مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٨

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٨

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٣
ISBN: 946-5665-07-8
الصفحات: ٣٩٧

يشتركان في الإحصان والتعفّف ، وإنّه لا يخلو فيهما من تحقّق الالفة والمحبّة ، وهما من الحكمة التي لا كلّية فيها ، كما هو واضح.

يضاف إلى ذلك أنّ عقد المتعة والزواج المؤقّت قد يكون الأجل فيه طويلا ، بحيث يتكوّن منه اسرة تبتني على الالفة والمحبّة ويلحق بهما الولد ، فلا يقصر الزواج المؤقّت على أجل قصير ، كساعة أو ساعتين مثلا ، كما يتصوّره الخصم.

فما ذكره في الإشكال على المتعة باطل ، وتشبيه المتعة المبنية على الإحصان بالزنا المبني على السفاح غير صحيح ، كما هو واضح.

الإشكال الثالث : ادعى بعضهم الإجماع على الحرمة ونسخ المتعة ، فقال : إنّ جمهور العلماء من الصحابة ومن بعدهم ذهبوا إلى أنّ نكاح المتعة حرام ، وأنّ الآية الشريفة منسوخة إمّا بالسنّة عند من يرى نسخ الكتاب بها ، ومن لم يره ـ كالشافعيّ ـ قال : إنّها منسوخة بقوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ* إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ* فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) [سورة المؤمنون ، الآية : ٥ ـ ٧] ، والمنكوحة في المتعة ليست بزوجة ولا ملك يمين.

ويردّ عليه : أمّا ما ذكره من نسخ الكتاب بالسنّة فسيأتي الكلام فيه. وأمّا الإشكال في ما ذكره أخيرا ، فقد تقدّم فراجع.

وأمّا دعوى الإجماع في هذا الموضوع الذي كان مورد النزاع بين المسلمين من عصر التشريع حتّى الآن ، ممنوعة جدا ، فإنّ الصحابة كانوا على الخلاف فيه.

والمعروف بين المسلمين أنّ عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام كان يقول بجواز المتعة ومشروعيتها وعدم نسخها ، وقد نقل عنه متواترا أنّه قال : «لو لا نهي عمر عنها لما زنى إلا شقي» ، وتبعه في ذلك أهل بيته المعصومون عليهم‌السلام وأولاده ، حتّى عرفوا واشتهروا به وسارت على هديهم شيعتهم ، كما اعترف به الخصم ، فقال العلّامة

٤١

القسطلاني في شرحه لصحيح البخاري : «قد وقع الإجماع على تحريمها إلا الروافض» ، وهذه كتب الإماميّة مشحونة بالروايات عن الأئمة عليهم‌السلام التي تدلّ على مشروعيّة المتعة ، وتبيّن جميع حدودها وشروطها.

ولكن ، نقل الجمهور أحاديث عن أمير المؤمنين عليه‌السلام عليّ أنّه قال : «نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن نكاح المتعة». كما روى البيهقي عن جعفر بن محمد عليه‌السلام أنّه سئل عن المتعة فقال : «هي الزنا بعينه» ، وهذه الروايات آحاد لا يمكن الاعتماد عليها ، لمعارضتها لأحاديث متواترة عنهم تدلّ على الحلّية والإباحة ، كما سيأتي نقل بعضها.

كما أنّ من الأصحاب ابن عباس فقد اشتهر عنه أيضا : «كنّا نتمتع على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعهد أبي بكر وشطرا من خلافة عمر حتّى نهانا» ، وقد عرف بهذا القول وسارت به الركبان.

وروى الجمهور عنه أنّه رجع عن فتياه ، وذكروا أنّه خصّ الحلّية في حال الاضطرار ، ففي الدرّ المنثور أخرج ابن المنذر ، والطبراني والبيهقي من طريق سعيد بن جبير قال : «قلت لابن عباس : ماذا صنعت؟ ذهب الركبان بفتياك ، وقالت فيه الشعراء ، قال : وما قالوا؟ قلت : قالوا :

أقول للشيخ لما طال مجلسه

يا صاح هل لك في فتيا ابن عباس؟

هل لك رخصة الأطراف آنسة

تكون مثواك حتّى مصدر الناس؟

فقال : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ). لا والله ما بهذا أفتيت ، ولا هذا أردت ولا أحللتها إلا للمضطر ولا أحللت منها ما أحلّ الله من الميتة والدم ولحم الخنزير».

