مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٩

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٩

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٣
ISBN: 964-5665-08-6
الصفحات: ٣٩٦

ثمّ إنّه يلحق بالخطإ المحض من ألقى الشارع قصده كفعل الصبي أو المجنون ، وكذا يكون منه ما يصدر من النائم كالضرّة إذا انقلبت على غيرها فمات ، على تفصيل مذكور في كتب الفقه.

الثاني : مقتضى الآيات الشريفة أنّه لا يجوز في الموارد الّتي ثبتت الديّة القصاص ، وكذا العكس إلّا إذا رضي الطرفان بذلك ، فيشمله الأصل والإطلاق والعموم.

نعم ، لو لم يمكن القصاص في مورد ، تثبت الديّة لا محالة ؛ لقاعدة : «عدم ذهاب الجناية هدرا في الشرع».

الثالث : صريح قوله تعالى : (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) اعتبار الإيمان في الرقبة ، والمراد بالإيمان مطلق الإسلام ، أي الإقرار بالشهادتين ، فلا يشترط الإيمان بالمعنى الخاص ويكفي الطفل المتولّد من المسلم ؛ للإطلاق ، كما تقدّم في الفقه.

الرابع : لزوم الكفّارة والديّة في قتل الخطأ ، وأنّ الكفّارة مترتّبة ، وهي تحرير رقبة مؤمنة ، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين ، كما هو مقتضى (ما) والشرط الدالان على التعقيب ، والشهر أعمّ من الهلالي والعددي ، كما أنّ التتابع هو اتّصال أحدهما بالآخر ، وهو يحصل بصيام الشهر الأوّل واتّصاله بالثاني ولو بيوم واحد ؛ لأنّ المأمور به التابع بين الشهرين ، لا بين جميع أيّامهما ، ومع عدم القدرة على الصيام فإطعام ستين مسكينا.

الخامس : الديّة في القتل العمدي من مال القاتل نفسه ، وكذا دية القتل في شبه العمد ، وأمّا دية القتل في الخطأ المحض فهي على العاقلة ، ويدلّ على هذا التفصيل الأخبار الكثيرة الواردة عن الأئمة الهداة عليهم‌السلام ، كما ذكرناها في كتاب (مهذب الأحكام).

السادس : المقتول خطأ إن كان من قوم أهل الحرب وهو مؤمن ، فإنّه تجب الكفّارة فقط لأجل إيمانه ، ولا دية على قتله ، وإن كان من قوم معاهدين ـ سواء كانوا من أهل الكتاب أم غيرهم ـ لهم عهد فتجب الكفّارة والديّة ، كما لو قتل في

١٦١

دار الإسلام ، وتكون ديته لورثته المسلمين خاصّة إن وجدوا ، وإلّا فهي للإمام عليه‌السلام ، وعلى ذلك دلّت جملة من الروايات وقام الإجماع ، فتكون هذه الآية المباركة تخصيصا لأدلّة الديّة.

السابع : يستفاد من الآية المباركة أنّ الديّة لا بدّ وأن تؤدّى إلى ورثة المقتول ، يقتسمونها كسائر تركة الميت بعد قضاء الدين وتنفيذ الوصية منها ، كما فصّل في الفقه ، ولو لم يكن للميت وارث تكون الديّة للإمام عليه‌السلام ؛ لأنّه وارث من لا وراث له.

الثامن : يستفاد من الآيات الكريمة أنّ الديّة حقّ الورثة ، فيملكون إسقاطها بالعفو ؛ ولذا حثّ سبحانه وتعالى على العفو عنها ، وسمّي العفو صدقة ؛ تنبيها على فضله ، وأنّه «كلّ معروف صدقة» ، بخلاف الكفّارة في التحرير والصوم ، فإنّها حقّ الله تعالى ، فلا تسقط بعفو الأولياء بالصدقة وإسقاطهم لها.

بحث عرفاني :

من أجلّ الصفات الإنسانيّة وأسماها الإيمان بالله جلّت عظمته ، وهو انقياد النفس وخضوعها له تعالى بالالتزام بالشريعة والعمل بتكاليفه ، وللإيمان آثار أهمّها الزجر والجذب.

أمّا الزجر : فهو الانتهاء عمّا يدعو إليه الشيطان من الأعمال القبيحة والعقائد الفاسدة والأخلاق الرذيلة ، الّتي تصدّ الإيمان وتعوق عن رقي المؤمن بالتقرّب إليه تعالى ، كالرياء والعجب والبخل وغيرها ، وكذا الأعمال الّتي فيها الفساد ـ اجتماعيّا كان أو شخصيّا ـ كهتك الأعراض وسلب الأموال وإراقة الدماء من غير مبرر شرعي ، وكذا الأخلاق الرذيلة كالكبر ، والأنانيّة وغيرهما. فإنّ المرحلة الأولى من توجّه النفس وتربيتها تتوقّف على ترك تلك الأعمال القبيحة ، وطرد تلك العقائد الفاسدة والبعد عن الأخلاق الرذيلة.

