مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٩

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٩

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٣
ISBN: 964-5665-08-6
الصفحات: ٣٩٦

وفي اختلاف التعبير في المقامين لبيان أنّ من يجري الشرّ في أفعاله ، فله من فعله كفيل يسأله ويحاسبه ، فلا يمكن التخلّص من عقوبته.

وكيف كان ، فالآية المباركة بعمومها تشمل جميع أنواع الشفاعات الدائرة بين الناس ، وهي قسمان الحسنة والسيئة ، فيدخل فيها الدعاء للأخ أو عليه ، ولعلّ أبرزها التبطئة عن القتال وإظهار الأعذار عن الدخول في الجهاد ، فإنّها من الشفاعة السيئة. ولم يبيّن سبحانه وتعالى الحسنة والسيئة في المقام ؛ اعتمادا على معروفيّتهما عند الناس.

كما أنّ الآية المباركة تحرّض المؤمنين على الشفاعة الحسنة ، وتنهى عن الشفاعة السيئة ، الّتي هي شفاعة أهل الظلم والطغيان والمفسدين في الأرض.

قوله تعالى : (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً).

تقرير لما سبق ، وتأكيد له ، والمقيت : المقتدر الحافظ ، ومن أسمائه جلّت عظمته (المقيت) ، أي : الحفيظ ، وفي الحديث : «كفى بالمرء إثما أن يضيّع من يقيت» ، أي : من تلزمه نفقته من أهله وعياله وعبيده ، ممّن هو تحت قدرته ، وقال الزبير بن عبد المطلب :

وذي ضغن كففت النفس عنه

وكنت على مساءته مقيتا

أي قديرا. وقيل : إنّ مقيتا من أقته أقاته ، فأنا قائت ومقيت.

وكيف كان ، فإنّ فيه معنى الحساب ، أي : قادر على كلّ شيء على حساب دقيق يعطى على قدر الحاجة ، قال الشاعر :

إليّ الفضل أم عليّ إذا

حوسبت أبي على الحساب مقيت

والآية الكريمة تقرّر مضمون ما قبلها وتؤكّده كما ذكرنا ، أي : أنّ الله تعالى قادر وشهيد على الشفعاء ، يعلم محسنهم عن مسيئهم ويجازيهم على فعلهم.

والآية الشريفة بمجموعها تقرّر حكما اجتماعيّا وسنّة طبيعيّة ، وفيها تلخيص موقف المؤمنين المحسنين المقاتلين في سبيل الله تعالى ، وموقف المنافقين المسيئين

١٠١

المتخاذلين عن القتال ، الّذين حكى عنهم عزوجل في الآيات السابقة وبيّن نهاية كلّ واحد من الفريقين.

قوله تعالى : (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ).

حكم اجتماعي به تشتدّ أواصر الثقة بين الأفراد ، ويظهر حسن الأدب بينهم ، وفي هذا الحكم تظهر نعمة السلام بعد انتهاء القتال ، كما أنّ منه يستفاد القاعدة الأساسيّة في الإسلام ، الّذي يسعى إلى السلام الّذي يرضاه الله تعالى ، وفيه تشيد أركان الدين القويم ، ويزال منه كلّ شرك وفتنة. ومن ذلك يعرف الوجه في تذييل آيات القتال بهذه الآية الآمرة بردّ التحيّة بمثلها أو بأحسن منها ، وهي من سنخ الشفاعة الحسنة أيضا الّتي أرشد الله تعالى المؤمنين باتّخاذها وسيلة لتثبيت النظام وتشييد الأركان وترويض النفس على التخلّق بأخلاق الكرام.

والتحيّة : تفعلة مصدر حيى يحيى تحية ، كتزكية وتسمية ، فادغموا الياء في الياء ، وهي في الأصل الدعاء بالحياة وطولها ، وصارت اسما لكلّ دعاء وثناء ، ولها مظاهر مختلفة ، وفيها عادات متفاوتة ، فلكلّ قوم تحيّة معيّنة ، ولكن تحيّة المسلمين السلام ، قال تعالى : (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ) [سورة النور ، الآية : ٦١] وقال تعالى : (وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) [سورة يونس ، الآية : ١٠]. وقيل : إنّ فيه مزيد على كلّ تحيّة ؛ لأنّه اسم من أسمائه المقدّسة ودعاء بالسلامة عن الآفات والعاهات ويستلزم طول الحياة ، ولأنّه ينبئ عن أنّ دين الإسلام دين الأمان والسلام ، وأنّ المؤمنين به هم أصول السلم ومحبّوا السلامة.

وظاهر الآية الشريفة أنّها تشمل كلّ أنواع التحيّة من السلام المعهود وتسميت العاطس ، وأنواع البرّ والصلات القوليّة منها والفعليّة ، ومنها تحيّة السلم والصلح الّتي تلقى إلى المسلمين ، فإنّ جميع ذلك من التحيّة ، وقد وردت في ذلك عدّة روايات ، كما سيأتي نقلها في البحث الروائي.

١٠٢

قوله تعالى : (فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها).

يستفاد منه أنّ للجواب مرتبتين ، أدناهما ردّها بعينها ، وأعلاهما الجواب بأحسن منها. ولم يعيّن سبحانه وتعالى الجواب ؛ لأنّه يتبع العادات والتقاليد المعروفة ، وإن ورد في بعض الآثار أنّ الأحسن هو أن يقول : «السلام عليك ورحمة الله وبركاته» ، والردّ بالمثل هو أن يقول : «عليك السلام».

وظاهر الآية المباركة أنّ الجواب فرض وإن كان أصل التحيّة تطوعا ونفلا ، وقد ورد في آداب التحيّة وكيفيتها وأحكامها الشيء الكثير ، وسنذكر جملة منها في البحوث المناسبة الآتية.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً).

