مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٩

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٩

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٣
ISBN: 964-5665-08-6
الصفحات: ٣٩٦

الفريقين. وقرئ (كلّ) بالرفع على الابتداء ، والمفعول الأوّل هو العائد في جملة الخبر محذوف ، أي : وعده ، والقراءة الأولى هي الأشهر ، وعلى كلتا القرائتين (الحسنى) المفعول الثاني ، والجملة اعتراض جيء بها لدفع ما يتوهّم من تفضيل أحد الفريقين على الآخر ، وحرمان المفضول البتة.

وإنّما لم يذكر عزوجل القيود في قوله تعالى : (وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً) ؛ لاغناء «ال» في «المجاهدين» عن ذكرها ، وإنّما لم يذكر القيد في القاعدين ، أي : «غير أولي الضرر» في الموضعين ولم يفعل ما فعله بالقيود مع المجاهدين الّتي ذكرها على سبيل التدرج ؛ لأنّ قيد «غير اولي الضرر» كان بعد السؤال ، بخلاف القيود مع المجاهدين.

و (أجرا) في قوله تعالى : (أَجْراً عَظِيماً) مفعول ثان ، لتضمّنه معنى الإعطاء ، وقيل : هو منصوب بنزع الخافض ، أي : فضّلهم بأجر.

و (درجات) في قوله تعالى : (دَرَجاتٍ مِنْهُ) ، إمّا أن يكون منصوبا على الحاليّة ، أي : ذوي درجات ، أو يكون بدلا من (أجرا) ، بدل الكلّ مبيّنا لكميّة التفضيل ، واقعا موقع الظرف ، أي : في درجات. و (منه) متعلّق بمحذوف صفة لدرجات تدلّ على فخامتها وعلو شأنها.

و (ظالمي) في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) منصوب على الحاليّة من ضمير المفعول في (توفاهم) ، والأصل (ظالمين أنفسهم) ، والإضافة لفظيّة لا تفيد تعريفا.

والاستفهام في قوله تعالى : (فِيمَ كُنْتُمْ) للتوبيخ والتقريع ، وقد ذكرنا في أحد مباحثنا السابقة أنّ (ما) الاستفهاميّة المجرورة تحذف منها الألف حسب القاعدة ؛ فرقا بين الاستفهام والخبر ؛ وتنزيلا لها مع ما قبلها منزلة الكلمة الواحدة ؛ ولذا تكتب الألف في (الى) و (على) و (حتّى) في قولهم : إلام ، وعلام ، وحتّى م ، ما لم يوقف على ـ م ـ بالهاء.

١٨١

وقوله تعالى : (فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) جملة مركّبة من مبتدأ أوّل ، وهو اسم الإشارة ، و (مأواهم) مبتدأ ثان ، و (جهنّم) خبره الثاني ، والجملة خبر للمبتدأ الأوّل.

والاستثناء في قوله تعالى : (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ) منقطع ؛ لأنّ المستضعفين لم يندرج في الموصول وضمائره ، والمشار إليه بأولئك.

و (يدركه) في قوله تعالى : (ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ) مجزوم ، لأنّه جواب الشرط ، وقرئ برفع الكاف : «يدركه» على أنّه فعل مضارع مرفوع لتجرّده من الناصب والجازم ، والموت فاعله ، والجملة خبر لمبتدأ محذوف ، أي : (ثمّ هو يدركه الموت) ، والجملة الاسميّة معطوفة على الجملة الشرطيّة ، وإنّما قدّروا المبتدأ ليصحّ رفعه مع العطف على الشرط المضارع ، وقال بعضهم : يجب حينئذ جعل (من) موصولة ؛ لأنّ الشرط لا يكون جملة اسميّة. ولكنّه تطويل لا حاجة إلى تقدير المبتدأ. وقرئ بنصب الكاف بإضمار (ان) ، فتكون الآية الكريمة على الحثّ آكد ، وذكر بعضهم في وجه النصب أيضا أنّ الفعل الواقع بين الشرط والجزاء يجوز فيه الرفع والنصب والجزم لو وقع بعد الواو والفاء.

وكيف كان ، فالآيات الشريفة من أعلى درجات الفصاحة والبلاغة ، وهي تحثّ على الجهاد والهجرة في سبيل الله تعالى بأسلوب حسن ، تشوّق النفس إلى الثواب الجزيل المعدّ لهم ، وتحبط آمال المتقاعدين عن الجهاد والمستقرّين في دار الكفر وترك الهجرة منها ، وتبيّن سوء عاقبتهم.

وقد اشتمل قوله تعالى : (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) على وجوه من البلاغة :

منها : أنّ اختيار (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً) على (وَمَنْ يُهاجِرْ) ؛

١٨٢

للدلالة على أنّ من آثر الخروج والمهاجرة على الاستقرار ، يكون له هذا الثواب وإن كان ذلك خارج بيته ، وهو مزيد فضل لا يدانيه شيء.

ومنها : وضع (يدركه الموت) على (يمت) ؛ للدلالة على مزيد الرضا من الله تعالى ، وأنّ الموت هديّة منه عزوجل ، وهو السبب للوصول إلى ذلك الأجر الجزيل ، ويؤكّد ذلك مجيء (ثم) دون الواو ، ولبيان أنّ مرتبة الخروج من البيت دون هذه المرتبة.

ومنها : قيام قوله تعالى : (فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ) مقام (يثبه) ونحوه ؛ للدلالة على أنّ هذا الثواب لازم وثابت عليه ؛ وفاء لما عهد على نفسه.

ومنها : اظهار اسم الجلالة لبيان أنّ الأجر عظيم لا يدرك كنهه ولا حقيقته أحد ، لأنّه وقع على الذات الأقدس.