١٦٢

ولذلك عبّر القرآن الكريم في القتل : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً) ؛ لأنّ الإيمان به تعالى بنفسه زاجر عن القتل العمدي ، فلا يليق بحال المؤمن أن يقتل مؤمنا ، وإذا عرض له قتل المؤمن من باب الاتّفاق ـ أي الخطأ ـ لأنّ الإنسان مجبول على أن يكون محلا لأن يعرض له الخطأ يتداركه بالكفّارة الّتي هي نوع من العقوبة لما حصل له من التقصير بترك الاحتياط الّذي صار سببا لفقد حياة فرد من أفراد المجتمع ، فيكون بذل المال بالتحرير نوعا من تربية النفس وتوجّهها إليه تعالى ، فإن لم يجد ذلك ولا يمكنه نيل هذه المرتبة من التزكية ، فلا أقل من ترك الدنيا والتوجّه إليه جلّ شأنه بالصوم ليذوق وبال خطيئته ، قال تعالى : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ* وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ* فَكُّ رَقَبَةٍ* أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ) [سورة البلد ، الآية : ١٤] ، ولذا قال علماء السير والسلوك : إنّ أوّل قدم السالك أن يخرج من الدنيا ما فيها ، وثانية أن يخرج من النفس وصفاتها.

وأمّا الجذب : فهو القابلية للنيل إلى المقامات الّتي تحصل بها العبوديّة المحضة ومنتهى التقرّب إليه جلّت عظمته ، بل الفناء في سبيله الّذي يتحقّق بالخلع عمّا سواه تعالى. ولهما مراتب كثيرة جدا ، ولكلّ مرتبة منها درجات حتّى تحصل المثليّة ، كما في بعض الروايات الواردة في النوافل ، والغور في البحث مستلزم الخروج عن الموضوع ، ولم أر من يليق بذلك في زماننا هذا.

وبهما يتمّ الإيمان ، وفي إحداهما ـ أي الزجر ـ دون الآخر لا يتحقّق الإيمان وإن اتّصف ذلك بالحسن ، فإن ترك القتل حياء أو لأجل القوانين الوضعيّة في حدّ نفسه حسن ، ولكن لا يترتّب عليه الأثر المترتّب على الإيمان ، وكذا البعد عن الصفات الذميمة أو التخلّق بالأخلاق الحسنة لو حصلا من الكافر ، فإنّه في حدّ نفسه متّصف بالحسن ، وقد يترتّب عليه الأثر الوضعيّة المترتّبة على ذلك ، ولكن الأثر الخاص المنبعث من الإيمان بالله تعالى لا يترتّب عليه ، كما تقدّم في أحد مباحثنا السابقة.

١٦٣

(لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (٩٥) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٩٦) إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (٩٧) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (٩٨) فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً (٩٩) وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٠))

الآيات الشريفة بأسلوبها البليغ ومضمونها الرفيع ترغّب المؤمنين إلى الجهاد وتحثّهم عليه ، وتأمرهم بالهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام.

كما تبيّن علو درجات المجاهدين على القاعدين عن الجهاد ، والراضين بالقرار في أرض الشرك دون الهجرة إلى دار الإسلام مع القدرة عليها. وسمّاهم القرآن الكريم ب «الظالمين» لأنّهم رضوا بالظلم ، واستثنى المستضعفين الّذين لا حيلة لهم واقعا فعجزوا عن الهجرة.

ويستمر سياق الآيات المباركة في التشجيع على الهجرة من دار الكفر إلى

١٦٤

دار الإسلام ، وعدم الرضا بالظلم وببعث الطمأنينة في قلوبهم إذا خافوا الفقر ، فإنّ الله تبارك وتعالى يبسط الرزق عليهم ويجزل العطاء لهم ويغفر لهم خطاياهم ، فكانت الآيات الكريمة تتحدّث في موضوع واحد ، وهو موضوع القتال والجهاد في سبيل الله تعالى ، وإنّما أضاف عزوجل على ذلك الهجرة من دار الكفر الى دار الإسلام ؛ لأنّ ذلك نوع خاص من الجهاد أيضا.

التفسير

قوله تعالى : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ).

حثّ على الجهاد بأسلوب بليغ ، وتحريض عليه بعبارات فصيحة ليأنف المؤمنون عن تركه ويرغبوا في ما يترتب عليه من الأجر الكبير والهدف السامي العظيم ، فإنّ في الجهاد في سبيل الله تعالى إقامة الدين ونشر العدل ، وبسط الحقّ ، وتطهير الأرض من الظلم والفساد ، ولأجل ذلك لا يستوي القاعدون من المؤمنين ـ الّذين ليس فيهم عذر ومانع عن القتال والجهاد ـ والمجاهدون في سبيل الله تعالى ؛ لعلو درجة الجهاد في سبيل الله عزوجل وشرفه وبعد منزلته ، فإنّ فيه الهداية إلى الله الّتي هي أشرف الغايات وأنبل الأهداف ، فلا يحدّه شيء ولا يصل إلى درجته أمر.

وهذه القضية فطريّة كشف عنها القرآن الكريم بعد أن طمستها الذنوب والآثام ودياجير الظلم والمادّة ، كما هو الشأن في كثير من القضايا الفطريّة. وقد كان من شأن الأنبياء عليهم‌السلام تذكير الإنسان المادّي بمنسي الفطرة لينهض عن سباته ونومه ويرجع إلى رشده.

١٦٥

والمراد بالضرر في المقام الموانع الّتي تمنع المؤمن من القتال ، كالعمى والعرج والمرض وغير ذلك ممّا ورد في قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) [سورة الفتح ، الآية : ١٧] ، وقد شرحتها لسنّة الشريفة أيضا.

قوله تعالى : (وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ).

أي : لا يكون القاعدون مساوين للمجاهدين في سبيل الله تعالى ، الّذين يبذلون أموالهم وينفقونها في سبيله تعالى للاستعداد بالجهاد وما يوهن كيد الأعداء والظفر بهم ، ويبذلون أنفسهم للقتال وحملاتها للكفاح عند لقاء الله عزوجل.

