مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٩

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٩

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٣
ISBN: 964-5665-08-6
الصفحات: ٣٩٦

التفسير

قوله تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً).

بيان لأهم حكم من الأحكام الإلهيّة في أبلغ أسلوب وأفصح عبارة ، فإنّها تدلّ على نفي الشأن الّذي هو أبلغ من نفي الفعل ، أي : لا يوجد في المؤمن بعد دخوله في حريم الإيمان اقتضاء لقتل مؤمن أبدا ، بل لا يليق بحاله ، ولا ينبغي له قتل من تشرّف بالإيمان بالله ورسوله مطلقا ، أي قتل كان ، ولو صدر منه في حالات خاصّة ، كحالة الحرب وفي ساحة القتال.

ومثل هذا النهي الدالّ على نفي الشأن والاقتضاء كثير في القرآن الكريم ، قال تعالى : (وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ) [سورة الأحزاب ، الآية : ٥٣] ، وقال تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) [سورة الأحزاب ، الآية : ٣٦] ، وإنّما ذكر عزوجل المؤمن لبيان أنّ الإيمان جنّة واقية من كلّ ظلم وجريمة ، وهو يمنع صاحبه من قتل أخيه المؤمن بعد أن دخل في حريم الإيمان وحماه.

والآية الشريفة وإن كانت لنفي الشأن والاقتضاء ، لكنّها متضمّنة للحكم التكليفي ، فتنهى عن القتل ، فيكون النفي بمعنى النهي للمبالغة وشدّة التنزيه عن ارتكاب القتل ، أي : يحرم على المؤمن قتل المؤمن إلّا إذا كان القتل خطأ غير مقصود له بعنوانه ، فلا حرمة هنا ، فلا يستفاد من الآية الكريمة عدم استحقاق الحرمة في هذا النوع من القتل ، فلا حاجة لجعل الاستثناء في قوله تعالى : (إِلَّا خَطَأً) منقطعا لدفع الاحتمال المزبور ، بل الاستثناء على حقيقته ، أي : الاستثناء المتّصل ـ كما عرفت ـ فتكون الآية المباركة دالّة على عدم وضع الحرمة في الفعل غير المقصود.

ويحتمل أن يكون الاستثناء بمعنى النفي ، أي : ولا خطأ ، كما استعمل فيه في

١٤١

غير موضع ، ويدلّ عليه بعض الأخبار ، كما يؤيّده تشديد الأمر في القتل وشدّة الاحتياط في الدماء في الإسلام.

والخطأ اسم من خطأ يخطأ خطأ ، وهو الفعل الخالي عن القصد بعنوانه الفعلي ، ويلحق به ما إذا كان فيه القصد إلى شيء زعما ، وهو على خلاف الواقع ، كما إذا زعم أنّ المقتول كافر جائز القتل ، وهو في الواقع مؤمن محقون الدم ، وغير ذلك كما ذكرنا في كتاب القصاص والديّات من (مهذب الأحكام).

والخطأ حسب التقسيم العقلي على أقسام :

الأوّل : أن يريد غير ما يحسن فعله وإرادته فيفعله ، وهذا هو الخطأ التامّ.

الثاني : أن يريد ما يحسن فعله ، ولكن يقع منه خلاف ما يريد ، فأصاب في الإرادة وأخطأ في الفعل.

الثالث : أن يريد ما لا يحسن فعله ويتّفق منه خلافه ، فهذا الخطأ في الإرادة ولمصيب في الفعل ، وهذا هو معنى (أراد) في قوله :

أردت مساءتي فأجرت مسرّتي

وقد يحسن الإنسان من حيث لا يدري

فهذه اللفظة مشتركة كما ترى ، والجامع أنّ من أراد شيئا فاتّفق منه غيره يقال : اخطأ. وإن وقع منه كما أراده يقال : أصاب.

قوله تعالى : (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ).

التحرير الإعتاق ، وهو جعل المملوك حرّا ، والرقبة وإن كانت بمعنى العنق ، ولكن شاع استعمالها في النسمة والنفس ، كما يعبّر بالرأس والظهر عن المركوب ، تعبيرا عن الكلّ باسم الجزء المقوّم له. وإنّما عبّر كذلك ؛ لأنّ الرقيق يحني رقبته دائما لمولاه.

والمعنى : ومن قتل مؤمنا على الخطأ ، وجب عليه تحرير رقبة مؤمنة ، ويأتي تفصيل الكلام في البحث الفقهي إن شاء الله تعالى.

١٤٢

قوله تعالى : (وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ).

واجب آخر مضافا إلى عتق الرقبة المؤمنة ، أي : تسليم الديّة إلى أهل المقتول. والديّة ما يعطى عوضا عن دم المجنيّ عليه ، نفسا كان أو عضوا ، وهي مصدر ودي القتيل يديه وديا ودية ، كعدة وزنة من الوعد والوزن.

ومن إطلاق الديّة وعدم تقييدها بشيء يستفاد حكاية كلّ ما يرضى به أهل المقتول ، ولكن السنّة الشريفة حدّدتها بأمور خاصّة ، فهي من الذهب ألف ، دينار ومن الفضة عشرة آلاف درهم ، ومن الإبل مائة ، ومن البقر مائتان ، ومن الشاة ألف ، ومن الحلّة اليمانيّة مائتا حلة ، ويعتبر في الإبل أن تكمل السنة الخامسة وتدخل في السادسة ، وكذا في البقر. وأمّا الشاة ، فلا يعتبر فيها شيء ويكفي المسمّى ، كما فصّل في كتب الفقه.