تأكيد لمضمون الآية المباركة. والحسيب بمعنى الحفيظ المراقب ، وهو من أسمائه تعالى ، وقيل : هو فعيل من الحساب. وقيل : إنّه بمعنى الكافي ، فعيل بمعنى مفعل ، من قولهم : أحسبني كذا ، أي كفاني.

وقيل : إنّه بمعنى الكافئ ، والظاهر التلازم بين تلك المعاني ، فإنّ المحاسب المراقب لأفعال العباد يكون كافيا في إيصال ما يكافئه.

وكيف كان ، فالمعنى : أنّ الله تعالى على كلّ شيء رقيب وحافظ ، يرقب أفعالكم ـ ومنها الصلة بالتحيّة ـ فيحاسبكم عليها وعلى غيرها ، فيدلّ على شدّة الاعتناء بهذا الحكم الاجتماعي الّذي يحفظ الترابط ويرفع التنافر بين الأفراد.

قوله تعالى : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ).

توجيه عقائدي يهدي الإيمان في قلوب المؤمنين ويثبته ، وهو يشتمل على ركنين من أهمّ أركان الإيمان. وهما التوحيد ، والإيمان بالبعث والجزاء في الدار الآخرة ، وهما الركنان اللّذان أمر الله تعالى أنبياءه العظام بتبليغهما الناس وإقامتهما ، وهما من أهمّ الروابط بين آيات الكتاب المبين ، ويكونان وقفة بين الآيات

١٠٣

الشريفة ، يتوقّف فيها المؤمن بعد السير الطويل في جملة من الأحكام الإلهيّة ؛ لبيان أنّها هي الّتي تدعم هذين الركنين.

والآية الشريفة بمنزلة التعليل لجميع تلك الأحكام الّتي شرّعها عزوجل والإرشادات الربوبيّة والتوجيهات الإلهيّة ، فتكون الباعث القوي على العمل بتلك الأحكام ، لا سيما أحكام القتال مع أعداء الله تعالى ، وتكون تثبيتا للمشاعر الإيمانيّة ، وتقوية للنفس على احتمال تبعات تلك التكاليف وثقلها مادامت تؤدّي إلى عبادة الله الواحد الأحد ، ومادام الجزاء محفوظا عنده عزوجل ، يجازي العباد على ما عملوا في يوم القيامة الّذي سيجمع الناس فيه.

والآية المباركة بمنزلة القاعدة العريضة الّتي تبتني عليها جميع التكاليف الإلهيّة ، وإنّ كلّ قتال وجهاد لا بدّ وأن يكون على هذا الأساس ، فمضمونها قانون عامّ تظهر فيه جميع الأحكام.

والمعنى واضح ، فهو الله لا إله إلّا هو ، لا يعبد غيره ، ولا يجوز التقصير في عبادته ويجب الخضوع لأمره ، فإنّه شرّع لكم من الأحكام ما يوجب سعادتكم في الدارين.

قوله تعالى : (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ).

تهديد لمن أعرض عن الأحكام الإلهيّة وعبادة الله الواحد الأحد ، وتوكيد لما ورد في الآيات السابقة ، فإنّ من يطع الله ويعمل ويجاهد في سبيله يؤمن من فزع يوم الحشر.

الجمع : في المقام بمعنى الحشر ؛ ولذا عدّي ب : (إلى) ، كما عدّي الحشر بها ، قال تعالى : (لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٥٨] ، وقيل : إنّ (الى) بمعنى (في) ، أي : ليجمعنكم في يوم القيامة.

وقيل : إنّ (الى) صلة في الكلام ، والمعنى ليجمعنكم يوم القيامة.

١٠٤

واللام في (ليجمعنكم) لام القسم ، وكلّ لام بعدها نون مشدّدة فهي لام القسم.

والقيامة من القيام والتاء فيه مصدرية كزيادة ، وكرامة. وسمّيت القيامة قيامة لأنّ الناس يقومون فيه لربّ العالمين ، قال تعالى : (أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ* لِيَوْمٍ عَظِيمٍ* يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) [سورة المطففين ، الآية : ٤ ـ ٦] ، وقيل : سمّي يوم القيامة لأنّ الناس يقومون من قبورهم ، وعلى هذا يصحّ أن يقال بأنّ الجمع إنّما عدّي بإلى لتضمينه معنى الإفضاء المتعدّى بها ، أي : ليحشرنكم من قبوركم إلى حساب يوم القيامة ، أو مفضى إليه.

قوله تعالى : (لا رَيْبَ فِيهِ).

تأكيد آخر بعد تأكيده بالقسم الّذي هو من أقوى المؤكّدات ؛ لدفع كلّ شكّ وارتياب في وقوع ذلك الحشر والحساب والجزاء على الأعمال ، فلا ريب في ذلك كلّه.

وإنّما أتى عزوجل بالوقت ـ وهو يوم القيامة ـ للتحريض على العمل ، والجدّ فيه ، ويرغبوا إليه ويرهبوا عن تركه.

قوله تعالى : (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً).

استفهام إنكاري ، والمقصود تثبيت كونه صادقا ، وبيان أنّه يجب أن يكون تعالى صادقا ، وأنّ الكذب قبيح بالنسبة إليه ، فهو محال عليه.

والتفضيل لبيان شدّة تنزّهه عن الكذب وعدم الخلف لوعده ، فليس المقصود منه الكميّة ولا الكيفيّة. والصدق معلوم ، والحديث أعمّ من القول والخبر والوعد ، فهو عالم بجميع الحقائق ، غني عن العالمين ، يستحيل على مثله الكذب والخيانة ، والمعنى : لا أحد أصدق من الله تعالى.