وإنّما أخّر سبحانه وتعالى المجاهدين في الذكر ؛ إيذانا بأنّ القصور في عدم الاستواء إنّما هو من جهة القاعدين ، لا من جهة المجاهدين ؛ وللتصريح بتفضيلهم على القاعدين.

وإنّما قدّم عزوجل ذكر الأموال على الأنفس وعكس في قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) [سورة التوبة ، الآية : ١١١] وغيره كما مرّ ؛ لأنّ النفس أشرف من المال ، فقدّم المشتري النفس للتنبيه على أنّ الرغبة فيها أشدّ وأكثر. وأخّر في المقام ؛ لأنّ في البيع تكون المماكسة فيها أشدّ ، فلا يرضى ببيعها إلّا مع فائدة جليلة.

قوله تعالى : (فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً).

بيان لجهة عدم الاستواء بين المجاهدين والقاعدين غير أولي الضرر ، وهي أنّ الله تعالى رفع المجاهدين درجة لا يعرف كنهها ولا قدرها ، فالمجاهدون لهم الفضل على القاعدين.

وتنوين الدرجة للتفخيم ، ونصبها على المصدرية لتضمّنها معنى التفضيل ووقوعها موقع المرّة ، مثل أن يقال : فضّلهم تفضيلا.

١٦٦

قوله تعالى : (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى).

أي : أنّ كلا الفريقين وعدهم الله تعالى المثوبة الحسنى وهي الجنّة ؛ لإيمانهم وحسن عقيدتهم وخلوص نيّتهم ، وإن اختلفا في الفضيلة والدرجة ، فإنّه لا يساوي القاعدون المجاهدين أبدا ، كما تدلّ عليه الآية الشريفة التالية.

ومن ذلك يعرف أنّه لا وجه لحمل القاعدين في هذه الآية الكريمة على التاركين للخروج إلى القتال عند ما لا حاجة الى الخروج ، لخروج غيرهم على حدّ الكفاية ، فإنّه خلاف ظاهر الآية الشريفة ، بل تدلّ على الوعد الجميل للمؤمنين جميعهم ، القاعدين والمجاهدين ؛ لئلّا تحصل لهم حالة الإحباط والكسل ، والمقام يستدعي إيقاظ الهمم والتحريض على القيام بأمر الجهاد والمسارعة إليه والتسابق فيه ، ولا ينافي تقديم إحدى الطائفتين على الاخرى.

قوله تعالى : (وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً).

تحريض آخر ، وفيه التأكيد وبيان لقوله تعالى : (دَرَجَةً) ، وإنّما ترك عزوجل القيود الّتي ذكرها في ما تقدّم لإغناء حرف التعريف في «المجاهدين» عنها.

أي : فضّل الله تعالى المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين من غير أولي الضرر أجرا عظيما.

وفي الآية الشريفة تأكيد آخر إلى الجهاد في سبيل الله تعالى ، بعد وعد الله عزوجل الكلّ المثوبة والجزاء الحسن. وفيها الإشارة إلى عدم الاكتفاء بالوعد الحسن الّذي وعد الله المؤمنين به ، فإنّ للوعد منازل ودرجات ، ويتفاوت المؤمنون فيها ، ولا يمكن أن ينال تلك المنازل والدرجات العالية المتفاوتة إلّا بالجهاد الّذي به تقام أركان الدين والشريعة ويزهق الباطل ، فللمجاهدين الفضل العظيم ، والتقرّب الخاص ، والمنزلة الرفيعة ، فلا يستهان بهم لبذلهم أموالهم وأنفسهم في سبيله وإعلاء كلمة الله تعالى ، فلا ينبغي التكاسل في نيل تلك المقامات السامية ، ولا التهاون بالبعد عن الوصول إلى تلك الدرجات العظيمة ، فإنّ الإيمان الكامل لا

١٦٧

يتحقّق إلّا بالجهاد ـ الأكبر منه أو الأصغر ـ لأنّ شرف النيل إلى جنّة المعارف أو جنّة الزخارف ، لا يحصل إلّا به.

قوله تعالى : (دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً).

تفصيل بعد إجمال ، وبيان للأجر العظيم الّذي فضّل الله تعالى المجاهدين به على القاعدين ، أي : أعطى الله تعالى المجاهدين أجرا عظيما ، ومفضّلا إيّاهم على القاعدين بدرجة عظيمة. وهذه الدرجة متفاوتة لها مراتب ، فليست هي منزلة واحدة ودرجة فريدة ، بل منازل ودرجات كثيرة ، هي مركبة من المغفرة والرحمة ، فإنّ كلّ ما يفاض على العبد في الدنيا والآخرة هو من مظاهر رحمته الواسعة ، ولا يمكن النيل به أبدا إلّا بإزالة الموانع والحجب ، وهي لا تحصل إلّا بالمغفرة ، كما أنّ تلك المنازل المتفاوتة هي رحمة إلهيّة ، وهذا هو السبب في اقتران المغفرة مع الرحمة في مواضع متعدّدة من القرآن الكريم ، قال تعالى : (مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) [سورة المائدة ، الآية : ٩] ، وقال تعالى : (وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا) [سورة البقرة ، الآية : ٢٨٦] ، وقال تعالى : (وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) [سورة الأنفال ، الآية : ٤] ، وقال تعالى : (وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ) [سورة الحديد ، الآية : ٢٠].

