مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٨

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٨

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٣
ISBN: 946-5665-07-8
الصفحات: ٣٩٧

أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٤٣] ، ومن فرط شوقه أنّه في كلّ لحظة يحرق انيّته في شوق لقياه ، وقد شرح بعض ذلك سيد العارفين علي عليه‌السلام في خطبته المعروفة في وصف المتّقين ، وما قاله عليه‌السلام لكميل.

وأمّا قوله (تعالى) : (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) [سورة الأنبياء ، الآية : ٣٧] ، وقوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً) [سورة المعارج ، الآية : ١٩] ، فسيأتي تفسيرهما في موضعهما إن شاء الله تعالى.

بحوث المقام

بحث أدبي :

اختلف الأدباء في إعراب قوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) ، فقيل : إنّ مفعول (يُرِيدُ) محذوف ، أي : يريد الله تشريع ما تقدّم ذكره (لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) ، فتكون اللام للتعليل والعاقبة.

وبناء على هذا ، يكون متعلّق الإرادة غير متعلّق التبيين ، حذرا من تعدّي الفعل من مفعوله المتأخّر عنه باللام الذي هو ممتنع ، ولكن قال بعضهم : إنّه إذا قصد التأكيد جاز من غير ضعف.

وقيل : إنّ الفعل مؤول بالمصدر من غير سابك ، كما قيل في : (تسمع بالمعيدي خير من أن تراه) ، فيكون المؤول مبتدأ والجار والمجرور خبره ، أي : أراده الله ليبيّن لكم. ولا يخفى تكلّف هذا الوجه.

وقيل : مفعول (يُرِيدُ) هو (لِيُبَيِّنَ) ، وذهب بعضهم إلى أنّ اللام هي الناصبة للفعل من غير إضمار إن ، وهي وما بعدها مفعول للفعل المتقدّم ، ونظير

٨١

ذلك وقوعها بعد (أمر) كقوله تعالى : (وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) [سورة الانعام ، الآية : ٧١].

ولكن منعه آخرون ؛ لأنّ وظيفة اللام الجرّ والنصب بأنّ مضمرة بعدها ووقوع (ل) و (أن) المصدريتين بعدها ، فلا يمكن أن تكون ناصبة.

وقال آخرون : إن اللام زائدة جيء بها مؤكّدة لإرادة (التبين) ، كما زيدت في : لا أبا لك ، لتأكيد إضافة الأب ، وليجعل المصدر مفعولا ، فتكون اللام زائدة.

ولكن ، يرد عليه أنّ دعوى الزيادة باطلة ، كما ذكرنا مرارا ، يضاف إلى ذلك أنّهم لم يقولوا بالزيادة في نظائر هذا التركيب ، كقوله تعالى : (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) [سورة المائدة ، الآية : ٦].

والصحيح أن يقال : إنّ اللام للتعليل ، ومفعول (يُرِيدُ) محذوف كما عرفت في التفسير ، ومفعول (يبيّن) غير مفعول (يهديكم) ، وحذف مفعول الأوّل لتفخيمه وتعظيم أمره.

بحث دلالي

يستفاد من الآيات الشريفة امور :

الأوّل : إنّما عقّب سبحانه وتعالى الآيات التي تضمنّت تشريع الأحكام في أهمّ موضوع في الإسلام ، وهو النكاح وتكوين الاسرة ، وتهذيب النسل بالإرادة ، وكرّرها عزوجل لتثبيت تلك الأحكام ؛ وللدلالة على أنّها مرادة بالإرادة الأزليّة التي تعلّقت بتكميل النفوس المستعدّة وتهذيبها وإرشادها إلى ما يسعدها في حياتها الدنيويّة والاخرويّة ، فلا يمكن الإغماض عنها والتعدّي عمّا حدّدته تلك الإرادة المتعالية.

الثاني : يستفاد من سياق قوله تعالى : (وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ). ـ حيث ورد في مقام الامتنان والرحمة ـ أنّ هذه السنن هي تلك السنن المطابقة

٨٢

للفطرة السليمة التي فطر الناس عليها ، والتي تكون مطابقة للملّة الإبراهيميّة التي أمر الأنبياء باتباعها ، لا سيما سيدهم نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلا بد أن تكون تلك السنن مطابقة للعقل والفطرة والملّة الحنيفيّة.

ومن ذلك يعلم فساد ما ذكره بعض المفسّرين من أنّ المراد بسننهم على هذا المعنى سننهم في الجملة ، لا سننهم بتفاصيلها وجميع خصوصياتها ، فلا يرد عليه أنّ أحكامهم ما تنسخه هذه الآيات بعينها ، كازدواج الإخوة والأخوات في سنّة آدم عليه‌السلام ، والجمع بين الأختين في سنّة يعقوب عليه‌السلام.

فإنّ سننهم هي المطابقة للفطرة ، ولا نسخ في هذه بشيء منها ، فإنّ هذه الآيات عقيب تلك الأحكام يدلّ على أنّها من سنن الذين من قبلكم التي هدانا الله تعالى إليها ، فازدواج الإخوة بالأخوات محرّم في جميع السنن ، في سنّة آدم عليه‌السلام وسنّة خاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكذا الازدواج بالبنات والعمّات والخالات وبنات الأخ ، والاخت.

ويمكن أن تجعل هذه الآية المباركة من الأدلّة على بطلان القول بالازدواج بين الإخوة والأخوات : لأنّه من غير السنّة التي هدانا الله تعالى إليها. ويشهد له ذيل الآية الشريفة : (وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) ، الدالّ على توبة الله تعالى على عباده الذين طمسوا نور الفطرة بارتكاب الذنوب والآثام ، فمنّ الله تعالى عليهم أن أرشدهم إليها وهداهم إلى سنن الأنبياء الصالحين من قبلهم.