ويردّ عليه أنّ رجوع ابن عباس عن فتياه مشكوك فيه ، إذ لم ينقله أصحاب المجامع والمعروفين من الجمهور ، والخبر السابق شاهد على ذلك. وأمّا تخصيصه الحلّية بحال الاضطرار ، فهو يرجع إلى نفسه ، فقد كانت عنده من

٤٢

القرائن التي أوجبت عليه أن يحكم بذلك. مع أنّ الاضطرار يوجب الإباحة في جميع الأزمان والأعصار ، فلما ذا لم يحكم بالحلّية غيره من العلماء.

ومن القائلين بالإباحة ابن مسعود ، ففي صحيح البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال : «كنا نغزو مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وليست معنا نساؤنا ، فقلنا : أنستخصي؟ فنهانا عن ذلك ورخّص لنا أن نتزوّج المرأة بالثوب إلى أجل ، ثم قرأ عبد الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ)».

ومن القائلين بالإباحة من الصحابة جابر وعمرو بن حريث ، وغيرهم ، ومن التابعين القائلين بالإباحة مجاهد ، ففي تفسير الطبري عن مجاهد في قوله تعالى : (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَ) قال : يعني نكاح المتعة.

ومنهم السدّي وسعيد بن جبير وغيرهم ، ومع وجود المخالف كيف يتم الإجماع المدّعى على التحريم. فالآية الشريفة محكمة غير منسوخة لا بالكتاب ولا بالسنّة ، وسيأتي مزيد كلام في ذلك.

بحث روائي

في الكافي : وتفسير العياشي عن محمد بن مسلم قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن قوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ)؟ قال : هو أن يأمر الرجل عبده وتحته أمته ، فيقول : اعتزل امرأتك ولا تقربها ، ثم يحبسها عنه حتّى تحيض ثمّ يمسّها ، فإذا حاضت بعد مسّه إياها ردّها عليه بغير نكاح».

أقول : الحديث يبيّن الإحصان الأمة وملك اليمين والاباحة التمتع بها من المولى بالشرط المذكور في الحديث وهو موافق للقاعدة ؛ لفرض أنّ المنافع ملك للمولى ، فله أن ينتفع منها بأي وجه لكن مع ملاحظة الجهات الشرعيّة.

وفي تفسير العياشيّ : عن ابن مسكان ، عن أبي بصير ، عن أحدهما عليهما‌السلام في قول الله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) قال عليه‌السلام :

٤٣

«هن ذوات الأزواج ، إلا ما ملكت أيمانكم إن كنت زوجت أمتك غلامك نزعتها منه إذا شئت ، فقلت : أرأيت أن زوّج غير غلامه؟ قال : ليس له أن ينزع حتّى تباع ، فإن باعها صار بضعها في يد غيره ، فإن شاء المشتري فرّق ، وإن شاء أقرّ».

أقول : تقدّم ما يبيّن الحديث ، وهو موافق للقاعدة أيضا.

وفي الفقيه : عن الصادق عليه‌السلام في قول الله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) ، قال : «هنّ ذوات الأزواج ، فقيل : (والمحصنات من الذين أوتوا الكتب من قبلكم)؟ قال : هنّ العفائف».

أقول : المراد منها العفائف في حال كونهن مزوّجات ، ولعلّ اختلاف التعبير لأجل الفرق بين نساء المسلمات ونساء أهل الكتاب ، فإنّ الاولى لهن استحقاق الاتصاف بالإحصان من كلّ جهة بعد التزويج ، والثانية تتحقّق العفّة بالأزواج فقط.

وفي الدرّ المنثور : أخرج الطيالسي وعبد الرزاق والفريابي ، وابن أبي شيبة ، وأحمد ، وعبد بن حميد ، ومسلم وأبو داود ، والتزمذيّ والنسائيّ ، وأبو يعلى ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطحاوي وابن حيان ، والبيهقي في سننه عن أبي سعيد الخدري : «إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعث يوم حنين جيشا إلى أوطاس فلقوا عدوا فقاتلوهم فظهروا عليهم وأصابوا لهم سبايا ، فكأن أناسا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تحرّجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن من المشركين ، فأنزل الله في ذلك : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) ، يقول : إلا ما أفاء الله عليكم ، فاستحللنا بذلك فروجهن».

