مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٨

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٨

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٣
ISBN: 946-5665-07-8
الصفحات: ٣٩٧

قوله تعالى : (وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ).

المراد بالاجور في المقام المهور ؛ لأنّ المهر عوض البضع ، وإضافة الأجور اليهنّ مع كونهنّ مملوكات ؛ لبيان أنّ المهر قد استحقّته بميثاق الزواج ، وهو يقابل بضعها ، ولا ينافي هذا كون الأجر للمالك ؛ لأنّه مالك لها ولمنافعها.

وإنّما قيّد عزوجل الإعطاء بالمعروف ؛ للدلالة على أنّه لا حدّ لهذا المهر كما وكيفا شرعا ، بل يحدّده العرف والعادة في مثل هذا الزواج ، ولكن لا بد أن يكون من غير بخس ولا أذى ولا مماطلة ، وهذا هو المعروف في كلّ نفقة أيضا ، كما تقدّم في آية النفقة في سورة البقرة.

قوله تعالى : (مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ).

المحصنات : العفائف ، وغير مسافحات لبيان نفي جميع أنواع الزنا ، العلن منها والخفي.

والمعنى : أنّهن قد أقدمن على الزواج للإحصان والتعفّف عن الحرام ، فلا يأتين بما ينافي العفّة ، كالزنا واتباع الشهوات. وإنّما اختلف التعبير في المقام عن ما ورد في نكاح الحرائر ، قال تعالى : (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ) ؛ لأنّ الحرائر أبعد عن الفحشاء من الرجال ، فإنّهم أسرع انقيادا لزمام الشهوة ، فجعل هذا القيد للرجال الطالبين للزواج ، وأمّا الإماء فإنّ الغالب عليهن الزنا ، فجعل قيد الإحصان لهنّ ، فكأن القيد في كلّ موضع يرجع إلى ما يوافق الطبع والعادة.

قوله تعالى : (وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ).

الأخدان : جمع الخدن ـ بكسر الخاء وسكون الدال ـ والخدين : الصديق والخليل ، يستوي فيه المذكّر والمؤنّث والمفرد والجمع.

وعن بعض أن الأخدان هم الأصدقاء في السرّ للزنا ، لا مطلق الصديق والخليل. ولكن ذلك من باب ذكر أحد المصاديق لا التقييد ؛ لأنّ الخدن هو الصاحب والخليل في كلّ أمر ظاهر وباطن ، يقال : رجل خدنة ، إذا اتخذ أخدانا وأصحابا ، وذات الخدن هي التي تزني سرّا.

٦١

والمراد بها في المقام هي المرأة التي تختصّ بخلّة الرجل ومصاحبته للزنا والفجور ، ونفي هذا الفرد مع أنّه منفي بالآية السابقة للتأكيد على تركه ، لأنّه كان شائعا في الجاهلية ، فقد كانت العرب تعيب الإعلان بالزنا بأن تأخذ الأجر من الراغبين فيها ولا تعيب على ذات الخدن ، أي : الزنا سرّا مع صديق لها على الخصوص ؛ ولذا أفرد سبحانه وتعالى كلّ واحد من هذين القسمين بالذكر ، ونصّ على حرمتهما معا ، وحرّم جميع مظاهر الزنا ، قال تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) [سورة الانعام ، الآية ١٥١].

وإنّما أتى بصيغة الجمع ؛ للدلالة على الكثرة ، فإنّ النفس لا تقنع بالخدن الواحد إذا اطلق زمامها واطيعت في ما تهواه.

قوله تعالى : (فَإِذا أُحْصِنَ).

بضمّ الهمزة وكسر الصاد بالبناء للمفعول ، وهي القراءة المعروفة ، أي : فإذا أحصن بالتزويج ، وقرئ بالبناء للفاعل ، أي : أحصن فروجهن وأزواجهن.

وكيف كان ، فالمراد من الإحصان التزويج ، وهو المناسب للسياق والتفريع ، ويدلّ عليه بعض الأحاديث.

وقيل : المراد بالإحصان الإسلام ، واستدلّ عليه بما رواه في الدرّ المنثور عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «إحصانها إسلامها».

ولكنه مردود :

أولا : أنّه مخالف لسياق الآية الشريفة.

وثانيا : أنّ الإحصان حينئذ من فعلهنّ ، لا من غيرهن عليهن ، الذي هو مفاد القراءة بالبناء للمفعول.

وثالثا : الحديث معارض بغيره.

نعم ، لو كان المراد من الإسلام الحقيقيّ منه ، كان له وجه.

٦٢

قوله تعالى : (فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ).

المراد من الفاحشة هي التي توجب الحدّ ، وهي الزنا والمساحقة ، والعذاب : الحدّ ، وهو هنا الجلد دون الرجم ؛ لأنّه لا يقبل التنصيف ، والمحصنات هنا الحرائر ، وقد ورد الإحصان في القرآن بمعان أربعة ، الأوّل : التزوّج ، والثاني : العفّة ، والثالث : الحرّية ، والرابع : الإسلام ، كما قيل في تفسير قوله تعالى : (فَإِذا أُحْصِنَ).

واللام في «العذاب» للعهد ، وهو ما ورد في قوله تعالى : (فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) [سورة النور ، الآية : ٢] ، فالذي ينصف من حدّ الزنا هو المائة جلدة ، وتقدّم أنّ الرجم ليس له نصف ، بل هو مقدّمة لإزهاق الروح.