ومنها : أنّ سياق الآية الشريفة يدلّ على لطف الله تعالى بهؤلاء الّذين أدركهم الموت بعد انقطاعهم عن الوطن والأهل ، فإنّه تعالى هو الّذي يعطيهم الأجر ويتكفّل جزاءهم لطفا بهم وعطفا عليهم بسبب انقطاعهم إليه ، ومثل هذا التعبير لم يرد إلّا في بعض الطاعات كالصوم ، فإنّه ورد فيه : «الصوم لي وأنا أجزئ به» ؛ لأنّ في الصوم مزيد الانقطاع إلى الله تعالى والإعراض عن الملذّات.

هذا بعض ما يمكن أن يقال في هذه الآية الشريفة الّتي هي في غاية الفصاحة ، فسبحان من جلّت آياته.

بحث دلالي :

تدلّ الآيات المباركة على أمور :

الأوّل : تدلّ الآيات الكريمة على عظيم الفضل للجهاد والمنزلة الكبرى له ؛ لأنّ به يقام دين الله تعالى ويبسط العدل وينشر الحقّ ويبثّ الصلاح والإصلاح.

١٨٣

وبه يذلّ الكفر والشرك ، ويزال الظلم والعدوان ، وتخذل كلمة الكفر ، وتطهر الأرض من الفساد.

والآيات الشريفة بأسلوبها اللطيف ومضمونها الرفيع وفصاحتها الكاملة قد اقترنت بأمور جعلتها من أهمّ الآيات الّتي ترغّب إلى الجهاد وتنشّط عليه وتحفز الهمم إليه وتنفّر النفوس من القعود عنه ، والتكاسل والتواكل منه ، فقد نفى عزوجل المساواة بين المجاهدين والقاعدين غير أولي الضرر ، من غير أن يبيّن جلّ شأنه جهة التفاوت صريحا ليذهب ذهن السامع أي مذهب.

وقدّم تعالى القاعدين لبيان أنّ فيهم جهة القصور لا من جهة مقابليهم ، ثمّ اردفه ببيان فضل المجاهدين وأنّه درجة ، ثمّ بيّن عزوجل أنّه درجات وأنّ فيه فضلا زائدا ، فكان المجاهدون هم المفضّلين ابتداء.

كما أنّه عزوجل قيّد المجاهدين بقوله : (فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) ، ثمّ بقوله : (بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) ، ثمّ أطلقه عزوجل من غير تقييد ، كلّ ذلك لأجل التفنّن في العبارة ، والحثّ والتحريض ، وبيان هذا الأمر العظيم بأسلوب حسن يقبله الطبع ؛ لأنّ بذل أعزّ الأشياء عند الإنسان أمر ليس بالهين اليسير.

وبالجملة : الآية المباركة صريحة الدلالة على أفضليّة الجهاد ، وأنّ فيه الأجر العظيم ، وللمجاهدين منازل ودرجات في الآخرة ، وأنّ لهم مقام القرب عند الله عزوجل.

الثاني : يستفاد من قوله تعالى : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) أنّ جهة التقصير إنّما كان من جهة القعود عن الجهاد ، ولعلّه السبب في عدم الاستواء بينهم وبين المجاهدين. ويفهم من تقييد القاعدين بكونهم غير أولي الضرر أنّهم على قسمين : من لا ضرر به لكن قعد للإذن له في ذلك ، أو لقيام من فيه الكفاية ، ومن به الضرر الّذي يمنعه من الخروج ولولاه لخرج ، والآية الكريمة مع كونها صريحة الدلالة في نفي المساواة بين القسم الأوّل وبين المجاهدين ،

١٨٤

تتضمّن أيضا نفي المساواة في الثاني ، وقيّدهم بكونهم من المؤمنين ؛ لبيان أنّ قعودهم عن الجهاد لا يخرجهم عن الإيمان ، وللإشعار بقلّة استحقاقهم للثواب والعاقبة الحسنى في ما سيأتي.

الثالث : يستفاد من قوله تعالى : (وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) أنّ سبب استحقاقهم لهذا الفضل العظيم إنّما هو الجهاد ، وأنّ القعود إنّما كان عنه ، وقد ترك التصريح به في صدر الآية الشريفة رعاية للمجاهدين واهتماما بشأنهم وفضلهم على القاعدين وعلو رتبتهم ، كما يستفاد ذلك من القيود الاخرى.

وإنّما قيّده بكونه في سبيل الله تعالى ؛ لبيان أنّه السبب في فضلهم ورفع شأنهم ، كما يستفاد من القيود الاخرى أنّ لها المدخليّة في ذلك كلّه.

الرابع : يدلّ قوله تعالى : (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) على أنّ كلّ من به ضرر في البدن أو المال يسقط عنه الجهاد ، ويفسّره قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، فيشمل كلّ عاجز عن الجهاد وما يمنع عن الخروج إليه ، فلا يكون الجهاد واجبا عليهم.

الخامس : يدلّ قوله تعالى : (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) على أنّ الجهاد فرض كفائي ، وإلّا لما كان القاعد لا لضرورة معذورا ، ويدلّ عليه قوله تعالى : (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) ، فإنّ القاعد إذا وجب عليه الجهاد ويكون آثما ، لا معنى لوعد الله تعالى له بالحسنى.

السادس : يستفاد من تكرير التفضيل بطريق العطف المنبئ عن المغايرة ، وتحديده تارة بدرجة ، وأخرى بدرجات مع اتّحاد المفضّل والمفضّل عليه ـ كما هو ظاهر الآية ـ أنّ درجة المجاهدين بمحلّ لا يمكن أن تدركه العقول ؛ ولبيان الاختلاف الذاتي في الدرجات الّتي تشتمل على الرحمة والمغفرة والثواب الجزيل ؛ وللإعلام بأنّ المجاهدين يختلفون في نيل تلك الدرجات المتفاوتة.