١٠٥

بحوث المقام

بحث دلالي :

تدلّ الآيات الشريفة على أمور :

الأوّل : يدلّ قوله تعالى : (مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها) على أنّ الآثار المترتّبة على المشفوع لأجله ـ سواء كانت خيرا وصلاحا ، أم كانت شرّا وفسادا ـ إنّما تلحق بالشفيع ؛ لأنّ الشفاعة نوع توسّط ولها السببيّة في إصلاح شأن أو ترميم نقيصة أو حيازة مزيّة ، الّتي هي من مقاصد الشفيع والمشفوع له. فلا بدّ أن يلاحظ الآثار المترتّبة على الشفاعة قبل وقوعها.

كما أنّ الآية المباركة تدلّ على قبول كلّ شيء للشفاعة ، إلّا ما خرج بالدليل ، ممّا لا تقبل الشفاعة ولا يسقط إلّا بفعل الإنسان نفسه ، مثل ما ورد في أنّه لا شفاعة في حدّ ، ونحو ذلك.

كما أنّ الآية الشريفة تثبت الشفاعة التكوينيّة ، وتقرّر قانون الأسباب والمسبّبات الّذي يبتني عليه النظام الكياني لهذا العالم ، وتثبت الشفاعة التشريعيّة ، وتزيد درجات الشافعين في الشفاعة الحسنة ، ومن ذلك يعلم درجة خاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله في يوم القيامة ، لما منحه الله تعالى من الشفاعة العظمى ، فتكون له حسنات تلك الشفاعة ممّا تزيد بها درجته.

الثاني : يدلّ قوله تعالى : (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً) على أنّ الشفاعة كسائر الأمور ، لا تؤثّر أثرها إلّا بإذن من الله تعالى المقتدر والحافظ للحدود والجزاء ، وتفسّر هذه الآية الكريمة الآيات الثلاث الشريفة الّتي تدلّ على أنّ الشفاعة لا بدّ أن تكون بإذن الله تعالى ، قال عزوجل : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) [سورة الأنبياء ، الآية : ٢٨] ، وقال تعالى : (قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [سورة الزمر ، الآية : ٤٤].

١٠٦

الثالث : يستفاد من قوله تعالى : (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها) وجوب ردّ كلّ تحيّة ، سواء كان بالكلام أم بالفعل ، ممّا هو المتعارف عند كلّ قوم ، أم بالإشارة ، بل عمومها يشمل كلّ برّ ، إلّا أنّ تحيّة الإسلام هو إلقاء السلام الّذي هو علامة السلم والمسالمة ، وقد أمر الله تعالى نبيّه الكريم بإلقائه على المؤمنين ، فقال عزوجل : (وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) [سورة الانعام ، الآية : ٥٤] ، وهو من بقايا الدين الحنيف قال جلّ شأنه حكاية عن إبراهيم عليه‌السلام فيما يحاور أباه : (قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) [سورة مريم ، الآية : ٤٧] ، وقال تعالى حكاية عن الملائكة الّتي جاءت إبراهيم : (وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ) [سورة هود ، الآية : ٦٩].

ويستفاد من الآيات الواردة في مقامات مختلفة أنّ السلام كان قبل ذلك ، وأنّه ممّا جعله الله تعالى تحيّة لنفسه ، وأنّه من تحيّة الأنبياء ، قال تعالى : (سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ) [سورة الصافات ، الآية : ٧٩] ، وقال تعالى : (سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ) [سورة الصافات ، الآية : ١٠٩] ، وقال تعالى : (سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ) [سورة الصافات ، الآية : ١٢٠] ، وقال تعالى : (سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ) [سورة الصافات ، الآية : ١٣٠] ، وقال تعالى : (وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ) [سورة الصافات ، الآية : ١٨١].

وأنّه من تحيّة الملائكة ، قال تعالى : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [سورة النحل ، الآية : ٣٢] ، وأنّه من تحيّتهم للمؤمنين في الجنان ، قال تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ* سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [سورة الرعد ، الآية : ٢٣ ـ ٢٤] ، وهو من تحيّة المؤمنين بعضهم على بعض في الجنان ، قال تعالى : (وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) [سورة يونس ، الآية : ١٠] ، وقال تعالى : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً* إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً) [سورة الواقعة ، الآية : ٢٥ ـ ٢٦].

١٠٧

وعموم الآية الشريفة يشمل وجوب الردّ على كلّ تحيّة ، إلّا إذا أسقط الشارع الأقدس احترامه ، مثل تارك الصلاة ، وظاهرها أنّ السلام تطوع والردّ فريضة ، وأنّ الردّ الأولى هو أن يكون بالأفضل ، والثانوي أن يكون بالمثل.

الرابع : يدلّ قوله تعالى : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) أنّ الأصل في كلّ تشريع إلهي ـ بل المقصود من فروع الدين ـ هو إقامة أصوله من الإيمان بالله تعالى وتوحيده والاستعداد ليوم الجزاء ، فبهما تتمّ تحقيق الشريعة وإقامة الحقّ وتثبت الإيمان.

بحث روائي :

في تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى : (وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها) ، قال : «يكون كفل ذلك الظلم الّذي يظلم صاحب الشفاعة».

أقول : الكفل (بالكسر) الحظّ الّذي فيه الكفاية أو النصيب ، كما في قوله تعالى : (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) [سورة الحديد ، الآية : ٢٨] ، أي : كفلين من نعمته في الدنيا والآخرة ، والمراد من الرواية التنبيه على أنّ من ينضمّ إلى غيره معيّنا له في فعل سيئة ، يناله منها حظّ من الشدّة والظلم ؛ لأنّ ذلك من التسبيب للوقوع في السيئة ، وهو منهي عنه.

