مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٩

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٩

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٣
ISBN: 964-5665-08-6
الصفحات: ٣٩٦

(فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (٨٨) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٨٩) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (٩٠) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (٩١))

الآيات الشريفة ترتبط بالآيات الكريمة السابقة وكأنّها متفرّعة عليها بعد تعيين الحكم الحقّ وتشريع القتال وبيان الطوائف الّتي كانت في المجتمع الإسلامي ، ثمّ التعرّض للشفاعة الحسنة والشفاعة السيئة وأنّ كلتا الشفاعتين تعطي لصاحبها النصيب والكفل من حسناتها ومساءتها.

ويبيّن عزوجل في هذه الآيات الشريفة الفئات المختلفة داخل المجتمع الإسلامي ، ودعا المؤمنين إلى الاتحاد وعدم الاختلاف في أمر المنافقين والتحزّب الى حزبين ، فئة ترى قتالهم وفئة تشفع لهم وتحرض على ترك قتالهم وإهمالهم.

١٢١

كما أنّ الآيات المباركة تحدّد موقف المسلمين إزاء الفئات خارج المجتمع الإسلامي ، من الكفّار المخالفين لقوم بينهم وبين المسلمين ميثاق ، وهم محايدون لا يريدون الكيد بالمسلمين والدخول في حرب معهم ولا الحرب مع قومهم الّذين على دينهم ، وفئة ثالثة يتلاعبون ، يظهرون الإسلام مع المسلمين ، ويبطنون النفاق والكفر ليأمنوا الطائفتين ، ثمّ يأمرهم بقطع مادّة الفساد بعد أن ردّهم عزوجل إلى الضلال ؛ جزاء بما كسبوا من السيئات ، ومن يضلل الله فما له من سبيل إلى الهدي ، فلا يرجى منهم الخير.

التفسير

قوله تعالى : (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ).

إنكار على ما حصل من المؤمنين من التفرقة في أمر المنافقين إلى فرقتين مختلفتين ، فرقة تتبرّأ من المنافقين وترى قتالهم ، وفرقة اخرى تتولّاهم وتشفع لهم وترى ترك قتالهم ، فلم يتّفقوا على كفرهم وقتالهم ، واختلفت الروايات في شأن نزول الآية الشريفة ، ولا بأس بحملها على تعدّد النزول وبيان بعض المصاديق إن صحّت تلك الروايات.

وكيف كان ، فالآية المباركة تدلّ على توبيخ المؤمنين على تفرّقهم وعدم اجتماعهم في قطع مادّة الفساد ، والإغماض عن شجرة الضلال بتركها حتّى تنمو وتقف عائقة في سبيل الدين الحقّ ونشر العدل.

كما أنّ الآية الشريفة ترشد المؤمنين إلى كيفيّة التعامل مع الفئات في داخل المجتمع ، وتأمرهم بالاتّفاق والاتّحاد والتعاون بينهم مقابل الفئة ، فإمّا الحكم عليهم بالكفر والقتال معهم ، أو نبذهم والإعراض عنهم وعدم التعامل معهم.

١٢٢

قوله تعالى : (وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا).

تأكيد للإنكار السابق وبيان السبب له ، والجملة حال من المنافقين ، أي : كيف تتفرّقون في شأنهم والحال أنّ الله أركسهم وقد ارتدّوا إلى الكفر.

ومادّة (ركس) تدلّ على التحوّل والانقلاب ، أي : قلب الشيء على رأسه وردّ أوّله إلى آخره ، وهو تارة : ظاهري ، كالردّ والقلب ، كما في النكس الّذي يكون الركس أبلغ منه ؛ لأنّ من يرمي منكسا في هوّة ، قلّما يتخلّص منها.

واخرى : معنوي ، كالتحوّل من الحالة العاديّة والفطرة المستقيمة إلى الحالة الرديئة ، كما حكى عنها عزوجل في قوله تعالى : (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [سورة الملك ، الآية : ٢٢] ، وهذا هو الانقلاب من الفطرة المستقيمة إلى غيرها وهو الركس ، أي : التحوّل المعنوي والانقلاب من الهدي والصراط المستقيم الى الكفر والضلالة ، كما يدلّ عليه ذيل الآية الشريفة.

والمعنى : أنّ الله تعالى رماهم منكّسين إلى الضلالة ، وحوّلهم من الإيمان إلى الكفر ؛ جزاء بما كسبوا من الخطايا والسيئات الّتي أفسدت فطرتهم ، فارتدّوا إلى الكفر وأوغلوا في الضلال وبعدوا عن الحقّ ، فلا يرجى منهم الخير والهداية ، ومثل هذا التعبير لم يرد في غير المنافقين ، وهو يكشف عن شدّة غيّهم وضلالهم وغورهم في الكفر ، وقد اهتمّ سبحانه وتعالى بالمنافقين وذكرهم في مواضع متعدّدة من القرآن الكريم ، وأفرد لهم سورة خاصة ، وبيّن جميع ما يتعلّق بهم وكشف عن نواياهم وسوء سرائرهم.