أقول : روي مثل ذلك عن الطبراني عن ابن عباس ، وقد روي في سبب نزول هذه الآية الشريفة بعض الأخبار ، وهو على فرض الاعتبار لا يخصّص عموم الحكم الوارد فيها ، كما هو واضح.

ثمّ إنّه قد وقع النزاع في مشروعيّة المتعة وادعي نسخها بالسنّة ، ونحن

٤٤

نذكر الروايات الدالّة على المشروعيّة ، ثمّ نذكر الأحاديث التي يدّعى دلالتها على نسخها والمناقشة فيها.

الروايات الدالّة على المشروعية :

في الكافي : بإسناده عن أبي بصير قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن المتعة فقال : «نزلت في القرآن : (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ)».

وفيه بإسناده عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «المتعة نزل بها القرآن وجرت بها السنّة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله».

وفي تفسير العياشي : عن محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «قال جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّهم غزوا معه فأحلّ لهم المتعة ولم يحرّمها ، وكان عليّ عليه‌السلام يقول : لو لا ما سبقني به ابن الخطاب ـ يعني : عمر ـ ما زنى إلا شقي ، وكان ابن عباس يقول : (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً) ، وهؤلاء يكفرون بها ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أحلّها ولم يحرّمها».

أقول : في رواية : «ما زنى إلا شفى» ، وفي رواية ثالثة : «إلا شقيّ».

وفي الكافي : بإسناده عن زرارة قال : «جاء عبد الله بن عمير الليثي إلى أبي جعفر عليه‌السلام ، فقال له : ما تقول في متعة النساء؟ فقال : أحلّها الله تعالى في كتابه وعلى لسان نبيّه ، فهي إلى يوم القيامة ، فقال : يا أبا جعفر ، مثلك يقول هذا وقد حرّمها عمر ونهى عنها؟! فقال : إنّي أعيذك بالله من ذلك ، أن تحلّ شيئا حرّمه عمر ، قال : فقال له : فأنت على قول صاحبك وأنا على قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهلم ألاعنك أنّ القول ما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنّ الباطل ما قال صاحبك ، فأقبل عبد الله بن عمير ، فقال : أيسرّك أن نساءك وبناتك وأخواتك وبنات عمّك يفعلن؟ قال : فأعرض عنه أبو جعفر عليه‌السلام حين ذكر نساءه وبنات عمّه».

٤٥

أقول : الروايات في هذا المعنى متواترة عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام.

وفي صحيح الترمذي : عن محمد بن كعب عن ابن عباس قال : «إنّما كانت المتعة في أوّل الإسلام ، كان الرجل يقدم البلدة ليس له بها معرفة فيتزوّج المرأة بقدر ما يرى أنّه يقيم ، فيحفظ له متاعه ويصلح له شيئه حتّى إذا نزلت الآية : (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) ، قال ابن عباس : فكلّ فرج سوى هذين فهو حرام».

أقول : قد تقدّم في البحث العلمي ما يتعلّق بهذا الحديث ، وذكرنا أنّ ابن عباس ممّن عرف عنه الجواز ، ولازم هذا الخبر أن النسخ كان بعد فتح مكة ؛ لأنّ الآية الشريفة مكيّة.

وفي صحيح مسلم : عن عبد الله قال : «كنا نغزو مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ليس لنا نساء ، فقلنا : ألا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك ، ثمّ رخصّ لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل».

وروي أيضا عن جابر بن عبد الله وسلمة بن الأكوع : «خرج علينا منادي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : إنّ رسول الله قد أذن لكم أن تستمتعوا ، يعني : متعة النساء».

وروى أيضا عن جابر قال : «كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حتّى نهى عنه عمر».

وفي صحيح البخاري ورواه في الدرّ المنثور عن عبد الرزاق وابن أبي شيبة ، عن ابن مسعود قال : «كنّا نغزو مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وليس معنا نساؤنا ، فقلنا : ألا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك ورخّص لنا أن نتزوّج المرأة بالثوب إلى أجل ، ثم قرأ عبد الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ).