وفي الخصال عن الصادق عن آبائه عليهم‌السلام عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من أمر بمعروف أو نهى عن منكر أو دلّ على خير أو أشار به ، فهو شريك ، ومن أمر بسوء أو دلّ عليه أو أشار به ، فهو شريك».

أقول : لا بدّ من حمل الرواية على التسبيب للوقوع في الحرام ، وإلّا فمجرّد الإشارة إلى السيئة أو الأمر بها لا يترتب عليه إثم.

وفي الجوامع عن الصادق عليه‌السلام : «من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب ، استجيب له ، وقال له الملك : ولك مثلاه ، فذاك النصيب».

١٠٨

أقول : الروايات في ذلك كثيرة ، وهي نوع من الشفاعة الحسنة الّتي تقدّم البحث عنها.

وفي الكافي عن علي بن الحسين عليهما‌السلام : «انّ الملائكة إذا سمعوا المؤمن يدعو لأخيه بظهر الغيب ويذكره بخير ، قالوا : نعم الأخ أنت لأخيك ، تدعو له بالخير وهو غائب عنك وتذكره بخير ، قد أعطاك الله تعالى مثلي ما سألت له ، وأثنى عليك مثلي ما أثنيت عليه ولك الفضل عليه ، وإذا سمعوه يذكر أخاه المؤمن بسوء ويدعو عليه ، قالوا : بئس الأخ أنت لأخيك ، كف أيها المستر على ذنوبه وأربع على نفسك واحمد الله الّذي ستر عليك ، واعلم أنّ الله أعلم بعبده منك».

أقول : هذه الرواية لا تنافي قوله تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [سورة الانعام ، الآية : ١٦٠] ، لأنّها في مقام بيان استجابة دعاء المؤمن لأخيه المؤمن بظهر الغيب ، وإنّ للداعي مثلي ذلك ، منحا منه جلّت عظمته له ؛ للترغيب أو للجزاء ، أو يكون من قبيل الأمر الوضعي للدعاء له.

وَرَبَع كمنَعَ بمعنى وقف واقتصر ، ومنه المثل المشهور : «حدّث امرأة حديثين فإن أبت فأربع» ، أي : حدّثها حديثين فإن أبت فامسك ولا تتعب نفسك ، وقيل : كرّر القول عليها أربع مرات ، فهو مثل يضرب للبليد الّذي لا يفهم إلّا بالتكرار.

وفي تفسير علي بن إبراهيم : «في قوله تعالى : (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً) ، أي : مقتدرا».

أقول : والروايات في تفسير الآية المباركة بذلك كثيرة ، فعن نافع أنّه سأل ابن عباس عن قوله تعالى : (مُقِيتاً) ، قال : «قادرا مقتدرا».

وفي الدرّ المنثور عن مجاهد في قوله تعالى : (مُقِيتاً) ، قال : «شهيدا حسيبا حفيظا».

أقول : الرواية لا تنافي ما تقدّم ؛ لأنّها من باب ذكر المصاديق للقدرة.

١٠٩

وفي تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى : (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً) ، قال : «السلام وغيره من البرّ».

وعن الصادقين عليهما‌السلام : «إنّ المراد بالتحيّة في الآية السلام».

أقول : الرواية من باب ذكر أحد المصاديق لما تقدّم في الرواية الأولى ، وفي الكافي بإسناده عن السكوني عن الصادق عليه‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : السلام تطوّع ، والردّ فريضة».

أقول : أمّا كون السلام تطوّعا ؛ لأنّه تحيّة وأنّ المجتمع البشري ـ مهما كان حضارته أو تخلّفه ـ لا يخلو من تحيّة يتعارفون بها عند ملاقاة بعضهم مع بعض ، وهي على أقسام وأنواع ، من رفع اليد وضرب الرجل على الأرض أو الإشارة بالرأس أو رفع القلنسوة من الرأس ، أو غيرها من الأمور الّتي تختلف حسب العرف والعادة السائدة في ذلك المجتمع الإنساني ، وجميعها تكشف عن نوع من الخضوع والاحترام للطرف المسلّم عليه. وقرّر الإسلام هذه الطريقة وحبّبها وجعل التحيّة إلقاء السلام الّذي ينبأ عن الأمن بين المتلاقيين ، فإنّ الأمن هو الأساس والركيزة الأولى للمجتمع مهما كان شأنه ورقيّه ، فيأمن بعضهم بعضا في عرضه ونفسه وماله عند التلاقي ، قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [سورة النور ، الآية : ٢٧] ، وقد فسّر الاستيناس في الروايات بوقع النعل ، وهو تفسير بأحد المصاديق ، وقال تعالى : (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً) [سورة النور ، الآية : ٦١].

وأمّا كون الردّ فريضة ، لعلّ الحكمة فيها أنّ العقل والفطرة يحكمان بأنّه لا بدّ من إبراز قبول التحيّة الملقاة على الإنسان وهو يردّها ، ولا تكون إلّا بتحيّة قوليّة مثلها ، والأدلّة الشرعيّة منزلة عليهما.

وفي كشف الغمّة بسنده عن إسحاق بن عمّار قال : «دخلت على

١١٠

أبي عبد الله عليه‌السلام وكنت تركت التسليم على أصحابنا في مسجد الكوفة ، وذلك لتقيّة علينا فيها شديدة ، فقال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : يا إسحاق متى أحدثت هذا الجفاء لإخوانك تمرّ بهم فلا تسلم عليهم؟ فقلت له : ذلك لتقيّة كنت فيها ، فقال : ليس عليك في التقيّة ترك السلام ، وإنّما عليك في الإذاعة ، إنّ المؤمن ليمرّ بالمؤمنين فيسلّم عليهم فتردّ الملائكة : سلام عليك ورحمة الله وبركاته».