وإنّما نسب عزوجل الركس إلى نفسه اهتماما بهم ، ولبيان أنّ الأعمال الاختياريّة الّتي ارتكبوها ما كانت لتؤثّر في نفوسهم إلّا بإرادة منه عزوجل ولسلب التوفيق منهم.

١٢٣

قوله تعالى : (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ).

توبيخ آخر لهم وبيان للركس الوارد في صدر الآية المباركة وتعجيز لهم ، أي : أنّ ذلك محال ، فإنّ الّذي ردّ إلى الضلالة والكفر ليس في استطاعتكم هدايته وتغيير سنة الله تعالى فيه ، فلا تفيد شفاعتكم في هداية هؤلاء الّذين أضلّهم الله تعالى.

وتوجيه الإنكار إلى الإرادة لبيان شدّته والمبالغة فيه ، ببيان أنّ إرادة الهداية ممّا لا يمكن ، فضلا عن إمكان نفسها.

قوله تعالى : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً).

التفات من خطاب المؤمنين إلى الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفيه إشارة إلى أنّ من تشفّع من المؤمنين في حقّهم لا يدرك هذه الحقيقة ، وإلّا فلم يشفع لهم.

وهذه الآية الكريمة تبيّن حقيقة من الحقائق الواقعيّة الجارية في خلقه تعالى ، وهي أنّ الّذي أخزاه الله تعالى بسبب سوء أعماله الاختياريّة فصار ضالا عن الحقّ ، لم يكن له سبيل إلى الهداية.

وإنّما نفى عزوجل وجود السبيل فضلا عن نفس الهداية مبالغة ، ولانسداد الطرق بالنسبة إليه ؛ لأنّه خرج عن الفطرة المستقيمة ، فلا تؤثّر فيه أيّة حجّة ودليل ، فليس له من سبيل آخر يؤثّر فيه ويرجعه إلى رشده ليهتدي إلى الصراط المستقيم.

قوله تعالى : (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً).

وصف لنفسياتهم الضالّة المضلّة ، وبيان لتماديهم في الكفر وتصدّيهم لإضلال غيرهم بعد ما ضلّوا وكفروا كما حكى عنهم عزوجل في ما سبق ، فتكون الآية المباركة بيانا لقوله تعالى : (وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ) ، فهم يتمنّون أن يكون المؤمنون مثلهم في الكفر والنفاق على سواء ، فلا أثر للهداية فيه ؛ لأنّهم ليسوا من الكفّار الّذين يقتنعون بكفر أنفسهم فقط ، بل ردّهم الله

١٢٤

تعالى وحوّلهم من الصراط المستقيم والفطرة المستقيمة الّتي تدعو إلى تكميل النفوس والثبات على الحقّ.

وهذه الآية الشريفة تدلّ على أنّ الله تعالى صرف الهداية عنهم ؛ لأجل اختيارهم الكفر واقترافهم السيئات.

قوله تعالى : (فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ).

إرشاد إلى المؤمنين بالبراءة منهم ، وعدم اتّخاذهم أولياء في الخلّة والصداقة وإلقاء المودّة ، بعد ما عرفتم نفسياتهم من الوداد للكفر والنفاق حتّى يؤمنوا إيمانا صحيحا بالهجرة في سبيل الله تعالى.

والمراد من الهجرة الأعمّ من ترك المعاصي والنفاق ونبذ الأهل والأوطان ؛ لأنّها على أقسام ، أهمّها الهجرة عمّا يوجب سخط الله تعالى والدخول في ما يرضيه ، وهي هجرة الأنبياء والأولياء عليهم‌السلام والصالحين ، ففي الحديث : «المهاجر من هجر ما نهى الله عنه» ، وهي على مراتب متفاوتة ودرجات مختلفة. ومثل هذه الهجرة واجبة بظاهر الآية الشريفة ، وإن كانت الهجرة من دار الكفر إلى دار الإيمان متوقّفة على تحقّق شروطها المذكورة في كتب الفقه.

وقد تضمّنت الآية المباركة أهمّ حكم تربوي إصلاحي يعالج به الفئات الضالّة في داخل المجتمع ، فإنّ البراءة منهم وترك اتّخاذهم أولياء ، أو بالأحرى هجرة أهل الإيمان عن أهل النفاق ، لها الأثر النفسي الكبير في إصلاح نفوسهم المريضة المضلّة ، وترويضها على قبول الحقّ ؛ ولذا كانت البراءة منهم مقدّمة على هجرة أهل النفاق ، فإنّها بدون البراءة لا يكون لها ذلك الأثر الكبير في إصلاح النفوس ، فلا بد وأن يكون الإرشاد والتوجيه على طبق ما ورد في الآية الشريفة ؛ ليرجى منه الخير والصلاح والرشاد.