ويدلّ عليه تذييله بقوله تعالى : (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) ، أي : عليم بتلك السنن التي طمستها يد التحريف. وميّز سبحانه وتعالى بين السنّة الصحيحة والباطلة ، فأمرنا باتباع الاولى وترك الثانية ، فهو حكيم في أفعاله يضع الأمور في مواضعها.

وبالجملة : هذه الآيات الشريفة صريحة في أنّ ما سنّه الله تعالى في خصوص النكاح أو الأعمّ ، هي من سنن الصالحين الذين من قبلكم فنسبة

٨٣

الجمع بين الأختين والازدواج بين الإخوة والأخوات ، وغير ذلك ممّا هي محرّمة في سنّة الإسلام هي مخالفة لسنن الماضين ، إذ لا فرق بين السنتين إلا ما تناولته يد التحريف والتبديل.

الثالث : يدلّ قوله تعالى : (وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً) ، على أنّ إرادة الله تعالى تعلّقت بالإرجاع إلى الفطرة المستقيمة ، وفي ذلك تأكيد لما سبق ، ولبيان أنّ ما هو الموجود في عصر نزول القرآن غير سنن الماضين ، (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ) ، الرجوع عن الفطرة واتباع الشهوات التي توجب البعد عن الصراط المستقيم وسنن الأنبياء الصالحين ، وهو الميل العظيم.

الرابع : يدلّ قوله تعالى : (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً) ، أنّ اتباع الشهوات يوجب البعد عن الصراط المستقيم والاستهانة بالحدود الإلهيّة والإعراض عن الحقّ.

وتبيّن الآية المباركة أنّ همّ المتبعين للشهوات الأكبر هو صدّ المؤمنين عن متابعة الحقّ ، وهذا مظهر آخر من مظاهر غوايتهم وميلهم عن الحقّ.

الخامس : يدلّ قوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) ، على تمام النعمة الإلهيّة على هذه الامة ، فإنّ الضعف الذي هو المقتضي للتخفيف ، وإن كان موجودا في غير هذه الامة ، لكن لوجود المانع فيهم وهو الكفر ، واتباع الشهوات والاستهانة بحدود الله تعالى ، أوجب ذلك سلب هذه النعمة عنهم ، ولكن هذه الامة المرحومة ، قد أتمّ الله تعالى عليهم هذه النعمة ، فلم يجعل لهم في دينهم أي حرج ومشقّة ووضع عنهم أسباب الضيق.

السادس : يدلّ قوله تعالى : (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) على أنّ الإنسان ضعيف من جهات شتى ، فلا بد أن يتدارك ضعفه بفيض إلهي ومدد ربوبيّ في تقوية العزائم الضعيفة في الخروج عن سلطان الشهوات العارمة ، والإعراض عن

٨٤

العادات السيئة التي أفسدت الاجتماع الإنساني وجلبت الدمار والاستهتار الأخلاقي وأوقعته في الجهد الشديد والمشقّة الكبيرة ، فالآية الكريمة بمنزلة العلّة في احتياج الإنسان إلى من يرشده إلى الصراط المستقيم المحفوف بالشريعة الحقّة والعقل الحكيم.

بحث روائي

أخرج البيهقي في الشعب عن ابن عباس أنّه قال : «ثماني آيات نزلت في سورة النساء هي خير لهذه الامة ممّا طلعت عليه الشمس وغربت ، وعدّ هذه الآيات الثلاث : (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) ـ إلى قوله تعالى ـ (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً). والرابعة : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) ، والخامسة : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) ، والآية السادسة : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) ، والآية السابعة : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) ، والآية الثامنة : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً).

أقول : مضمون الرواية موافق لروايات أخرى وردت في مواضع متفرّقة ، وهي مرويّة في كتبنا أيضا.

بحث فلسفي

من المباحث المهمّة في الفلسفة الإلهيّة والحكمة المتعالية مبحث الإرادة ، التي لها ارتباط وثيق بمواضيع متعدّدة في جملة من العلوم ، وقد شغلت قسطا وافرا من الكتب الفلسفيّة والكلاميّة وغيرهما ، فإنّ بحث الجبر والاختيار في

٨٥

الإنسان يرتبط بالإرادة ، كما يرتبط بالإرادة الإلهيّة مباحث حدوث العالم وقدمه واختياره تبارك وتعالى وغير ذلك ، ونحن نذكر في هذا البحث تعريف الإرادة ، وما يتعلّق بإرادة الإنسان ، وإرادته جلّت عظمته ، وبيان حقيقتها ، وأقسامها ، وأسباب فعله عزوجل ، والفرق بين المشيئة والإرادة ، وارتباطها بعلمه عزوجل ، ثم مبحث اتحاد الطلب مع الإرادة.

تعريف الإرادة :

الإرادة : من الأمور الوجدانيّة لكلّ ذي ادراك وشعور ـ إنسانا كان أو حيوانا ـ حتّى لقد عرّف الحيوان المطلق بأنّه جسم نام متحرّك بالإرادة ، فهي من لوازمه التي لا تنفكّ عنه ، بل قد أثبت بعض قدماء الفلاسفة الإرادة في النبات ، ولا يبعد ذلك على نحو الجملة والإجمال كما ستعرف.

وكيف كان ، فقد فسّروا الإرادة بوجوه : فمنهم من فسّرها بالقصد ، واستدلّ بالتبادر.

ومنهم من فسّرها بالطلب.

وأشكل عليه بأنّه مبرز للإرادة نفسها.

ومنهم من فسّرها بالميل الذي يعقب اعتقاد النفع.

وقال بعض المحدّثين : إنّها تصميم واع على أداء فعل معين ، باعتبار أنّ التصميم هي الإرادة النافذة ، والإرادة بلا تصميم نيّة مؤجّلة.

