نفوسهم ، فإنّه في حالة الخوف يجهد نفسه عند ما يهرب ولم يصبه ما أصاب المؤمنين من قتل أو جرح.

قوله تعالى : (قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً).

أي : حاضرا معهم فابتلي بمثل ما ابتلى به المؤمنون ، وهذا القول منهم يكشف عن عدم ثبات الإيمان في قلوبهم. ومثل هذا القول يصدر عن كلّ من ضعف الإيمان فيه.

قوله تعالى : (وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ).

من النصر والغنيمة ونحوهما ، وفي نسبة الفضل إلى الله تعالى دون المصيبة ، مراعاة لحسن الأدب مع الله جلّ شأنه.

قوله تعالى : (لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ).

جملة معترضة بين القول ومقوله من كلامه عزوجل ، وفيها التفاتة تدلّ على زيادة قبح فعلهم ، وضمير الخطاب للمؤمنين ، وضمير الغيبة للقائل ، أي : ليقولن قول من لا تجمع بينه وبينكم أيّة مودّة ولو كانت ضعيفة ، فإنّها لو كانت ولو على هذه الدرجة لكانت مانعة عن هذا التمنّي ، فإنّ الإيمان من أقوى الروابط وأحكمها ، ولضعف هذه الرابطة فيهم لا يرون لأنفسهم أيّة رابطة اخرى تربطهم بالمؤمنين ، فيتمنّى الأجنبي ما لأجنبي آخر من الفضل.

وإنّما أدرج عزوجل هذه الجملة بين القول والمقول ؛ لئلّا يتوهّم أحد أنّ تمنّيهم المعيّة مع المؤمنين ليس لأجل النصرة والمظاهرة على ما تقتضيه العادات والتقاليد في تلك العصور ، بل كان لأجل الحرص على حطام الدنيا.

٢٥

قوله تعالى : (يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً).

المراد من الفوز العظيم هو حطام الدنيا على طريق التهكم وتعظيم هذا الأمر منهم ، وجعل المصيبة الّتي أصابت المؤمنين نعمة يدلّ على ضعف إيمانهم.

قوله تعالى : (فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ).

بعد ما بيّن خطأ سلوك المبطئين الّذين يريدون من عملية الإبطاء التخلّف عن القتال ، وذمّهم وشنّع عليهم بأبلغ أسلوب ، وأرشد المؤمنين إلى أنّ العقدة الحقيقة في تخلّفهم عن الطريق الصحيح هو الحرص على متاع الحياة الدنيا.

يبيّن عزوجل في هذه الآية المباركة الحقيقة المطلوبة ، وهي أنّ المؤمنين يبيعون متاع الحياة الدنيا ليشتروا به النعيم الأبدي الحقيقي ، وفي الآية الكريمة الحثّ على الجهاد في سبيل الله تعالى ، بتذكيرهم أنّ المؤمنين قد شروا بالإيمان الحياة الدنيا بالآخرة ، قال تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) [سورة التوبة ، الآية : ١١١].

وفي الآية الشريفة توجيه تربويّ متين ، فإنّ الله تعالى لما خاطب الجميع بما فيهم الضعفاء والأقوياء ، ثمّ وصف أفعال الضعفاء وتمنّياتهم وحكى أقوالهم ، دون أن يشير إلى أعيانهم ؛ لما في ذلك من أثر نفسي كبير ـ كما عرفت ـ ثمّ أهملهم في هذه الآيات ليرجعوا إلى أنفسهم فيشعروا بالإثم ويطهّروا نفوسهم من الذنب العظيم ، ذنب التبطّي عن القتال والقعود عنه ، ثمّ وجّه الخطاب إلى المؤمنين ووصفهم بصفات المسلم الحقيقي والمؤمن بالله العظيم إيمانا حقيقيّا ، وهي القتال في سبيل الله وبيع الحياة الدنيا بالآخرة. وهذا التحوّل في الخطاب من أهمّ السبل التربويّة ؛ لتحوّل المذنب عن موقفه إلى الموقف المطلوب.

قوله تعالى : (وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ).

حثّ على الجهاد في سبيل الله تعالى ، وبيان للغرض من القتال في الإسلام ،

٢٦

وأنّه ليس لحميّة ولا عصبيّة ولا للحظوظ الدنيويّة ، وأنّ الفائدة المتوخّاة منه هي الأجر العظيم في الآخرة ، لا يعلم أحد كميّته ولا كيفيّته إلّا الله تعالى ، وقد ذكر عزوجل أنّ العاقبة المحمودة من الجهاد إمّا القتل أو النصر ، وعلى كلتا الحالين فللمجاهد الأجر العظيم.