١٨٥

السابع : يستفاد من قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً) على سؤال القبر وأنّ الملائكة تسأل عن دين الميت ، وتدلّ عليه جملة من الآيات الشريفة والنصوص الكثيرة ، قال تعالى : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ، ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [سورة النحل ، الآية : ٢٨] ، وقال تعالى : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [سورة النحل ، الآية : ٣٢] ، ويستفاد منها أنّ ظلم الإنسان نفسه يوجب السؤال والاستجواب وشدّة العتاب.

الثامن : يدلّ قوله تعالى : (ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) على وجوب الهجرة من بلاد الكفر والشرك إذا لم يمكن إظهار شرائع الله جلّ شأنه وإقامة أحكامه وفرائض دينه ، فإنّ الّذي يقعد عن هذا القسم من الجهاد ـ أي : الهجرة إلى دار الإسلام من دار الكفر ـ وهو قادر عليه ويعرّض نفسه للافتتان عن دينه ، والعجز عن إقامة شرايعه وإتيان فرائضه ، فهو ظالم لنفسه ، وأنّ التعلّل بأنّه كان مستضعفا لا يملك شيئا غير مفيد ؛ لأنّ ظلمه لنفسه كان لأجل تركه العمل بالحقّ خوفا من الأذى وفقد عشيرته وإعراضهم عنه ، فهو عذر باطل كما يتعذّر به كثير من الزيغ والمفسدين.

التاسع : يدلّ قوله تعالى : (كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ) في الأرض أنّ استضعافهم هذا كان ادعائيّا ، كما يدله عليه ذيل الآية الشريفة ، ويستفاد منه لو لم يكن بهذه المثابة كما لو كان له عشيرة تحميه من المشركين ويمكنه إظهار دينه ويكون آمنا على نفسه ، فإنّ المهاجرة غير واجبة عليه.

العاشر : يستفاد من قوله تعالى : (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) ، بيان لشروط المستضعفين في

١٨٦

القرآن الكريم ، وهي كون الإنسان ضعيفا في بدنه من جهة الكبر مثلا أو الصغر أو عدم القابلية كالنساء ، ففي الحديث : «علم الله ضعفهن فرحمهن» ، وعدم وجود حيلة يحتال بها للخروج ، كالمال والعدّة والصديق ونحو ذلك ، وعدم الاهتداء للطريق وسبل الصحارى والأرض ، أو عدم اهتداء ذهنه إلى التفكّر في المعارف الحقّة ، ولتزاحم المذاهب والأفكار أوجبت خفاء الحقّ عليه فلم يهتد إليه سبيلا ، فهو مستضعف لا يستطيع حيلة ، قد سلبته المذاهب مذهب الحقّ بأفكارهم وحيلهم ، فاستولى عليه الغفلة ووقع الجهل المركّب ، ومن المعلوم أنّه لا قدرة معه ، ولعلّه إلى ذلك يشير قول علي عليه‌السلام : «لا يقع اسم الاستضعاف على من بلغته الحجّة فسمعتها أذنه ووعاها قلبه».

الحادي عشر : يستفاد من قوله تعالى : (فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ) تعظيم أمر ترك الهجرة وتغليظ جرمه ، فإنّ المضطر من حقّه أن لا يأمن غضب الله تعالى ويسأله العفو عنه ، ويترصّد الفرصة ، فكيف بمن تركها من غير عذر.

الثاني عشر : إطلاق قوله تعالى : (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ) يشمل من خرج لمعرفة الإمام الحقّ وطلب الدين والتفقّه فيه والحجّ والزيارات أو ابتغاء الرزق الطيّب وطلب كلّ كمال لم ينه عنه الشرع المبين ، وغير ذلك ممّا يقصد بالذهاب إليه طلب مرضاته وامتثال أمره ، فإنّ المقصود مرضاته في أي مورد تحقّقت ، ويدلّ عليه جملة من الروايات ، منها ما رواه العياشي عن محمد بن أبي عمير قال : «وجه زرارة ابنه عبيدا إلى المدينة يستخبر له خبر أبي الحسن موسى عليه‌السلام وعبد الله ، فمات قبل أن يرجع إليه عبيدا ابنه ، قال محمد بن أبي عمير : «حدثني محمد بن حكيم قال : قلت لأبي الحسن عليه‌السلام : فذكرت له زرارة وتوجيه ابنه عبيدا إلى المدينة ، فقال أبو الحسن : إنّي لأرجو أن يكون زرارة ممّن قال الله تعالى : (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ)».

١٨٧

الثالث عشر : يدلّ قوله تعالى : (فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ) على أنّ العمل يوجب الثواب ، فيكون مستحقّا على الله تعالى ـ كما يذهب إليه علماؤنا بخلاف الأشاعرة ـ فإنّ الأجر عبارة عن المنفعة المستحقّة ، وأمّا الّذي لا يكون مستحقّا لا يسمّى أجرا ، بل عطيّة وهبة.

الرابع عشر : يستفاد من قوله تعالى : (يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً) أنّ الخروج إلى البلاد والمهاجرة في الأرض يستلزم ملاقاة أفراد كثيرين وأشخاص متعدّدين مختلفين من حيث ضيق المعاش والسعة فيه ، فيستدلّ بذلك على قدرة الله تعالى ، فيعلم أنّ ما يعتمد عليه الإنسان لتحصيل رزقه باطل عاطل ، ولا ينبغي الاعتماد إلّا عليه تعالى.

بحث روائي :

عن البيهقي في سننه عن ابن عباس : «أنّ أناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثّرون سواد المشركين على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فيأتي السهم يرمى به فيصيب أحدهم فيقتله ، أو يضرب فيقتل ، فأنزل الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ).