والمسلّمة ، أي : المدفوعة المؤدّاة إلى أهل المقتول ، وهم أولياؤه وورثته الجامعون للشرائط المقرّرة في الشرع.

قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا).

أي : إلّا أن يتصدّق أولياء القتيل عليه بالديّة ، وإنّما سمى العفو عن الديّة بالصدقة حثّا عليه ، فلا تجب على القاتل الديّة حينئذ ، ولما في الصدقة من الفضل والأجر ، فيكون في العفو كذلك ، فإذا عفى يكون له الفضل على القاتل.

كما يستفاد من الآية المباركة أنّ الديّة ممّا يقبل العفو ، وأمّا الكفّارة فلا تسقط بحال إلّا إذا عجز عنها ، كما ذكر في الفقه.

قوله تعالى : (فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ).

أي : فإن كان المقتول خطأ مؤمنا وأهله من الكفّار المحاربين لكم ، بأن قتله وهو بين قومه ولم يعلم القاتل بكونه مؤمنا ، فلا دية فيه ، تخصيصا لأدلّة الديّة ، كما

١٤٣

ذكرنا في (مهذب الأحكام) ، ولكن عليه الكفّارة ، وهي تحرير رقبة وعتق نسمة مؤمنة كفّارة لقتله إيّاه.

قوله تعالى : (وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ).

أي : وإن كان المؤمن المقتول من الكفّار الّذين بينكم وبينهم عهد ، فعلى القاتل الديّة والكفّارة. أمّا الديّة فتسلّم إلى أهله ؛ لأنّهم أحقّ بها ، وأمّا الكفّارة فهي عتق رقبة مؤمنة ، فيكون حكم المعاهد حكم المؤمن ، وإنّما أفرده بالذكر تأكيدا لمراعاة العهود والمواثيق ، وأنّ كفرهم لا يمنع الديّة بخلاف غير المعاهد.

وإطلاق العهد يدلّ على كونه أعمّ من المؤقّت والمؤبّد ، وسواء كان العهد عهد ذمّة أم غيره فيشمل كلّ عهد قرّره الشارع الأقدس.

وإنّما قدّم تعالى هنا الديّة على الكفّارة عكس السابقة ، مراعاة لحقوق الذمّة والميثاق.

قوله تعالى : (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ).

الضمير يرجع إلى الرقبة ؛ لأنّها أقرب ، أي : فمن لم يستطع التحرير بأن لم يوجد الرقبة أو لا يملك ما يتوصّل به إليها ، فعليه صيام شهرين متتابعين بدلا عنه ، وإطلاق الشهر ينصرف إلى القمري منه.

والتتابع : معروف ، وهو عدم الفصل بين الأيام بالفطر ، ولكن فسّرت السنّة التتابع بأن يصوم الشهر الأوّل من غير فطر ، ويصوم شيئا من الشهر الثاني ولو يوما واحدا ، فإن تحقّق بعد ذلك ما يخلّ به التتابع فلا يضرّ به ، ويأتي نقل بعض الروايات الدالّة على ذلك.

قوله تعالى : (تَوْبَةً مِنَ اللهِ).

أي : أنّ ما شرّعه الله تعالى من الكفّارة والديّة في هذا الأمر الفظيع إنّما هو رحمة

١٤٤

من الله تعالى عليكم ورأفة بكم ، فتطهر نفوسكم وتتزكى ، فتأخذوا الحيطة لئلّا تعودوا إلى القتل ولو كان خطأ.

ويحتمل أن يرجع هذا القيد إلى خصوص الأخير ، أي : أن إيجاب الصوم بدلا عن عتق الرقبة إنّما هو توبة وعطف منه عزوجل عليكم ، فكان تخفيفا من الله تعالى عليكم.

قوله تعالى : (وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً).

أي : أنّ الله تعالى عليم بمصالح العباد وأحوال النفوس وحكيم في تشريع الأحكام ، فهو جلّ شأنه يشرّع فيها ما يهديكم إلى الرشاد وما تصلح به النفوس وما يوجب سعادتكم في الدارين.

قوله تعالى : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها).

بيان للقتل العمديّ المستفاد من الآية المباركة السابقة صدرا ومفهوما ، من كونه ليس من شأن المؤمن أن يصدر منه هذا النوع من القتل.

والتعمد : هو القصد إلى الفعل بالعنوان الّذي له عن علم به ، يقال : «فعله عمدا» ، أي : قصدا لا خطاء ولا عن طريق الاشتباه ، بل كان عن التفات ويقين.

والقتل : هو إزهاق الروح ، وهو على قسمين ـ كما تقدّم ـ مقصود وهو العمد ، وغير مقصود وهو القتل خطاء.

وإنّما كان جزاء القتل العمد عظيما لفظاعته ، ولأنّه ينافي الإيمان.

قوله تعالى : (وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ).

أي : أنّه مضافا إلى أن جزاءه جهنّم خالدا فيها ، أنّه غضب عليه انتقاما منه للقاتل لشناعة فعله ، ولعنه تعالى فأبعده عن رحمته.

قوله تعالى : (وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً).

لا يعلم قدره ولا كنهه أحد إلّا الله تعالى ، والعذاب : هو كلّ ما شقّ على الإنسان واشتدّ عليه ، وهو تارة نفسي ، كالمنع عن المراد مثلا ، وذلك على أنواع

١٤٥

كثيرة. وأخرى : خارجي ، كالتعذيب بالأشياء الخارجيّة ، وكلّ منهما دنيوي وأخروي.