أقول : تستفاد من هذه الرواية أمور :

الأوّل : استحباب التسليم على المؤمن ولو كان في حال التقيّة ، وأنّ استحبابه ثابت في الجملة في ظرفها إن لم يطرأ عليه عنوان آخر من الإيذاء والوقوع في الضرر وغيرهما ؛ لأنّه نوع من الموادّة والخضوع للمسلّم عليه كما تقدّم ، ويستفاد ذلك من قوله تعالى : (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ) [سورة الزخرف ، الآية : ٨٩] ، وقال تعالى : (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) [سورة الفرقان ، الآية : ٦٣].

الثاني : أنّ ترك التحيّة والسلام نوع من الجفاء ، وهو لا يكون بين المؤمنين ؛ لأنّه تعالى يبغضه ، وللجفاء مراتب ، ولكلّ مرتبة درجات.

الثالث : أنّ الروحانيّين يردّون تحيّة المؤمنين ، وإن كانت الحجب ساترة وتمنع عن السماع ، وقد ترتفع لبعض أوليائه كما ثبت في محلّه.

الرابع : أنّ الأفضل في جواب التحيّة وردّها أن يكون بالأحسن ، وإلّا فبالمثل ، كما دلّت عليه الآية المباركة أيضا.

في الكافي بإسناده عن علي بن رئاب عن الصادق عليه‌السلام قال : «إنّ من تمام التحيّة للمقيم المصافحة ، وتمام التسليم على المسافر المعانقة».

أقول : يستفاد منه أنّ التحيّة والسلام من الأمور الإضافيّة الّتي تتّصف بالكمال والنقصان والأكمل والأتمّ ، وأنّ المستحبّ فيها مجرّد وجودها ، وأنّ الكمال والأكمل فضل.

وفي تفسير القمّي عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «إذا دخل الرجل منكم بيته ، فإن

١١١

كان فيه أحد يسلّم عليهم ، وإن لم يكن فيه أحد فليقل : السلام علينا من عند ربّنا ، يقول الله تعالى : (مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً) [سورة النور ، الآية : ٦١]».

أقول : يستفاد منه أنّ استحباب التحيّة والسلام لا يدور مدار وجود الطرف المقابل أو المسلّم عليه ، بل السلام أو التحيّة مستحبّ سواء كان المسلّم عليه موجودا أو لم يمكن ، أي : يسلّم على نفسه كما في الحديث ، ويمكن أن يكون السلام المذكور فيها دعاء خاصّ للدخول في البيت الّذي لم يكن فيه احد لا التحيّة الخاصة.

وفي الحديث : «ما من عبد يمرّ بقبر رجل كان يعرفه في الدنيا فيسلّم عليه إلّا عرفه وردّ عليه‌السلام».

أقول : يستفاد من هذا الحديث ـ مع قطع النظر عن السند ـ أمور :

الأوّل : أنّه متى جاء الزائر علم به المزور وسمع كلامه وردّ عليه ، وهذا بالنسبة إلى الشهداء في طريق الحقّ ونصب العدل والأولياء من المؤمنين ، لا إشكال فيه ؛ لاستيناس أرواحهم الشريفة مع عالم الشهادة وإن كان مقرّها في العليّين وعند الرفيق الأعلى كما تقدّم سابقا ، وأمّا بالنسبة إلى غيرهم من الكفّار والمنافقين والعصاة ، فلا يكون كذلك ؛ لأنّ أرواحهم معذّبة إلى يوم القيامة ، فيلحق بها أجسامهم ، وإنّ انقطاعهم عن عالم الشهادة نحو تعذيب لأرواحهم.

الثاني : أنّ الجواب إنّما يكون بلسان الحال لا بالتلفّظ والمقال ، وفي بعض الأخبار أنّهم يتأسّفون على انقطاع الأعمال عنهم حتّى يتحسّرون على ردّ السلام وثوابه ، فكما أنّ تأسّفهم حالي لا مقالي كذلك سائر حالاتهم.

الثالث : أنّ الكمالات لا تنسلخ بالموت ، وأنّ العلوم والمشاعر الروحيّة تكون مع الإنسان في جميع العوالم.

الرابع : أنّهم يسمعون السلام ويستأنسون به ، وفي بعض الآثار يسمعون صوت نعلكم وحكاياتكم ، ولذا ورد في زيارة أهل القبور من السلام عليهم وأنّهم

١١٢

يردّون الجواب والحجب مانع عن سمع جوابهم ، وتقدّم في شهداء أحد وغيرهم أنّهم كانوا يردّون السلام.

الخامس : وصول السلام إلى صاحب القبر إن مرّ على قبره ، فإذا لم يمر عليه وسلّم ، فإنّ وصوله يدور مدار إحاطة الروح وعلو شأنها ، فقد يصل إليه كما ورد في السلام على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أو بعض الشهداء ، وقد لا يصل ؛ لأنّ أرواحهم مستأنسة بمحلّ قبورهم ولم تحط ، فإنّ عالم الشهادة هو عالم تربية الروح وتزكيته.

وفي الكافي بإسناده عن جراح المدائني عن الصادق عليه‌السلام قال : «يسلّم الصغير على الكبير ، والمارّ على القاعد ، والقليل على الكثير».