أقول : وفي رواية أخرى : «كان قوم من أهل مكّة أسلموا وكانوا يستخفون بالإسلام».

وكيف كان ، فإنّ ما أصابهم كان جزاء لنفاقهم ولإعانتهم للمشركين ، وأنّ الروايات من باب التطبيق وذكر أحد المصاديق وإن كانت التعبيرات فيها مختلفة ، وكلّها من طرق أهل السنّة.

وفي الدرّ المنثور عن ابن عباس في قوله تعالى : (الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) إلى قوله : (وَساءَتْ مَصِيراً) : «كانوا قوما من المسلمين بمكّة

١٨٨

فخرجوا مع قومهم من المشركين في قتال ، فقتلوا معهم ، فنزلت : (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ) ، فعذر الله أهل العذر منهم ، وهلك من لا عذر له ، قال ابن عباس : وكنت أنا وأمّي ممّن كان له عذر».

أقول : لا بدّ من حمل الرواية على أنّ العذر لم يكن عن تقصير ، وأنّه ممّا يقبله الله ورسوله ، كما تقدّم في التفسير.

وفي تفسير علي بن إبراهيم في الآيات المباركة قال : «نزلت في من اعتزل أمير المؤمنين عليه‌السلام ولم يقاتل معه ، فقالت لهم الملائكة عند الموت : فيما كنتم ، قالوا : كنّا مستضعفين في الأرض ، أي : لم نعلم مع من الحقّ؟ فقال : ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ، أي : في دين الله وكتاب الله واسع فتنظروا فيه ، (فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً) ، ثمّ استثنى فقال : (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً).

أقول : الرواية من باب التطبيق وذكر أحد المصاديق ، ويستفاد منها أنّ المستضعف الممنوع عن الهجرة أعمّ من أن يكون في العقيدة أو في غيرها ، والمراد من الأرض الأعمّ من التكوينيّة وغيرها.

وفي الكافي بسنده عن هشام بن حمزة بن الطيار قال : «قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : الناس على ستّة أصناف ، قلت له : أتأذن لي أن أكتبها؟ قال : نعم ، اكتب أهل الوعدين ، أهل الجنّة ، وأهل النار ، قال : اكتب : وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ، قلت : من هؤلاء؟ قال : وحشي منهم ، قال : واكتب : وآخرون مرجون لأمر الله إمّا يعذّبهم ، وإمّا يتوب عليهم ، قال : واكتب : المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا ، لا يستطيعون حيلة إلى الكفر ولا يهتدون سبيلا إلى الإيمان ، (فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ) ، قال : واكتب : وأصحاب الأعراف ، قلت : وما أصحاب

١٨٩

الأعراف؟ قال : قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم ، فإن أدخلهم النار فبذنوبهم ، وإن أدخلهم الجنّة فبرحمته».

أقول : الحصر في ذلك عقلي ، إذ لا يوجد صنف آخر غيرهم ، والاستدلال بالآيات المباركة من باب الجري والتطبيق كما تقدّم ، ووحشي هو قاتل حمزة عليه‌السلام وذكره من باب المثال.

وفي الكافي بإسناده عن زرارة قال : «وسألت أبا جعفر عليه‌السلام عن المستضعف؟ فقال : هو الّذي لا يستطيع حيلة إلى الكفر فيكفر ولا يهتدي سبيلا إلى الإيمان ـ لا يستطيع أن يؤمن ولا يستطيع أن يكفر ـ فمنهم الصبيان ومن كان من الرجال والنساء على مثل عقول الصبيان مرفوع عنهم القلم».

أقول : اختلفت الروايات في تحديد المستضعف وتعيينه ، فمنها ما حدّدته بضعفاء العقول ، كغالب الصبيان ، فإنّهم لا يميّزون الحقّ عن الباطل ، ولا الضلالة عن الهداية ، كما تقدّم في الرواية السابقة وغيرها من الروايات المستفيضة.

ومنها : ما حدّد المستضعف ب من لا يعرف سورة من القرآن ، كما في رواية ابن إسحاق قال : «سئل أبو عبد الله عليه‌السلام ما حدّ المستضعف الّذي ذكره الله عزوجل؟ قال : من لا يحسن سورة من سور القرآن ، وقد خلقه الله عزوجل خلقه ما ينبغي لأحد أن لا يحسن» ، والمراد من خلقه الفطرة ، يعني نزل القرآن حسب الفطرة المستقيمة.

ومنها : ما حدّدهم بالبلهاء ، كما في رواية سليمان بن خالد عن الصادق عليه‌السلام قال : «سألته عن المستضعفين؟ فقال : البلهاء في خدرها والخادم في خدرها تقول لها : صلّي ، فتصلّي لا تدري إلّا بما قلت له ، والكبير الفاني والصبي الصغير ، يا سليمان هؤلاء المستضعفون ، فأمّا رجل شديد العنق جدل خصم يتولّى الشراء والبيع لا تستطيع أن تعينه في شيء ، تقول : هذا مستضعف؟! لا ولا كرامة» ، والمراد من البلهاء ـ الّتي هي جمع أبله ـ الغافل عن الشرّ والبعيد عنه ، المطبوع على الخير ،

١٩٠

يظنون بالناس حسنا ، يجهلون حذق التصرّف في الدنيا ، وقد أقبلوا على آخرتهم ، عيشهم قليل الغموم ، يتجبّرون عليهم في الدنيا لفقرهم ورثاثة حالهم ، ولذلك استحقوا أن يكونوا أكثر أهل الجنّة ، كما ورد في الخبر : «أكثر أهل الجنّة البلهة» ، وما ذكره عليه‌السلام من بعض المصاديق ، وليس المراد الأبله الّذي لا عقل له ، وفي الحديث : «عليك بالبلهاء ، قلت : وما البلهاء؟ قال : ذوات الخدود والعفائف». والفرق بين السفه والبله واضح كما ذكرناه في كتابنا (مهذب الأحكام).