وقد أغلظ سبحانه وتعالى في وعيد هذا الذنب العظيم بما لا يكون في غيره ، ويستفاد منه تناسب الجزاء مع الفعل ، فإنّه إزهاق لروح مؤمنة بريئة وتعطيل لها عن الكمال والوصول إلى ما تبتغيه ، فكان الجزاء عذاب جهنّم وقطعا للرحمة عنه ، وغضبا منه عزوجل عليه.

ويستفاد من الآية المباركة عدم قبول توبته ، ولكن ذكرنا في الآيات الشريفة السابقة لا سيما قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ) [سورة النساء ، الآية : ٤٨] وأمثالها بما تصلح أن تكون قيدا لهذه الآية ، فيكون الوعيد حتما إن لم تكن توبة نصوح في البين من القاتل ، وإلّا فالتوبة مقبولة بمقتضى تلك الآيات الشريفة ، أو يكون قتل المؤمن لأجل إيمانه ، وسيأتي في البحث الروائي بعض الروايات الدالّة على ذلك.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا).

إرشاد إلى حكم فطري ، وهو أخذ الحيطة في الأمور والتجنّب عمّا يوجب الندم ، وبيان إلهي يهدي المؤمنين إلى التوقّف في من يريدون قتله إذا ظهرت عليه علامات الإيمان ، من الشهادة والسلام الّذي هو علامة الاستيمان وتحيّة الإسلام ، حتّى يتبيّن الأمر ويتّضح عدم إيمانه فيجب التحفّظ وعدم قتله ، ولا يحملوا ما صدر منه على المخادعة ، فإنّ الإسلام دين الأمان.

والضرب : هنا بمعنى السير في الأرض والسفر ، وسمّي الضرب سفرا ؛ لأنّه يحصل بضرب الأرض بالأرجل ، وعن عليّ عليه‌السلام في غريب كلامه : «فإذا كان كذلك ضرب يعسوب الدين بذنبه ، فيجتمعون إليه كما يجتمع فزع الخريف» ، وتقدّم ما يتعلّق باشتقاق هذه المادّة.

١٤٦

والتقييد بكونه في سبيل الله تعالى يفيد أنّه السفر إلى الجهاد والخروج إلى الغزو في سبيل الله تعالى ، أو مطلق العبادة والتقرّب إليه عزّ شأنه.

والتبيين : التأنّي وترك العجلة ، وهو التفعّل بمعنى الاستفعال الدالّ على الطلب ، أي : التدبّر للتمييز بين المؤمن وغيره.

وحكم الآية الشريفة يوافق الفطرة الّتي تدعو إلى التأنّي والروية وترك العجله في مواطن الضرر ، حتّى يتبيّن ويتّضح الأمر.

والمعنى : يا أيّها الّذين آمنوا إذا سافرتم إلى الجهاد ومنازلة أعداء الله وقتالهم في سبيل الله تعالى ، فتوقّفوا وتأنّوا حتّى تعلموا من يستحق القتل ومن لا يستحقّه ، فلا تقدموا على قتل أحد إلّا إذا علمتم كونه حربا لله ورسوله.

قوله تعالى : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً).

بيان لعلامة من علامات الإيمان ، وهي التحيّة بإلقاء السلام والسلم (بكسر السين وفتح اللام) والسلم (بفتح السين) والسلام واحد ، وقرئ بها كلّها ، ومعناها الاستسلام والانقياد.

وكيف كان ، فالمعنى : ولا تقولوا لمن أظهر لكم ما يدلّ على إسلامه : لست مؤمنا ، وإنّما كان عن خوف من القتل وطمعا للبقاء.

قوله تعالى : (تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا).

المراد بعرض الحياة الدنيا في المقام الغنيمة والمال ، أي : تقتلونه وتطلبون من قتله الغنيمة والمال.

والتعبير بالعرض لبيان كونه سريع الزوال ، ويستفاد منه أنّ تلك هي العلّة في التعجيل في قتله ، فلم يكن الغرض من القتال سبيل الله تعالى وإقامة دينه.

قوله تعالى : (فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ).

تعليل للنهي ، ويتضمّن الوعد أيضا بما هو أكثر وأبقى وأدوم.

والمغانم : جمع المغنم ، والمراد من الكثيرة الدائمة والباقية ، فهي أفضل من

١٤٧

مغانم الدنيا الزائلة ، فلا بد أن يكون مورد اختياركم ، بل هي الّتي تستحقّ الإيثار دون غنيمة الدنيا الزائلة.

قوله تعالى : (كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا).

أي : على هذا الوصف كنتم من ضعف الإيمان وابتغاء عرض الحياة الدنيا قبل الإسلام ودخلتم فيه من غير أن تعلم مواطاة قلوبكم مع ألسنتكم ، وقبل أن يثبت الإيمان في قلوبكم ، فقد منّ الله عليكم بإعلان الإيمان وثباته الصارف عن ابتغاء عرض الحياة الدنيا حتّى طلبتم ما عند الله من المغانم الكثيرة ، فيجب عليكم أن تتبيّنوا ولا تتعجّلوا في الحكم ، وافعلوا مع الداخلين في الإسلام ما فعله الله بكم.

وفي تكرار الأمر بالتبيين لما فيه من الأهميّة وللتأكيد في الحكم.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً).

توعيد على المخالفة ، أي : أنّ الله لا يخفى عليه شيء ، فيعلم جميع نواياكم وكلّ ما تعملونه فيجازيكم عليها.