أقول : ومثله ما أخرجه البيهقي عن زيد بن أسلم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كما في الدرّ المنثور ، ولعلّ ذلك من باب تأكد الاستحباب وتعدّد المطلوب ؛ لأنّ توقير الكبير وإجلال الكثير أو القاعد واحترامهم ، مطلوب في الجملة عند الشارع في حدّ نفسه إن لم يطرأ عناوين اخرى ، فلو وقع العكس لم يخرج السلام عن استحبابه ، ويستفاد من الحديث أدب الإسلام.

وفي الدرّ المنثور عن عبد الله بن مسعود قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أفشوا السلام بينكم ، فإنّها تحيّة أهل الجنّة ، فإذا مرّ رجل على ملأ فسلّم عليهم ، كان له عليهم درجة وإن ردّوا عليه ، فإن لم يردّوا عليه ردّ عليه من هو خير منهم ، الملائكة».

أقول : ورد في كثير من الروايات أنّ أهل الجنّة يتزاورون ولهم تحية ، وهي السلام كما في الدنيا ، قال تعالى : (وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) ، وأمّا إفشاء السلام فهو من الوقار والأدب الكامل للمسلم ، ويوجب رفع التشاح والتباغض كما هو المعروف.

وفي الفقيه بإسناده عن مسعدة بن صدقة ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه عليهما‌السلام قال : «لا تسلّموا على اليهود ، ولا على النصارى ، ولا على المجوس ، ولا على عبدة الأوثان ، ولا على موائد شرب الخمر ، ولا على صاحب الشطرنج والنرد ، ولا على المخنث ، ولا على الشاعر الّذي يقذف المحصنات ، ولا على المصلّي لأنّ

١١٣

المصلّي لا يستطيع أن يردّ السلام ؛ لأنّ التسليم من المسلّم تطوّع والردّ فريضة ، ولا على آكل الربا ، ولا على رجل جالس على غائط ، ولا على الّذي في الحمام ، ولا على الفاسق المعلن بفسقه».

أقول : لعلّ الحكمة في النهي عن السلام على هؤلاء الأقوام إمّا لأجل النهي عن تولّيهم ، كما قال تعالى : (لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ) [سورة الممتحنة ، الآية : ١] ، وقال تعالى : (لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) [سورة المائدة ، الآية : ٥١] ، وقال تعالى : (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) [سورة هود ، الآية : ١١٣] ، وإمّا لأجل أنّ ترك السلام يوجب ردعهم عن المعاصي ، فهو أفضل من تطوّع السلام عليه ، وإمّا أنّه لا يحبّ أن يراه أحد على ما عليه من الحالة ، فالسلام عليه يوجب إيذائه ، وإمّا لأجل أنّ السلام يوجب التقرّب له والشارع لا يحبّ التقرّب إليه ، كالتقرّب إلى الظالمين ، إلّا إذا كان لإلقاء الحجّة عليهم واسماعهم كلمة الحقّ ، كما أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك.

في الكافي بإسناده عن السكوني عن الصادق عليه‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من بدء بالكلام قبل السلام فلا تجيبوه ، وقال : ابدءوا بالسلام قبل الكلام ، فمن بدأ بالكلام قبل السلام فلا تجيبوه».

أقول : المراد من السلام مطلق التحيّة ، وأنّ النهي تنزيهي يختصّ بصورة العمد والاختيار ، فيكون ذلك من النهي عن المنكر عملا ؛ لأنّ تركه خلاف الأدب الّذي يهتم به الإسلام. وقد ورد في بعض الأخبار أنّ ذلك نوع من البخل.

في الكافي بإسناده عن ابن درّاج عن الصادق عليه‌السلام قال : «إذا سلّم أحدكم فليجهر بسلامه ولا يقول سلمت فلم يردّوا عليّ ، ثمّ قال : كان عليّ عليه‌السلام يقول : لا تغضبوا ولا تغضبوا وأفشوا السلام وأطيبوا الكلام وصلّوا الليل والناس نيام ، تدخلوا الجنّة بسلام ، ثمّ تلا عليهم قول الله عزوجل : (السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ)».

١١٤

أقول : يستفاد منه أنّ الجهر في كلّ من السلام والردّ مستحبّ ، كما في البسملة ، والحمل على الإرشاد بعيد عن السياق ، وأمّا النهي عن الغضب ، فلما تقدّم في أحد مباحثنا أنّ الغضب مفتاح كلّ شرّ ، وأنّه يوجب البعد عن الرحمن واتّباع الشيطان ، وما ذكر فيها من الأسباب لدخول الجنّة توجب أيضا تزكية النفس في هذه الدنيا ورقيّها كما مرّ.

في الكافي بإسناده عن أبي عبيدة الحذاء عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «مرّ أمير المؤمنين عليه‌السلام بقوم فسلّم عليهم ، فقالوا : عليك السلام ورحمة الله وبركاته ومغفرته ورضوانه ، فقال لهم أمير المؤمنين عليه‌السلام : لا تجاوزوا بنا مثل ما قالت الملائكة لأبينا إبراهيم ، قالوا : رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت».

أقول : لعلّ الحكمة في النهي عن ذلك والتحديد بالسنّة المأخوذة من حنيفيّة إبراهيم عليه‌السلام كما قالت الملائكة ؛ لبيان أنّ الردّ ـ كالتحيّة في الإسلام ـ ورد فيها كيفيّة من الشرع ، فاتباعها أولى وأفضل ، أو لأجل دفع شبهة الغلو لو صدر عن بعض العوام.

وفي الكافي بإسناده عن الحسن بن المنذر قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «من قال : السلام عليكم ، فهي عشر حسنات ، ومن قال : السلام عليك ورحمة الله ، فهي عشرون حسنة ، ومن قال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، فهي ثلاثون حسنة».