ومنها : ما حدّده بمن لا يعرف اختلاف الناس ، كما في رواية أبي بصير عن الصادق عليه‌السلام قال : «من عرف اختلاف الناس فليس بمستضعف» ، والمراد من اختلاف الناس معاشرتهم على طريق الشرع ، أو اختلاف مذاهبهم.

ومنها : ما حدّده بأهل الولاية على وجه العموم ، كما في رواية حمران قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله تعالى : (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ) ، قال : هم أهل الولاية. فقلت : أي ولاية؟ فقال : أما إنّها ليست بولاية في الدين ، ولكنّها الولاية في المناكحة والموارثة والمخالطة ، وهم ليسوا بالمؤمنين ولا بالكفّار ، وهم المرجون لأمر الله».

ولكن ذكرنا في التفسير أنّ المراد من المستضعف مطلق من لا حول له ولا سبيل ، سواء كان في النفس أو في البدن أو في الرأي أو في الحال ، ولجميع ذلك مراتب ، وبذلك يمكن الجمع بين الأخبار. فإنّ ما ورد فيها من باب ذكر المصاديق لا المعنى الحقيقي.

وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه‌السلام قال : «المستضعفين من الرجال والنساء لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا ، قال : لا يستطيعون سبيل أهل الحقّ فيدخلون فيه ، ولا يستطيعون حيلة أهل النصب فينصبون ، قال : هؤلاء يدخلون الجنّة بأعمال حسنة وباجتناب المحارم الّتي نهى الله عنها ، ولا ينالون منازل الأبرار».

١٩١

أقول : الرواية مطابقة للعقل والفطرة ؛ لأنّ الله تعالى لا يكلّف أحدا أكثر من قدرته وعرفانه ما لم يتحقّق تقصير منه فيهما ، وأنّ لله منازل حسب درجات الإيمان ومدارج الأعمال ، ويدلّ على ما ذكرنا رواية ضريس الكناسي عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «قلت له : جعلت فداك ما حال الموحّدين المقرّين بنبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله من المذنبين الّذين يموتون وليس لهم إمام ولا يعرفون ولايتكم؟ فقال : أمّا هؤلاء فإنّهم في حفرهم لا يخرجون منها ، فمن كان له عمل صالح ولم يظهر منه عداوة ، فإنّه يخد له خدا إلى الجنّة الّتى خلقها الله بالمغرب ، فيدخل عليه الروح في حفرته إلى يوم القيامة حتّى يلقى الله فيحاسبه بحسناته ، فإمّا إلى الجنّة وإمّا إلى النار ، فهؤلاء الموقوفون لأمر الله ، قال : وكذلك يفعل بالمستضعفين والبله والأطفال وأولاد المسلمين الّذين لم يبلغوا الحلم» ، والمراد من الخد : أنّه يشقّ له طريقا إلى الجنّة الّتي توارت في مغيبها عن الناظرين ، أي خلقها الله تعالى بالمغرب.

كما أنّ المراد من قوله عليه‌السلام : «يدخل عليه الروح في حفرته إلى يوم القيامة» ، نحو من الإدراك وقسم من الشعور الّذي تحسّ النفس ، يعني من بدء وضعه في حفرته تشعر الروح بالسعادة أو الشقاء. وتقدّم معنى البله ، وأمّا الأطفال فهم الموقوفون لأمر الله تعالى ، أي : يمتحنهم في يوم القيامة كما في كثير من الروايات.

وفي الكافي عن أبي الحسن موسى عليه‌السلام : «أنّه سئل عن الضعفاء؟ فكتب عليه‌السلام : الضعيف من لم ترفع له حجّة ، ولم يعرف الاختلاف ، فإذا عرف الاختلاف فليس بضعيف».

أقول : هذه الرواية تدلّ على ما ذكرناه سابقا.

وعن علي عليه‌السلام في كلام له في الإيمان ووجوب الهجرة : «والهجرة قائمة على حدّها الأوّل ما كان لله في أهل الأرض حاجة من مستسرّ الأمّة ومعلنها ، لا يقع اسم الهجرة على أحد بمعرفة الحجّة في الأرض ، فمن عرفها وأقرّ بها فهو مهاجر ، ولا يقع اسم الاستضعاف على من بلغته الحجّة فسمعتها أذنه ووعاها قلبه».

١٩٢

أقول : يبيّن عليه‌السلام غرض الهجرة ومعناها ، وأنّ من أراد الفوز بمعارج اليقين والنيل إلى أعلى مراتب الإيمان فليهاجر إلى أئمة الدين عليهم‌السلام ، فإنّ الهجرة باقية على أصولها الأوليّة وحدّها الّذي كان في أوّل البعثة ؛ لأنّ الغاية من الهجرة ليست إلّا الدنو إلى الحضور بالوصول إلى حضرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهي بعد باقية ، فإنّ الأئمة المعصومين قائمون مقامه وهم خلفائه. وليس لله في طلب الهجرة من عباده حاجة ؛ لأنّه الغني المطلق والعزيز المقتدر ، وإنّما طلب منهم ذلك لأجل إيصال النفع إليهم ونجاتهم عن المهالك والشدائد بالإيمان به والركون إليه جلّ شأنه ، ولا يقع اسم المهاجر إلّا بمعرفة حجّة الله في أرضه والإيمان به ـ سواء كان نبيّا أو وصيّا ـ لتحقّق الغرض ، وهو الوصول ، ويؤكّد عليه‌السلام ذلك من أنّ من بلغته الحجّة وعرفها لا يكون مستضعفا وإن لم يتجشم عناء السفر وكان في وطنه ، كما يدلّ على ذلك ما تقدّم من الروايات ، وما عن الصادق عليه‌السلام : «أنّه سئل ما تقول في المستضعفين؟ فقال شبيها بالفزع : فتركتم أحدا يكون مستضعفا ، وأين المستضعفون؟! فو الله لقد مشى بأمركم هذا العوانق إلى العوانق في خدورهن ، وتحدّثت به السقاآت في طريق المدينة» ، يعني : لا يسوغ له التقصير في الإيمان بالحجّة بعد الظهور والسماع والمعرفة لكلّ أحد ، فلا يقع عليه اسم الاستضعاف حينئذ. والعوانق جمع عنق الرقبة.