١٤٨

بحوث المقام

بحث دلالي :

تدلّ الآيات الشريفة على أمور : ـ

الأوّل : يدلّ قوله تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً) على أنّ الإيمان جنّة واقية يحفظ بها دماء المؤمنين ، ويستفاد من نفي الاقتضاء المستفاد من (ما) النافية المتضمّن للنهي التكليفي أيضا ، أنّه لا يوجد في المؤمن بعد دخوله في حريم الإيمان وبعد أن حماه الإيمان اقتضاء للقتل أبدا ، وأنّ المؤمن لا يقصد قتل مؤمن أصلا ، فإذا تحقّق منه شيء من ذلك لكان قتلا خطأ ؛ لعدم وجود قصد إليه ، ويستفاد هذا من تكرار لفظ المؤمن أيضا.

الثاني : يستفاد من تفصيل الحكم في قتل الخطأ ـ بين قتل المؤمن وهو من المؤمنين ، فتكون فيه الديّة والكفّارة ، وقتله وهو بين الأعداء ، فإنّ فيه الكفّارة فقط ، وقتله وهو بين العاهدين ففيه الديّة والكفّارة معا ـ أهميّة هذا الحكم ، فإنّه لم يذكر في مورد الخطأ في الشريعة المقدّسة تفصيل بهذا المضمون ، مع أنّ الحكم موضوع عن الفعل الخطأ ، كما ورد عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «رفع عن أمّتي تسع ـ وعدّ منها ـ الخطأ والنسيان» ، فيستفاد من ثبوت الحكم في مورد الخطأ في المقام وتفصيل الحكم فيه أهميّة الدماء في الإسلام ، وأنّه لا يجوز إراقة الدماء المحترمة إلّا إذا ورد من قبل الشارع الأقدس الإذن فيها صريحا.

الثالث : يستفاد من ثبوت الديّة والكفّارة في قتل المؤمن خطأ وهو بين قومه من الكفّار المعاهدين ، أهميّة العهد والميثاق ، فلا بد أن يحفظ ولا يجوز نقضه.

الرابع : يدلّ قوله تعالى : (وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ) على أنّه لا بدّ من رفع ما يوجب التنازع والخصام في هذا الموضوع القابل للجدال ، بأن تكون الديّة حاضرة

١٤٩

مسلّمة إلى أهل المقتول بلا تأخير فيها ؛ قطعا للنزاع والخصام ، إلّا إذا اتّفق الطرفان على التأخير.

الخامس : يستفاد من قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا) أنّ العفو من الديّة في هذه الحالة الّتي تثور فيها الضغائن ويشتدّ فيها الغضب ، من الصدقة الّتي أمر الله تعالى بها في مواضع متعدّدة من القرآن الكريم ، وأنّ فيها الفضل الكبير عند الله تعالى.

السادس : يستفاد من قوله تعالى : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً) شدّة الحكم في القتل العمدي بما لم يكن في أي حرام آخر ، فقد أوعد عزوجل على القاتل كذلك أربعة أنواع من العذاب ، الخلود في جهنّم ، وغضب الله تعالى عليه ، واللعن ، والعذاب العظيم ، كلّ ذلك لأهمّيّة الدماء في الإسلام واحترامها عند الله تعالى ، وأنّ إزهاق الروح المحترمة في الشريعة كبيرة موبقة لا يعادلها شيء أبدا ، وأنّ كلّ نفس في مقابل الدم المحترم قليل بالنسبة إليه ، ولعلّ ما ورد عن الأئمة الهداة المعصومين عليهم‌السلام : «التقيّة في كلّ شيء فإذا بلغت الدم فلا تقيّة» ، ناظر إلى ذلك.

السابع : يستفاد من قوله تعالى : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً) أهميّة السلام في الإسلام ، فإنّه تحيّة تحقن الدم وتحفظ الذمام.

الثامن : يستفاد من قوله تعالى : (تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أنّه ينبغي للمؤمن أن يكون غرضه من جهاده وكفاحه سبيل الله تعالى لا الدنيا الفانية الزائلة ، فإنّ عند الله تعالى المغانم الكثيرة الدائمة الباقية.

التاسع : يدلّ قوله تعالى : (تَوْبَةً مِنَ اللهِ) بعد سرد جملة من الأحكام الشرعيّة والكفّارة وبدل الكفّارة ـ وهو صيام شهرين متتابعين ـ أنّ تلك الأحكام توبة من الله تعالى للمجتمع وعناية بهم ورحمة لهم ، فإنّ جعل الكفّارة في القتل الخطأ توبة وعناية من الله تعالى للقاتل فيما لحقه من آثار القتل ودرنه ؛ ليكون سببا

١٥٠

في تحفّظه ، فلا يعود إليه ثانيا ، كما أن تحرير الرقبة الّتي هي عبء ثقيل على المجتمع ، فإنّ المملوك عضو ميّت وإن كان بصورة الأحياء ؛ لأنّه ليس له كمال الاختيار بالتصرّف بما شاء ، فيكون تحريره بمنزلة إحيائه بدل ما فقدوا منهم واحد ، كما أنّ صيام شهرين متتابعين بدل عتق الرقبة ؛ لأنّ له الأهميّة الكبيرة في ترويض النفس وإرغامها على قبول الفضائل وترك الرذائل ، فهو من الأمور التربويّة الإصلاحيّة.

العاشر : يشتمل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً) على العظة والتوبيخ ، ولا يدلّ على كون القتل في هذه الآية المباركة من القتل العمد ، فإنّ الظاهر أنّ القاتل زعم كون المقتول كافرا وأراد خلاص نفسه بإلقاء السلام ، فلم يثق بكونه مؤمنا ، فتكون الآية الشريفة ردّا عليه ، وتوبّخه بأنّ المدار في الإسلام على الظاهر. وأمّا الباطن والحقيقة ، فلا يعلمهما إلّا الله تعالى.