أقول : ومثله ما رواه البخاري في الأدب المفرد عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والبيهقي في شعب الإيمان ، ولعلّ زيادة الحسنات إمّا لأجل زيادة الصفات الّتي يلقيها المسلّم على المسلّم عليه الّذي يستحق تلك الصفات لإيمانه كما هو الظاهر ، أو لأجل كثرة الإخلاص والتقرّب إليه تعالى ؛ لأنّ احترام المؤمن بذلك يكون أكثر فيحصل به التقرّب أزيد.

١١٥

وفي الكافي بإسناده عن منصور بن حازم عن الصادق عليه‌السلام قال : «ثلاثة تردّ عليهم ردّ الجماعة وإن كان واحدا ، عند العطاس يقول : يرحمكم الله وإن لم يكن معه غيره ، والرجل يسلّم على الرجل فيقول : السلام عليكم ، والرجل يدعو للرجل فيقول : عافاكم الله وإن كان واحدا ، فإن معه غيره».

أقول : التعبير بصيغة الجماعة في الموارد المذكورة إمّا نحو احترام للطرف المقابل ، وإمّا لأجل أنّ المؤمن دائما معه الملائكة إمّا الحفظة ـ كما في بعض الروايات والدعوات المأثورة ـ أو الملائكة ، الكرام الكاتبون ، ويدلّ على ذلك ذيل الرواية ، والمراد بالردّ الأعمّ ، فيشمل الابتداء أيضا.

وفي الكافي بإسناده عن جميل عن الصادق عليه‌السلام قال : «إذا كان قوم في مجلس ثمّ سبق قوم فدخلوا ، فعلى الداخل أخيرا (الأخير ـ كما في الوافي) إذا دخل أن يسلّم عليهم».

أقول : الرواية من باب الإرشاد إلى الآداب الإسلاميّة.

وفي الخصال عن الصادق قال : حدّثني أبي عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهم‌السلام : «إذا عطس أحدكم فسمّتوه ، قولوا : رحمكم الله ، وهو يقول : غفر لكم ويرحمكم ، قال الله عزوجل (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها)».

أقول : يستفاد منه أنّ التحيّة الواردة في الآية المباركة أعمّ من السلام والتسميت وغيرهما كما تقدّم في التفسير ، وتدلّ عليه الرواية الآتية.

وفي المناقب : «جاءت جارية للحسن عليه‌السلام بطاق ريحان ، فقال لها : أنت حرّة لوجه الله تعالى ، فقيل له في ذلك ، فقال عليه‌السلام : أدّبنا الله تعالى فقال : (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها) ، وكان أحسن منها إعتاقها».

أقول : هكذا تكون الفضائل ، والطاق : الفرد الواحد من الشيء.

١١٦

ويستفاد منه أنّ التحيّة أعمّ من التحيّة القوليّة والفعليّة ومن السلام وغيره ، ويأتي ما يدلّ على ذلك.

وفي عيون أخبار الرضا بإسناده عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال : «من لقي فقيرا مسلما فسلّم عليه خلاف سلامه على الغني ، لقى الله عزوجل يوم القيامة وهو عليه غضبان».

أقول : وقريب منه غيره ، والوجه في ذلك أنّه نوع من النفاق والإهانة والتحقير للمؤمن ، وأنّها مبغوض عند الله تعالى.

وفي تفسير الصافي : «انّ رجلا قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : السلام عليك ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : وعليك السلام ورحمة الله ، وقال آخر : السلام عليك ورحمة الله ، فقال : وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ، وقال آخر : السلام عليك ورحمة الله وبركاته ، فقال : وعليك ، فقال الرجل : نقصتني ، فأين ما قال الله ، وتلا الآية : (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها) فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّك تترك لي فضلا ورددت عليك مثله».

أقول : روي قريب منه في الدرّ المنثور عن سلمان الفارسي ، ويستفاد منه أنّ الردّ إذا كان بالأحسن ، لا بدّ وأن يكون من سنخ التحيّة الحنيفيّة الإبراهيميّة كما تقدّم ، وإلّا كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يردّ بالمغفرة والرضوان والعافية وغيرها للأخير.

وكيف كان ، فالرواية تدلّ على عظيم خلقه.

وفي الكافي بإسناده عن عبد الله بن سنان عن الصادق عليه‌السلام قال : «ردّ جواب الكتاب واجب ، كوجوب ردّ السلام».

أقول : وأخرج البيهقي عن ابن عباس قال : «إنّي لأرى جواب الكتاب حقّا كما أرى حق السلام» ، وقد تقدّم أنّ التحيّة الممدوحة أعمّ من اللفظيّة والفعليّة أو الكتابيّة ، والمراد من الحقّ المجاملي والأخلاقي.

١١٧

بحث فقهي

يستفاد من سياق الآية الشريفة : (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها) جملة من الأحكام الشرعيّة :

الأوّل : أنّ التحيّة هي نوع من العبادة ، فيثاب عليها إن لم يتحقّق مانع من ذلك ، ويدلّ عليه قوله عليه‌السلام : «المراد من التحيّة في الآية السلام وغيره من البرّ» ، وتقدّم ما يدلّ على تحديد الثواب على اختلاف التحيّة بالسلام.

الثاني : أنّ السلام من المستحبّات الكفائيّة لظاهر سياق الآية المباركة ؛ ولقول الصادق عليه‌السلام : «إذا سلّم من القوم واحد أجزأ عنهم» ، فلو كان الداخلون جماعة فسلّم أحدهم ، يسقط استحبابه عن الباقين.