١٢٥

قوله تعالى : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ).

أمر بالقتال حيث تحقّق شروطه ، وهي الإعراض عن الإيمان المصاحب بالهجرة المستقيمة الّتي تكشف عن رسوخ الإيمان في القلب ، ونبذ النفاق والعداء للحقّ وأهله ، وقد أمر الله تبارك وتعالى المؤمنين بقتلهم حيث ما وجدوهم في الحلّ والحرم ، كسائر الكفّار بعد نقض العهد منهم.

والآية الكريمة تأمر المؤمنين أن يطلبوا منهم الهجرة ومراقبة أعمالهم ، وتبيّن العلّة في قتالهم والعذر في جهادهم ، وقد ذكر عزوجل بعض أحكام جهادهم في سورة التوبة كما سيأتي.

قوله تعالى : (وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً).

حكم اجتماعي تربوي لإصلاح النفوس وتهذيبها بالأمر بمقاطعتهم مقاطعة كلّية ، والمجانبة عنهم أبدا بعدم قبول الولاية ولا النصرة منهم ، وبدأ بالنهي بلفظ المضارع الدالّ على الاستمرار ، وتكرار أداة النفي الدالّ على التأكيد على أهميّة الحكم ، وتشجيع الهمم عليهم.

قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ).

استثناء من الضمير في قوله تعالى : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ) ؛ لبيان أنّ القتال مع المنافقين إنّما كان لضرورة ، فلا بد وأن تتقدّر بقدرها ، وقد استثنى عزوجل طائفتين.

إحداهما : من ترك المحاربين ولحق بالمعاهدين مع المؤمنين. أي : إلّا أولئك المنافقين الّذين ينتهون إلى قوم معاهدين مع المسلمين ويدخلون فيهم ، وقد عاهدوكم على مفارقة المحاربة معكم.

والصلة أعمّ من الجوار والحلف والالتجاء والعهد ، ممّا كان متعارفا في ذلك العصر ممّا يستجار ويؤمن به.

١٢٦

الثانية : الّذين لحقوا بالمؤمنين وهم يتحرّجون عن مقاتلة قومهم ومقاتلة المؤمنين ، كما سيأتي.

وذكر بعض المفسّرين أنّ الاستثناء يرجع إلى المؤمنين الّذين لم يهاجروا ، فإنّ الله تعالى قد أوجب الهجرة على كلّ من أسلم ، فاستثنى من كان له عذر ، وهم الّذين قصدوا الرسول للهجرة والنصرة إلّا أنّه منعهم الكفّار الّذين يخافونهم ، فصاروا إلى قوم بينهم وبين المسلمين عهد وميثاق ، وأقاموا عندهم ينتهزون الفرصة لإمكان الهجرة.

واستثنى أيضا من صاروا إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنين ولكن لا يقاتلون المسلمين ولا يقاتلون الكفّار معهم ؛ لأنّهم أقاربهم أو تركوا عندهم الأهل والمال ، فيخافون الفتك بهم إذا هم قاتلوا مع المسلمين.

وهذا الوجه بعيد عن ظاهر الآية المباركة كما هو معلوم ؛ لأنّ الكلام مع المنافقين الّذين أركسهم الله تعالى ، سواء كانوا في دار الكفر أو في دار الهجرة.

قوله تعالى : (أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ).

هذه الفئة الثانية من المنافقين الّذين استثناهم عزوجل من القتل. والحصر (بفتحتين) هو الضيق والانقباض ، وحصرت الصدور أي : ضاقت ، والحصر في القول هو الضيق في الكلام ـ ومنه الحصر بالفتح فالكسر ـ أي : الكتوم للسرّ ، والجملة حال من الضمير المرفوع في «جاءوكم» ، فلا بد من إضمار «قد» ، أي جاءوكم وقد حصرت صدورهم ، وقيل غير ذلك كما يأتي في البحث الأدبي.

والمعنى : إلّا الّذين جاءوكم ولحقوا بكم كافّين عن القتال وقد ضاقت صدورهم عن قتالكم وقتال قومهم ، ويمكن أن يراد بهؤلاء هم المتحرّجون عن القتال لا مع المؤمنين ولا عليهم ، فنفاقهم إنّما يكون بالولاء.

١٢٧

وكيف كان ، فهاتان الطائفتان مستثنون من الحكم المذكور في صدر الآية الشريفة.

والمستفاد منها اهتمام الإسلام بالعهود ومراعاة المواثيق ومجانبة القتال مهما أمكن ، إلّا إذا دعت الضرورة إليه ، فحينئذ تتقدّر الضرورات بقدرها ، كما عرفت آنفا.

قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ).