وفي الدرّ المنثور ـ أيضا ـ : من طريق مولى الثريد قال : «سألت ابن

٤٦

عباس عن المتعة ، أسفاح هي أم نكاح؟ فقال : لا سفاح ولا نكاح ، قلت : فما هي؟ قال : هي متعة كما قال الله تعالى ، قلت : هل لها من عدّة؟ قال : عدّتها حيضة ، قلت : هل يتوارثان؟ قال : لا».

أقول : يأتي في البحث الفقهي ما يتعلّق بهذا الحديث.

وفيه ـ أيضا ـ : أخرج عبد الرزاق وابن المنذر من طريق عطاء عن ابن عباس قال : «يرحم الله عمر ما كانت المتعة إلا رحمة من الله رحم بها امة محمد ولو لا نهيه عنها ما احتاج إلى الزنا إلا شقي ، وقال : وهي التي في سورة النساء : فما استمتعتم به منهن إلى كذا وكذا من الأجل على كذا وكذا ، قال : وليس بينهما وراثة ، فإن بدا لهما أن يتراضيا بعد الأجل فنعم ، وإن تفرّقا فنعم ، وليس بينهما نكاح ، وأخبر أنّه يراها الآن حلالا».

أقول : يدلّ الحديث على أنّ ما نسب إلى ابن عباس من الحرمة ليس بثابت.

وفي تفسير الطبري ورواه في الدرّ المنثور عن عبد الرزاق وأبي داود في ناسخه عن الحكم : «أنّه سئل عن هذه الآية الشريفة ، أمنسوخة؟ قال : لا ، وقال عليّ : لو لا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى إلا شقي».

أقول : الروايات في ذلك كثيرة ، وجميعها تدلّ على أصل التشريع.

قراءة الآية الشريفة :

القراءة المعروفة بين المسلمين في آية المتعة أنّها تقرأ بدون جملة : «الى أجل مسمّى» ، ولكن وردت بعض الروايات التي هي على خلاف هذه القراءة المعروفة.

ففي الكافي بإسناده عن ابن أبي عمير ، عمّن ذكره ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إنّما نزلت : فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمّى فآتوهن أجورهن فريضة».

٤٧

أقول : القراءة المعروفة عند الإماميّة هي بدون هذه الجملة ، وهي المتبعة ، ولعلّ ما ورد في الحديث إنّما لبيان معنى المتعة وبعض شروطها ، كما يظهر من قول ابن عباس في الحديث المتقدّم.

مع أنّ الإماميّة في غنى عن هذه القراءة ، فإنّهم يصرّحون بكفاية الآية المباركة على أصل التشريع ، ولعلّ ذكر الإمام لهذه القراءة إنّما هو لأجل موافقة بعض القراءات المنسوبة إلى الجمهور ، كما يدلّ عليه الحديث الآتي.

وفي مستدرك الحاكم بإسناده عن أبي نضرة ، ورواه ابن جرير قال : «قرأت على ابن عباس : فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمّى ، فقلت : ما نقرؤها كذلك ، فقال ابن عباس : والله لأنزلها الله كذلك».

وفي الدرّ المنثور : أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة ، قال : «في قراءة أبيّ بن كعب : فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمّى».

أقول : روى هذه القراءة الجمهور بطرق عديدة عن أبيّ بن كعب وابن عباس ، وأصل هذه القراءة صادرة من الجمهور ، وإنّما دخلت في روايات الإماميّة منهم.

الروايات الدالّة على النسخ والتحريم :

الروايات التي استدلّ بها على تحريم المتعة ونسخها متعدّدة ، نقلها الجمهور في كتبهم ، وهي مختلفة ، فبعضها تدلّ على نسخها بالكتاب ، وبعضها تدلّ على نسخها بالسنّة ، وبعضها تدلّ على نهي الخليفة الثاني إياها ، ونحن نذكر جملة من الأقسام الثلاثة :

القسم الأول :

روى الحاكم في المستدرك عن عبد الله بن عبد الله بن أبي ملكية : «سألت عائشة عن متعة النساء؟ فقالت : بيني وبينكم كتاب الله تعالى ، قال : قرأت هذه

٤٨

الآية : (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ* إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) ، فمن ابتغى وراء ما زوّجه الله أو ملكه فقد عدا».

أقول : تقدّم ما يتعلّق بهذا الحديث في البحث السابق ، وقلنا : إنّ المتعة الجامعة للشرائط الشرعيّة زواج.