وبناء على هذا ، يكون قوله تعالى : (تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) نازلا على مقتضى الحال ، أي : حالكم في قتل من يظهر الإسلام من دون اعتناء بشأنه حال المؤمن الّذي يجاهد في سبيل الغنيمة وجمع المال ، فلا يكون قصده سبيل الله تعالى ، فإنّ من سبيل الله هو الاعتناء بأحوال المؤمنين والأخذ بظاهر الإسلام ، لا ما كان عليه حال المؤمنين قبل الإسلام ، فإنّه لم يكن قصدهم إلّا ابتغاء عرض الحياة الدنيا إلى أن من الله تعالى عليهم بالإيمان وهداهم برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ثمّ إنّ المراد من سبيل الله الأعمّ من السير في الأرض ـ كما هو الظاهر من الآية المباركة ـ أو السير والسلوك إلى الله تعالى في طلب المعرفة والهداية إلى الحقّ والإيمان به ، فيكون للسير والضرب حينئذ الدرجات بالارتقاء بأن يصير الإيمان به إيقانا ، والإيقان عيانا ، والعيان غيبا ، وصار الغيب شهادة والشهادة شهودا والشهود شاهدا والشاهد مشهودا ، وبهما أقسم الله تعالى : (وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) [سورة البروج ، الآية : ٣] ، وهذا مقام لا يناله إلّا الأولياء والأخصّ من الخواص ،

١٥١

فيكون المراد من التبيّن التثبيت والمراد من السلام الاستسلام والعطف ، أي : ولا تنفّروا أحدا منكم وقولوا له كما أمر الله تعالى موسى وهارون : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً) [سورة طه ، الآية : ٤٤] ، وهذا المقام يستحقّ المنّ منه تعالى ، كما دلّت الآية المباركة.

الحادي عشر : يمكن أن يستفاد من قوله تعالى : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ) أنّ إلقاء السلام واعتزال القتال يكون إيذانا بعدم الحرب ، وهو كاف في عدم قتله ، كما علم من الآيات الكريمة السابقة من النهي عن قتل الّذين يعتزلون القتال ويكفّون أيديهم عنه.

وبعبارة اخرى : أنّ ذلك يكون كافيا في عدم انطباق عنوان الحربي عليه ، فلا موجب لقتله ، ويدلّ على ما ذكرنا عموم قوله تعالى : (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [سورة الأنفال ، الآية : ٦١].

بحث روائي :

في تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً) : «لا عمدا ولا خطأ ، وإلّا في معنى لا ، وليست باستثناء».

أقول : تكون الآية الشريفة نظير قوله تعالى : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) [سورة البقرة ، الآية : ١٥٠] ، أي : ولا الّذين ظلموا منهم ، فيكون التشريك في اللفظ والمعنى.

وفي المجمع عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام : «نزلت في عياش ابن أبي ربيعة المخزومي أخي أبي جهل لأمّه ، كان أسلم وقتل بعد إسلامه رجلا مسلما وهو يعلم بإسلامه ، وكان المقتول الحارث بن يزيد أبو بنيشة العامري ، قتله بالحرّة».

أقول : ذكروا في سبب نزول الآية المباركة أسبابا متعدّدة وجميع ذلك من

١٥٢

التطبيق والجري ، لا التعدد الواقعي ؛ لأنّ الآية الكريمة بمنزلة قاعدة عامّة لا تختصّ بمورد خاصّ ولا بعصر معين.

وفي الدرّ المنثور عن ابن جرير عن ابن زيد قال : «نزلت في رجل قتله أبو الدرداء ، كانوا في سرية فعدل أبو الدرداء إلى شعب يريد حاجة له فوجد رجلا من القوم في غنم له فحمل عليه السيف ، فقال : لا إله إلّا الله ، فضربه ثمّ جاء بغنمه إلى القوم ، ثمّ وجد في نفسه شيئا فأتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فذكر ذلك له ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ألا شققت عن قلبه؟! فقال : ما عسيت أجد ، هل هو يا رسول الله إلّا دم وماء؟! فقال : قد أخبرك بلسانه فلم تصدّقه؟! قال : كيف بي يا رسول الله؟ قال : كيف بلا إله إلّا الله! قال : فكيف بي يا رسول الله؟ قال : كيف بلا إله إلا الله؟! حتّى تمنّيت أن يكون ذلك مبتدأ إسلامي. قال : ونزل القرآن : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً).

أقول : لا بدّ من حمل الرواية على وجه ينطبق مع الخطأ ، وإلّا فظاهرها أنّ الرجل قصد القتل بعد إعلان الشهادة.

وكيف كان ، فعلى فرض صحّة الرواية فهي من باب التطبيق.