والمعنى : فإذا فعلن الفتيات المؤمنات الزنا بعد إحصانهن بالزواج ، فعليهن نصف حدّ الحرائر غير المزوّجات ، وهو جلد خمسين جلدة ، ويدلّ على ذلك أحاديث متعدّدة مرويّة من الفريقين ، سيأتي ذكرها في البحث الروائي.

وممّا ذكرنا يعرف أنّه لا مفهوم للشرطيّة في قوله تعالى : (فَإِذا أُحْصِنَ) ؛ لقيام الدليل عليه. وإنّما ذكر إحصان الزواج في الشرط المجرّد عن المفهوم لأنّه كان مفروض الكلام ، وقد ذكر في ما تقدّم ، فلا يؤثّر الإحصان فيها شيئا زائدا ، فهي متّحدة في كلتا الحالتين ، ونظير الآية الشريفة في انتفاء المفهوم قوله تعالى : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) [سورة النور ، الآية : ٣٣] ، ولعلّ فائدة مفهوم الشرط في المقام لبيان اختلاف حكم الأمة مع حكم الحرّة في هذه الحال ، وأنّه يجب عليها الجلد خمسين خاصّة في الحالتين.

وذهب بعض المفسّرين من الجمهور إلى العمل بمقتضى مفهوم الشرط والحكم بعدم وجوب الحدّ عليها إذا لم تكن محصنة ، وقال : إنّ تفسير المحصنات في هذه الآية الكريمة بالحرائر مقابلة للإماء ، ليس بسديد ، وأيّده بحصول الشبهة لهن بتجويز الزنا لهن في هذه الحال.

٦٣

ويردّ عليه مضافا إلى أنّه بعيد عن سياق الآية المباركة ـ كما عرفت ـ أنّه مخالف لجملة كثيرة من الروايات أيضا. هذا كلّه إن كان المراد بالإحصان إحصان الزواج والعفّة.

وأمّا إذا كان المراد إحصان الإسلام ـ كما ذكره جمع ـ فالآية المباركة تدلّ على المطلوب ـ وهو نصف عذاب الحرائر ، سواء كنّ ذوات بعولة أو لا ـ بوضوح من غير مؤونة.

قوله تعالى : (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ).

مادة «عنت» تدلّ على المشقّة والشدّة ، ومنه : أكمة عنوت ، أي : صعبة المرتقى ، وفي الحديث : «أيما طبيب تطبّب ولم يعرف بالطبّ فأعنت ، فهو ضامن» ،

أي : أفسد وأوقع المريض في المشقّة والشدّة.

وقد وردت هذه المادّة في القرآن الكريم في مواضع خمسة ، كلّها تدلّ على المشقّة والجهد ، وقد فسّر جمع من المفسّرين العنت في المقام بالزنا ؛ لأنّه نتيجة وقوع الإنسان في مشقّة الشبق وجهد شهوة النكاح.

وقيل : إنّه الإثم ؛ لأنّه لا ضرر أعظم من مواقعة المآثم بارتكاب أفحش القبائح ، ولكن لا دليل على كون المراد هو الزنا أو الإثم ، فالصحيح هو الأخذ بالمعنى العامّ ، وهو الشدّة والمشقّة الحاصلة بسبب العزوبة وترك التزويج بالإماء.

والمعنى : جواز نكاح الفتيات المؤمنات لمن يجد الطول في نكاح الحرائر المؤمنات ، إنّما هو لمن يخاف أن يقع في المشقّة والجهد الحاصل من العزوبة وترك التزويج بالإماء.

قوله تعالى : (وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ).

أن بفتح الهمزة مخفّفة ، والجملة في تأويل المصدر ، أي : وصبركم خير لكم ، واختلف المفسّرون في متعلّق الصبر ، فالمشهور أنّه نكاح الإماء ، فالمعنى : وصبركم عن نكاح الإماء مع عدم الطول وخوف المشقّة خير لكم لما في

٦٤

نكاحهن نوع من الحزازات ، ويترتّب عليه من العواقب التي يرغب عنها الأحرار ، ككون أمر الأمة بيد المولى في غير ما يعارض النكاح والاستمتاع ، فإنّهما للزوج ، وأنّ النكاح في معرض الفسخ بالبيع وانتقال الملكيّة إلى مولى آخر ، أو أنّ المهر الذي بذله الزوج يذهب هدرا لو أعتقها المولى ، وغير ذلك ممّا ذكرناه في طي كلامنا ، ونسب إلى نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الحرائر صلاح البيت ، والإماء هلاك البيت».

وأمّا ما ذكره بعضهم من صيرورة الولد المتولّد منها رقّا ، فهو غير تامّ عند الإماميّة وبعض فقهاء الجمهور ، فإنّ الولد يتبع أشرف أبويه في الحرّية والإسلام حتّى جعل الإماميّة ذلك قاعدة فقهيّة ، ودلّت عليها الأخبار والإجماع.

وكيف كان ، فالآية المباركة في مقام الإرشاد إلى ترك نكاح الإماء ، أي : استحباب تركه ، لا التحريم ، ويدلّ عليه جملة من الأخبار.

وقيل : إنّ المتعلّق هو الزنا ، أي : صبركم عن الزنا خير لكم لما فيه من تهذيب النفس وتحصيل ملكة العفّة والتلبّس بلباس التقوى وتحكيم العقل ، وترك اتباع الشهوات ، وأيّد ذلك بأن ترك نكاح الإماء لا يجتمع مع خوف العنت والمشقّة ، فلا بد أن يكون المراد الصبر عن الزنا ، وتركه بالازدواج معهن.