وإنّما قدّم عزوجل القتل مع أنّ المقام مقام الحثّ والتشجيع ، وهو يقتضي ذكر النصر أوّلا ، وتأخير ذكر القتل الّذي تنفر منه النفوس ؛ للإرشاد إلى أنّ المؤمن ينبغي أن يكون همّه أحد الأمرين ، إمّا إكرام نفسه بالقتل والشهادة ، أو إعزاز الدين بالنصر ، ولا يحدّث نفسه بالهرب كما كان عليه المبطئون ، وأنّه لا بد له من الثبات والعزيمة والتجرّد عن المادّة والخلوص لله تعالى ، فلا يغري نفسه بالنصر فقط ، بل يوطّنها على القتل.

ومن ذلك يعلم أنّه لم يذكر عزوجل الاحتمال الثالث ـ وهو الانهزام ـ لأنّ المؤمن قوي العزيمة ثابت على الإيمان ، لا ينهزم ولا يحدّث نفسه بالهزيمة ؛ لأنّها خيانة ، والمؤمن بريء منها.

ومن هذه الآية الشريفة نستفيد أمرا تربويّا دقيقا ، فإنّ الله تعالى إنّما وضع الجهاد وكتب القتال على المؤمنين ؛ لأجل التجرّد الكامل لله تعالى ، وبيع الحياة الدنيا بما فيها من رغبة النصر والاستيلاء على أعداء الله تعالى ، حتّى يحظى برضوان الله تعالى ويشتري بها الحياة الآخرة ، فكأنّ ذكر القتل ابتداء وقع من ذكر النصر ، وله الأثر الكبير في النفوس وتشجيع الهمم وحثّ المتثاقلين ، فإنّ الّذي يذهب للجهاد ليموت ، لن يتغيّر موقفه حتّى يرزق النصر ، بخلاف من يذهب للنصر والغنيمة ، فإنّه يتغيّر موقفه حين يقابل الموت ، فيحدّث نفسه بالهزيمة.

قوله تعالى : (فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً).

أي نعطيه الأجر العظيم ولا يفوته ذلك ، وفي الالتفات مزيد حثّ وترغيب ، وإنّما وصف الأجر بكونه عظيما ؛ لأنّه لا يعرف حدوده في الكم والكيف أحد إلّا

٢٧

الله تعالى ، وهذا الوعد منه عزوجل مترتّب على كلا الاحتمالين القتل والنصر.

نعم ، الّذي غلب في سبيل الله تعالى فأمره مراعى في استيفاء ذلك الأجر.

قوله تعالى : (وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ).

زيادة في الحثّ والتحريض المستفاد من الالتفات إلى الخطاب ، بعد توضيح القاعدة في الجهاد في الإسلام. وقد ذكر في هذه الآية المباركة فائدة اخرى شريفة تصبوا إليها النفوس العالية ، وهي نصرة المستضعفين والمظلومين.

ومعنى الآية الكريمة أن لا عذر لكم في ترك القتال في سبيل الله تعالى. ويستفاد من هذه الآية الشريفة انحصار القتال في سبيل الله ، وهذا ما يؤكّده القرآن الكريم في مواضع متعدّدة ، وإذا عطف عليه شيء آخر في بعض الآيات ـ ومنها المقام ، أي : نصرة المستضعفين والمظلومين ـ فإنّما هو لأجل أنّ ذلك من مصاديق سبيل الله تعالى ، ومن طرق إقامته ، فإنّ سبيل الله لا يمكن أن ينال حتّى يستنقذ المستضعفون من الظلم.

قوله تعالى : (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ).

طريق آخر في إقامة كلمة الحقّ وتثبيت لسبيل الله تعالى ، وهو يعمّ كلّ خير ، ومنه إنقاذ المظلومين ، كما أنه لا يؤمّن سبيل الله إلّا باستنقاذ المستضعفين من الرجال والنساء والولدان من ظلم العتاة والجبابرة.

وفي الآية المباركة استنهاض للمؤمنين وتهييج لهممهم ، وإغراء لهم بأنّ أهليكم وإخوانكم يعانون الأمرّين من ظلم الظالمين ليفتنوهم عن دينهم ، فيجب استنقاذهم لأنّهم منكم ، وقد جمعتكم رابطة الدين الّتي هي من أقوى الروابط ، فإنّ الإسلام قد أهمل كلّ نسب وسبب غير الإيمان بالله تعالى.