واختلاف هذه الآيات الشريفة في الإبهام والتفسير ، والإجمال والبيان فيه من اللطف ما لا يخفى ، وهو من أحد وجوه البلاغة ، فإنّه عزوجل قيّد المجاهدين في الآية الأولى بقوله تعالى : (فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) ، كما قيّد عزوجل في الآية التالية بها أيضا ، بينما أطلق عزوجل المجاهدين في الموضع الثالث ولم يقيّده بشيء ، ومع ذلك فقد ذكر عزوجل عدم استواء القاعدين مع المجاهدين ، وذكر أنّ التفضيل إنّما هو درجة ، ثمّ ذكر أخيرا أنّها درجات منه ومغفرة ورحمة.

والوجه في ذلك أنّ الكلام في الآية الأولى مسوق لبيان فضل الجهاد على القعود ، وبيّن عزوجل أنّ الفضل للجهاد إذا كان في سبيل الله تعالى وبذل أعزّ الأشياء عند الإنسان وهو المال ، وببذل ما هو أشرف وأعزّ من الأوّل وهو النفس

١٦٨

والروح ؛ ولأجل ذلك ذكر عزوجل بما يرفع اللبس والإبهام ، فقال تعالى : (وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) ، ثمّ ذكر عزوجل : (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) ؛ لمسيس الحاجة إلى ذكره ، ولما انتفت لم يذكر القيود في قوله تعالى : (وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً) ، واكتفى بالتعريف في المجاهدين ، وإنّه بمنزلة ذكر تلك القيود.

وأمّا ما ذكره عزوجل في الآية الأولى من إطلاق الدرجة ، فهو يدلّ على أنّ التفضيل من حيث الدرجة والمنزلة وهي مبهمة ، وهي على إبهامها فيه تفخيم تلك الدرجة وتعظيمها ، وقد رفع هذا الإبهام قوله تعالى : (دَرَجاتٍ مِنْهُ) ، وهو يبيّن قوله تعالى : (أَجْراً عَظِيماً) ، فالمستفاد من المجموع أنّ التفضيل كان في درجة عظيمة ، وأنّ فيها منازل ولها درجات من المغفرة والرحمة ، وهي الأجر العظيم الّذي يثاب به المجاهدون.

ومن ذلك يعرف أنّه لا تناقض ولا إبهام في الآية الشريفة ، وإنّما هي في أعلى درجات الفصاحة ، وقد ذكر المفسّرون في بيان هذه الآيات وجوها لا تخلو من المناقشة.

منها : أنّ المراد بالدرجة في صدر الآية المباركة ، المنزلة عند الله تعالى الّتي هي أمر معنوي ، والمراد بالدرجات ، المنازل في الجنّة وهي حسيّة.

ومنها : أنّ المراد بالدرجة في الآية الأولى المنزلة الدنيويّة ، كالغنيمة وحسن الذكر ونحوهما ، وبالدرجات المنازل الأخرويّة ، وهي أكبر بالنسبة إلى الدنيا ، فكانت درجات.

ومنها : أنّ المراد بالتفضيل في صدر الآية الكريمة تفضيل المجاهدين على القاعدين أولي الضرر ، وفي ذيل الآية الشريفة تفضيل المجاهدين على القاعدين غير أولي الضرر بدرجات.

١٦٩

قوله تعالى : (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً).

تأكيد لما وعد به آنفا من المغفرة والرحمة للمجاهدين ، فهو تعالى غفور لمن يستحق المغفرة ، ورحيم بمن يتعرّض لنفحات رحمته بإعطاء الثواب ومزيد الفضائل والعطايا ورفع الدرجات. ولا يخفى مناسبة الاسمين الشريفين لمضمون الآية الكريمة السابقة.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ).

بيان حال القاعدين عن الجهاد والمعرضين عن الهجرة.

والوفاة أخذ الشيء وافيا تامّا ، والمراد بها قبض الروح عند الموت ، وتقدّم الكلام في اشتقاق الكلمة في قوله تعالى : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) [سورة آل عمران ، الآية : ٥٥] ، ولفظ «توفّاهم» يحتمل أن يكون ماضيا ، كما يحتمل أن يكون مضارعا فيكون أصله (تتوفاهم) ، نظير قوله تعالى : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ) [سورة النحل ، الآية : ٢٨] ، وقوله تعالى : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [سورة النحل ، الآية : ٣٢] ، وحذفت أحد التائين من اللفظ تخفيفا ، ولا يضرّ التذكير والتأنيث ، لجواز كلّ واحد منهما في المقام.

وإنّما نسب الوفاة إلى الملائكة ؛ لأنّهم المباشرون في قبض الأرواح بعد أمر الله تعالى ، فلا ينافي قوله تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) [سورة الزمر ، الآية : ٤٢] ، فإنّ الفعل تارة ينسب إلى نفسه المقدّسة ، وأخرى : إلى الملائكة ، وثالثة : إلى ملك الموت ، قال تعالى مخاطبا رسوله الكريم : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) [سورة السجدة ، الآية : ١١] ، ورابعة : إلى الرسل والأعوان أو الملائكة كما تقدّم ، قال تعالى : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) [سورة الانعام ، الآية : ٦١]. والجميع صحيح ، فإنّ الله تعالى هو الآمر

١٧٠

والفاعل الحقيقي ، والملائكة والرسل والأعوان مباشرون قابضون للأرواح ، لكن السبب الكامل والعلّة التامّة هو الله تعالى.