ويمكن الجواب عنه بأن خشية العنت لها مراتب متفاوتة ، فبعضها يجامع الصبر ، وهو ما إذا علم من نفسه العصمة من الزنا وارتكاب الفحشاء إذا ترك التزويج بهن ، لكن مع المشقّة الشديدة. ولكنّ بعض المراتب لا تجتمع مع الصبر ، كما إذا غلب على ظنّه أو علم بأنّه يقع في الفحشاء ، فحينئذ يكون النكاح واجبا أو مستحبّا.

قوله تعالى : (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

أي : والله غفور يغفر لمن خالف إرشاداته وأوامره ، ويمحو آثار سيئاته ، ولا يؤاخذه بما يختلج في نفوس المؤمنين ، رحيم بعباده يرشدهم إلى ما يصلحهم ، ولا يكلّفهم إلا ما يطيقونه.

٦٥

بحوث المقام

بحث أدبي

الطول : في قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً) مصدر ، وهو مفعول به ليستطيع ، وردّ : بأنه بناء عليه يكون المعنى : ومن لم يقدر على القدرة.

وأجيب بأنّ طول في المقام هو السعة والغنى ، أي : ولم يكن له القدرة على الغنى والسعة في الحال والمال.

وقيل : إنّه مفعول لأجله ، لبيان جهة الاستطاعة المذكورة.

وقيل : إنّه منصوب بنزع الخافض ، أي يقدر على الطول.

و (مَنْ) في قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ) إمّا شرطيّة وما بعدها الشرط ، أو موصولة وما بعدها صلة.

و (أَنْ يَنْكِحَ) في تأويل للمصدر مفعول لكلمة (يستطع) ، أو منصوب بفعل مقدّر صفة «طولا» ، أي : يبلغ به نكاح المحصنات.

والفتاة : اسم للمملوكة ، كما أنّ الفتى اسم للمملوك ، وفي الحديث : «لا يقولن أحدكم : عبدي وأمتي ، ولكن ليقل : فتاي وفتاتي» ، وهو يطلق على المماليك في الشباب والكبر ، بخلاف الأحرار ، فإنّه يطلق عليهم في ابتداء الشباب فقط.

وقوله تعالى : (وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ) عطف على مسافحات ، و «لا» لتأكيد ما في «غير» من معنى النفي أو من عطف الخاصّ على العامّ ، كما عرفت في التفسير.

٦٦

بحث دلالي

تدلّ الآيات الشريفة على امور :

الأوّل : تدلّ مجموع الآية الشريفة : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ ...) على مرجوحية نكاح الإماء ، حيث اشترط عزوجل في جواز نكاحهن أمرين : عدم الطول ، وخوف العنت ، وما تضمّنته الآية المباركة من الترغيب في نكاحهن عند توفّر الشرطين ثمّ الأمر بالصبر أخيرا والإرشاد إلى ترك ذلك بل استحبابه ، كلّ ذلك يدلّ على مرجوحيّة النكاح بهن وكراهته ، ولكن لا يستفاد من جميع ذلك حرمة نكاحهن ، وهو المشهور بين العلماء.

وذهب جمع إلى الحرمة إذا فقد أحد الشرطين المزبورين لمفهوم الآية الكريمة ، فإن الأوّل مفهوم الشرط ، والثاني وإن كان مفهوم الصفة ، إلا أنّه لا يقصر عن المنطوق في الدلالة ، واستدلّوا على ذلك بجملة من الروايات التي حملها على الكراهة أولى من الحرمة ، بقرينة جملة اخرى من الأحاديث.

وأمّا المفهوم ، فلا حجّة فيه مع سياق الآية الشريفة الدالّ على التنزّه كما عرفت ، ولدخول نكاح الإماء بالعقد في الفرض المزبور تحت العمومات الدالّة على الإباحة ، والتفصيل مذكور في كتب الفقه.

الثاني : يستفاد من قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ) ، رجحان النكاح بالحرائر المؤمنات مع التمكّن من المهر.

الثالث : ظاهر الآية الشريفة يدلّ على أنّه لا بد لكلّ نكاح من مهر ، وإن لم يكن ذكره لازما في متن العقد.

الرابع : يستفاد من قوله تعالى : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) الردّ على العادات والتقاليد التي كانت سائدة في هذا النوع من أفراد المجتمع

٦٧

الإنساني ، وهم العبيد والإماء الذين كانوا في أشدّ معاناة وأعظم محنة ، فاعتبر الإسلام أنّهم من أفراد المجتمع الإنساني ، فهم يحسّون ما تحسّونه ويعانون ما أنتم تعانون منه ، فإنّ بعضكم من بعض ، وإذا انضمّ إلى ذلك الإيمان كان الارتباط أوثق والوشيجة بين الأفراد أمتن ، فإنّ في المجتمع الإسلامي من الروابط بين الأفراد ما لم تكن في أي مجتمع آخر ، ولعلّ ما ورد عن علي عليه‌السلام : «الناس صنفان ، إمّا أخ لك في الدين ، أو نظير لك في الخلق» ، مقتبس من مثل هذه الآية الشريفة ، كما تدلّ هذه الآية أيضا على أنّ الأحكام الإلهيّة لا يمكن أن تقبل التغيير تبعا للعادات والتقاليد الباطلة ، فإنّها أحكام واقعيّة تشتمل على مصالح. فلا يصحّ أن يعتبر نكاح الإماء عارا عند الحاجة إليه بعد الإيمان ، وأنّه أكبر رادع عن ارتكاب السوء والفحشاء نوعا.