وقال بعضهم : إنّ الإرادة هي الرغبة التي ترافق الفعل إلى أن تبلغ به إلى الغاية.

والحقّ أنّ هذه التعاريف لا تخلو من مناقشة واضحة ، فإنّ الإرادة غير الميل ، بل هو من مقدّماتها ، والتصميم إرادة مؤكّدة ، ولكن ممّا يسهل الخطب أنّ الإرادة من الأمور الوجدانيّة التي تتداخل مقدّمات حصولها بعضها مع بعض ، بحيث يصعب التمييز بينها ، ولأجل ذلك اختلفوا في تعريف الإرادة ، فإنّه قد يختلط

٨٦

بينها وبين المقدّمات التي هي الإدراك وتوجّه النفس والعزم ، أي : التصميم ، وتصوّر الغاية الذي به يتميّز الإنسان عن الحيوان ، فإنّهما ذوا شهوة كشهوة الطعام والشهوة التناسليّة ، وهي تدفع الحيوان والإنسان إلى الفعل ، ولكن الحيوان لا يفعل ذلك متعقّلا كالإنسان.

إرادة الإنسان :

لا شكّ أنّ المخلوقات بالنسبة إلى الإرادة على أقسام :

الأوّل : تلك المخلوقات التي تخلو عن الرغبة والشهوة كالحيوانات الدنية ـ كالديدان والهوام والنباتات ـ فإنّ هذه تفعل وتسعى إلى الفعل لأجل الحاجة ، لا الرغبة والشهوة ، فإنّ تغلغل جذور النبات وتفرّع فروعها في الهواء واتجاه أوراقها إلى الشمس ونمو أصلها ، كلّ ذلك صادر عن حكم الحاجة إلى الغذاء ، بل يفعل بمقتضى الطبيعة فيها ، نظير صدور الأفعال الحتميّة الصادرة في الحيوانات العليا ، كالتنفّس والنبض والتثاؤب والنوم ونحو ذلك ، فهذه كلّها تصدر عن الحاجة والطبيعة دون الإرادة.

نعم ، قد يشتبه الأمر ، ففي بعض الحيوانات والنباتات تصدر الأفعال عن رغبة وشهوة ملحّة ، ولعلّ من قال من الفلاسفة : إنّ بعض النباتات فيها الإرادة ، كان نظره إلى خصوص هذا الأخير فقط ، وإلا ليس كلّ حيوان فضلا عن النبات ذا رغبة أو شهوة تتقوّم بها الإرادة.

الثاني : المخلوقات التي لها الاحساس والشهوة ـ كالحيوانات ـ فإنّها تفعل الأفعال بإرشاد الغريزة والشهوة المجرّدة عن الرغبة وإرشاد العقل والتعقّل ، فهي أيضا لا تكون ذات إرادة إلا إذا صحّ إطلاق الإرادة على المقدّمات ، فتكون الحيوانات حينئذ كلّها ذوات إرادة.

الثالث : المخلوقات التي لها الإحساس والشهوة والرغبة والإدراك كالإنسان ، فإنّه يفعل فعله بحثّ من الشهوة والرغبة وإرشاد من الإدراك ، فهو

٨٧

يفعل ويفهم أنّه يطلبه ، بخلاف الحيوان فإنّه يسعى حين تلحّ عليه الحاجة ومتى زالت هدأ وسكن ، ولا يدرك تلك الحاجة.

وأمّا الإنسان ، فهو يفهم ويرغب في السعي ولو كانت الحاجة في حين الفعل منتفية.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ من ذهب إلى وجود الإرادة في الحيوان ، أراد بها بعض مقدّماتها. ومن نفى عنها الإرادة إنّما نفى الإرادة الثابتة في الإنسان ، وبذلك يمكن أن يجمع بين الآراء والكلمات.

الرابع : المخلوقات التي لها التعقّل والإدراك الكامل ، فإنّها تفعل عن تعقّل كامل من دون شهوة وقتيّة كالملائكة ، فإنّ فيهم الإرادة الكاملة لما يريدون أن يفعلوه في عالمهم.

ومن ذلك كلّه يعلم أنّ الإنسان هو الفرد الكامل الذي اجتمعت فيه مقدّمات الإرادة ، فهو الحيوان الحسّاس المتحرّك بالإرادة ، ولكنّه قد يغفل عن الإرادة ، فلا يلتفت إليها حين توجّه نفسه إلى المراد ، بل يكون تمام توجّهها إلى نفس المراد فقط.

وإرادة الإنسان مسخّرة تحت إرادة الله تعالى القهّارة ، ولا استقلال لها بوجه من الوجوه ، ففي بعض القدسيات : «يا ابن آدم تريد وأريد ، وأتعبك في ما تريد ثم لا يكون إلا ما أريد» ، وعن سيد العارفين عليّ عليه‌السلام : «عرفت الله بفسخ العزائم ونقض الهمم» ، وهذا غير مورد الجبر الباطل ؛ لأنّ مورده نفي الإرادة ، والمقام من تخلّف المراد عن الإرادة.

حقيقة الإرادة :

عرفنا أنّ الإرادة من الأمور الوجدانيّة التي يعرفها كلّ فاعل مختار ، ومن له إدراك وشعور ، ولها مقدّمات ، وتسمّى مقدّمات الفعل أيضا ، وهي : الإدراك ، وتوجّه النفس ، والعزم ، وتصوّر الغاية ، والقدر والقضاء ، والإرادة هي الجزء الأخير من تلك المقدّمات.

٨٨

وفي الفلسفة الحديثة : أنّ الإرادة خاصيّة مستقلّة عن المؤثّرات والظروف الخارجيّة ، ولكن للفطنة والحكمة سلطة عليها ، التي تصدر الحكم الذي تبلّغه الإرادة إلى القوى الفاعلة ، فتكون الإرادة هي الأمر بالعمل أو النهي عنه.