وفي الدرّ المنثور : أخرج أبو داود في ناسخه ، وابن المنذر والنحّاس من طريق عطاء عن ابن عباس في قوله تعالى : (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً) ، قال نسختها : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) ، وقوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) ، وقوله تعالى : (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ).

أقول : تقدّم ما يتعلّق بذلك في البحث السابق ، وأنّه لا وجه للنسخ أصلا.

وفيه ـ أيضا ـ : خرّج أبو داود في ناسخه ، وابن المنذر ، والنحّاس والبيهقي عن سعيد بن المسيب قال : «نسخت آية الميراث المتعة».

أقول : لا وجه للنسخ ، بل هو تخصيص حكمي كما عرفت ، وسيأتي في البحث الفقهي ما يتعلّق بذلك.

وفيه : أخرج عبد الرزاق ، وابن المنذر ، والبيهقي عن ابن مسعود قال : «المتعة منسوخة ، نسخها الطلاق ، والصدقة ، والعدّة ، والميراث».

أقول : أمّا نسخ المتعة بالطلاق ، فقد تقدّم ، وأمّا الصدقة ـ أي : الصداق ـ فلا ريب في صدقه على المهر ، كما يصدق عليه الاجرة أيضا ، كما يدلّ عليه القرآن والسنّة ، فلا منافاة في التسمية حينئذ ، وأمّا الميراث فقد عرفت أنّه تخصيص حكمي.

وفي الدرّ المنثور ـ أيضا ـ : أخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن علي عليه‌السلام قال : «نسخ رمضان كلّ صوم ، ونسخت الزكاة كلّ صدقة ، ونسخت المتعة الطلاق والعدّة والميراث ، ونسخت الضحيّة كلّ ذبيحة».

٤٩

أقول : نسبة ذلك إلى علي عليه‌السلام ـ الذي عرف منه القول بجواز المتعة ـ غير صحيحة ، وأمّا النسخ فقد عرفت فيه الكلام.

وفي صحيح الترمذي عن محمد بن كعب ، عن ابن عباس قال : «إنّما كانت المتعة في أوّل الإسلام ، كان الرجل يقدم البلدة ليس له بها معرفة فيتزوّج المرأة بقدر ما يرى أنّه يقيم ، فيحفظ له متاعه ويصلح له شيئه ، حتّى إذا نزلت الآية : (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) ، قال : ابن عباس فكلّ فرج سوى هذين فهو حرام».

أقول : تقدّم ما يتعلّق بذلك في البحث السابق.

القسم الثاني :

الروايات التي تدلّ على أنّ المتعة منسوخة ، وهي محرّمة بالسنّة القاطعة ، وقد نقلها الجمهور في كتبهم ، وقد اختلفوا في زمان نسخها ، ونحن ننقل جملة منها أيضا.

ففي صحيح مسلم : «أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عن نكاح المتعة».

وفيه : أيضا عن الربيع بن سبرة الجهني عن أبيه : «أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ألا أنّها ـ المتعة حرام ـ من يومكم هذا إلى يوم القيامة ، ومن كان أعطى شيئا فلا يأخذه».

أقول : هذه الأحاديث تدلّ على الحرمة من دون تقييد بوقت معين ، ويأتي ما يتعلّق بها.

وفي صحيح مسلم : عن أياس بن سلمة ، عن أبيه قال : «رخّص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عام أوطاس في المتعة ثلاثا ـ أي : ثلاثة أيام ـ ثم نهى عنها».

أقول : يستفاد أنّه كان النسخ بعد فتح مكة ؛ لأنّ أوطاس واد في ديار هوازن اجتمع فيه المشركون بعد انهزامهم يوم حنين ، وذلك بعد فتح مكّة.

٥٠

وروى عن سبرة الجهني أيضا قال : «أمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالمتعة عام الفتح حين دخلنا مكة ، ثمّ لم يخرج حتّى نهانا عنها».

وفي الدرّ المنثور : أخرج ابن أبي شيبة وأحمد ومسلم عن سلمة بن الأكوع قال : «رخّص لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في متعة النساء عام أوطاس ثلاثة أيام ، ثمّ نهى عنها بعدها».

وروى مسلم عن عليّ عليه‌السلام : «أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل لحوم الحمر الإنسية».

أقول : روي مثله عدّة روايات.