وفي أسباب النزول للواحدي نزلت الآية في عياش بن أبي ربيعة ، فقال : «إنّه أسلم وخاف أن يظهر إسلامه فخرج هاربا إلى المدينة ، فقدمها ثمّ أتى أطما من آطامها ، فتحصّن فيه ، فجزعت أمّه جزعا شديدا ، وقالت : لا بنيها أبي جهل والحارث بن هشام ـ وهما أخواه لأمّه ـ : والله لا يظلّني سقف بيت ، ولا أذوق طعاما ولا شرابا ، حتّى تأتوني به ، فخرجا في طلبه وخرج معهم الحارث بن زيد بن أبي أنيسة حتّى أتوا المدينة ، فأتوا عياشا في الاطم فقالا له : أنزل فإنّ أمّك لم يؤوها سقف بيت بعدك ، وقد حلفت أن لا تأكل طعاما ولا شرابا حتّى ترجع إليها ، ولك الله علينا أن لا نكرهك على شيء ولا نحول بينك وبين دينك ، فلما ذكرا له جزع أمّه وأوثقا له نزل إليهم ، فأخرجوه من المدينة وأوثقوه بنسع ، وجلده كلّ

١٥٣

واحد منهم مائة جلدة ، ثمّ قدموا به على أمّه. فقالت : والله ، لا أحلك من وثاقك حتّى تكفر بالذي آمنت به ، ثمّ تركوه موثقا في النفس وأعطاهم بعض الّذي أرادوا ، فأتاه الحارث بن زيد وقال : يا عياش ، والله إن كان الّذي كنت عليه هدى لقد تركت الهدى ، وإن كان ضلالة لقد كنت عليها ، فغضب عياش من مقالته وقال : والله ، لا ألقاك خاليا إلّا قتلتك ، ثمّ إنّ عياشا أسلم بعد ذلك وهاجر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالمدينة ، ثمّ إنّ الحارث بن زيد أسلم وهاجر بعد ذلك إلى رسول الله بالمدينة وليس عياش يومئذ حاضرا ولم يشعر بإسلامه ، فبينا هو يسير بظهر قباء إذ لقى الحارث بن زيد ، فلما رآه حمل عليه فقتله ، فقال الناس : أي شيء صنعت؟! إنّه قد أسلم ، فرجع عياش الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا رسول الله كان من أمري وأمر الحارث ما قد علمت ، وإنّي لم أشعر بإسلامه حين قتلته ، فنزل عليه جبرئيل عليه‌السلام بقوله تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً).

أقول : الاطم (بالضم) بناء مرتفع ، وفي الحديث : «إنّ بلال كان يؤذّن على أطم» ، وآطام المدينة أبنيتها المرتفعة كالحصون والجبال. والظاهر أنّ عياشا لم يسلم مرّتين ، وما أعطاهم من كفره لم يكن عن عقيدة وإنّما كان لدفع الظلم عن نفسه ، وذلك لا يضرّ بإسلامه الّذي كان عن عقيدة.

وكيف كان ، فالرواية من باب التطبيق كما مرّ.

وفي التهذيب بإسناده عن الحسين بن سعيد عن رجاله عن الصادق عليه‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : كلّ العتق يجوز له المولود إلّا في كفّارة القتل ، فإنّ الله تعالى يقول : (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) ، يعني بذلك مقرة قد بلغت الحنث».

أقول : المراد من الرواية الرقبة الّتي ولدت من غير مسلم ، فلا بد فيها من البلوغ والإيمان حتّى يطلق عليها «مؤمنة» ، فلا يجزى الصبي ، وأمّا الرقبة المولودة بين المؤمنين أو بين مؤمن وكافر ، فلا خلاف أنّه يحكم بالإيمان وإن كان صبيا ، وعلى ذلك يحمل قول العبد الصالح عليه‌السلام : «تعرف المؤمنة على الفطرة» ، فلا تنافي بين

١٥٤

الروايتين. ويدلّ على ما ذكرناه ما عن ابن عباس : «يعني بالمؤمنة من قد عقل الإيمان وصام وصلّى ، وكلّ رقبة في القرآن لم تسم مؤمنة ، فإنّه يجوز المولود فما فوقه ممّن ليس به زمانه».

وفي سنن البيهقي : «أنّ رجلا أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بجارية سوداء. فقال : يا رسول الله ، إنّ عليّ عتق رقبة مؤمنة. فقال لها : أين الله؟ فأشارت إلى السماء بإصبعها. فقال لها : من أنا؟ فأشارت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والى السماء ، أي : أنت رسول الله. فقال : أعتقها ، فإنّها مؤمنة».

أقول : هذا القدر يكفي في الحكم بالإسلام ، فإنّ المناط إظهار الشهادتين بما هو مقدور ، بل أنّ الكافر إذا عرض عليه الإسلام واقتصر على قوله : «اني مسلم» وكان جامعا للشرائط ، يؤخذ بإقراره ما لم تكن قرينة مانعة ، أو يدلّ دليل على الخلاف.

وفي الكافي بإسناده عن الحلبيّ عن الصادق عليه‌السلام : «العمد كلّ ما اعتمد شيئا فأصابه بحديدة أو بحجر أو بعصى أو بوكزة ، فهذا كلّه عمد. والخطأ من اعتمد شيئا وأصاب غيره».

أقول : ذكرنا في (مهذب الأحكام) الفرق بين العمد والخطأ وشبه العمد ، وأنّ الرواية موافقة للقاعدة. كما تقدّم فيه مقدار الديّة وأصنافها ، فلا وجه لسرد الروايات الواردة في المقام هنا.

وفي التهذيب بإسناده عن الصادق عليه‌السلام : «في رجل مسلم كان في أرض الشرك فقتله المسلمون ، ثمّ علم به الإمام بعده ، فقال : يعتق مكانه رقبة مؤمنة ، فذلك قول الله عزوجل : (فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ)».

أقول : لا بدّ من تقييد الرواية بأنّ قاتله لم يعلم بكونه مسلما ، وهي تعطي

١٥٥

للإنسان أهميّة وتغلّب جانب الحرية بإعطاء الإنسان قيمته وحياته بدلا عن الضرر الواقع في حياة الأفراد.