وهذه هي المسألة المعروفة التي ذكروها في علم الأصول ، وهي اتحاد الطلب والإرادة ، وسيأتي موجز الكلام فيها.

فالإرادة : جهد نفسي وعملية ذهنيّة يقوم عليها الصمود ورباطة الجأش ، بل قال بعض الفلاسفة : إنّه لا إرادة حيث لا استطاعة. وقد ذهب بعض المادّيين إلى أنّ الإرادة ثمرة المعرفة والتجربة والتربية.

وبعبارة اخرى : أنّ الإرادة الإنسانيّة ليست غير ما تمليه قوانين الطبيعة والمجتمع ، وهذه طريقتهم في تفسيرهم لكلّ الأمور في هذا العالم.

وما أبعد مقالة هؤلاء عمّا يقوله بعض الفلاسفة الرواقيين من أنّها أساس المعرفة والسلوك ، ولكن لا يمكن إنكار تأثّر الإرادة الإنسانيّة بما يحيط بها من البيئة والمجتمع.

والإرادة هي الدافع الرئيسي والعامل النفساني الأوّل في الفعل الإنساني وما يصاحبه من الانفعالات. وفي الإسلام تعتبر الإرادة من أهمّ مقومات الجزاء ، وهي محور الأخلاق والسلوك ، وسيأتي في بحث إرادة الله تعالى أنّ نظام الكون يتقوّم بإرادته عزوجل ، وحينئذ يحقّ لنا أن نقول إنّ أساس الكون هي الإرادة ، سواء إرادته عزوجل ، أم إرادة المخلوق في تنظيم النظام وصدور الأفعال.

ولا بد لكل إرادة من متعلّق وهو المراد ، وبها يفترق العمل الإرادي عن اللاإرادي ، وتختلف الإرادة حسب اختلاف المتعلّقات ، فلا يمكن حصر أقسامها. ولكن ذهب بعض الفلاسفة إلى تقسيم الإرادة إلى أربعة أقسام ، التي هي اصول كلّ إرادة ، وهي :

إرادة الحياة ، وهي الجهد الذي يبذله كلّ فرد للحفاظ على صورة الحياة ،

٨٩

وبها يحقّق كلّ كائن نموذج نوعه ، وهي غريزة من الغرائز التي لا ترتبط بالشعور والرأي.

إرادة القوة : وهي الصراع لأجل الوجود ، الذي يكون الدافع الحقيقي للتطوّر.

إرادة الخير : وهي استعداد الفرد لبذل أفضل ما يطيقه من جهد لفعل الخير ، وهذه الإرادة هي التي يقاس بها الإنسان الخيّر عن غيره.

إرادة الاعتقاد : وهي التي تميّز الاعتقاد الصحيح عن الفاسد ، والتسليم بمعتقدات واختيارها لما يترتّب عليها من منافع عمليّة.

هذه هي أقسام الإرادة كما ارتآه بعض الفلاسفة.

ولكن المناقشة في هذا التقسيم واضحة ، فإنّ بعضا منه ـ كالقسم الأوّل ـ يرجع إلى الغريزة والفطرة ، والإرادة بمعزل عنها. والبعض الآخر هو من مجرّد الأمثلة ، فلو كان المناط على ذلك لوجب ذكر كلّ ما يتعلّق به الإرادة. وممّا يهون الخطب أنّه مجرّد اصطلاح منهم ، ولا ضير في ذلك.

نعم ، الأمر الذي لا يسع لأحد إنكاره هو أن الإرادة قد تضعف وقد تشتدّ حتّى تصل إلى حدّ التصميم والعزيمة ، وقد ورد في القرآن الكريم بعض الموارد التي عبّر عنها بأنّها من عزائم الأمور ، وهي التي لا بد فيها من إرادة قويّة وحزم وجزم ، قال تعالى مخاطبا لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٥٩] ، وقال تعالى : (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٨٦].

إرادة الله تعالى :

لا ريب ولا إشكال في ثبوت الإرادة له عزوجل ، وقد دلّت الأدلّة الأربعة عليه ، فمن القرآن الكريم آيات كثيرة ، منها الآيات التي تقدّم تفسيرها ، ومنها

٩٠

قوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [سورة البقرة ، الآية : ١٨٥] ، ومنها قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) [سورة الحج ، الآية : ١٤] ، ومنها قوله تعالى : (إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [سورة النحل ، الآية : ٤٠] ، وغير ذلك ممّا هو كثير.

وأمّا السنّة فسيأتي نقل بعضها.

وأمّا الإجماع ، فقد أطبق أرباب الملل والنحل بل جميع العقلاء على ثبوتها له عزوجل.

ومن العقل حكمه البتّي بأنّ الله تعالى عالم حكيم في أفعاله ، وهما يقتضيان الفاعليّة بالإرادة والاختيار ، فليس جلّ شأنه من قبيل الفاعل الموجب ، وكلّ من كان كذلك لا بد وأن تكون له إرادة ؛ ولذا نرى وجود بعض الممكنات ، وحدوثها في وقت دون آخر ، بل نرى آثار إرادته في جميع الممكنات ، وهذا الدليل يتمّ أيضا حتّى بناء على القول بأن إرادته تعالى إنّما هي الإيجاد والإحداث ، لأنّ العلم والحكمة من مقتضيات الفاعليّة على وجه الاختيار ، وهي الإرادة.

فما ذكره بعض العلماء من أنّ إثبات الإرادة لله عزوجل من جهة النقل دون العقل.

مردود ، كما عرفت.

وأمّا السنّة ، فقد وردت أخبار كثيرة في شرح كلتا الإرادتين ـ إرادة الخالق تعالى وإرادة المخلوق ـ ونحن نورد جملة منها ، ونذكر ما يستفاد منها.