منّة على المؤمنين ، أي : من رحمته بكم أنّه تبارك وتعالى صرف تلك الفئتين عنكم لأسباب عديدة ، ولو شاء عزوجل لسلّطهم عليكم بوجوه ، منها إزالة الرعب عنهم وتقوية عزيمتهم وبسط صدورهم لقتالكم فلم يكفّوا عنكم ولم ينصرفوا عن قتالكم ، فإنّه على كلّ شيء قدير ، فهو قادر على أن يسلّط من يشاء على من يشاء إذا اقتضت حكمته المتعالية ذلك.

قوله تعالى : (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ).

أي : فإن لم يتعرّضوا لكم ولم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم والصلح ، بأن استسلموا ونبذوا العداء لكم.

قوله تعالى : (فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً).

أي فما أذن الله لكم في الاعتداء عليهم وقتالهم ، فإنّ الله تعالى لم يشرّع القتال إلّا إذا اعتدي على المؤمنين. وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يقاتل أحدا وقد تنحّى عنه واعتزله حتّى نزلت سورة التوبة وأمر بقتل المشركين ، اعتزلوه أو لم يعتزلوه ، إلّا من قد كان على عهد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال تعالى : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [سورة التوبة ، الآية : ٥].

قوله تعالى : (سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ).

إخبار عن قوم لم يهتدوا بهدى الإسلام ولم يستقر الإيمان في قلوبهم ، فقد

١٢٨

أسلموا رياء ليأمنوا بطش المؤمنين ، وكفروا بالحقّ ليأمنوا قومهم ، فهم مذبذبون لا يهمّهم إلّا حفظ أنفسهم وسلامة أبدانهم ، وقد أخبر عزوجل بأنّهم منافقون ؛ ليحذر المؤمنون منهم فلا يوادعونهم كما لا يواعدونهم.

ومضمون الآية المباركة لا يختصّ بعصر النزول ، فإنّ أهل الحقّ على ابتلاء بمثل هؤلاء الطائفة في كلّ عصر ، وأنّهم يعانون من نفاقهم وعدم خضوعهم أمام الواقع وعدم إذعانهم بالحقّ واتباعه.

قوله تعالى : (كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها).

أي : كلّما سنحت لهم الفرصة إلى الفتنة ـ وهي الكفر ومساعدة الكفّار على المؤمنين ـ تحوّلوا إليها بسهولة شرّ تحوّل ، وانتكسوا من العهد والإيمان وعادوا إلى الكفر أقبح عود.

والارتكاس هو : الانتكاس والقلب أقبح قلب وأشنعه. وهذا الوصف يكشف عن شدّة غيظهم وبعدهم عن الحقّ ، كما يكشف عنه الآية التالية أيضا.

قوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ).

بيان لشروط قتال هذه الطائفة ، وتبديل الكلام فيها من الإثبات إلى النفي ، واختلافه عمّا ذكره تعالى في الطائفة السابقة ، قال تعالى : (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ) ؛ لإرشاد المؤمنين إلى خبث هذه الطائفة وأخذ الحيطة عن هؤلاء وتشديد الحذر منهم.

والشروط الّتي ذكرها عزوجل لترك قتالهم ، هي اعتزالهم عن المسلمين ، وعدم التحريض على قتلهم ، واستسلامهم بالمصالحة والموادعة مع المسلمين ، والانقياد لهم وكفّ أيديهم عن قتال المسلمين ، فإنّ بهذه الشروط يؤمن جانبهم فلا يخاف غدرهم وشرّهم ، وإن لم يتحقّق شرط من هذه الشروط فقد تمّت الحجّة عليهم ، فيحلّ عليكم قتالهم ، كما أخبر عزوجل.

١٢٩

قوله تعالى : (فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ).

جواب للشروط المزبورة ، أي : فإن لم تتحقّق تلك الشروط ولم يفعلوا ذلك ، فأسروهم واقتلوهم حيث وجدتموهم وتمكنتم منهم ؛ لتمامية الحجّة عليهم.

قوله تعالى : (وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً).

أي : جعلنا لكم على هذه الطائفة حجّة واضحة في التعرّض لهم بالسبي والقتل ، لظهور عدوانهم وكفرهم وخبث سرائرهم وإصرارهم على الغدر والإضرار بالإسلام وأهله ، ويمكن أن يراد بالسلطان المبين هو التسلّط الظاهر عليهم ، حيث أذن عزوجل في أخذهم وقتلهم ، ويؤيّده تقابل هذه الآية الكريمة بقوله تعالى في الآية السابقة : (فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً).

١٣٠

بحوث المقام

بحث أدبي

«ما» في قوله تعالى : (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ) استفهام إنكار وهو مبتدأ ، و «لكم» خبره ، و «فئتين» منصوب إمّا على أنّه حال من ضمير «لكم» المجرور ، والعامل فيه إمّا الاستقرار أو الظرف. وإمّا منصوب على أنّه خبر (كان) مقدّرة ، أي : ما لكم في شأنهم كنتم فئتين.

وأشكل على الوجهين بأمور ذكروها في كتب النحو فراجع.