وإنّما ذكر تعالى الولدان ـ جمع ولد ـ وهم الصبيان بالخصوص ، لأجل بيان فرط ظلم الكفّار ، وأن ظلمهم وأذاهم وقع على النساء والصبيان غير المكلّفين

٢٨

أيضا ، والّذين هم يحتاجون إلى الرعاية والترحّم والانعطاف أكثر من غيرهم ، ولعلّ في ذلك ارغام لآبائهم وأمهاتهم وبغضا لمكانتهم.

قوله تعالى : (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها).

استنهاض آخر لهم في تقديم المعونة للذين تربطهم معهم رابطة الإيمان مضافا إلى أنّهم منهم ، وهم أبعاضهم وأفلاذهم ، ومؤمنون بالله العظيم يدعونه خوفا وطمعا بعد ما انقطعت بهم الأسباب ؛ لأنّهم فقدوا من قومهم كلّ عون وحرموا كلّ مغيث ، فكانوا مذللين معذبين لأجل دينهم ، يستغيثون الله تعالى بقولهم : ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها.

والآية المباركة بأسلوبها الرفيع وفصيح عبارتها ، بيّنت كمال انقطاعهم إلى ربّهم وقوّة إيمانهم ، حيث لم يستغيثوا إلّا بمولاهم الحقّ ليفرّج عنهم كربهم ويخرجهم من تلك القرية الّتي هي وطنهم الظالم أهلها لهم ، ولم يذكروا شيئا آخر ممّا كان دائرا في العصر الجاهلي من العصبيّة ونحوها ، فلم يقولوا : يا قوماه ، أو يا للرجال ونحو ذلك.

والمراد من القرية مكّة المكرّمة الّتي ظلم أهلها المشركون المؤمنين أشدّ أذية ليردّوهم عن دينهم. وإنّما وصف أهلها بالظلم دون القرية ، كما في غير هذا الموضع قال تعالى : (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ) [سورة الحج ، الآية : ٤٥] ، وقال تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ) [سورة الحج ، الآية : ٤٨] ، لأنّ مكّة مكرّمة فلا يقال لها قرية ظالمة ، وإنّما اختصّ أهلها بالظلم.

قوله تعالى : (وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا).

دعاء آخر منهم يطلبون منه جلّت عظمته أن يجعل منهم وليا يلي أمرهم ليرشدهم إلى أمور دينهم ودنياهم ، فإنّه أعلم بمصالحهم من غيره.

٢٩

قوله تعالى : (وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً).

دعاء ثالث يطلبون منه أن يجعل لهم نصيرا ينصرهم على من أذاهم فاستجاب لهم ربّهم دعاءهم ، فجعل لهم خير ولي وخير نصير ، فحماهم ونصرهم بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى صاروا أعزّ أهلها بعد ما كانوا أذلة ضعفاء.

وفي تكرار الفعل ومتعلّقيه مبالغة في التضرّع والابتهال ، وحصر الطلب فيه عزوجل ، فإنّهم يتمنّون الوليّ والنصير لكنّهم لا يرضون إلّا أن يسألوا ربّهم.

قوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ).

بيان لحقيقة من الحقائق الإيمانيّة ، وهي في نفس الوقت توجيه للمؤمنين بأنّ قتالهم لا بدّ أن لا يكون لغرض دنيويّ ، بل يكون دائما في سبيل اللّه تعالى والتقرّب إليه عزّ وجلّ ، وقياس بين الطائفتين المؤمنة الّتي لا تقاتل إلّا في سبيل اللّه ، والكافرة الّتي ليس لهم أي غرض سوى الأغراض الدنيويّة الوهميّة ، فيعلم شرف الطائفة الأولى على الثانية ؛ لأنّ سبيل اللّه يوصل لا محالة إلى اللّه تعالى ، بخلاف سبيل الكفّار الّتي لا توصلهم إلّا إلى الهلاك والبوار. ولا ضير في اختلاف الدوافع عند المؤمنين في القتال ، فتارة : يريدون من القتال الدفاع عن الحقّ ، وأخرى : دفع عدوان الكافرين ، وثالثة : لاستنقاذ المستضعفين ، ورابعة : لإزالة القوى الّتي تقف في سبيل الدعوة والحقّ وغير ذلك ممّا هو كثير ، فإنّها جميعا من وجوه سبيل اللّه ومصاديقه ، بل لا تحقّق له إلّا بذلك.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ).