الخامس : يدلّ قوله تعالى : (مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ) ، على وجه الحكمة في التشريع في هذا الأمر التكويني ، فإنّ الله تعالى إنّما شرّع الأحكام المرتبطة بالنكاح مطلقا ، لأجل تهذيب هذا الأمر الفطريّ وتحديده ، بحيث يحتفظ فيه داعي العقل والفطرة ، فلا يسرح فيه كالبهائم ليس همّه إلا اتباع الشهوة وإرضاء داعي الفطرة ، فكان النكاح أمرا تربويّا في نظر الإسلام ، وليس مجرّد كونه أمرا تكوينيّا واتباعا للشهوة العارمة ، ولا بد في النكاح من ملاحظة كونه رادعا عن الفحشاء وصارفا عن السفاح ، فالنكاح الشرعي من أهمّ سبل ترويض النفس وتهذيبها ، والصبر عن الحرام.

أمّا التوالد والتناسل ، فهما أمران تكوينيّان يترتّبان على المقاربة وغشيان النساء ، ويصلحان بصلاح المنشأ والسبب ؛ ولذا اهتمّ الإسلام في تحديد العلاقة الزوجيّة بأن حدّد لها شروطا وآدابا ؛ لأنّها السبب في صلاح النسل وفساده ، فما ذكره جمع من أنّ الحكمة في نظر الإسلام إنّما هو تكوين الاسرة والنسل ، فهو خلاف ظاهر الآيات الشريفة ، مع أنّ ما ذكروه مترتّب على نوع تلك العلاقة ، لا

٦٨

مجرّد تكوين الاسرة والنسل بأي وجه حصل ، فربّ اسرة تشكّلت من الحرام وحصل منها النسل الكثير ، ولكنّه في نظر الإسلام مذموم وقبيح.

السادس : يستفاد من قوله تعالى : (فَإِذا أُحْصِنَ) أنّ الغاية من النكاح هو الإحصان ، كما ذكره عزوجل آنفا ، وأنّه لا ينبغي لمن أحصن نفسه فعل الفاحشة وارتكاب السوء والآثام ، فإنّهما جهتان لا يجتمعان ، فإذا صدر منهنّ ذلك فعليهنّ نصف ما على الحرائر من العذاب ، وهذا مختصّ بما يقبل التنصيف ، وهو الجلد دون الرجم ، كما عرفت.

بحث روائي

في الكافي : عن الصادق عليه‌السلام قال : «لا ينبغي أن يتزوّج الحرّ المملوكة اليوم ، إنّما كان ذلك حيث قال الله عزوجل : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً) ، والطول المهر ، ومهر الحرّة اليوم مهر الأمة أو أقلّ».

أقول : هذه الرواية تدلّ على كراهة التزويج مع فقد الشرط ، والتفصيل مذكور في الفقه.

وفي المجمع : عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام في قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً) : «أي : من لم يجد منكم غنى».

أقول : المستفاد من الرواية أنّ ذكر الغنى والمهر في الحديثين من باب بيان ذكر مصاديق الطول ، والمراد منهما القدرة العرفيّة.

وفي التهذيب : عن أبي العباس البقباق ، قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : يتزوّج الرجل الأمة بغير علم أهلها؟ قال : هو زنا ، إنّ الله تعالى يقول : (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَ)».

أقول : الحديث موافق للقواعد العامّة ، فإنّ التصرّف في ملك الغير غير جائز إلا بإذنه ، وفي النكاح يكون زنا قهرا.

٦٩

وفي تفسير العياشي : قال : «سألته عن المتعة ، أليس هي بمنزلة الإماء؟ قال عليه‌السلام : نعم ، أما تقرأ قول الله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ) ـ إلى قوله تعالى ـ (وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ)؟! فكما لا يسع الرجل أن يتزوّج الأمة وهو يستطيع أن يتزوّج الحرّة ، فكذلك لا يسع الرجل أن يتمتّع بالأمة ، وهو يستطيع أن يتزوّج بالحرّة».

أقول : الحديث يدلّ على أنّ نكاح المنقطع كالنكاح الدائم في هذه الجهة ، وتقدّم في التفسير أنّه مستفاد من إطلاق الآية الشريفة ، والحديث ردّ على من زعم أنّ المتعة لا تجوز مع التمكّن من نكاح الأمة.

وفي التهذيب : عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال : «سألت الرضا عليه‌السلام يتمتع بالأمة بإذن أهلها؟ قال : نعم ، إنّ الله تعالى يقول : (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَ)».

أقول : الحديث نصّ في أنّ المتعة نكاح يجري فيها ما يجري في النكاح الدائم ، إلا ما خرج بالدليل.

وفي الكافي وتفسير العياشي : عن محمد بن مسلم ، عن أحدهما عليهما‌السلام قال : «سألته عن قول الله تعالى في الإماء : (فَإِذا أُحْصِنَ) ، ما إحصانهن؟ قال : يدخل بهنّ ، قلت : فإن لم يدخل بهن ما عليهن حدّ؟ قال عليه‌السلام : بلى».