والمراد بالظلم في المقام ظلم النفس بترك الهجرة في سبيل الله تعالى لنصرة الدين ، وترك إقامة شعائره عزوجل باختيار مجاورة الكفّار الّذين يمنعون من تعلّم معارف الدين والقيام بوظائف العبوديّة لربّ العالمين ، وبه يفسّر الظلم ، حيث يطلق كما في قوله تعالى : (أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ* الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً) [سورة الأعراف ، الآية : ٤٤ ـ ٤٥] ، وسورة هود ـ ١٩ ، فالمراد هو الإعراض عن دين الله تعالى وعدم نصرته وترك إقامته.

والمعنى : أنّ الّذين تتوفّاهم الملائكة بقبض أرواحهم حين استيفاء آجالهم ، حال كونهم ظالمين أنفسهم بترك الهجرة في نصرة الدين وتعلّم معارف سيد المرسلين وإقامة الشعائر ، فاختاروا المقام عند الكافرين والمشركين ورضوا بالذلّ والانظلام ، فلم يقدروا على القيام بوظائف العبوديّة ونصرة الدين.

قوله تعالى : (فِيمَ كُنْتُمْ).

أي : قالت الملائكة لهؤلاء الظالمين أنفسهم : في أي شيء كنتم من أمر دينكم ، ولما ذا تركتم إقامته.

وفي الآية المباركة من التوبيخ والإهانة للظالمين ما لا يخفى ، كما أنّها تدلّ على أنّهم لم يكونوا في شيء من الدين ، فكان الاستفهام توبيخا على شيء معلوم ، لا استعلاما عن شيء مجهول كما لا يخفى ، بل يمكن أن تكون الاستفهام للتقرير.

قوله تعالى : (قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ).

اعتذار منهم عن تقصيرهم في ترك الهجرة ونصرة الدين وإقامة شعائره ، وإن لم يكونوا على شيء من الدين ـ كما عرفت ـ فأجابوا بما يخفى حالهم ، فوضعوا السبب موضع المسبّب ، فقالوا : «كنّا مستضعفين في الأرض» الّتي كنّا نعيش عليها

١٧١

مقهورين من قبل الأعداء ، فلم نتمكّن من نصرة الدين وتعلّم معارفه وإقامة شعائره ، وعجزنا عن القيام بوظائف العبوديّة لسطوة الأعداء وشدّة فتكهم وقسوتهم واستضعافهم لنا. ولما كان الاستضعاف حاصلا من حيث إخلادهم إلى أرض الشرك وتسلّط المشركين على الأرض الّتي كانوا يعيشون فيها ، ولم تكن لهم هذه السلطة في أرض أخرى ، فلم يكونوا مستضعفين ، وإنّما حلّ بهم ذلك لتركهم الخروج والهجرة من أرض الشرك ، فردّت عليهم الملائكة ولم يقبلوا عذرهم ، فقالوا كما حكى عزوجل عنهم.

قوله تعالى : (قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها).

أي : أنّ عذركم مردود عليكم بترك الهجرة ، فلم تحرّروا أنفسكم من الذلّ والظلم بالهجرة في أرض الله الواسعة ، فترحلوا إلى أرض أخرى يمكنكم فيها إقامة الشعائر عليها ، فالاستفهام للتوبيخ ، فإنّ استضعاف القوم لكم لم يكن هو الموجب للإقامة معهم ، بل كنتم قادرين على الخروج والخلاص من نير المذلّة.

وإنّما أضافت الملائكة الأرض إلى الله تعالى ؛ إيماء إلى أنّه عزوجل هيّأ لهم في أرضه سعة ومخرجا ، كما يشير إليه قوله تعالى : (وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً).

وقد وصف سبحانه الأرض بالسعة ؛ للإعلام بأنّهم السبب في لزومها لأنفسهم ، لا أنّ المشركين يسلبونها عنهم بالكلّية. كما أنّ في هذا التعبير توطئة للأمر بالهجرة من بعضها إلى بعضها ، حيث قال تعالى : (فَتُهاجِرُوا فِيها) ، فلو لم يكن كذلك لكان الأولى أن يقال : فتهاجروا منها.

قوله تعالى : (فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ).

بيان لجزاء القاعدين عن الهجرة والرضا بالفتنة في دار الشرك والكفر ، وتوعيد لهم بنار جهنّم ، كما أوعد بها الكفّار. وترتّب هذا الجزاء على فعلهم من

١٧٢

قبيل ترتّب المعلول على العلّة ، فإنّهم أوردوا أنفسهم موارد الهلاك في الآخرة ؛ لأنّهم رضوا بالظلم في الدنيا وظلموا أنفسهم بترك الهجرة ، وحرموا أنفسهم من خير الدنيا وخير الآخرة.

قوله تعالى : (وَساءَتْ مَصِيراً).

أي : بئست نار جهنّم وقبحت أن تكون مأوى ومصيرا ، فإنّ كلّ ما فيها سوء.

قوله تعالى : (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ).

استثناء عن حكم الآية الكريمة السابقة ، وبيان للمعنى الحقيقي للمستضعفين ، وردّ لما اعتذر به القاعدون في مساءلة الملائكة لهم بأنّهم مستضعفون ، فإنّهم غير صادقين فيه ، فقد تركوا الهجرة مع القدرة عليها وادّعوا الاستضعاف ؛ حرصا على أموالهم وأهليهم ، أو حرصا على أمنهم وسلامتهم ، أو حرصا على مكانتهم وجاههم.

والآية الشريفة تصوّر المستضعف تصوّرا دقيقا ، وتعطي المعنى الحقيقي له ، بحيث لا تدع مجالا لأيّ ادعاء آخر فيه.