بيان لحقيقة أخرى بالنسبة إلى الفئة الكافرة الّتي لا تقاتل إلّا في سبيل الطاغوت الّذي هو سبيل الشيطان ولا يوصلهم إلّا إلى الهلاك ، ولا فرق في قتالهم بين أن يكون مع الإسلام والمسلمين ودين الحقّ أو كانوا يقاتلون بعضهم بعضا ، فلا يكون قتالهم إلّا في سبيل الطاغوت وإنّ كلّ قتال لهم لا يكون إلّا كذلك ما داموا معرضين عن الإيمان باللّه تعالى ورسوله ، ومهما كانت شعاراتهم وأقوالهم ،

٣٠

وهذا ما نراه في الجاهليّة المعاصرة الّتي استمدت شعارات برّاقة ليقاتل تحتها المؤمنين المستضعفين ، وهي شعارات زائفة من سبل الطاغوت ، فالآية المباركة تبيّن حقيقة كلّ واحد من الفريقين وأهدافهم ليعلم غيرهم ذلك ، ويثبت المؤمنين على طريقتهم ويعرضوا عن طريق أعدائهم ، ويرجع المخدوعون إلى الحقّ ويسيروا على نهج المؤمنين وهديهم.

قوله تعالى : (فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ).

تحريض آخر للمؤمنين بالقتال ببيان ضعف سبيل الكافرين وتأكيد للحكم المزبور ـ وهو القتال في سبيل اللّه تعالى ـ وبيان للقاعدة الّتي يستند إليها المؤمنون الّذين هم أولياء اللّه تعالى ، وصلابتها أمام تلك الّتي يقف عليها أعداؤهم الّذين هم في ضلال ، لأنّهم أولياء الشيطان خارجون عن ولاية اللّه تعالى ، فيجب قتالهم حتّى لا تكون فتنة ويكون الدين كلّه للّه تعالى ، فهؤلاء يقاتلون في سبيل اللّه ، والكفّار يقاتلون في سبيل الطاغوت.

قوله تعالى : (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً).

لأنّ الشيطان مهما تجبّر وتكبّر فهو ضعيف في حدّ نفسه ؛ لأنّه باطل ولا قوّة له ، فضلا عن القياس إلى قدرة اللّه تعالى وعظمته الّذي يقاتل أولياؤه في سبيله وهو وليّهم ، والشيطان وليّ الكافرين.

وفي الآية الكريمة كمال العناية بالمؤمنين ؛ لأنّ اللّه تعالى القوي القدير هو وليّهم يرعى شؤونهم. وتحريض لهم بأنّ الشيطان مهما تجبّر وتطاول ، فإنّه ضعيف ، فلا يرهبكم مكائده وحيله مهما بلغ في العدّة والعدوان ، فإنّ اللّه على نصركم لقدير.

ولمثل هذه الجملة أثر نفسيّ كبير في نفوس المؤمنين الّذين يريدون القتال في سبيل الحقّ ، وهم يذعنون بأنّهم أقوياء لا يغلبهم الباطل ، فتطمئن نفوسهم بالغلبة والنصر مهما كان في جانب الباطل من القوّة في العدد والعدّة.

٣١

بحوث المقام

بحث أدبي :

ذكرنا ما يتعلّق باشتقاق كلمة الثبات والنفر ، والقراءة المعروفة في الأخيرة هي كسر الفاء في (انفروا) في الموضعين ، وقرأ بعضهم بالضمّ فيهما.

وأما ثبات ، فالمعروف بكسر التاء ، وهي بحسب القاعدة في جمع المؤنّث ، وحكى بعضهم الفتح.

وقوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ) ، فإنّ اللام الأولى لام التأكيد الّتي تدخل على خبر إن أو اسمها إذا تأخّر ، والثانية جواب قسم. وقيل : زائدة ، وجملة القسم وجوابه صلة الموصول.

وفي قوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ) من الدقّة في تصوير المعنى ما لا يخفى ، وتعتبر من الوجهة البلاغيّة في أعلى درجات الفصاحة ، فإنّ في هذه الصياغة تستفاد الصورة الكاملة من اللفظ والمعنى لعملية الإبطاء المتتابعة ، كما عرفت في التفسير.

وأمّا قوله تعالى : (كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ) ، فإنّه اعتراض بين القول والمقول ، جيء به لزيادة قبح فعلهم والتشنيع عليهم ، وفيه وجوه بلاغيّة ، مثل الالتفات ، وتنكير المودّة ، والتشبيه الفصيح ، ونفي الكون ، وغير ذلك من الوجوه الّتي جعلت الجملة في أعلى درجات البلاغة ، فإنّ فيها من التقريع والتوبيخ بألطف القول وأحسن عبارة وأرقّها ، ممّا تؤثّر في النفس ما لا يؤثّر النبز بالألقاب والطعن بالقول السيء.