أقول : الحديث يدلّ على أنّه لا مفهوم للآية الشريفة بالنسبة إلى إقامة الحدّ عليهن.

وفي التهذيب : عن بريد العجلي ، عن أبي جعفر عليه‌السلام : «في الأمة تزني ، قال : تجلد نصف الحدّ ، كان لها زوج أو لم يكن».

أقول : تقدّم ما يرتبط بهذا الحديث ، وهو في مقام شرح الآية الشريفة.

وفي تفسير العياشي : عن حريز قال : «سألته عن المحصن؟ قال عليه‌السلام : الذي عنده ما يغنيه».

٧٠

أقول : الحديث وإن ورد في الرجل المحصن ، لكن مقتضى قاعدة الاشتراك والأخبار الواردة في هذا السياق ، تساوي المرأة المحصنة مع الرجل في هذه الجهة.

وفي تفسير القمّي في الآية الشريفة : (فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ) ـ الآية قال : «يعني به العبيد والإماء إذا زنيا ضربا نصف الحدّ ، فمن عاد فمثل ذلك حتّى يفعلوا ذلك ثماني مرّات ، ففي الثامنة يقتلون ، قال الصادق عليه‌السلام : وإنّما صار يقتل في الثامنة ؛ لأنّ الله رحمه أن يجمع عليه ربق الرق وحدّ الحرّ».

أقول : قد ورد أن أصحاب الكبائر يقتلون في الرابعة والثالثة ، وهذا الحديث يشرح ذلك بالنسبة إلى العبيد والإماء.

وفي الكافي : عن أبي بكر الحضرمي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «في عبد مملوك قذف حرّا ، قال عليه‌السلام : يجلد ثمانين ، هذا من حقوق الناس ، فأمّا ما كان من حقوق الله عزوجل فإنّه يضرب نصف الحدّ ، قلت : الذي من حقوق الله عزوجل ما هو؟ قال عليه‌السلام : إذا زنى أو شرب خمرا فهذا من الحقوق التي يضرب عليه نصف الحدّ».

أقول : الحديث شارح لجملة كثيرة من ما ورد في المقام.

وهناك فروع فقهيّة مرتبطة بنكاح العبيد والإماء ، ذكرنا شطرا منها في كتابنا (مهذب الأحكام) ، ومن شاء فليرجع إليه.

وفي الدرّ المنثور : أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : «المسافحات المعلنات بالزنا ، المتخذات أخدان ذات الخليل الواحد ، قال : كان أهل الجاهليّة يحرّمون ما ظهر من الزنا ويستحلّون ما خفي ، يقولون : أمّا ما ظهر منه فهو لؤم ، وأمّا ما خفي فلا بأس بذلك ، فأنزل الله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ)».

أقول : تقدّم في التفسير ما يتعلّق بالآية الشريفة.

٧١

بحث عرفاني

الآية المباركة (وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) على اختصارها واسلوبها الرائع الذي يجذب القلوب وتطمئن إليها النفوس ، تشمل على أمور مهمّة.

الأوّل : تتضمن النشأة الاخرويّة وإيكال الإيمان إلى عالم الغيب والشهادة ، الذي فيه فوائد جمّة ، منها : سوق العباد إلى ذلك العالم.

ومنها : جهدهم لدرك هذا المقام.

ومنها : انقطاعهم من الدنيا إلى عالم الغيب.

ومنها : عدم الاعتماد على النفس ، وعدم الاغترار بما يصدر من الإنسان ، فإنّ الدرجات متفاوتة لا يعلمها إلا الله تعالى.

الثاني : سريان التوحيد في المعبود والعبادة ، وبضميمة قوله تعالى : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) [سورة الحجرات ، الآية : ١٣] ، الذي هو بمنزلة الشارح لهذه الآية ، ينتج المطلوب ، إذ المراد أنّ الله أعلم بتقواكم ، فهو أعلم بإيمانكم ، والمراد بالإيمان هو التوحيد في العبادة والمعبود.

الثالث : تتضمّن الآية المباركة أيضا على النشأة الدنيويّة في قوله تعالى : (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) ، فإنّه يبيّن حقيقة واقعيّة ، وهي أنّ أفراد النوع الواحد لا تفاوت بينها من حيث النوعيّة ولا تفاضل بحسب الحقيقة ، فالحرّ والعبد ، والأمة والحرّة متساوون في الحقيقة ، ففي الآية المباركة الحثّ على ملاحظة الوحدة الاجتماعيّة ونبذ جهات التفرقة والتنافر ، وهذا ما أكد عليه الإسلام في مواضع متفرّقة في القرآن ، ودلّت عليه السنّة الشريفة.

فالآية الشريفة تبيّن ارتباط العبد مع خالقه ، وتحدّد ارتباطه مع بني نوعه أيضا ، وتحثّهم بأسلوب لطيف على التعاون والتآلف والتعاضد ، بلا فرق بين

٧٢

الأصناف المتفاوتة والأفراد المختلفة ؛ ولذا نرى أنّ أهل الله تعالى ـ وفي رأسهم عليّ عليه‌السلام ـ يرون جميع أفراد الإنسان واحدا في حيثيّة كشفهم عن الخالق وتجلّيه فيهم ، فتكون الآية المباركة ترغيبا إلى الوحدة والاتحاد بين أفراد الإنسان ، حيث جعل عزوجل الإنسان نوعا واحدا مركبا من بعض مع بعض ، بحيث لو انفصل البعض من الكلّ لا بد وأن يتأثّر الكلّ بذلك ، وقد نظم الشعراء في هذا المضمون قصائد ممتعة كثيرة بألسنة مختلفة.