وفي الكافي بإسناده عن إسماعيل الجعفي قال : «سألت أبا جعفر عن الدين الّذي لا يسع العباد جهله؟ قال : الدين واسع ولكن الخوارج ضيّقوا على أنفسهم من جهلهم ، قلت : جعلت فداك فأحدّثك بديني الّذي أنا عليه؟ فقال : نعم ، فقلت : اشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمدا عبده ورسوله ، والإقرار بما جاء به من عند الله تعالى ، وأتولّاكم وأبرأ من أعدائكم ومن ركب رقابكم وتأمرّ عليكم وظلمكم حقّكم ، فقال : والله ما جهلت شيئا هو والله الّذي نحن عليه ، فقلت : فهل يسلم أحد لا يعرف هذا الأمر؟ فقال : لا إلّا المستضعفين ، قلت : من هم؟ قال : نساؤكم

١٩٣

وأولادكم. ثمّ قال : أرأيت أم أيمن؟ فإنّي اشهد أنّها من أهل الجنّة ، وما كانت تعرف ما أنتم عليه».

أقول : إنّها تدلّ على أنّ الدين يطيقه كلّ أحد وليس فيه ما يوجب الشدّة والحرج ، إلّا أنّ بعض الأقوام شدّدوا على أنفسهم بالضيق لجهلهم بواقع الدين ، فإنّ أصوله موافقة للفطرة ، وما كان كذلك لا ضيق فيه ، ولا يسلم أحد لا يعرف الدين إلّا المستضعفون الّذين لا سبيل لهم إلى المعرفة إلّا بمقدار إدراكهم ، كما تقدّم.

وفي معاني الأخبار بإسناده عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «إنّ المستضعفين ضروب يخالف بعضهم بعضا ، ومن لم يكن من أهل القبلة ناصبا ، فهو مستضعف».

أقول : والروايات في ذلك مستفيضة ، وإنّما لم يكن الناصب من المستضعف ؛ لأنّ النصب لا يتحقّق إلّا عن عناد وتقصير كما هو واضح ، وهناك روايات أخرى متّفقة المضمون مختلفة التعبير ، جار فيها ما ذكرناه.

وعن علي عليه‌السلام : «من مات في سبيل الله فهو ضامن على الله أن يدخله الجنّة ؛ لقوله تعالى : (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ)».

أقول : المراد من سبيل الله مطلق مرضاته وما يوجب التقرّب إليه ، سواء كان في طلب العلم والكمال أو الجهاد في سبيله أو في السفر إلى الحج أو الخروج لأجل صلة الرحم أو غير ذلك ، فهو تعالى ضامن ، أي : يتكفّل أن يدخله الجنّة ويعطيه الأجر الجزيل ؛ لأنّ ذلك نوع من الهجرة إليه تعالى ، الّتي تلازم السعادة الأبديّة والعاقبة الحميدة.

وفي المجمع عن أبي حمزة الثمالي قال : «لما نزلت آية الهجرة سمعها رجل من المسلمين وهو جندب بن عمرة وكان بمكة ، فقال : والله ما أنا ممّن استثنى الله ، إنّي لأجد قوة وإنّي لعالم بالطريق ، وكان مريضا شديد المرض فقال لبنيه : والله ما أبيت

١٩٤

بمكّة حتّى أخرج منها ، فإنّي أخاف أن أموت فيها ، فخرجوا يحملونه على سرير حتّى إذا بلغ التنعيم مات ، فنزلت الآية».

أقول : ذكر الواقدي في أسباب النزول أنّ المهاجر كان حبيب بن حمزة ، والسيوطي في الدرّ المنثور : جندع بن حمزة أو رجل من بني ليث أو أكثم.

وكيف كان ، فالمورد إمّا من باب التعدّد في القضية ، أو اختلاف الاسم ، فمهما كان فما ورد في تلك الروايات إنّما هو من باب التطبيق والجري ، لا التخصيص.

وفي الدرّ المنثور عن ابن زيد قال : «هاجر رجل من بني كنانة يريد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فمات في الطريق فسخر به قوم واستهزءوا به ، وقالوا : لا هو بلغ الّذي يريد ، ولا هو أقام في أهله يقومون عليه ويدفن ، فنزل القرآن : (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ)».

أقول : الرواية إمّا من باب التطبيق ، أو من باب تعدّد النزول ، ولا إشكال فيه كما تقدّم. وهناك روايات أخرى متّفقة المضامين ومختلفة التعابير ، كلّها تدلّ على أنّ الهجرة هي الحجّة البالغة للإنسان ، سواء وصل إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أو لم يصل ، وسواء خرج معه صلى‌الله‌عليه‌وآله الى الجهاد أو لم يخرج ، فقد روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أنّه لما رجع من غزوة تبوك ودنا من المدينة قال : إنّ في المدينة لأقواما ما سرتم من مسير ولا قطعتم من واد إلّا كانوا معكم ، قالوا : يا رسول الله وهم بالمدينة! قال : نعم وهم بالمدينة حبسهم حابس العذر. وهم الّذين صحّت نياتهم وتعلّقت قلوبهم بالجهاد ، وإنّما منعهم عنه الضرر».