و (كَأَنْ) حرف تشبيه تأتي ثقيلة ومخففة ، فإن وليها ما كان يليها وهي ثقيلة ، فإنّها ترفع الجملة على الابتداء والخبر ، ويكون اسم كأن ضمير الشأن

٣٢

محذوفا ، وتكون الجملة في موضع خبر كأن ، وإذا لم ينو ضمير الشأن جاز لها أن تنصب الاسم إذا كان مظهرا وترفع الخبر ، فنقول : كأن زيدا قائم ، والتفصيل مذكور في كتب النحو.

و (يشرون) في قوله تعالى : (فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ) مضارع شري ، وهو من الأضداد يأتي بمعنى باع ـ كما في قوله تعالى : (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ) [سورة يوسف ، الآية : ٢٠] ، وبمعنى اشترى ، والمراد من الموصول المنافقون حيث أمروا بترك النفاق والمجاهدة في سبيل اللّه تعالى.

وأمّا قوله تعالى : (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ)، فهو إمّا عطف على اسم الجلالة ، أي في سبيل اللّه ، وفي سبيل المستضعفين وهو تخليصهم من الظلم والأسر ، أو عطف على (سبيل) بحذف مضاف ، أي في خلاص المستضعفين ، ويجوز نصبه بتقدير فعل ـ كأعني وأخصّ ونحوهما ـ وقوله تعالى : (مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ) بيان للمستضعفين.

والوصف في قوله تعالى : (مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها) صفة قرية ، وتذكيره لتذكير ما أسند إليه ، فإنّ اسم الفاعل والمفعول إذا أجري على غير من هو له ، فتذكيره وتأنيثه على حسب الاسم الظاهر الّذي عمل فيه ، ولم ينسب إليها الظلم تشريفا وتكريما ، فإنّ مكّة مكرّمة.

بحث دلالي

تدلّ الآيات الشريفة على أمور :

الأوّل : يدلّ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً) على القاعدة الّتي يعتمد عليها الجهاد في الإسلام ، وهي الدفاع عن كيد الأعداء وظلم الظالمين ، وربط هذه القاعدة بالإيمان بحيث لا تخرج عن

٣٣

التوجيهات الإيمانيّة ، فإنّ الإيمان يرتبط بتوجيهات أخلاقيّة وأحكام تشريعيّة لا يلتزم بها إلّا المؤمنون.

وفي الآية المباركة التذكير الدائم للمؤمنين وتحديد مهمّتهم. ولم يذكر سبحانه وتعالى كيفيّة الحذر ولا خصوصياته ؛ إيكالا لما تتطلبه الظروف الحربيّة في كلّ مكان وزمان. فالآية الشريفة على إيجازها البليغ تحدّد المسؤوليّة في الجهاد بأن لا يخرج عن الحدود الإيمانيّة ، والغرض من الجهاد وهو الدفاع والحيطة من الأعداء.

الثاني : يدلّ قوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ) ـ بضميمة صدر الآية الشريفة ـ على وجوب الاستعداد للجهاد وبذل كلّ جهد في سبيله ، لئلّا تموت العزائم في إقامة الحقّ وتخور القوى في تطهير الأرض من الظلم.

الثالث : تدلّ الآية الكريمة : (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ) على أنّ في صفوف المؤمنين من لا يفكّر إلّا في نفسه ؛ لأنّ الإيمان لم يتعمّق في قلبه ، متذبذب في تفكيره ومتردّد في أفعاله ، يتبع المصلحة الوقتيّة المادّية ، فتارة يتمنّى الدخول في سلك المؤمنين إن أصابوا المغانم مع كمال البعد بينه وبين المؤمنين ، وأخرى يفتخر ويتشدّق بعدم الانخراط فيهم ، فلم يصبه من القتل والجراح في سبيل اللّه تعالى ، فالآية المباركة تصوّر واقع هؤلاء بأحسن تصوير وتبيّن حالتهم النفسيّة بأوجز عبارة وأبلغ أسلوب ، ولا تختصّ بعصر النزول ، فإنّ مضمون الآية المباركة عامّ يشمل جميع الأعصار ، كما لا تختصّ بالمنافقين وإن كانوا أجلى الأفراد ؛ لأنّ الآية الشريفة تخبر عن تلك الجماعة الّتي لم يتعمّق الإيمان في قلوبهم ، وهو أعمّ من النفاق ؛ لأنّ في كلّ قوم صالحا وطالحا.