٧٣

(يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٦) وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (٢٧) يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (٢٨))

الآيات المباركة من جلائل الآيات القرآنيّة التي تبيّن وجوها من الحكم في تشريع الأحكام الإلهيّة ، لا سيما تلك الأحكام التي شرّعت في النكاح ، وتبيّن أنّها من نعم الله تعالى على عباده المؤمنين ، التي تهديهم إلى الصلاح والرشاد وتجلب لهم السعادة في الدنيا والآخرة ، وأنّ اتباعها يوجب التخفيف على الإنسان الذي هو في صراع مرير بين النفس الأمّارة والقوى الشريرة التي تريد الهلاك والشقاء ، وبين القوى الخيّرة التي تريد له الخير والسعادة ، والله تعالى بتشريعه الأحكام لا يريد إلا الخير والصلاح والرقي للمجتمع الإنساني.

التفسير

قوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ).

جملة استئنافيّة لبيان الغاية في تشريع ما سبق من الأحكام الإلهيّة ووجوه الحكمة فيه. والإرادة : معروفة ، وهي من صفات الله تعالى العليا الفعليّة ، وقد تقدّم في أحد مباحثنا الفرق بين صفات الذات وصفات الفعل ، وقلنا : إنّ كلّ صفة إذا صحّ إثبات نقيضها له عزوجل أو أمكن نفيها عنه تعالى ، فهي من النوع الثاني ، وإلا كان من النوع الأوّل ، فمن صفات الفعل الإرادة ، فإنها أطلقت ونقيضها عليه عزوجل ، قال تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [سورة البقرة ، الآية : ١٨٥] ، وكذا الحبّ : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ

٧٤

الْمُتَّقِينَ) [سورة التوبة ، الآية : ٤] ، وقال عزوجل : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) [سورة البقرة ، الآية : ١٩٠] إلى غير ذلك من الصفات.

ومن صفات الذات الحياة والعلم والقدرة ، وغير ذلك ، فإنّه لا يصحّ إطلاق نقيضها عليه عزوجل ، وقد تقدّم التفصيل في آية الكرسي من سورة البقرة فراجع.

كما أنّ الإرادة من أسباب الفعل ، وهي المشيئة ، والإرادة ، والقدر والقضاء ، وسيأتي البحث عنها في الموضع المناسب إن شاء الله تعالى.

والمعروف بين المفسّرين أنّ اللام في (لِيُبَيِّنَ) زائدة ، والأصل (يبيّن) ، وإنّما أورد في المقام ليجعل المصدر مفعولا.

وقد ذكرنا مرارا في هذا التفسير أنّ دعوى الزيادة في القرآن الكريم باطلة ، وأنّه لا شيء فيه بزائد ، وإنّ لكلّ حرف وكلمة معنى خاصّ ، وسيأتي في البحث الأدبي ما يتعلّق بذلك.

وإنّما حذف مفعول (يبيّن) ليذهب ذهن السامع فيه كلّ مذهب وتستخرجه العقول السليمة وذوي الفطرة المستقيمة ، أي : يبيّن لكم امور دينكم وما يصلح شأنكم ويحقق سعادتكم وفوزكم.

وقد ذكر بعض المفسّرين بعض الحكم في تشريع الأحكام المتقدّمة ، ولكنّه من مجرّد آراء خاصّة ، لم تثبت بدليل شرعي ولا بدليل عقلي مقبول.

قوله تعالى : (وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ).

السنن جمع سنّة ، وهي المنهاج والطريقة المتبعة عملا ، والمراد من قبلكم هم الأنبياء والصالحين من عباد الله تعالى ، والجملة عطف على (لِيُبَيِّنَ).

يعني : يريد الله أن يبيّن لكم ما هو سبب لسعادتكم وصلاحكم في الدنيا والآخرة ، وأن يهديكم سنن الماضين.

والمراد من السنن هي الشرائع التي شرّعها الله عزوجل لصالح الأمم الماضين ، وقد جعلوها سنّة متّبعة لا يحيدون عنها.

٧٥

والدواعي لمعرفة سنن الماضين التي شرّعها الله تعالى كثيرة ، والمصالح لاتباعها متعدّدة ؛ لأنّ دين الله واحد موافق للفطرة المستقيمة ولا اختلاف فيه ؛ ولأنّ متابعة نهج السلف الصالح ما تدعو إليه فطرة العقول ، وللاستفادة من تجارب الماضين الذين لم يقصدوا إلا ابتغاء مرضاة الله ، ففازوا بسعادة الدارين ، فاقتضت المصلحة أن يسنّ عزوجل لكم شريعة تكون لكم منهاجا.

وقال بعض المفسّرين : المراد من الآية الشريفة الهداية إلى سنن جميع السابقين ، سواء كانت سنّة باطلة أم على حقّ ؛ لتكونوا على بصيرة منها فتعملوا بما هو الحقّ منها ، وتعرضوا عن الباطل منها ، وعلى هذا تكون الجملة : (سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) قد تنازع فيها الفعلين «يبين» و «يهديكم» ، وهذا لا بأس به.