في الكافي بإسناده عن محمد بن سليمان عن أبيه قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ما تقول في الرجل يصوم شعبان وشهر رمضان؟ قال : هما الشهران اللذان قال الله تبارك وتعالى : (شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ) ، قلت : فلا يفصل بينهما؟ قال : إذا أفطر من الليل فهو فصل ، وإنّما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا وصال في صيام ، يعني لا يصوم الرجل يومين متواليين من غير إفطار ، وقد يستحبّ للعبد السحور».

أقول : تمسّك الإمام عليه‌السلام بالآية الشريفة ؛ لبيان أنّ شهري شعبان ورمضان متتابعان ، وهما من أفضل الشهور وفضّل الصيام فيهما ، وليس في مقام تحديد كفّارة القتل.

وفي الكافي بإسناده عن الصادق عليه‌السلام : «إن كان على رجل صيام شهرين متتابعين فأفطر أو مرض في الشهر الأوّل ، فإنّ عليه أنّ يعيد الصيام ، وإن صام الشهر الأوّل وصام من الشهر الثاني شيئا ثمّ عرض له ما له عذر ، فعليه أن يقضي».

أقول : لا بدّ من حمل الرواية على الإفطار العمدي والمرض الّذي لا يضرّه الصوم ، فحينئذ لا بدّ من الاستيناف ، وأمّا لو كان الإفطار ـ في الصوم الّذي يشترط فيه التتابع ـ لعذر من الأعذار ـ كالحيض والنفاس والمرض الّذي لا يضرّه الصوم والسفر الاضطراري دون الاختياري ـ لم يجب استينافه ، بل يبني على ما مضى ؛ لقاعدة فقهيّة ، وهي : «ليس على ما غلب الله عزوجل على العبد شيء» ؛ ولنصوص كثيرة ذكرناها في المجلد العاشر من (مهذب الأحكام).

نعم ، لو أفطر في أثنائه لا لعذر وجب الاستيناف. ويكفي في حصول التتابع فيهما صوم الشهر الأوّل ويوم من الشهر الثاني ، كما ذكرنا في كتاب الصوم.

١٥٦

وفي الكافي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما ، وقال : لا يوفق قاتل المؤمن متعمّدا التوبة».

أقول : الفسحة بالضمّ بمعنى السعة أو عدم الضيق ، والمراد من الحديث : لا يزال المؤمن في سعة من دينه يرجى له الرحمة ويوفّق للخيرات ولو باشر الكبائر ما لم يتعمّد قتل مؤمن ، فإذا قتل بعد عن رحمته ولم يوفّق للخيرات ، وهو في مقام التغليظ الشديد للقتل ، وذيل الحديث محمول على الغالب والأكثر.

وفي الكافي أيضا بإسناده عن ابن سنان عن الصادق عليه‌السلام قال : «قاتل المؤمن متعمّدا له توبة؟ قال : إن كان قتله لإيمانه فلا توبة له ، وإن كان قتله لغضب أو لسبب شيء من أمر الدنيا ، فإنّ توبته أن يقاد منه. وإن لم يكن علم به أحد انطلق الى أولياء المقتول فأقرّ عندهم بقتل صاحبهم ، فإن عفوا عنه فلم يقتلوه أعطاهم الديّة وأعتق نسمة وصام شهرين متتابعين وأطعم ستين مسكينا ، توبة إلى الله».

أقول : صدر الرواية محمول على ما إذا قتل المؤمن لأجل دينه وإيمانه ولم يندم ولم يؤد الديّة لأولياء المقتول مع رضائهم بها ، وإلّا فتقبل توبته بعد تحقّق شرائطها ، كما تقدّم في بحث التوبة فراجع.

وعن علي بن جعفر عن أخيه عليهما‌السلام قال : «سألته عن رجل قتل مملوكه؟ قال : عليه عتق رقبة وصوم شهرين متتابعين وإطعام ستين مسكينا ، ثمّ يكون التوبة بعد ذلك».

أقول : لا فرق في الكفّارة في القتل بين كون المقتول حرّا أو عبدا ، صغيرا أو كبيرا ، كما ذكر في كتابنا (مهذب الأحكام).

وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه‌السلام في قول الله عزوجل : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ) قال : «جزاؤه جهنّم إن جازاه».

أقول : معنى ذيل الحديث إن شاء عذّبه ، وإن شاء عفى عنه.

وأخرج البيهقي عن شهر بن حوشب : «انّ أعرابيا أتى أبا ذر فقال : إنّه قتل

١٥٧

حاج بيت الله ظلما ، فهل له من مخرج؟ فقال له أبو ذر : ويحك! أحي والدك؟ قال : لا ، قال : فأحدهما ، قال : لا ، قال : لو كان حيين أو أحدهما لرجوت ذلك لك ، وما أجد لك مخرجا إلّا في إحدى ثلاث ، قال : ما هن؟ قال : هل تستطيع أن تحييه كما قتلته؟ قال : لا والله! قال : فهل تستطيع أن لا تموت؟ قال : لا والله ما من الموت بد ، فما الثالثة؟ قال : هل تستطيع أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء؟ فقام الرجل وله صراخ ، فلقيه أبو هريرة فسأله فقال : ويحك حيّان والداك؟ قال : لا ، قال : لو كانا حيين أو أحدهما لرجوت لك ، ولكن اغز في سبيل الله وتعرّض للشهادة فعسى».

أقول : يستفاد من هذه القضية مقدار شأن الوالدين عنده تعالى ـ كما ذكره أبو ذر ـ وتشديد القتل بغير الحقّ ، ولا بد من حملها على عدم تحقّق التوبة مع شرائطها وأداء الديّة ، وإلّا فيسقط عنه الذنب إذا ندم وأدّى ما عليه من الحقوق ، كما تقدّم.