الرابع : يدلّ قوله تعالى : (كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً) على كمال البعد بينهم وبين المؤمنين ، وأنّ تفكيرهم المادّي هو الّذي أوجب هذا البعد ، فإنّ اللّه تعالى جعل رابطة الإيمان من أقوى الوشائج الّتي تجمع بين أفراد المؤمنين ؛ لأنّها تنبع من القلب وتكون خالصة من كلّ الظواهر

٣٤

المادّية الّتي تؤول إلى التفكّك والبعد بينهم وبين المؤمنين ، فلا يتمنّون ما لا ينبغي لهم أن يتمنّوه ، فإنّ قصدهم كان لأجل حطام الدنيا الّتي تؤول إلى الزوال.

الخامس : يدلّ قوله : (فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) على أنّ القتال في الإسلام إنّما يكون في سبيل اللّه ، ولا يقوم بهذه المهمّة إلّا من باع الحياة الدنيا الفانية الزائلة بالآخرة الباقية الدائمة ، فالآية الكريمة على إيجازها البليغ تتضمّن جميع جوانب الجهاد والقتال في الإسلام من العلّة الفاعليّة ، وهي المؤمنون الّذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ، والعلّة الغائيّة وهي طلب رضاء اللّه تعالى والسعي في سبيله ، وقد عدّ عزّ وجلّ في المقام من وجوه سبيل اللّه تعالى القتل والغلبة ، وإنقاذ المستضعفين من المؤمنين. والعلّة الصوريّة وهي النفر ثباتا أو النفر جميعا وفق الظروف الحربيّة ، والعلّة المادّية وهي الحذر والاستنهاض في الاستعداد بجميع صوره ، وسيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام في الجهاد في الإسلام إن شاء اللّه تعالى.

والآيات الشريفة تتضمّن الأسس التربويّة في هذا المضمار ، وكلّ ما يتطلبه الوضع الحربي من إعداد النفوس وتقويتها واستنهاضها للقتال ، وطلب العون والنصرة من اللّه العلي القدير ، وأدب الدعاء من الخضوع والخشوع لدى جنابه ، فهي من الآيات المعدودة الّتي تشتمل على جميع ما يتطلبه الحرب والجهاد ، كما هو المعروف.

السادس : يدلّ قوله تعالى : (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) على وجود الضعف في كيده دائما بل هو لازم ذاته ، وتتضمّن الآية الكريمة نكتة لطيفة قرآنيّة ، وهي أنّه سبحانه وتعالى وصف كيد النساء بالعظمة ، قال تعالى محكيّا عن عزيز مصر : (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) [سورة يوسف ، الآية : ٢٨]. ووصف كيد الشيطان في هذه الآية المباركة بالضعف.

ولكن الضعف إنّما يكون في جنب نصرة اللّه تعالى لأوليائه وحفظه لهم ، كما

٣٥

قال تعالى : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) [سورة الحجر ، الآية : ٤٢] ، وعظمة كيد النساء بالنسبة إلى الأمور المادّية والشهوانيّة ، فيكون كيدهن عظيم بالإضافة.

السابع : يستفاد من قوله تعالى : (فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) أنّ كلّ قتال مع المؤمنين إنّما يكون من كيد الشيطان ، الّذي يوحي إلى أوليائه سبل المكر والخداع ويزيّن لهم الباطل ويبثّ بينهم طرق البغي والطغيان ، فيوهمهم بوسوسته في الحرب مع المؤمنين ويخدعهم بأنّ فيه الصلاح لهم ، كما يوهن قوى المؤمنين بإلغاء الشبه عليهم.

والآية المباركة في مقام إبطال جميع وساوس الشيطان ومكره وخداعه ، وتثبيت للمؤمنين وتقوية لهم بأنّ كيد الشيطان مهما بلغ من القوّة والعظمة ، فإنّه ضعيف في مقابل نصرة اللّه ؛ لأنّ كيده من الباطل الّذي لا قوّة فيه ولا بقاء له ، فالمؤمنون يطلبون شيئا ثابتا فيه القوّة والبقاء ؛ لأنّهم على حقّ. وقد جرت سنّة اللّه تعالى في مصارعة الحقّ والباطل أن يغلب الحقّ على الباطل لا محالة ، كما أنّ سنن الوجود تؤيّد ذلك.

وهذه الآية الشريفة لها من التأثير النفسي في ميدان القتل والجهاد والحرب ما لا يكون في غيرها ، وقد أتعب علماء التربية أنفسهم وغيرهم ممّن لهم الصلة في هذا الميدان على صياغة عبارات تؤدّي مثل هذا الأثر ، ولم يكن بوسعهم ذلك ، فسبحان اللّه الّذي أحكمت آياته وجلّت عظمته.