ففي الكافي : عن صفوان قال : «قلت لأبي الحسن عليه‌السلام : أخبرني عن الإرادة من الله ومن الخلق؟ قال عليه‌السلام : الإرادة من الخلق الضمير ، وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل ، وأمّا من الله تعالى فإرادته إحداثه لا غير ذلك ؛ لأنّه لا يروي ، ولا يهم ، ولا يتفكّر ، وهذه الصفات منفية عنه ، وهي صفات الخلق ، فإرادة الله الفعل

٩١

لا غير ذلك ، يقول له : كن فيكون ، بلا لفظ ولا نطق بلسان ولا همّة ، ولا تفكّر ، ولا كيف لذلك ، كما أنّه لا كيف له».

أقول : ليس عليه‌السلام في مقام بيان حقيقة الإرادة من حيث هي على نحو الحدّ المنطقي حتّى تكون إرادة الخالق مباينة مع إرادة الخلق من كلّ جهة ، وإنّما هو عليه‌السلام في مقام التمييز بينهما في الجملة ؛ لأنّ الإرادة من الخلق كما نراها متقوّمة بالتفكّر والروية في المبدأ وفي الغاية. فالضمير في الخلق عبارة عن مقدّمات الإرادة التي تحصل في القلب ، وقوله عليه‌السلام : «وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل» ، يمكن أن يستظهر منه أن الإرادة في الخلق هي فعلهم أيضا ، فالفرق بين الإرادتين إنّما هو في المقدّمات لا في نفس الإرادة من حيث هي ، وقوله عليه‌السلام : «فإرادته إحداثه» ، أي : أنّ إرادته تعالى إنّما هي نفس الفعل ، وهي ما قلناه في إرادة المخلوق ، ولكن التفرقة في المقدّمات. ويظهر ذلك بوضوح من نفي هذه المقدّمات عنه عزوجل ، ولكن ذلك لا يستلزم نفي الحكمة والعلم بالنسبة إلى المراد.

ومنها : صحيحة سليمان بن جعفر الجعفري ، قال : «قال الرضا عليه‌السلام : المشيئة والإرادة من صفات الأفعال ، فمن زعم أنّ الله لم يزل مريدا شائيا ، فليس بموحّد».

أقول : هذا الحديث يدلّ على أنّ الإرادة والمشيئة هي الفعل ، وإنّما يفرّق بينهما بالجزئيّة والكلّيّة ، فالإرادة تتعلّق بالجزئيات والمشيئة تتعلّق بالكلّيات.

وأمّا قوله عليه‌السلام : «فمن زعم أنّ الله لم يزل مريدا شائيا فليس بموحّد» ، فلأنّه لو كانت المشيئة والإرادة في مرتبة الذات وهما يقتضيان المراد ـ لاستحالة تخلّف الإرادة عن المراد ـ فحينئذ لا بد من القول بالقدم الذاتي للأشياء فينتفي التوحيد مع أنّهما متجدّدان بالنسبة إلى الخلق في كلّ عصر وزمان ، فيلزم التجدّد في الذات والتغيّر والحدوث فيها ، وكلّها باطل بالضرورة.

ومنها : صحيحة ابن أذينة عن الصادق عليه‌السلام قال : «خلق الله المشيئة بنفسها ، ثم خلق الأشياء بالمشيئة».

٩٢

أقول : ذكرنا أنّ المشيئة والإرادة حقيقة واحدة ، وإنّما تختلفان بالكليّة والجزئيّة ، والحديث يبيّن أنّ المشيئة حادثة ، وليس المراد من خلقها بنفسها كونها موجودا جوهريّا خارجيّا ، بل المراد بذلك تقديرها في نظام العالم يدبّر بها المخلوقات.

ومنها : رواية أبي سعيد القمّاط عنه عليه‌السلام أيضا : «خلق الله المشيئة قبل الأشياء ثمّ خلق الأشياء بالمشيئة».

أقول : المراد بالقبليّة هي الرتبة الواقعيّة لا الزمانيّة ، وهكذا في «ثمّ».

ومنها : رواية بكير بن أعين قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : علم الله ومشيئته مختلفان أو متفقان؟ فقال عليه‌السلام : العلم ليس هو المشيئة ، ألا ترى إنّك تقول : سأفعل كذا إن شاء الله ، ولا تقول : سأفعل كذا إن علم الله ، فقولك : إن شاء الله دليل على أنّه لم يشأ ، فإذا شاء كان الذي شاء كما شاء ، وعلم الله السابق المشيئة».

أقول : الحديث يدلّ على أنّ المشيئة منبعثة عن العلم الربوبيّ ، فلا يعقل كونهما في مرتبة واحدة ، كما هو الأمر في علمنا ومشيئتنا.

ومنها : صحيحة محمد بن مسلم عن الصادق عليه‌السلام قال : «المشيئة محدثة».

أقول : لأنّ كلّ ما كان منبعثا عن مرتبة الذات محدث لا محالة ، والمراد به هو الحدوث الذاتي منه ، لا الزماني ، وإن تحقّق الثاني في سلسلة المتدرّجات.

ومنها : صحيحة عاصم بن حميد عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام : «قلت : لم يزل الله مريدا؟ قال عليه‌السلام : إنّ المريد لا يكون إلا المراد معه ، لم يزل الله عالما قادرا ثم أراد».

أقول : الحديث يفسّر حقيقة إرادته تبارك وتعالى بمقدّماتها ، وبيّن أيضا أنّ من مقدّمات الإرادة العلم والقدرة ، فتكون الإرادة منبعثة عنهما ، فتكون حادثة ولم يبيّن عليه‌السلام أنّها الفعل ، لأنّه عليه‌السلام ليس في مقام بيان ذلك.