وفي تفسير العياشي عن أبي الصباح قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ما تقول في رجل دعي إلى هذا الأمر فعرفه وهو في أرض منقطعة ، إذ جاءه موت الإمام عليه‌السلام ، فبينما هو ينظر إذ جاءه الموت ، فقال : هو والله بمنزلة من هاجر إلى الله ورسوله فمات ، فقد وقع أجره على الله».

أقول : الرواية تدلّ على ما ذكرناه كما مرّ ، وهي مطابقة لما دلّ من أنّ الناس يحشرون حسب نياتهم.

١٩٥

بحث عرفاني :

الهجرة وهي الانتقال والرحيل سواء كان من الوطن إلى غيره أو من حال الى غيرها. وإنّها من أكمل الصفات الحسنة وأجلّها إن كانت ناشئة من الحبّ الحقيقي الواقعي لله سبحانه وتعالى والانقطاع إليه جلّ شأنه ، وبها يحصل الودّ والحبّ له عزوجل ، ومنه تعالى لعبده.

بل أنّ الهجرة من الفناء في ذاته جلّت عظمته ؛ لأنّ بها يخرج الإنسان عن ذلّ ما توطّن فيه من الصفات الذميمة ويبعد عن المعاصي ـ الّتي تحصل عن الأهواء الشيطانيّة ـ كالكبر والحسد والبطر والجهل وغيرها.

وبالهجرة يفوز الإنسان وينال الكمالات بأنواعها وأقسامها الظاهريّة والمعنوية ، فعن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوّجها فهجرته إلى ما هاجر إليه».

وبالهجرة يرتقي الإنسان عن حدود البشريّة في طلب حضرت الربوبيّة إلى منتهى السعادة بصفاء القلب وتزكيته والعروج إليه جلّت عظمته ؛ لأنّ البقاء والسكون فيها الّذين لا يرضاهما تعالى من آثار الحجب والبعد عن ذاته المقدّسة والقرب من الشيطان.

وبها يستغني المهاجر عن ما سواه تعالى ، ويذوق لذّة العبوديّة لله جلّ شأنه ، وينال شرفها بالخضوع الحقيقي له عزوجل. فالهجرة الواقعيّة من أسمى الصفات الكريمة وأجلّ الكمالات الواقعيّة وأرفع المنازل العظيمة ، وأشرف الحقائق بل هي غاية السير والسلوك إليه عزوجل ؛ لأنّها مبايعة الله تعالى مع عبده بالهجرة إليه عزوجل.

١٩٦

أقسام الهجرة :

للهجرة أقسام مختلفة تنشأ من علو الهمّة الّتي هي تختلف باختلاف الأشخاص ومراتب الإيمان ومنازل الأوطان :

الأوّل : الهجرة من الوطن إلى غيره لنيل الدنيا ، فإنّ هجرته إلى ما هاجر إليه ، كما تقدّم عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا شرف فيها ، بل في التعبير بها تسامح ، والآيات الشريفة والسنّة المباركة بمعزل عنها.

الثاني : الهجرة بترك الأوطان والبعد عن الإخوان لنيل الكمال المنشود في رضائه تعالى بصحبة عالم عامل أو حكيم عارف أو معلّم مشفق. ولها مرتبة من الشرف ، وقد يحصل بها الرقي إلى المنازل الرفيعة والدرجات الساميّة ، وتسمّى بهجرة الأخيار.

الثالث : الهجرة من وطن الملك بالسعي في ترك جميع الحظوظ النفسانيّة للوصول إلى عالم الملكوت. أو من وطن المعصية إلى شرف الطاعة والسكون فيه بمعرفة الحقّ وتجليه له ، وهي من أكملها وأعلاها وتسمّى بهجرة الخواص ، وبها يبلغ المقصود ويخضع له ما في عالم المشهود لخضوعه الواقعي له عزوجل ، فعن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من انقطع إلى الله كفاه كلّ مؤنة ورزقه من حيث لا يحتسب» ، وقد تقدّم في التفسير مكرّرا أنّ الرزق أعمّ من الإفاضات الظاهريّة والمعنويّة.

الرابع : الهجرة من وطن الغفلة إلى شرف اليقظة ، أي : من وطن الحسّ إلى وطن المعنى بمكاشفة الأفعال ومشاهدة الصفات في ترك إقبال الخلق والعزل عن طلب الكرامة فيهم ، ولا ينال هذا القسم إلّا من امتحن الله قلبه بالإيمان.

وبهذه الهجرة ينال العبد أسمى صفات العبوديّة وأجلّها ، وهي كما عن الصادق عليه‌السلام : «العبوديّة جوهرة كنهها الربوبيّة» ، وبها يستغنى عن ما سواه تعالى ولا يعظم غيره عزوجل ، فعن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من كانت الآخرة نيّته جمع الله

١٩٧

عليه أمره وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا ، وهي صاغرة» ، وقال تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) ، وتسمّى هذه الهجرة بهجرة الأبرار.

الخامس : الهجرة من عالم الأشباح إلى عالم الأرواح ، أي من الأكوان إلى المكوّن ، وهي تختصّ بأخصّ الخواص ، وتسمّى بهجرة المقرّبين ومن أجلّها الإسراء والمعراج : (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) [سورة النجم ، الآية : ٤٢].