والمستضعفون هم الّذين لا يقدرون على الهجرة لضعفهم ، كالولدان والنساء والشيوخ وسائر العجزة أو الضعفاء ، أو لعدم وجود السبيل والحيلة ، فهم يبحثون عن ذلك ، بل هم في وضع نفسي مضطرب وشعور مضطرم يختلف تماما عمّن يدّعي الاستضعاف ، الّذي هو في حالة الدعة والرضى والاستكانة حرصا على الدنيا وشيء من متاع الأرض ، كما عرفت.

قوله تعالى : (لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً).

مادة (حيل) تدلّ على الحركة والاضطراب والتخيّر للتخلّص من شيء أو تحصيله ، أو ما يتوسّل به للحصول على شيء أو الاحتراز منه ، وغلب استعماله على ما يكون في خفاء وفي الأمور المذمومة.

١٧٣

وكيف كان ، فإنّ الآية الشريفة تصوّر الحالة النفسيّة للمستضعفين بأنّهم قد ضاقت بهم الحيل وعميت عليهم الطرق ، فلم يهتدوا إلى سبيل وحيلة يمكنهم التوسّل بها إلى الخروج من دار الشرك وأرض الكفر والهجرة إلى دار السلام لإقامة الحقّ.

ولم يبيّن عزوجل تلك الحيل والسبل ، فهي إمّا المرض ، أو الزمانة ، أو الفقر ، أو الجهل بمسالك الأرض ، أو لا يهتدي إلى حيلة يدفع بها الكفر ، ولا يهتدي سبيلا الى الإيمان ، فهو لا يستطيع أن يؤمن ولا يكفر كالصبيان ، ولا يقدرون أن يحتالوا حيلة لدفع ما يتوجّه إليهم من استضعاف المشركين عن أنفسهم ، ولا يهتدون سبيلا للتخلّص منهم والفرار عنهم. وجميع هذه المعاني صحيحة ؛ لعموم الآية المباركة الشامل لكلّ الحيل الظاهريّة والباطنيّة.

والمستضعف على قسمين ، ادعائي وواقعي ، والثاني هو مورد العفو دون الأوّل ؛ لأنّه جلّ شأنه مطّلع على الواقعيّات ، فله العذر عن الهجرة ، ويجري حكم هذه الآية المباركة إلى يوم القيامة ، فمن تمكّن في هذه الأعصار من المسلمين من الخروج من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام وتعلّم معالم دينه والعمل بها ولم يفعل ، فهو من القسم الأوّل.

والسبيل الحسّي كالطرق ومسالك الأرض ، والمعنوي هو : كلّ ما يخلّصهم من أيدي المشركين من أنواع الحجج والمعارف ـ وقد ورد في بعض الروايات في الثاني ـ أو المانع الخارجي كالمرض والهرم وغيرهما ، قال تعالى : (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) [سورة التوبة ، الآية : ٩١] ، والنصيحة لهما هي الطاعة لهما سرّا وعلانية.

والآية الشريفة تدلّ على أنّ الجهل بدين الله تعالى وأحكامه المقدّسة إذا كان عن قصور وضعف ، ليس للمكلف فيه صنع ولا اختيار ، فهو عذر عند الله تعالى. أمّا غير ذلك فهو ظلم لا يقبله الله جلّ شأنه من أحد ولا يرضى به.

١٧٤

وقد شرّع الله تعالى الجهاد ـ الّذي هو من أفضل العبادات وأسماها ـ لردّ هذا الظلم ، وهو يختلف ، فتارة يكون مع أعداء الله تعالى في ساحة القتال ، واخرى يكون بالهجرة إلى دار الإسلام الّتي يقام فيها شريعة الله تعالى ولا يكون فيها ظلم ، فعدم تطبيق شريعة الله تعالى يعتبر عند الله ظلما ولا يمكن أن يرضى به عزوجل ، ومن يرضى به فهو ظالم لنفسه وله العذاب الأليم ؛ لما حرّم نفسه من نعمة العمل بالشريعة في الدنيا فأورد نفسه مورد الهلاك في الآخرة ، إلّا من أعيت به المذاهب وتقطّعت به السبل وأحاط به أعداء الله تعالى أعداء الحقّ واستضعفوه بالعذاب والفتنة ، أو كان مستضعفا بسيطرة الغفلة عليه ، فإنّها تسلب القدرة وتسدّ الأبواب عليه ، وقد ورد عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام : «الّذي لا يستطيع حيلة ويدفع بها عنه الكفر ، ولا يهتدي سبيلا إلى الإيمان ، فلا يستطيع أن يؤمن أو يكفر» ، وهو المستفاد من إطلاق الآية الشريفة الواردة مورد البيان للمستضعف ، الشامل لما هو الممنوع عنه بسطوة الكفّار والأعداء ، أو المغفول عنه لاستيلاء الكفر على الأفكار والعقول.

وبالجملة : كلّ ما يكون الفعل مستندا إلى فعل المكلف نفسه واكتسابه فهو غير معذور ، وأمّا إذا لم يكن كذلك فهو معذور ، ويدلّ عليه قوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٨٦] ، فالجهل عذر إذا لم يكن عن تقصير من المكلّف ، وإلّا فليس الجاهل معذورا ، ولا فرق في المعذوريّة بين أن تكون بسطوة جبّار كافر ، أو باستيلاء الغفلة عليه.

والحاصل : فإنّ المستضعف لا يطلق على من بلغته الحجّة وسمعتها أذنه ووعاها قلبه وفهمها وأمكنه إقامة دينه ، فمن كان كذلك فهو ليس بمستضعف وإن ادّعاه واعتبر نفسه منهم ، وإلّا فهو مستضعف.