٩٣

ومنها : حديث الاهليلجة المعروف عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال في جواب الطبيب : «إنّ الإرادة من العباد الضمير وما يبدو بعد ذلك من الفعل ، وأمّا من الله عزوجل ، فالإرادة للفعل إحداثه إنّما يقول : كن فيكون ، بلا تعب وكيف».

أقول : مرّ بيان هذا الحديث الشريف في حديث صفوان عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليهما‌السلام.

ومنها : رواية الهاشمي المشتملة على مباحثة الإمام الرضا عليه‌السلام مع أهل الملل والنحل ، قال عليه‌السلام : «مشيئته واسمه وصفته ، وما أشبه ذلك ، كلّ ذلك محدث مخلوق مدبّر ـ إلى أن قال عليه‌السلام ـ : واعلم أنّ الإبداع والمشيئة والإرادة معناها واحد وأسماؤها ثلاثة».

أقول : الحديث يدلّ على ما ذكرناه آنفا من أنّه لا فرق بين المشيئة والإرادة ، وإنّما جعل عليه‌السلام الإبداع هي الإرادة والمشيئة ؛ لأنّها عبارة عن الفعل والإحداث ، فتكون محدثة. ولكن الفلاسفة فرّقوا بين الإبداع والخلق ، فجعلوا مورد الإبداع خلق الروحانيين ، والخلق أعمّ من ذلك ، وهذا لا يرتبط بالمقام.

ومنها : رواية عبد الرحيم القصير عن الصادق عليه‌السلام قال : «كان (عزوجل) ولا متكلّم ، ولا مريد ، ولا متحرّك ، ولا فاعل جلّ وعزّ ربنا ، فجيمع هذه الصفات محدثة عند حدوث الفعل منه».

أقول : الحديث يدلّ على أنّ الإرادة هي الفعل ، وهي حادثة ، وأنّ كلّ ذلك ليس في مرتبة الذات.

ومنها : صحيحة يونس عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام : «قلت : فما معنى شاء؟ قال عليه‌السلام : ابتدا الفعل ، قلت : فما معنى أراد؟ قال عليه‌السلام : الثبوت عليه».

أقول : الحديث يدلّ على أنّ الفرق بين المشيئة والإرادة هو الفرق بين التقدير والإيجاد ، ويمكن ارجاعه إلى ما قلناه من أنّ الفرق بينهما بالكليّة والجزئيّة ؛ لأنّ الكلي مقدّم على الجزئي بالإضافة ، ويفسّره الحديث الآتي.

٩٤

ومنها : صحيحة ابن إسحاق عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : «أتدري ما المشيئة؟ فقال : لا ، فقال : همّه بالشيء أو تدري ما أراد؟ قال : إتمامه على المشيئة».

أقول : الحديث ليس في مقام الفرق بين مشيئة الله عزوجل وإرادته تعالى ، بل إنّما هو في مقام بيان طبيعة المشيئة والإرادة بالنسبة إلى الخلق ، وإلا فليس له تعالى «همّ» ولا رويّة ، كما تقدّم في الحديث ، ويمكن أن يستفاد من لفظ «الهمّ» الكليّة ، فيكون في مقام بيان الفرق بين مشيئته تعالى وإرادته عزوجل.

هذه جملة من الأخبار الواردة في هذا الموضوع المهمّ ، والذي اتّفقت عليه جميع هذه الأحاديث أنّها لم تشر إلى أنّ الإرادة من الصفات الذاتيّة أو أنّها عينها ، كما هو الأمر في سائر الصفات العليا ، فإنّهم عليهم‌السلام بيّنوا ذلك فيها. فلا ريب ولا إشكال في ثبوت الإرادة له جلّ شأنه عقلا ونقلا ، بل يعدّ ذلك من الضروريات ، كما عرفت.

معنى الإرادة فيه عزوجل :

ذكرنا في أحد مباحثنا المتقدّمة أنّ العقول تحيّرت في ذاته جلّت عظمته ، وفي صفاته تعالى مطلقا ، سواء كانت صفات الذات أم صفات الفعل ؛ لأنّ التحيّر في الذات تحيّر في ما هو عين ذاته تبارك وتعالى أيضا.

وأمّا صفات الفعل ، فلأنّها منبعثة عمّا لا يدرك ذاته وصفاته ، فلا بد من التحيّر فيها أيضا.

والإرادة من الصفات التي هي من أتمّ مظاهر الجلال والجمال وتجليات الذات قولا وفعلا ، ولا ريب أنّ الإرادة بالمعنى الذي ذكرناه في إرادة الإنسان لا يمكن اتّصافه عزوجل بها ؛ للزوم كونه محلا للحوادث ، وهو منزّه عنها ، إلا إذا قلنا بأنّ الإرادة في الإنسان أيضا هي فعله ـ كما هو الحقّ ـ فيتّحد معنى الإرادتين حينئذ.

ولكن قد اختلفت تعبيرات العلماء في إرادة الله تعالى ، وعمدة الأقوال فيها ثلاثة :

٩٥

الأوّل : أنّها ابتهاج الذات بالذات ، وقد اختاره جمع من محقّقي العلماء ، وقال بعض الفلاسفة :