وأورد عليه : بأنّ الهداية في المصطلح القرآنيّ إنّما تستعمل في الإيصال إلى الحقّ ، أو إرادة الحقّ ، فتكون هذه الكلمة قرينة على أنّ المراد هو المعنى الأوّل الذي ذكرناه ، وهو بيان سنن الأنبياء والصالحين التي شرّعها الله تعالى ، وكانت سبب سعادتهم ، وأمّا السنن الباطلة فلا معنى لدعوة الله تعالى إلى معرفتها.

ويمكن أن يجاب عن ذلك : أنّ معرفة السنن الباطلة إنّما هي داعية لتركها ، فتكون من الهداية إلى الحق ؛ لأنّ ترك الباطل حقّ كما أنّ فعل الحقّ حقّ ، بخلاف تركه.

والآية المباركة توطئة للأخبار عن أنّ من يتّبع الشهوات يريد أن يضلّ المؤمنين بإحياء السنن الباطلة ، ولبيان أنّ إرادة الله غالبة على إرادة المبطلين ؛ ولإرشاد المؤمنين إلى مكائدهم ، فإنّهم قد يظهرون عملا على اعتبار أنّه من هدى الماضين ، وهو على خلاف الواقع.

قوله تعالى : (وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ).

التوبة : هي الرجوع ، فمن الله تعالى الرجوع بالمغفرة والرحمة ، ومن العبد الرجوع عن الذنب والندم مع العزم على عدم العود. أي : أنّ الله تعالى يتوب

٧٦

عليكم بغفران ذنوبكم وما صدر منكم من السيئات ، قولا وعملا إذا رجعتم إليه بترك ذلك.

ويمكن أن يراد بالتوبة في المقام المعنى العامّ ، وهي الرجوع على العباد بالنعمة والرحمة في تشريعه للأحكام التي يكون العمل بها موجبا لغفران ذنوبهم.

قوله تعالى : (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).

أي : والله عليم بما أنتم عليه من خطرات قلوبكم وأعمال جوارحكم ، وما يترتّب عليها من المصالح والمفاسد.

وحكيم بمصالحكم وجميع مجعولاته التكوينيّة والتشريعيّة ، فيشرّع لكم ما يهديكم ويكون سبب سعادتكم.

ثم إنّ إرادته تعالى في قوله جلّ شأنه : (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) هي الإرادة التكوينيّة الأزليّة ، التي لها دخل في التكوين ونظامه ، والهداية التكوينيّة لمعرفة الحسن والقبح بإفاضة العقل إليهم.

وفي قوله تعالى : (سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) ، التسلية للمؤمنين ممّا لا قوه من المشركين من المتاعب ، ولبيان أنّ ما كانوا فيه من البأساء والضراء ، لقصور عقولهم عن درك مصالحهم ومفاسدهم وتماديهم في ذلك.

قوله تعالى : (وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ).

تأكيد لما سبق وبيان بأن الصلاح واتباع شريعة الحقّ إنّما يكونان بلطفه وعنايته عزوجل بالمؤمنين ، فكانت هذه التوبة لأجل هدايتهم إلى العمل بالشريعة ، والتوبة الاولى لأجل ما صدر عنهم من سيئات الأعمال ، وهذه الإرادة التشريعيّة التي هي أيضا جزء من نظام التكوين ، بل يعتبر من أهمّ أجزائه والإرادة الاولى هي الإرادة التكوينيّة كما عرفت ، فجعل تبارك وتعالى نفس الإسلام توبة لما صدر منهم قبله ، كما في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الإسلام يجبّ ما قبله» ، كما تشمل ما بعد الإسلام أيضا ، فيستعدّ المؤمن لتلقّي المعارف وقبول الهداية الربانيّة

٧٧

للعمل بالشريعة ، فالإرادتان مختلفتان في المتعلّق ، وإن كان لهما الدخل في النظام الربوبيّ.

وإرادته عزوجل الذاتية منزّهة عن الزمان والزمانيّات ، وإنّما هي أفعاله المقدّسة في الممكنات.

قوله تعالى : (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً).

اتباع الشهوات هو الرضوخ إلى دواعي الشهوة وعدم الاعتناء إلى ما يحكم به العقل ، والاسترسال في الانقياد إلى الشهوات واتباع الهوى والتورّط في قبائح الأعمال ورذائل الأخلاق والموبقات وسفاسف الأمور ، وهذا هو الميل العظيم المستلزم لهتك الحدود الإلهيّة والشريعة المقدّسة وارتكاب المحارم ، بل استباحتها ، ويترتّب عليه الخروج عن صراط الفطرة التي تدعو إليها جميع الشرائع الإلهيّة والعقل القويم ، فالشريعة الحقّة والحدود الإلهيّة إنّما هي لكبح جماع الشهوة والاستجابة إلى دواعي الفطرة المستقيمة ، وجعل الإنسان في الصراط المستقيم.

ولكن الذين اتبعوا الشهوات واستجابوا لدواعي الباطل والفساد ، يريدون أن يكون المؤمنون أمثالهم في الغواية والضلال وترك جادة الصواب ، رغبة منهم في الغي وتكثيرا لأمثالهم من الفساق والمبطلين ، فلا يكون من ينكر عليهم أو لتقليل النكير عليهم ، وعنادا للحقّ.

والآية المباركة تبيّن الصراع المرير بين الحقّ والباطل بكلّ مظاهره ويميّز الحقّ عن غيره ، ويدعو إلى الحقّ حتّى يصلوا إلى أرقى مراتب الكمال ، ويتفوّقوا على غيرهم ممّن يتبع السبل الباطلة والأهواء المضلّة.