وجملة : (وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا) حال من المنافقين تفيد تأكيد الإنكار السابق ، والباء للسببيّة ، و (ما) إمّا موصولة أو مصدريّة.

و «لو» في قوله تعالى : (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا) مصدريّة لا جواب لها ، والفاء في قوله تعالى : (فَتَكُونُونَ سَواءً) للعطف لا للجواب ، كقوله تعالى : (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) [سورة القلم ، الآية : ٩] ، فيكون من عطف المصدر المقدّر على الملفوظ.

وقوله تعالى : (أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) عطف على صلة (الَّذِينَ يَصِلُونَ) ، والتقدير : (أو الّذين جاؤكم). و (حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) حال بإضمار (قد) ، أو صفة لموصوف محذوف هو حال من فاعل «جاؤكم» ، أي : جاؤكم قوم حصرت ، أو في موضع خفض على النعت لقوم.

واللام في (فَلَقاتَلُوكُمْ) لام المجازاة والازدواج كما ذكره جمع ، أو لام الجواب لعطفه على الجواب ؛ ولا حاجة لتقدير (لو).

و «يكفوا» في قوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ) عطف على المنفي لا النفي ، بقرينة سياق الآية المباركة ، وسقوط النون

١٣١

الّذي هو علامة الجزم لا يدلّ على كون العطف على النفي ؛ لأنّ الجملة مبدوءة ب أن الشرطية ، وهي جازمة مطلقا سواء كان العطف على النفي أو المنفي.

بحث دلالي :

تدلّ الآيات الشريفة على أمور :

الأوّل : يستفاد من الآيات الكريمة حكم الإسلام مع الفرق المخالفة للمؤمنين ، وتثبيت أركان القانون العامّ. ويؤكّد على الوفاء بالمواثيق ، ويربّي المؤمنين على احترام العهود ، ويأمرهم بالاتّحاد أمام الفرق المخالفة ، وينهاهم عن الاختلاف في شأنهم بعد اشتراكهم في الكفر ، ويأمرهم بالرجوع إلى الحقّ والدخول في صفوف المؤمنين وإلّا كان القتل ، كما يأمرهم بعدم اتّخاذهم أولياء وأنصارا إلّا من كان بينكم وبينهم عهد وميثاق فلا بدّ من احترامه وعدم نقضه ، فإنّه يؤمن جانبهم ما داموا على العهد ، أو من كان منهم من لا يريد القتل ويشمئز منه ، فإنّه يؤمن أيضا ما دام معتزلا عنه.

ثمّ يبيّن عزوجل حكم الطائفة الاخرى الّتي تريد الغدر بالإسلام وأهله ، واختلف الحكم فيهم عن الحكم في الطائفة الأولى ، فاعتبر في قتلهم أمور عدميّة بخلاف السابق ، وهي عدم الاعتزال ، وعدم إلقاء السلام ، وعدم كفّ الأيدي ؛ لاختلاف الموردين ، فإنّ الأولى كانت عازمة على قتال المسلمين ، وأمّا الثانية فقد كانت على غدر وخيانة وتريد القضاء على الإسلام. ومن هنا جاء اختلاف السياق في الموردين.

الثاني : يستفاد من قوله تعالى : (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ) أنّ اختلاف المؤمنين في شأن المنافقين إنّما كان لأجل حبّهم لهدايتهم ورجوعهم إلى الحقّ والتجنّب عن سفك الدماء لا خوفا ولا جبنا ، أو الإعراض عن حكم الله

١٣٢

تعالى ، بدليل قوله تعالى : (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ) ، ومع ذلك فقد وقعوا موقع التوبيخ ؛ لأنّه يرجع إلى تولّي أعداء الله تعالى.

الثالث : يدلّ قوله تعالى : (وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا) ، على أنّ الأعمال لها الشأن الكبير في النكوص عن الحقّ والإعراض عن طاعة الله تعالى والدخول في سلك أعدائه عزوجل وانسلاكه في زمرة المنافقين.

الرابع : يستفاد من قوله تعالى : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) أنّ جميع ما يعدّه الإنسان في هداية شخص وما يبذله من جهد في إراءة الطريق ، لا يجدي نفعا إذا لم تسبقه هداية من الله تعالى وتوفيق منه عزوجل ، فهي كالعلّة المادّية لقبول الصور الواقعة عليها ، الّتي تحصل من إيمان الفرد وجهده وعمله.