فحيث ذاته أجلّ مدرك

أتم إدراك لأبهى مدرك

مبتهج بذاته بنهجه

أقوى ومن له بشيء بهجة

مبتهج بما يصير مصدره

من حيث إنّه يكون أثره

وعن شيخنا المتألّه المحقّق الشيخ محمد حسين الغروي الاصفهاني ، قال قدس سرّه في بيان هذا القول : «ومن البيّن أنّ مفهوم الإرادة ـ كما هو مختار الأكابر من المحقّقين ـ هو الابتهاج والرضا وما يقاربها مفهوما ، ويعبّر عنه بالشوق الأكيد فينا ، والسرّ في التعبير عنها بالشوق فينا ، وبصرف الابتهاج والرضا فيه تعالى إنّما لمكان أننا ناقصون غير تامّين في الفاعليّة ، وفاعليّتنا لكلّ شيء بالقوّة ، فلذا نحتاج في الخروج من القوّة إلى الفعل إلى امور زائدة على ذواتنا ، من تصوّر الفعل والتصديق بفائدته والشوق الأكيد ، المملية جميعا للقوّة الفاعلة المحرّكة للعضلات ، بخلاف الواجب تعالى ، فإنّه لتقدّسه عن شوائب الإمكان وجهات القوّة والنقصان ، فاعل وجاعل بنفس ذاته العليمة المريدة ، وحيث إنّه صرف الوجود ، وصرف الوجود صرف الخير ، فهو مبتهج بذاته أتمّ ابتهاج وذاته مرضية لذاته أتمّ الرضا ، وينبعث من هذا الابتهاج الذاتي ـ وهي الإرادة الذاتية ـ ابتهاج في مرحلة الفعل ، وهي التي وردت الأخبار عن الأئمة الطاهرين (سلام الله تعالى عليهم) بحدوثها» ، وبناء على هذا القول تكون الإرادة صفة تقابل سائر الصفات العليا ، فلا ترجع إلى العلم حينئذ ، فتكون في مرحلة الذات عين ذاته عزوجل ، وفي مرتبة الفعل لصدور الإيجاد ، فتكون حادثة.

وأشكل عليه : بأنّ الإرادة غير الشوق والابتهاج عندنا ، لما نراه في تناول الأدوية والأفعال العادية والجزافيّة والعبثيّة ، وأمّا الابتهاج في حقّه تعالى ، فهو بريء عنه ؛ لأنّه منزّه عن الجسم والجسمانيّات ، إلا أن يراد فيه عزوجل معنى آخر غير ما نجده في أنفسنا.

٩٦

وفيه : أنّ الابتهاج حاصل في كلّ فاعل لا محالة ، ولكن ابتهاجه عزوجل مباين مع ابتهاج الخلق ، كما في سائر صفاته تعالى ، كالسميع والبصير ونحوهما ، ولا يضرّ ذلك بأصل ثبوت هذه الصفة.

الثاني : أنّ إرادته عزوجل علمه بالنظام الأحسن والأصلح.

وقد ذهب إليه جمع آخر من الحكماء ، وعلى هذا القول ترجع الإرادة إلى العلم ، فتكون عين ذاته.

وقال بعض مشايخنا في توجيه هذا القول بما يرجع إلى القول الأوّل : «والوجه في تعبير الحكماء عن الإرادة الذاتيّة بالعلم بنظام الخير وبالصلاح ، أنّهم بصدد ما به يكون الفعل اختياريا ، وهو ليس العلم بلا رضا ، وإلا كانت الرطوبة بمجرّد تصوّر الحموضة اختياريّة ، وكذلك ليس الرضا بلا علم ، وإلا كانت جميع الآثار والمعاليل الموافقة لطبائع مؤثّراتها وعللها اختيارية ، بل الاختياري هو الفعل عن شعور ورضا ، فمجرّد الملائمة والرضا المستفادين من نظام الخير والصلاح التامّ ، لا يوجبان الاختياريّة ، بل يجب إضافة العلم إليهما ، فما يكون به الفعل اختياريا منه تعالى هو العلم بنظام الخير ، لا أنّ الإرادة فيه تعالى بمعنى العلم بنظام الخير».

أقول : وهو توجيه حسن.

الثالث : أنّ الإرادة هي الإيجاد عن علم وحكمة ، وبه يمكن الجمع بين الأقوال ؛ لأنّ كلّ من تأمّل في تعبيرات العلماء على اختلافها ، يرى أنّها ترجع إلى شيء واحد ، لعدم إمكان قطع النظر عن العلم والحكمة المتعالية في إرادة الله عزوجل ، فمن نظر إلى أساس المقدّمات أدخل العلم في حدّها ، ومن نظر إلى النتيجة مجرّدة عن المقدّمات حدّها بغير ذلك ، فيصحّ أن يقال : إنّ الإرادة هي الإيجاد عن علم وحكمة متعالية ، فالمراد من حيث الإضافة إلى الجاعل يسمّى إيجادا وإرادة ، ومن حيث لحاظه في نفسه يسمّى فعلا.

٩٧

وهذا المعنى لا يختصّ به عزوجل ، بل يجري في إرادة الإنسان أيضا ، وممّا يؤكّد ذلك أنّ الأئمة عليهم‌السلام جعلوا الإرادة من صفات الفعل.

ومن ذلك يظهر أنّ جعل الإرادة العلم بالنظام الأحسن ليس المراد به أنّ العلم بنفسه هو المؤثّر التامّ لصدور الأشياء ووجودها ، حتّى يلزم المحاذير التي ذكروها في الكتب الفلسفيّة والكلاميّة ، وإن كان القول بذلك صحيحا في الجملة ، بمعنى المنشئيّة والمصدريّة ، كما ذكرنا.

وقد ظهر ممّا تقدّم بطلان ما قيل : من أنّ الإرادة لا ترجع إلى العلم ؛ لأنّه يستلزم إمّا إلى إرادة الشرّ والظلم والكفر والقبائح ؛ لأنّه تعالى يعلمها ، أو يلزم أن يكون منشأ التأثير في الممكن الأصلح اعتباريّا محضا ، ولا يرجع إلى نفس العلم لتعلّقه بالمعلومات على حدّ سواء ، أو يرجع إلى نفس الأصلح ، وهو يرجع إلى كون شيء واحد مؤثّرا ومتأثّرا.