والمستفاد من كلمة (الميل) أنّ هناك صراطا مستقيما ، وهو الذي يدعو إليه العقل وشريعة الحقّ وسبلا باطلة تحفّها الشهوات والأهواء المضلّة القبيحة ، واتباع الشهوات يوجب الميل عن الأوّل والدخول في سبل الباطل والغواية ،

٧٨

وبالأحرى هو الميل من الرشد إلى الغي والضلالة ، وهو عبء ثقيل وحامله في تعب دائم ، بخلاف شريعة الحقّ التي بنيت على السماحة والتسهيل ، وقد جمعت بين الفضيلة والتهذيب والنظم المبني على الحكمة ؛ ولذا يكون العمل بها موجبا للتخفيف من أوزار اتباع الشهوات وثقل الذنوب والمعاصي.

وهذه الآية الشريفة من الآيات المعدودة التي تشتمل على حكمة التشريع ، وتدعو إلى تهذيب النفس الأمّارة والتربية ، للتحلّي بالفضائل ومكارم الأخلاق.

قوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ).

ترتّب هذه الآية الكريمة على السابقة من قبيل ترتّب المعلول على العلّة التامّة ، فإنّ اتباع الشهوات يوجب ثقلا كبيرا وقيودا باهظة ، وشريعة الحقّ ترفع تلك الأوزار ، فتعلّقت الإرادة الأزليّة لطفا بعباده ورحمة بهم أن يخفف عن العباد أوزارهم ، بارجاعهم إلى الفطرة وداعية العقل وترك ما يكون سببا في تعبهم ومشقّتهم.

وهذه الآية المباركة تبيّن وجه الحكمة في تشريع الأحكام كلّها ، فإنّها موجبة لتخفيف الأوزار التي يتحمّلها الإنسان لأجل ارتكابه الآثام التي هي مراد من يتبع الشهوات ، فقد خفّف عزوجل عن هذه الامة بما لم يخفف عن غيرها من الأمم ، قال جلّ شأنه : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [سورة البقرة ، الآية : ١٨٥] ، وقال تعالى : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [سورة الحج ، الآية : ٧٨] ، فشرّع لهم في النكاح وتكوين الاسرة وتهذيب النسل ما لم يشرّع في سائر الأديان ، فحرّم ما يؤتى منه الفساد ، مثل البغي والزنا ونكاح المحارم ، وأحلّ ما يجلب الصلاح ، وسنّ ما يوجب تهذيب الشهوة العارمة وكبح جماحها ، ولم يدع مجالا وجانبا إلا وبيّن الحكم فيه ، فحلّل نكاح الإماء في حالة الاضطرار الذي يعتبر أيضا ممّا خفّفه الله تعالى عن المؤمنين ، فكأنّ هذا الحكم مثل سائر الأحكام الإلهيّة في المقام ، التي اجتمعت فيها غايات متعدّدة ، مثل التربية والتهذيب.

٧٩

فالقول بأنّ نكاح الإماء عند الضرورة لم يكن تخفيفا ، لأنّه كان معمولا قبل الإسلام على كراهة وذمّ ، والإسلام حلّل ذلك لنفي الكراهة والنفرة ، ببيان أنّ الأمة كالحرّة إنسان لا تفاوت بينهما.

مردود بأنّ ذلك لا يوجب رفع التخفيف عن هذا الحكم التربوي التهذيبي ، فإنّه لو لم يكن للإنسان الطول في نكاح الحرائر ، وخاف الوقوع في المشقّة ، فأي حالة لو حرّم الشارع نكاح الإماء ، فالتحليل كان تخفيفا عليه بأوسع ما بين السماء والأرض ، ولا ضير في أن يجتمع فيه عنوان التربية ، فيتربّى على تهذيب النفس واعتبار جميع أفراد الإنسان على حدّ سواء وذو لياقة للمصاحبة والمعاشرة.

قوله تعالى : (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً).

بيان لحقيقة من الحقائق التكوينيّة ؛ لأنّ الإنسان بفقر إمكانه محتاج إلى من يفيض عليه ما يوجب سعادته ، وقد خلقه الله تعالى مركبا من قوى متخالفة ، تشوّقه إلى المشتهيات وتبعثه إلى ارتكابها ، فمنّ الله تعالى عليه أن شرّع له أحكاما لتهذيب تلك القوى ، وجعل زمامها بإرادة حكيمة تهديه إلى السعادة. هذا إذا كان المراد بالإنسان ما هو المتعارف بين عامّة الناس ، وهذا أمر وجداني لهم ؛ لأنّه محاط بحوادث تؤرّقه وتسلب راحته ، وكيف لا يكون ضعيفا مع أن الذباب يؤذيه ، والبعوض يدميه ، والحرارة تضعفه ، والبرودة تسلب قواه ولا يمكن تحصيل مقاصده إلا بصعوبة ومشقّة كبيرتين ، وفي طريق الوصول إلى مراده من العقبات.

وأمّا إذا كان المراد به تلك اللطيفة الربانيّة التي هي مسجد الأملاك وغاية حركات الأفلاك ، وما خلقت الدنيا والآخرة إلا لأجلها ، فإنّ ضعفه إنّما هو لأجل هيمنة الجلال والجمال المطلقين عليه ، وقد استغرق في دهشة الكبرياء التي تخطر كلّ آن في قلبه (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا

٨٠