ولكن مقتضى إطلاق بعض الروايات بقاء استحباب السلام بالنسبة إلى الباقين ، مثل قول أبي جعفر عليه‌السلام : «إنّ الله عزوجل يحبّ إفشاء السلام» ، وعن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «السلام اسم من أسماء الله تعالى ، وضعه الله في الأرض فأفشوه بينكم» ، مع أنّه من الآداب المجامليّة الممدوحة عقلا وشرعا.

الثالث : وجوب ردّ التحيّة لظاهر الآية الشريفة ، ولجملة من الروايات أيضا كما مرّ بعضها ، وعمومها يشمل كلّ أنواع التحيّة وفي جميع الحالات ، إلّا أنّ في الصلاة تختصّ الرد ب (سلام عليكم) فقط كما ذكرنا في كتابنا (مهذب الأحكام) ، فلا تشمل غيره من أنواع البرّ والإحسان ، وإن كان الأفضل والأولى الردّ ؛ لما مرّ من قول الصادقين عليهما‌السلام : «المراد من التحيّة في الآية السلام وغيره من البر» ، وتقدّم التسميت في التعطيس ، وذكرنا في (مهذب الأحكام) ما يتعلّق بذلك.

الرابع : يجب أن يكون الردّ في أثناء الصلاة بمثل ما سلّم ، فلو قال «سلام عليكم» ، يجب في الجواب والردّ أن يكون كذلك ، ففي صحيح ابن مسلم قال : «دخلت على أبي جعفر عليه‌السلام وهو في الصلاة ، فقلت : السلام عليك ، فقال عليه‌السلام :

١١٨

السلام عليك ، فقلت : كيف أصبحت؟ فسكت ، فلما انصرف قلت : أيردّ السلام وهو في الصلاة؟ قال عليه‌السلام : نعم ، مثل ما قيل له» ، والمسألة محرّرة في كتب الفقه بشقوقها.

الخامس : يجب الردّ فورا ؛ لأنّه المنساق من الأدلّة عرفا ، كما أنّه مقتضى المتركزات في ردّ التحيّات القوليّة ، مضافا إلى الإجماع.

السادس : ردّ السلام واجب كفائي ، فيسقط بردّ واحد عن البقية ، ويدلّ عليه الإجماع ، والنصوص الكثير ، منها ما رواه غياث بن إبراهيم عن الصادق عليه‌السلام : «إذا سلّم من القوم واحد أجزأ عنهم ، وإذا ردّ واحد أجزأ عنهم» ، هذا بالنسبة إلى الوجوب.

وأمّا بالنسبة إلى استحباب الردّ ، فالظاهر بقاؤه وعدم سقوطه عن الباقين ؛ لأنّه نحو مجاملة وتودّد وتحبّب ، ولا ريب في رجحان ذلك كلّه.

السابع : مقتضى عموم الآية الكريمة جواز سلام الأجنبي على الأجنبيّة وبالعكس إذا لم يكن هناك ريبة أو خوف فتنة ، ويدلّ على ذلك روايات كثيرة. وما دلّ على الخلاف مثل خبر غياث : «لا تسلم على المرأة» ، أو «لا تبدؤوا النساء بالسلام» ، فمحمول على ما إذا تحقّق عنوان الريبة أو الخوف أو الفتنة ، جمعا وإجماعا.

الثامن : يجوز السلام على الكافر ، خصوصا إذا استلزم ترغيبه للإسلام ، فإنّه من مكارم الأخلاق الّتي اهتمّ بها الإسلام أشدّ الاهتمام ودعى إليها الناس ، وما ورد في بعض الأخبار من النهي عن السلام عليهم ابتداء ، كما في خبر غياث ، قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «لا تبدؤا أهل الكتاب بالتسليم ، وإذا سلّموا عليكم فقولوا : وعليكم» ، ونحوه غيره ، يمكن حملها على الكراهة بقرينة ما ورد في بعض الأخبار : «قلت لأبي الحسن الرضا عليه‌السلام : أرأيت إن احتجت إلى الطبيب وهو نصراني ، أسلّم عليه وادعوا له؟ قال عليه‌السلام : نعم ، إنّه لا ينفعه دعاؤك» ، فإذا لم ينفعه السلام ولا الدعاء ، لا وجه للحرمة. نعم هو مرجوح ؛ لأنّه نحو اعتناء بالمسلّم عليه ، فلا يليق

١١٩

بمَن يعادي الله ورسوله ذلك لو لم يكن جهة راجحة في البين ، كالدعوة إلى الإسلام والضرورة ونحوهما ، وأمّا جواب سلام الكافر فواجب لما مرّ.

التاسع : استحباب الردّ بالأحسن في غير حال الصلاة ، بأن يقول في (سلام عليكم) : «سلام عليكم ورحمة الله وبركاته» ، كما مرّ في البحث الروائي ، ويجوز الردّ بالمثل ولو كانت التحيّة بالشرّ ، فالردّ الأحسن بالحلم والعفو أو المكافأة بالخير ، ولو أراد المثليّة تكون (جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها) ، ولكن في وجوب ردّ مثل هذه التحيّة منع ؛ لأنّ المنساق من أدلّة التحيّة ووجوب ردّها أن تكون التحيّة من الخير والبر كما مرّ ، وأمّا لو كان غير ذلك كما لو سلّم تحقيرا للمؤمن أو تهديدا للقتل أو قصد بسلامه إيذاء الطرف المقابل ، لا تشمله الأدلّة المتقدّمة ، وإنّ التمسّك بالعموم تمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة ، كما هو واضح.

وهناك فروع كثيرة متعلّقة بالسلام والتحيّة مذكورة في الكتب الفقهيّة والأخلاقيّة ، ومن شاء فليرجع إليهما.

١٢٠