الخامس : يستفاد من مجموع الآيات الشريفة في المقام أنّ المنافقين الّذين ورد ذكرهم فيها على فريقين : فريق دخلوا في الإسلام خوفا من الحسام ، وقد أبطنوا الكفر ، يتربّصون بالمسلمين الدوائر ، يظهرون المودّة لهم إذا ظهر لهم قوّة ، وإذا تبيّن ضعفهم انقلبوا عليهم وأظهروا العداوة والبغضاء ، وفريق آخر يظهرون الولاء للمسلمين طمعا للمال أو المادّة ، فهم يتبعونه أينما وجد ، مذبذبون بين ذلك ، لا إلى المسلمين ولا إلى الكفّار فيأمنوا الجانبين ، تراهم يردّون إلى الفتنة شرّ تحوّل مرة بعد أخرى ، وهناك فريق ثالث دخلوا في الإسلام ولم يهتدوا بهديه ، تراهم ينكصون عن الطاعة ويتمرّدون على الشريعة ، ولم يستسلموا لأحكام الله تعالى ورسوله ، وفريق رابع لاحظوا الجوانب المادّية والبعد المادّي في الإسلام ، ولكنّهم يعرضون عن الجانب المعنوي الروحاني فيه ، فتراهم يعملون ويطيعون لأجل البعد المادّي ، قد فقد فيهم الخلوص ، وهم منافقون في الأعمال ، بخلاف القسم الأوّل الّذي كان النفاق في الإيمان والأعمال ، وهذان الفريقان وإن لم يذكرا في هذه الآيات المباركة ولكن سبقت الإشارة إليهما في الآيات الكريمة السابقة ، وسيأتي أقسام

١٣٣

أخرى نشير إليها في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى ، ويستفاد من مجموعها اختلاف أغراض المنافقين وتعدّد سبل كيدهم وغدرهم.

السادس : تدلّ الآيات المباركة على شروط ترك القتال مع المنافقين ، وهي مضافا إلى كونها شروطا لاعتزال القتال ، هي في نفس الوقت أسس تربويّة لإصلاح النفوس المريضة ، فلم تكن مجرّد شروط يفرضها الحاكم على المحكوم للنيل منه أو دحره واحتقاره ، بل هي أحكام تربويّة إصلاحيّة ، فتكون من موارد تطبيق نظرية الإسلام في تشريع الأحكام.

وهذه الشروط هي : الاعتزال عن القتال وتركه ، والصلح والانقياد ، وكفّ الأذى عن المؤمنين ، وكلّ ما يوجب الإهانة بالإسلام والمسلمين ، وهذه الشروط الثلاثة من أهمّ الطرق لإصلاح النفوس وترويضها على الطاعة والانقياد.

السابع : يمكن أن يكون قوله تعالى : (وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ) كناية عن ترك جميع ما يمسّ بكرامة الإسلام والمسلمين من الأذى والنبز والإهانة والتعريض وجميع الدسائس ، وبذلك يؤمن شرّهم ويترك القتال معهم بالصلح والانقياد معهم تصلح نفوسهم.

بحث روائي :

في المجمع في قوله تعالى : (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) قال : «اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية ، نزلت في قوم قدموا المدينة من مكّة فأظهروا للمسلمين الإسلام ثمّ رجعوا إلى مكّة ؛ لأنّهم استوخموا المدينة فأظهروا الشرك ثمّ سافروا ببضائع المشركين إلى اليمامة ، فأراد المسلمون أنّ يغزوهم فاختلفوا ، فقال بعضهم : لا نفعل فإنّهم مؤمنون ، وقال آخرون : إنّهم مشركون ، فأنزل الله تعالى فيهم الآية ، وهو المروي عن أبي جعفر عليه‌السلام.

١٣٤

أقول : قريب منه ما رواه في الدرّ المنثور ، ومعنى : «استوخموا المدينة» استثقلوها ولم يوافق هواؤها أبدانهم لمرض ، كالوباء أو غيره ، وفي الحديث : «من أضلّه الله وأعمى قلبه ، استوخم الحقّ» ، أي : استثقله ولم يقبله وصار الشيطان وليّه وقرينه.

وكيف كان ، فالرواية من باب التطبيق وذكر المصداق للآية المباركة.

وفي الدرّ المنثور في قوله تعالى : (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا) قال : «خطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الناس فقال : من لي بمن يؤذيني ويجمع في بيته من يؤذيني؟ فقام سعد بن معاذ فقال : إن كان منّا يا رسول الله قتلناه ، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا فأطعناك ، فقام سعد بن عبادة فقال : ما بك يا ابن معاذ طاعة رسول الله ، ولكن عرفت ما هو منك ، فقام أسيد بن حضير فقال : إنّك يا ابن عبادة منافق تحبّ المنافقين ، فقام محمد بن مسلمة فقال : اسكتوا أيّها الناس ، فإنّ فينا رسول الله وهو يأمرنا فننفذ لأمره ، فانزل الله تعالى الآية».

أقول : لعلّ وجه استنصاره صلى‌الله‌عليه‌وآله بهم لامتحانهم بعد إتمام الحجّة عليهم ، فبيّن الله تعالى ما كان في ضمائرهم وكشف عن حقيقتهم. والرواية من باب التطبيق والجري لا التخصيص والحصر.