قوله تعالى : (فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ).

بيان أنّ المستضعفين الموصوفين بما تقدّم من صفات العجز ، لا شيء عليهم ؛

١٧٥

لعدم كسبهم أمرا ، فهو تعالى يتفضّل عليهم بالعفو ؛ لعلمه تعالى بحقيقة ضعفهم وعدم قدرتهم ، ويعلم ما في ضمائرهم.

وذكر كلمة الإطماع (عسى) منه تعالى حتم ، لا سيما بعد تعقيبه بقوله عزوجل : (وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً) ، إلّا أنّ استثناء المستضعفين من الظالمين الّذين أوعدوا بالنار وسوء المصير يكفي في بعدهم وشقائهم ؛ لأنّهم حرموا أنفسهم من نيل السعادة ، فلا غنى لهم عن العفو الإلهي الّذي يمحو به أثر الشقاء ، كلّ ذلك كان سببا لذكر الله تعالى لهم ورجاء عفوه.

ويستفاد منه أنّ العفو مشروط بحسن النيّة وقصد الهجرة من أرض الشرك الى دار الإسلام ، الّتي يمكنه إقامة شعائر الله تعالى عليها ، فإنّ ترك الهجرة أمر خطير لا بدّ للمؤمن أن يعدّه ذنبا ، ويلزمه أن يتركه ، ويترصّد الفرصة في الهجرة ويعلّق قلبه بها أبدا.

قوله تعالى : (وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً).

تقرير لما سبق بأتمّ وجه وأحسن أسلوب ، أي : أنّ الله تعالى عفو كثير الصفح عن ذنوب عباده غفور ساتر عليهم ذنوبهم ، وهو يدلّ على أنّه تعالى يتفضّل على المستضعفين بالعفو والمغفرة ، وقد سبقت رحمته غضبه ، فله كامل العفو وتمام الغفران.

قوله تعالى : (وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً).

تشجيع على الهجرة ، وتحريض عليها بالاعتناء بها وتنشيط الهمم في استنباط الحيل لها بعد أن ندّد تعالى بالقاعدين وهم قادرون عليها ، فإذا كان في البين مخاوف في النفس بشأن الهجرة وأخطارها وأهوالها ، بأن لا يجد رزقا في المسير ، أو أن يدركه الموت في الطريق أو غير ذلك ، فإنّ الله تعالى يعطي الضمانات

١٧٦

الّتي تيسّرها في النفس وتجعل الإنسان مجدّا في عمله يقبل عليها بلا إبطاء ، ويكون مخلصا لله تعالى.

وقد وعد عزوجل في هذه الآية المباركة بأنّ المهاجر سوف يجد في الأرض سعة وبسطة ، والله هو الكفيل ما دامت الهجرة في سبيل الله تعالى ، وإذا وقع عليه الموت فإنّ الأجر يقع عليه عزوجل.

وسبيل الله تعالى ما أمر بسلوكه مطلقا ، سواء استلزمه تعظيم الشعائر وإبلاغ الأحكام ، أو لم يستلزم ذلك ، فقد أوجبت المهاجرة الخروج عن الضعف والإذلال ، ونيل رضاه جلّ شأنه.

وقد ذكر عزوجل في هذه الآية مخافة الضيق والفقر وعدم الرزق في مسيره ، كما ذكر المخافة الثانية : وهي الموت في الطريق في الآية التالية.

والمراغم من الرغام ، وهو التراب الرقيق ، ولم ترد هذه المادّة في الآيات الكريمة إلّا في هذه الآية الشريفة ، وأصله لصوق الأنف بالرغام مشعرا بالذلّ والهوان ، يقال : رغم أنف فلان رغما ، أو يقال : أرغم الله أنف فلان ؛ لأنّ الأنف من جملة الأعضاء في غاية العزّة ، والتراب في غاية الذلّة ، فجعل ذلك كناية عن الذلّة ، ويعبّر عنه بالسخط ، قال الشاعر :

إذا رغمت تلك الأنوف لم ارضها

ولم أطلب العتبى ولكن أزيدها

والمراغمة : المنازعة والمساخطة ، أي : ما يوجب سخطه ، فيكون المعنى : يجد في الأرض مخلصا من الضلال وممّا يوجب سخطه كثيرا ويصل إلى الخير والنعمة ، فكلّما منعه مانع من إقامة دينه ينتقل إلى تربة أخرى.

ويمكن أن يكون المراد بالمراغم في المقام الرقيق في السفر ، وإنّما عبّر تعالى بذلك لأنّ السفر خصوصا في الأزمنة القديمة كان ملازما للرغام والتعب والمشقّة ، وفي هذا التعبير تسلية للمهاجرين بأنّه لو أصابهم تعب ومشقّة ورغام فلا يتأثّروا كثيرا بذلك ، فإنّها نوعي «والبلية إذا عمّت طابت».

١٧٧

وقد اختلف المفسّرون في معنى هذه الآية الشريفة ، والحقّ أنّها ترجع إلى شيء واحد وإن اختلفت في اللفظ ، فقيل : المراغم المتزحزح ، أي : ينتقل من أرض إلى أخرى ، وقيل : إنّه المتحوّل ، وقيل : المهاجر وقيل غير ذلك ، وهي كما ترى متّفقة في المعنى.