وفي المجمع في قوله تعالى : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً). قال : «نزلت في مقيس بن صبابة الكناني وجد أخاه هشاما قتيلا في بني النجار فذكر ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأرسل معه قيس بن هلال الفهري ، وقال له : قل لبني النجار : إن علمتم قاتل هشام فادفعوه إلى أخيه ليقتصّ منه ، وإن لم تعلموا فادفعوا إليه ديته ، فبلّغ الفهري الرسالة فأعطوه الديّة ، فلما انصرف ومعه الفهري وسوس إليه الشيطان فقال : ما صنعت شيئا ، أخذت دية أخيك فيكون سبّة (عار) عليك ، اقتل الّذي معك لتكون نفس بنفس ، والديّة فضل ، فرماه بصخرة فقتله وركب بعيرا ورجع إلى مكّة كافرا ، وانشد يقول :

قتلت به فهرا وحمّلت عقله

سراة بني النجار أرباب قارع

فأدركت ثأري واضطجعت موسد

وكنت إلى الأوثان أوّل راجع

١٥٨

فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا اؤمنه في حلّ ولا حرم ، فقتل يوم الفتح».

أقول : رواه في الدرّ المنثور وغيره من المفسّرين عن ابن عباس وسعيد بن جبير وغيرهما. والعقل الديّة. والسراة جمع السرى الأشراف والأكابر من القوم ، وقارع علم لحصن. والرواية وإن لم تستند إلى معصوم ولكنّها من باب التطبيق.

وفي تفسير القمّي في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً) أنّها : «نزلت لما رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من غزوة خيبر وبعث أسامة بن زيد في خيل إلى بعض قرى اليهود في ناحية فدك ليدعوهم إلى الإسلام ، كان رجل يقال له مرداس بن نهبك الفدكي في بعض القرى ، فلما أحسّ بخيل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جمع أهله وماله في ناحية الجبل فأقبل يقول : أشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمدا رسول الله ، فمرّ به أسامة بن زيد فطعنه فقتله ، فلما رجع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أخبره بذلك ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : قتلت رجلا شهد أن لا إله إلّا الله وأنّي رسول الله؟! فقال : يا رسول الله إنّما قالها تعوّذا من القتل. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : هلا كشفت الغطاء عن قلبه ، ولا ما قال بلسانه قبلت ، ولا ما كان في نفسه علمت ، فحلف أسامة بعد ذلك أن لا يقتل أحدا شهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمدا رسول الله ، فتخلّف عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في حروبه ، فأنزل في ذلك الآية».

أقول : روي قريبا من هذا المعنى المحدّثون من المفسّرين ، وإن اختلفوا في استناد القصة ، فأسندوها تارة لمقداد بن سويد كما ذكره السيوطي في الدرّ المنثور. وأخرى لمحلم بن جثامة كما عن البيهقي. وثالثة لمرداس وغيرهم.

وكيف كان ، فإنّ جميعها من باب التطبيق لا التخصيص ؛ لما تقدّم في التفسير من أنّ الحكم المذكور فيها أمر عقلي ، وأنّ للدماء صيانة عقليّة فطريّة ، إلّا ما أهدرها الشارع الّذي هو خالق العقل وجاعل الفطرة.

ثمّ إنّ هناك روايات ذكرها السيوطي في الدرّ المنثور : «انّ القاتل المذكور

١٥٩

مات فدفنوه فلم تقبله الأرض وأصبح على وجهها ثلاث مرّات ، فلما رأوا ذلك استحيوا وخزوا ممّا لقي ، فحملوه واتقوه في شعب من تلك الشعاب».

أقول : تلقي أمثال هذه الروايات بالقبول مشكل جدا ، ولعلّ الوجه في ذلك أنّه للعبرة والعظة ، وإلّا فإنّ الأرض تستر من هو شرّ منه وأخبث ، والله العالم بحقائق الأشياء.

بحث فقهي :

يستفاد من الآيات المباركة الأحكام التالية :

الأوّل : أنّ القتل ينقسم إلى أقسام : فتارة القتل العمدي ، ويدلّ عليه قوله تعالى : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ) ، وحكمه القود كما يستفاد من سياق الآية المباركة ومن قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ) [سورة البقرة ، الآية : ١٧٩]. ويتحقّق العمد بقصد القتل بما يقتل غالبا ، كما تدلّ عليه جملة من الأخبار.

واخرى : القتل الخطائي ، وهو الخالي عن القصد إلى القتل ، ويدلّ عليه قوله تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً) ، وحكمه ثبوت الديّة على العاقلة والكفّارة ، ففي صحيح الحلبي عن الصادق عليه‌السلام : «انّ العمد كلّ من اعتمد شيئا فأصابه بحديدة أو حجر أو بعصا أو بوكزة ، فهذا كلّه عمد. والخطأ من اعتمد شيئا فأصاب غيره» ، وغيره من الروايات ، كما ذكرنا في الفقه.

وثالثة : الخطأ الشبيه بالعمد ، وهو أن يقصد الفعل دون القتل ، وتدلّ عليه جملة من الأخبار ، منها رواية العلاء بن الفضيل عن الصادق عليه‌السلام قال : «الخطأ الّذي يشبه العمد الّذي يضرب بالحجر أو بالعصا الضربة أو الضربتين ، لا يريد قتله» ، وحكمه الديّة ، ويدخل في هذا القسم علاج الأطباء المرضى فيتّفق الموت.

١٦٠