وفي تفسير القمّي في قوله تعالى : (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) ـ الآية ـ ، أنّها نزلت في أشجع وبنى ضمرة ، وهما قبيلتان ، وكان من خبرهم أنّه لما خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الى غزاة الحديبية أتى بدرا لموعد مرّ قريبا من بلادهم ، وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هادن بني ضمرة ووادعهم قبل ذلك ، فقال أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا رسول الله ، هذه بنو ضمرة قريبا منّا ونخاف أن يخالفونا إلى المدينة ، أو يعينوا علينا قريشا ، فلو بدأنا بهم؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : كلا ، إنّهم أبرّ العرب بالوالدين وأوصلهم للرحم وأوفاهم بالعهد.

١٣٥

وكانت أشجع بلادهم قريبا من بلاد بني ضمرة من بطن كنانة ، وكان أشجع بينهم وبين بني ضمرة حلف بالمراعاة والأمان ، فأجدبت بلاد أشجع وأخصبت بلاد بني ضمرة ، فصارت أشجع إلى بلاد بني ضمرة ، فلما بلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مسيرهم إلى بني ضمرة تهيّأ للمسير إلى أشجع ليغروهم للموادعة الّتي بينه وبين بني ضمرة ، فأنزل الله تعالى : (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) ، ثمّ استثنى بأشجع فقال : (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً) ، وكانت أشجع محالها البيضاء والحال والمستباح ، وقد كانوا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فهابوا لقربهم من رسول الله أن يبعث إليهم من يغزوهم ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد خافهم أن يصيبوا من أطرافه شيئا فهمّ بالمسير إليهم ، فبينما هو على ذلك إذ جاءت أشجع ورئيسها مسعود بن رجيلة وهم سبعمائة فنزلوا شعب سلع ، وذلك في شهر ربيع سنة ست من الهجرة ، فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أسيد بن حصين وقال له : اذهب في نفر من أصحابك حتّى تنظر ما أقدم أشجع ، فخرج أسيد ومعه ثلاثة نفر من أصحابه فوقف عليهم فقال : ما أقدمكم؟ فقام إليه مسعود بن رجيلة وهو رئيس أشجع فسلّم على أسيد وعلى أصحابه ، فقالوا : جئنا لنوادع محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فرجع أسيد إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : خاف القوم أن أغزوهم فأرادوا الصلح بيني وبينهم ، ثمّ بعث إليهم بعشرة أحمال تمر فقدّمها أمامه ، ثمّ قال : نعم الشيء الهدية أمام الحاجة ثمّ أتاهم فقال : يا معشر أشجع ما أقدمكم؟ قالوا : قريب دارنا منك وليس في قومنا أقل عددا منّا ، فضقنا لحربك لقرب دارنا منك وضقنا لحرب قومنا لقلّتنا فيهم ، فجئنا لنوادعهم ، فقبل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله منهم ووادعهم ، فأقاموا يومهم ثمّ

١٣٦

رجعوا إلى بلادهم ، وفيهم نزلت هذه الآية : (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) ـ إلى قوله تعالى ـ (فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً).

أقول : الرواية من باب التطبيق لا التخصيص ، ويستفاد منها أمور :

الأوّل : إنّما وداع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قبيلة بني ضمرة وعاهدهم لما فيهم من الصفات الحسنة الّتي تقرّبهم إلى الفطرة السليمة والإسلام ، ولعلّ صلحه صلى‌الله‌عليه‌وآله معهم صار سببا لإسلامهم فيما بعد.

الثاني : يستفاد من تقريره صلى‌الله‌عليه‌وآله للموادعة والمعاهدة الّتي كانت بين بني ضمرة وأشجع ، أن كلّ معاهدة تكون بين الرهطين والقبيلتين تجوز إن لم تناف مع الأحكام الشرعيّة. والمراد من «ليغروهم» في الرواية ، أي : ليظهر صلى‌الله‌عليه‌وآله عجبه ورضاه للموادعة الّتي بين أشجع وبين بني ضمرة.

الثالث : يستفاد منها أنّ إهداء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أحمال التمر لهم لأجل تأليف قلوبهم وترغيبهم لمناصرة الحقّ ، أو لأجل أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله علم أنّ القوم بحاجة إلى ذلك ، فأرسل إليهم ليسدّ حاجتهم حتّى يعرفوا بذلك خلقه الكريم ومعالم دينه الحنيف.

وفي المجمع : المروي عن أبي جعفر عليه‌السلام أنّه قال : «المراد بقوله تعالى : (قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) هو هلال بن عويمر السلمي وأوثق عن قومه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال في موادعته : على أن لا نحيف يا محمد من أتانا ، ولا تحيف من أتاك. فنهى الله تعالى أن يتعرّض لأحد عهد إليهم».