وفي شرح ابن العربي لصحيح الترمذي عن إسماعيل ، عن أبيه الزهري : «أنّ سبرة روى أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عنها في حجّة الوداع».

وفيه ـ أيضا ـ : عن الزهريّ : «أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عن المتعة في غزوة تبوك».

وفيه : قال الحسن : «إنّها في عمرة القضاء».

أقول : اختلاف هذه الروايات يدلّ على سقوطها ، إلا أنّ بعضهم حملها على تكرار النهي ، ولكنّه موهون بذهاب جمع من الأصحاب إلى الحليّة ، كعليّ عليه‌السلام وابن عباس وابن مسعود وجابر وأبو سعيد وعمرو بن حريث وغيرهم ـ كما قال ابن حزم ـ ولا يمكن خفاؤها عليهم مع جلالة شأن أكثرهم ، فهي موهونة بالاختلاف والمعارضة بالقول والفعل ، كما عرفت.

القسم الثالث :

الروايات التي تدلّ على نهي الخليفة الثاني عنها وهي كثيرة ، ننقل بعضا منها : ففي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله قال : «كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأبي بكر ، حتّى نهى عنه عمر في شأن عمرو بن حريث».

٥١

أقول : نقله جمع من العلماء كابن الأثير في جامع الأصول ، وابن القيم في زاد المعاد ، وابن حجر في فتح الباري ، والمتقي الهندي في كنز العمال.

وفي الدرّ المنثور : أخرج مالك وعبد الرزاق عن عروة بن الزبير : «أنّ خولة بنت حكيم دخلت على عمر بن الخطاب فقالت : إنّ ربيعة ابن امية استمتع بامرأة مولدة ، فحملت منه ، فخرج عمر بن الخطاب يجرّ رداءه فزعا ، فقال : هذه المتعة ولو كنت تقدّم فيها لرجمت».

أقول : نقل ذلك الشافعيّ في الام ، والبيهقي في السنن الكبرى.

وفي صحيح مسلم عن أبي نضره قال : «كنت عند جابر بن عبد الله فأتاه آت فقال : إنّ ابن عباس وابن الزبير اختلفا في المتعتين ، فقال جابر : فعلناهما مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ نهانا عنهما عمر فلم نعد لهما».

أقول : رواه مسلم في مواضع ثلاثة ، وروى مثله البيهقي في السنن الكبرى والمتقي الهندي في كنز العمال ، والسيوطي في الدرّ المنثور ، والرازي في تفسيره ، والطيالسي في مسنده ، والجصاص في أحكام القرآن.

وفي تفسير القرطبي عن عمر أنّه قال في خطبته : «متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما ، متعة الحج ومتعة النساء».

أقول : قد تسالم الجميع على هذه الخطبة ، وذكروها في كتب التفسير والتأريخ والفقه والكلام.

وفي بداية المجتهد لابن رشد عن جابر بن عبد الله : «تمتعنا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأبي بكر ونصفا من خلافة عمر ، ثمّ نهى عنها عمر الناس».

أقول : الأحاديث في مضامين ذلك كثيرة ، من شاء فليراجع كتب الحديث والفقه. وهذه الروايات تدلّ على أنّ الناسخ ليس هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل هو الخليفة الثاني ، فتكون معارضة مع تلك الروايات التي دلّت على نهي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لها ولا مرجّح فتتساقطان ، فيرجع إلى أصل التشريع التي دلّت عليه الأخبار الكثيرة التي تقدّم ذكر شطر منها.

٥٢

مع أنّ نهي الخليفة يحتمل فيه وجوه ثلاثة :

الأوّل : أن يكون النسخ والنهي دائميا أبديا.

الثاني : أن يكون حكما وقتيا لأجل مصالح كثيرة ، كما يستفاد من بعض الروايات المتقدّمة ، منها حديث خولة بنت حكيم.

الثالث : أن يكون ترغيبا إلى التقليل من هذا العمل والتحريض على الزواج الدائم.

ومع وجود هذه الاحتمالات لا يمكن الجزم بالاحتمال الأوّل ، فيبقى أصل التشريع سالما عن جميع ما يصلح للمعارضة ، ولا موجب لرفع اليد عنه.

بحث فقهي

تقدم أن قوله تعالى : (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) يدلّ على حلّية نكاح المتعة بشرائطها المقرّرة الآتية.