والكلّ باطل ؛ لأنّ علمه تعالى إن كان علّة تامّة لحصول المعلوم مطلقا يلزم ما ذكر ، ولكنّه ليس كذلك ، بل علمه الأزلي بالأشياء من مجرّد المقتضي ، فالعليّة التامّة تتوقّف على امور كثيرة اخرى ، فمن يقول إن الإرادة هي العلم بالممكن الأصلح ، لا يريد أنّ العلم لوحده هو السبب لوجوده ، بل العلم مع اختياره عزوجل ، ويدلّ على ذلك ما رواه الكليني عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «علم الله سابق للمشيئة» ، حيث يستفاد أنّ العلم بوحده لم يكن المؤثّر من دون المشيئة والإرادة.

والحاصل : أنّ الإرادة هي الإيجاد عن علم وحكمة ، وهي فعله ، فتكون من صفات الأفعال ، ولا بد من انبعاث صفات الأفعال عن العلم والحكمة.

ويمكن رفع الاختلاف من أصله لما تسالموا عليه من أنّ العلل التوليديّة يصحّ انتساب الأثر فيها إلى نفس المعلول وإلى العلّة ، كما في قولك : أحرقته النّار فمات ، أو مات بالنّار ، كما لا فرق بين قولهم عليهم‌السلام : «الطهور نور» ، أو : «الوضوء

٩٨

نور» وأمثال ذلك كثير ، وفي المقام أنّ الإرادة هي العلّة التي يترتّب عليها المراد ، بلا فرق بين إرادة الخالق وإرادة المخلوق ، فالإرادة بما هي من شؤون المريد باعثة لصدور المراد والفعل.

فمن نظر إلى المراد جعل الإرادة الفعل ، ومن نظر إلى أنّها لا تحصل إلا بالعلم والحكمة جعلها منهما ، ومن نظر إلى توسّط الإرادة بين العلم والمراد ، جعلها ابتهاجا وشوقا ، فيرجع الجميع إلى شيء واحد في هذا الموضوع الذي له شؤون مختلفة.

ولعلّ من قال من الفلاسفة الأقدمين : إنّ الإرادة في الإنسان هي الفعل. فإن كان نظره إلى ذلك ، وهذا هو المرتكز في النفوس ، فإنّ الإنسان لا يرى حين ارادته شيئا إلا المراد فقط ، غافلا عن نفس الإرادة ومقدّماتها ، وإن كانت هي منطوية في النفس انطواء الجزء في الكلّ.

أقسام الإرادة :

قسّم الحكماء والفلاسفة الإرادة إلى إرادة تكوينيّة وإرادة تشريعيّة ، وعرّفوا الاولى بأنّها ما تعلّقت بفعل نفس المريد ، والثانية ما تعلّقت بفعل الغير مع سبق إرادته ، وهما تتصوّران بالنسبة إلى إرادة الله تعالى وإرادة الإنسان معا.

أمّا بالنسبة إلى إرادته عزوجل ، فقد تقدّم ، وقد وردت في القرآن الكريم كلتاهما.

قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [سورة الحجرات ، الآية : ١٣]. فإنّها إرادة تكوينيّة. وقوله تعالى : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) [سورة الأنفال ، الآية : ١] وهي إرادة تشريعيّة.

وأمّا في المخلوق ، فمثل قولك : «ذهبت إلى المسجد» ، فإنّها إرادة تكوينيّة ، وقولك لولدك : «اذهب إلى المسجد» ، وهي إرادة تشريعيّة ، وفي القرآن الكريم

٩٩

القسمان من الإرادة التكوينيّة والتشريعيّة معا ، والسنّة الشريفة حوت الإرادة التشريعيّة وبيّنت خصوصياتها.

وهذا التقسيم إنّما هو من باب الوصف بحال المتعلّق ، وإلا فلا فرق بين ذات الإرادة في الموردين.

ثم إنّ التشريعيّة إن كانت بالنسبة إلى الفعل ولم يستظهر من القرائن الداخليّة أو الخارجيّة الترخيص في الترك ، يعبّر عنها بالوجوب ، وإلا فهي الندب والاستحباب ، وإن كانت بالنسبة إلى الترك ولم يستظهر من القرائن الترخيص في الفعل ، يعبّر عنها بالحرام ، وإلا فهي الكراهة ، وبذلك تنتظم الأحكام التكليفيّة ، وقد أثبتوا أنّ الأصل في الأشياء الإباحة إلا مع الدليل على الخلاف.

وإرادة الله التشريعيّة ليست إلا لتكميل الإنسان ، فلو قلنا : بأنّ الإرادة التشريعيّة منه عزوجل غاية الإرادة التكوينيّة بل أصلها وأساسها ، لم يكن به بأس ، وعليه الشواهد الكثيرة ، ويصحّ العكس أيضا لشدّة ارتباطهما ، فقد ورد في العقل المجرّد سيد الأنبياء أحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله : «خلقت الأشياء لأجلك ، وخلقتك لأجلي» ، وقال الله تعالى بالنسبة إلى موسى بن عمران : (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) [سورة طه ، الآية : ٤١].

ولذا جعل بعض مشايخنا قدس سرّهم الإرادة التشريعيّة من التكوينيّة ؛ لأنّ التشريع من مراتب النظام الأحسن ، وهو متين جدا.

وقيل : إنّه لا وجه للإرادة التشريعيّة ؛ لأنّ إرادته تعالى إن تعلّقت بفعل الغير يتحقّق لا محالة ، فيتحقّق الجبر ، وحينئذ يكون فعله تعالى لا فعل الغير ، فالإرادة التشريعيّة باطلة.

وفساده واضح ؛ لأنّ الإرادة التشريعيّة تتعلّق بما يصدر من العبد مع إرادته واختياره ، فالإرادة تتعلّق بفعله مع تخلل القصد والاختيار ، وأنّه فاعل مختار ، ولعلّ تقسيم الإرادة إلى هذين القسمين لبيان الفرق بين متعلّقي الإرادتين ،

١٠٠