أقول : المراد من الحيف الظلم والجور ، وفي الحديث : «إنّا معاشر الأنبياء لا نشهد على الحيف» ، أي : على الظلم والجور ، والرواية من باب ذكر أحد المصاديق أو التطبيق.

وفي الكافي بإسناده عن الفضل أبي العباس عن الصادق عليه‌السلام في قول الله عزوجل : (أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ) قال : «نزلت في بني مدلج ؛ لأنّهم جاءوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا : إنّا قد حصرت

١٣٧

صدورنا أن نشهد أنّك لرسول الله ، فلسنا معكم ولا مع قومنا عليك ، قال : قلت : كيف صنع بهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟! قال : وادعهم إلى أن يفرغ من العرب ثمّ يدعوهم فإن أجابوا وإلّا قاتلهم».

أقول : الرواية من باب التطبيق ، وإن المعاهدة الّتي قرّرها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كانت ماداميّة لمصلحة هي أهمّ من مقاتلتهم ، كما مرّ في التفسير.

العياشي عن سيف بن عميرة قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قوله تعالى : (يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ) قال : كان أبي عليه‌السلام يقول : نزلت في بني مدلج اعتزلوا فلم يقاتلوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يكونوا مع قومهم ، قلت : فما صنع بهم؟ قال : لم يقاتلهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى فرغ من عدوه ثمّ نبذ إليهم على سواء ، قال : و (حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) وهو الضيق».

أقول : الرواية من باب التطبيق كما مرّ ، والمراد من قوله عليه‌السلام : «ثمّ نبذ إليهم على سواء» ، خالفهم وجاهر معهم الحرب.

البيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ) قال : نسختها براءة (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ).

أقول : إنّ الأمر بقتل المشركين بعد إتمام الحجّة عليهم ، وإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يبتدأ بقتال أحد من المشركين إلّا إذا اعتدى المشركون على المؤمنين وتمّت الحجّة عليهم ، فليس المراد من النسخ معناه المصطلح ، بل هو نوع من التخصيص كما مرّ.

وفي تفسير القمّي عن الصادق عليه‌السلام : «كانت السيرة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل نزول سورة البراءة ألّا يقاتل إلّا من قاتله ، ولا يحارب إلّا من حاربه ، وقد كان نزل في ذلك من الله سبحانه : (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً) ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يقاتل أحدا قد تنحّى عنه

١٣٨

واعتزله حتّى نزلت عليه سورة براءة وأمر بقتل المشركين ، من اعتزله ومن لم يعتزله ، إلّا الّذين قد كان عاهدهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم فتح مكّة إلى مدّة».

أقول : الحديث طويل ويأتي بيانه في سورة براءة إن شاء الله تعالى ، والمراد من قتل المشركين المعاندون الّذين تمت الحجّة عليهم ، كما مرّ.

وفي المجمع عن الصادق عليه‌السلام في قوله تعالى : (سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها) قال : «نزلت في عيينة بن حصين الفزاري ، أجدبت بلادهم فجاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ووادعه على أن يقيم ببطن نخل ولا يتعرّض له ، وكان منافقا ملعونا ، وهو الّذي سمّاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الأحمق المطاع في قومه».

أقول : الرواية من باب التطبيق ، والمراد من بطن نخل ، موضع بين مكّة وطائف.

وفي الدرّ المنثور في قوله تعالى : (سَتَجِدُونَ آخَرِينَ) ـ الآية عن مجاهد قال : «ناس من أهل مكّة كانوا يأتون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فيسلمون رياء ثمّ يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان ، يبتغون بذلك أن يأمنوا هاهنا وهاهنا ، فأمر بقتالهم إن لم يعتزلوا ويصالحوا».

أقول : الرواية من باب التطبيق وذكر أحد المصاديق.

١٣٩

(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (٩٢) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (٩٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٩٤))

الآيات الشريفة تشتمل على أمهات الأحكام وتتضمّن أصلا مهمّا من أصول الشريعة الإسلاميّة ، وهو احترام الدماء المصونة وحفظها ، وبه تتم الأصول الثلاثة الّتي عليها دين خاتم الأنبياء ، وقد ذكر سبحانه وتعالى الأصلين الآخرين في الآيات السابقة ، وهما احترام المال ، واحترام العرض.

كما ذكر سبحانه وتعالى في هذه الآيات المباركة حال المؤمنين بعد بيان حال الكفّار والمنافقين كذلك بين أحكام قتالهم ، وبهذه المناسبة بيّن عزوجل حكم القتل خطأ والقتل عمدا في ما يقع بين المسلمين بعضهم مع بعض ، كما ذكر حكم قتلهم لغيرهم ، وشدّد جلّ شأنه في الدم وحرّم قتل المؤمن مطلقا وجعل عليه الكفّارة والديّة ، ولعن تعالى القاتل الّذي قتل أخاه المؤمن عمدا وعدوانا ، وأعدّ له العذاب العظيم بعد ما غضب عليه.

١٤٠