الثامن : تدلّ الآيات المباركة المتقدّمة على الأسس الّتي يقوم عليها القتال في الإسلام والقاعدة العريقة الّتي لا يتخطّاها ، وهي كونه في سبيل اللّه تعالى ، ولإشاعة العدل ، وتثبيت الحقّ ، وأنّ القتال في الإسلام لا يقوم إلّا عند فشل جميع السبل في تثبيت كلمة اللّه تعالى ونشر العدل ، وهذا المقصد أمر ثابت لا يتغيّر ، والقتال الخارج عن هذه الطريقة لا يكون إلّا قتالا باطلا ليس فيه قصد إلا طلب

٣٦

الدنيا ، ولأجل الاستعلاء والغلبة بغير حقّ ، وإهلاك الحرث والنسل. وهذا ليس له أساس ثابت يقتضيه التكوين والطبيعة وسنن الوجود ، وبالآخرة يحكم عليه بالفشل والزوال.

التاسع : يمكن أن يستفاد من قوله تعالى : (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) أنّ المراد من اتّخاذ الحذر والاستعداد أعمّ من المادّي ، كتهيئة الجيوش وإعداد السلاح ونحو ذلك. والمعنوي وهو ترويض النفس على الأخلاق الفاضلة ، وإعدادها لقبول الكمالات ، فإنّ لهذا القسم أثرا كبيرا على الأعداء وارغامهم على قبول الإيمان والحقّ.

بحث روائي :

في مجمع البيان قال : «سمّى الأسلحة حذرا ؛ لأنّها الآلة الّتي بها يتقي الحذر ، وهو المروي عن أبي جعفر عليه‌السلام.

أقول : هذا من باب التفسير بالمصداق ، وإلّا فإنّ الحذر أعمّ من الأسلحة وما يحصل في النفس من الخوف ، أي أنّه أعمّ من النفسيّ ـ والمعنويّ ـ والمادّي ، وتقدّم في التفسير ما يتعلّق به.

وفيه عن أبي جعفر عليه‌السلام أنّ المراد بالثبات السرايا ، وبالجميع العسكر.

أقول : هذا من باب ذكر أحد المصاديق كما تقدّم. ومثله ما في الدّر المنثور من أنّ المراد من الجميع «إذا نفر رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله معهم».

وفي تفسير العياشي عن سليمان بن خالد عن الصادق عليه‌السلام: «في قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ) ، فسمّاهم بمؤمنين وليس هم بمؤمنين ، ولا كرامة ، وقال تعالى : (فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً ـ إلى قوله تعالى ـ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً) ، ولو أنّ أهل السماء والأرض قالوا : قد أنعم اللّه عليّ إذ لم

٣٧

أكن مع رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لكانوا بذلك مشركين ، وإذا أصابهم فضل من اللّه قال : يا ليتني كنت معهم فأقاتل في سبيل اللّه».

أقول : المراد بتسميتهم بالمؤمن لأنّهم تلبّسوا بأدنى مرتبة الإيمان في الظاهر ، وليسوا هم بمؤمنين ، أي واقعا وحقيقة ، وتقدّم في التفسير أيضا ، والمراد من الشرك المرتبة الأولى منه ، الّتي لا تنافي إجراء أحكام الإسلام عليه ؛ لأنّ للشرك مراتب متفاوتة ، وفي كلّ مرتبة درجات ، وفي كلّ درجة فيها شدّة وضعفا.

وعن أبي علي الطبرسي قال : «قال الصادق عليه‌السلام: ولو أنّ أهل السماء والأرض قالوا : قد أنعم اللّه علينا إذ لم نكن مع رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لكانوا بذلك مشركين».

أقول : لأنّ ذلك خلاف التوحيد الكامل والعبوديّة المحضة ، فإنّهم أظهروا الفرح على عدم إصابتهم المصيبة معه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وشأن المؤمن أن يشارك معه ، وتقدّم أنّ للشرك مراتب تختلف حسب من يتلبّس به ، وحسب العقيدة وغيرهما.

وفي تفسير علي بن إبراهيم قال الصادق عليه‌السلام: «واللّه ، لو قال هذه الكلمة أهل المشرق والمغرب لكانوا بها خارجين عن الإيمان ، ولكن قد سمّاهم مؤمنين بإقرارهم».

أقول : المراد من الخروج عن الإيمان الخروج عن طاعة اللّه ورسوله ، أو الخروج عن حدّ الكمال والمرتبة الأعلى منه ـ كما مرّ ـ فإنّ للإيمان مراتب متفاوتة جدّاً.