وفي الآية المباركة كمال اللطف بالمهاجرين وتطييب نفوسهم وبثّ الطمأنينة فيها بأنّ الله تعالى كفيل لرزقهم ، فإنّهم سيجدون في الأرض سعة وبسطة إذا كانت الهجرة في سبيله تعالى وخالصة لوجهه الكريم ، ويقصد منها رضاء الله تعالى وإقامة دينه ، ولعلّ في قوله تعالى : (يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً) إشارة إلى ما ذكره عزوجل سابقا من قوله تعالى : (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) [سورة النساء ، الآية : ٩٧] ، وفيها وعد منه. وفي المقام بيان لوعده الكريم بمزيد السعة بالمهاجرة ، وأنّه يجد مراغما كثيرا ، أي : خلاصا من ورطته ، وقدرته على الانتقال من مكان إلى آخر حيث وجد ضيق في الأوّل وشدّة.

والحقّ أنّ قوله تعالى : (مُراغَماً كَثِيراً) من لوازم السعة في الأرض لمن يريد السلوك فيها والهجرة في سبيل الله تعالى.

والمعنى : ومن يهاجر في سبيل الله طلبا لمرضاته وإقامة دينه ، يجد في الأرض مخلصا ونجاة من الضلال والضيق ، في التحوّل من أرض إلى اخرى كلّما منعه مانع من إقامة دينه ، وسعة في الرزق إذا خاف الضيق في مسيره.

قوله تعالى : (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ).

بيان للمخافة الأخرى الّتي تدور في النفس بشأن الهجرة ، وهي درك الموت في الطريق أو السلوك إلى الحقّ.

ودرك الموت كناية عن وقوعه عليه ومفاجأته به قبل الوصول إلى المقصد ،

١٧٨

والمهاجرة إلى الله تعالى والرسول هي الهجرة إلى دار الإسلام لتقوية الحقّ ونصرة دين الله تعالى ورسوله الكريم والعمل بأركان الشريعة.

والآية المباركة وعد من الله تعالى لمن يهاجر في سبيل الله تعالى ثمّ يحلّ به الموت وهو في الطريق قبل بلوغ دار الهجرة.

قوله تعالى : (فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ).

كناية عن اللزوم والثبوت أو الاستقامة ، أي : وجب عليه الأجر والثواب ولزم بمقتضى وعده الجميل ولطفه العميم ، وفي الآية الكريمة كمال اللطف ومزيد الرضا من الله تعالى له ، حيث اعتبر عزوجل أنّ الموت كالهديّة منه سبحانه وتعالى ؛ لأنّه السبب الموصول إلى الأجر الجزيل والنعيم المقيم.

كما أنّه جلّ شأنه اختار : (مَنْ يَخْرُجْ) دون «من يهاجر» ؛ لكمال العناية بأنّ الموت إن وقع عليه قبل الوصول ، فهو ينال هذه المرتبة وإن لم يصل إلى المقصد.

وفي إبهام الأجر واختيار اسم الجلالة للدلالة على عظم الأجر الّذي لا يقدّر بقدر ولا يعلم كنهه ولا حقيقته إلّا هو ؛ لأنّه من الذات المقدّسة.

قوله تعالى : (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً).

فهو يغفر له جميع ذنوبه ، ويجزل له في العطاء ، وإنّما أتى بصيغة المبالغة للدلالة على أنّه يغفر له ما فرّط فيه من الذنوب الّتي منها القعود عن الهجرة ، فيرحمه بإكمال ثواب هجرته.

وفي الآية المباركة تأكيد للوعد الجميل بلزوم توفية الأجر والثواب ، فهو يغفر الذنوب الّتي ارتكبها قبل الخروج للهجرة ، رحيم يجزل لهم العطاء ويغمرهم بإحسانه.

١٧٩

بحوث المقام

بحث أدبي :

(غير) في قوله تعالى : (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) بالرفع صفة لقوله تعالى : (الْقاعِدُونَ) ، وهي وإن لم تكن معرفة ولا بد من التطابق بين الصفة والموصوف في المعرفة ، لكنّه غير مقصود في المقام ؛ لأنّ المراد من القاعدين جنسهم ، ويصحّ وصف الجنس بها. وذكر الرضي أنّ المعرّف باللام المبهم وإن كان في حكم النكرة ، لكنّه لا يوصف بما توصف به النكرة ، بل يتعيّن أن تكون صفته جملة فعليّة وفعلها مضارع ، كما في قوله :

ولقد أمرّ على اللئيم يسبّني

فأصدّ ثمّ أقول ما يعنيني

ولأجل تلك المناقشة جعل بعضهم «غير» في المقام بدلا من «القاعدون» ؛ لأنّ (ال) فيه موصولة. ولكنّه ليس بشيء كما لا يخفى.

وقرأ بعضهم (غير) بالجرّ صفة لقوله تعالى : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ، وقرئ بالنصب على أنّه استثناء من قوله تعالى : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ، أو حال ، وهو نكرة لا معرفة.

و (درجة) في قوله تعالى : (فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً) ، منصوب على المصدر ؛ لتضمّنها معنى التفضيل ـ كما عرفت سابقا ـ كأنّه قيل فضّلهم تفضيلة ، كما في قولهم : ضربته سوطا ، أي : ضربة.

وقيل : على الحال ، أي : ذوي درجة ، وقيل : على التمييز ، وقيل : على حذف الجارّ ، أي : بدرجة ، وقيل : هو واقع موقع الظرف ، أي : في درجة ومنزلة.

و (كلا) في قوله تعالى : (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) مفعول أوّل لما بعده ، قدّم لإفادة القصر تأكيدا للوعد ، وتنوينه عوض المضاف إليه ، أي : كلّ واحد من

١٨٠