والجامع بين الأقسام الرحيل من علم اليقين إلى عين اليقين ، ومنه إلى حقّ اليقين ، أو من الشهود إلى المعرفة ومنها إلى المعاينة. فمن هاجر من هذه المواطن قاصدا بهجرته الوصول إلى حضرة المحبوب بنيل رضاه ، فقد بلغ أقصى مراتب السعادة وأشرف منازل الكرامة.

أسباب الهجرة :

تنشأ الهجرة النفسانيّة وعروج القلب إلى المشاهدة بتجاوز حدود البشرية من أسباب عديدة ، أهمّها المحبّة لله تعالى ، والغنى به جلّت عظمته ، والصدق في العبوديّة ـ بالاستسلام لما يورد عليه والاستعانة منه جلّ شأنه ـ واليقين في أحكام الربوبيّة ، بتزكية النفس ومخالفة هواها ؛ (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) [سورة الشمس ، الآية : ٩] ، ولكلّ من هذه الأمور مراتب ودرجات وحدود ، ولو لا قول نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «المؤمن ملجم» ، لكان لغور البحث فيها مجال.

آثار الهجرة :

لكلّ من أقسام الهجرة آثار تختلف حسب الهجرة الّتي هاجرها المهاجر ، بهجران الصفات الرذيلة وتبديل الأخلاق الفاسدة بالحسنة وترك الحظوظ النفسانيّة وقهر الهوى بالمقامات العالية ، فقد ينقّى الأثر بالرقي إلى مكارم الأخلاق ،

١٩٨

والوصول إلى أقصى مراتب الكمال بسعادة الدارين ، ونيل رضاه عزوجل ، ويبلغ القصد بالشهود بشرف العبوديّة في السير والسلوك حتّى لا يحتاج إلى دليل وبرهان في إثبات صفات الجمال والجلال ، تبعا للهجرة الموصلة إلى المطلوب ، بل قد ينال من الحياة الأبدية في هذه النشأة ، كما ورد في شأن بعض الخواص من أصحاب الصادق عليه‌السلام.

ولو مات المهاجر قبل أن يصل إلى مراده ومسعاه ، فله نصيب من بلغ إلى ذلك المقام ، ففي الأثر : «أنّ المؤمن إذا مات ولم يحفظ القرآن ، أمر حفظته أن يعلموه في قبره حتّى يبعثه الله يوم القيامة مع أهله» ، وقد ثبت في محلّه أنّ الرقي في عالم البرزخ موجود لأهله. وأمّا قوله تعالى : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى) [سورة الإسراء ، الآية : ٧٢] ، إنّما هو بالنسبة لمن لا معرفة له أصلا ، لا من انكشف عنه الغطاء بالهجرة وارتفع العمى والحجاب بالسير والسلوك إلى حضرة الربوبيّة في رضاه تعالى برؤية آثاره وصفاته جلّت عظمته. وأمّا قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إذا مات ابن آدم انقطع عمله» ، هذا بالنسبة إلى أعماله الخارجيّة وأمّا بحسب فضله تعالى فلا يتصوّر فيه حدّ حتّى ينقطع ، والمهاجر الحقيقي كان من نيته دوام الهجرة والتوطّن في المقامات العالية ؛ ولأجل ذلك أضاف جزاءه إلى نفسه الأقدس بقوله تعالى : (فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ) ، ويدلّ على ما ذكرنا قوله تعالى في القدسيات : «لا يسعني أرضي ولا سمائي ، وإنّما يسعني قلب عبدي المؤمن».

موانع الهجرة :

وهي العوائق الموجودة في النفس ، المستندة إلى الأهواء الشريرة المتوطّنة في النفس البشرية الحاصلة من الوساوس الشيطانيّة ، كالتخويف بالموت أو الفوت أو المحبّة لما سواه تعالى من الأهل والمال والجاه ، فهذه حجب شيطانيّة تمنع عن الهجرة

١٩٩

بالسير والسلوك ، وتحجب عن مشاهدة التجلّيات وهو جمال الحقّ ، فحسن الأعمال نتائج حسن الأحوال من صلاح القلب والتوجّه إلى الله ، وبذلك تصلح الهجرة والرحيل ، (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ) ، أي : بيت بشريته بترك الدنيا وقمع الهوى (مُهاجِراً) الى التقرّب به جلّ شأنه بمبايعة رسوله ، (ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ) قبل وصوله إلى مطلوبه ومسعاه ، (فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ) ، أي : بذمّة كرمه وفضله ورحمته فيبلغه إلى أقصى مقاصده إن كان المانع أجله ، «فإنّ نيّة المؤمن خير من عمله» ، و «يحشر الناس على نيّاتهم» ، هذا إذا لم يأت بما يوجب بطلان الهجرة والبعد عن تشرّف الوصلة بالتقرّب إليه ، (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) للذنوب خصوصا ذنب أنانيّة الوجود ، (رَحِيماً) بتجلّي صفة جوده حتّى يبلغ العبد إلى كمال مقصوده ومسعى غايته بمنّه وجوده وكرمه.

بحث فقهي :

يستفاد من الآيات الشريفة الأحكام الفقهيّة التالية :

الأوّل : يستفاد من قوله تعالى : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ) ، أنّ الجهاد واجب كفائي يسقط عن أولي الضرر ، وعمّن تقوم به الكفاية ، وإلّا لما كان القاعد لا لضرورة غير آثم ، ولما استحقّ الوعد الحسن ، وتدلّ الآية الكريمة وغيرها على أفضليّة الجهاد في سبيل الله تعالى ، والأخبار في ذلك كثيرة.

الثاني : يدلّ قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً) ، على وجوب المهاجرة من أرض لم يتمكّن فيها من إقامة الشريعة ، بلا فرق بين أن تكون الإقامة فيها موجبه

٢٠٠