البيهقي في سننه بطريقه عن ابن عباس في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً) عصبا وفرقا. قال : نسخها (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) [سورة التوبة ، الآية : ١٢٢].

أقول : ليس بينهما شرائط النسخ ، إذ آية الحذر في الحرب والقتال ، وآية النفر

٣٨

في التفقّه في الدين وتعلّم الأحكام ، وعلى فرض وحدة الموضوع بينهما ، فهما من باب التقييد والتخصيص ، لا النسخ ، إلّا أن يراد به هما.

العياشي بسنده عن علي بن الحسين عليهما‌السلام قال : «كانت خديجة ماتت قبل الهجرة بسنة ومات أبو طالب بعد موت خديجة بسنة ، فلما فقدهما رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله سئم المقام بمكّة ودخل في حزن شديد وأشفق على نفسه من كفّار قريش ، فشكى إلى جبرئيل عليه‌السلامذلك ، فأوحى اللّه تعالى إليه : يا محمد ، أخرج من القرية الظالم أهلها وهاجر إلى المدينة ، فليس لك اليوم بمكّة ناصر ، وانصب للمشركين حربا ، فعند ذلك توجّه رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المدينة».

أقول : الرواية من باب التطبيق ، وإلّا فالآية الكريمة عامّة ، وتوصيف أهل مكّة بالظلم تشريفا للبلد الأمين الّذي هو مكّة المكرّمة ، كما مرّ.

وعن أبي جعفر عليه‌السلامفي رواية حمران قال : «(وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها) فأولئك نحن».

أقول : الرواية من باب ذكر أحد المصاديق ، أي المستضعفين ظاهرا في هذه الدينا ، وقد ورد عن ابن عباس في الدرّ المنثور أنّه قال : «أنا وأمي من المستضعفين» ، وكانا كذلك أيضا ؛ لأنّهما كانا من المسلمين الّذين كانوا بمكّة لا يستطيعون الخروج منها ، وكانوا في ضيق من العيش».

وعن سماعة قال : «سألت أبا عبد اللّه عليه‌السلامعن المستضعفين ، قال : هم الولاية ، قلت : أي ولاية تعني؟ قال : ليست ولاية ولكنها في المناكحة والمواريث والمخالطة ، وهم ليسوا بالمؤمنين ولا الكفّار ، ومنهم المرجون لأمر اللّه. فأمّا قوله تعالى : (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها) فأولئك نحن».

٣٩

أقول : صدر الرواية يبيّن المستضعفين في الإيمان ، أي من له أدنى مرتبة الإيمان ، فإنّ له مراتب كثيرة كما تقدّم ، وأمّا ذيلها فإنّه من باب التطبيق وذكر أجلى المصاديق وبيان ما طرأ عليهم من غصب حقوقهم عليهم‌السلام.

وفي الدرّ المنثور عن سعيد بن جبير : «في قوله تعالى : (فَلْيُقاتِلْ)، يعني يقاتل المشركين(فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ، قال : في طاعة اللّه ،(وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ) ، يعني يقتله العدو ،(أَوْ يَغْلِبْ) يعني يغلب العدو من المشركين ،(فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) يعني جزاء وافرا في الجنّة ، فجعل القاتل والمقتول من المسلمين في جهاد المشركين شريكين في الأجر».

أقول : الرواية من باب التفسير للآية المباركة ، وتقدّم أنّ القتل في سبيله تعالى يكون من إحدى الحسنيين ، وكذا من يقتل من العدو أو من وقع في الأسر في يد العدو ، فكلّ مشقّة يتحمّلها المجاهد في سبيل اللّه تعالى فله أجره عند ربّه ، كما تقدّم في الآيات السابقة.

وعن ابن عباس قال : «إذا رأيتم الشيطان فلا تخافوه واحملوا عليه (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً)».

أقول : كيد الشيطان بالنسبة إلى نصرة الرحمن وهدايته كان ضعيفا ، وأمّا بالنسبة إلى المؤمن فهو تابع لإيمانه ، فكلّما اشتدّ إيمان المؤمن باللّه تعالى وكثر إخلاصه له سبحانه ووفى بعهد الربوبيّة وزاد في توكّله عليه ، علا شأنه وضعف كيد الشيطان وأمن من مكره ، وإذا قلّ إيمانه باللّه تعالى ولم يف بعهد الربوبيّة ، قوي كيد الشيطان بالنسبة له ، وهذا ما يستفاد من الآيات الكثيرة والروايات المتواترة عن المعصومين عليهم‌السلام ، ولدفع الشيطان وبعده عن الإنسان طرق كثيرة معروفة عند أهل العرفان.

٤٠