والآية الشريفة هي الآية الوحيدة الواردة في القرآن الكريم التي وردت في هذا الموضوع بالخصوص ، وإن قلنا بشمول العمومات الواردة في مطلق النكاح للنكاح المؤقّت أيضا ، وقد عرفت أنّه اتفق المسلمون واستفاضت رواياتهم على أنّ المتعة نكاح شرّع في دين الإسلام ، وعليه كان عمل المسلمين برهة من الزمن ، ويعتبر في صحّة النكاح المؤقّت شروط لا بد من ذكرها في المقام ، كما دلّت عليها السنّة الشريفة :

الأوّل : يعتبر في الزوجين الكمال بالبلوغ والعقل ، أو إذن وليهما إن كانا قاصرين ، كما يعتبر في النكاح الدائم ، وهو معلوم لا ريب فيه.

الثاني : أن لا تكون المرأة ممّا يحرم نكاحها بالنسب أو السبب أو في العدّة ، وهذا ممّا لا شكّ فيه كما ذكر مفصّلا في الفقه ، ومن شاء فليراجع كتاب النكاح من (مهذب الأحكام).

٥٣

الثالث : ذكر الاجرة ، ويدلّ عليه الكتاب والسنّة الشريفة ، فلو لم يذكر بطل العقد ، ولا تحديد في الاجرة ، بل يكفي فيها كلّ ما تراضيا عليه ، وقد تقدّم في حديث جابر : «كنا نتمتع بالثوب وقبضة من التمر».

الرابع : ذكر المدّة ، وتدلّ عليه السنّة الشريفة والإجماع ، فلو لم تذكر يكون العقد دائما ، كما ذكرنا في كتاب النكاح في الفقه ، ولا فرق في ذلك بين المدّة القليلة والكثيرة ، نصّا وإجماعا.

الخامس : إجراء صيغة العقد بأن تقول المرأة : «متعتك نفسي ـ أو ـ أنكحتك نفسي في مدّة كذا بأجرة كذا» ، ويقول الرجل : «قبلت النكاح كذلك» ، هذا كلّه إذا لم تكن مفسدة أو شين في البين ، وإلا فلا وجه للصحّة.

وإذا تحقّقت جميع الشروط يتمّ العقد بين الزوجين ، فيجوز لكلّ واحد منهما التمتع بالآخر ، كما في العقد الدائم ، وينفسخ العقد بانقضاء المدّة أو فسخ العقد ، وهبة المدّة ، وهذا بمنزلة الطلاق في العقد الدائم ، وحينئذ تصير المرأة أجنبيّة عن الرجل والولد ملحق بهما ، ويجب على الوالد الإنفاق عليه ، وتجب على المرأة العدّة إذا تمتع الرجل بالغشيان والدخول ، فلا يجوز لها التزويج بالغير بعد انقضاء العقد الأوّل مباشرة إلا بعد انقضاء العدّة ، وهي في المتعة حيضتان ، فإذا انقضى الحيض الثاني يجوز لها التزويج بآخر ، سواء بالعقد الدائم أم بالعقد المنقطع.

ومن أحكام النكاح المؤقّت أنّه لا توارث بين الزوجين ؛ لأنّ الإرث حكم شرعيّ ثبت في كلّ مورد يدلّ عليه الدليل ، وينتفي إذا دلّ الدليل على عدمه كما في الزوجة الكتابيّة والمسلمة القاتلة لزوجها ، وفي المقام دلّ الدليل على انتفائه ، وقد عرفت في البحث السابق أنّه لا ملازمة شرعيّة ولا عقليّة بين الزوجيّة والإرث ، بل يتبع الدليل في ثبوته ، وفصّلنا القول في أحكام العقد المنقطع في كتابنا (مهذب الأحكام) فراجع.

ولا ريب أنّ المتعة من سبل المنع عن الفحشاء والمنكر ، كما ورد في

٥٤

الأحاديث السابقة بعض الأسباب التي دعت إلى مشروعيّة المتعة والنكاح المؤقّت ، وكلّ ما كان كذلك ، فالعقل يحكم بحسنه بل قد يرى قبح تركه ، كما في أصل النكاح.

وقد ذكرنا أنّ نسخ التشريع على فرض وقوعه وصحّته إنّما كان لمصالح وقتيّة رآها الحاكم ، وحينئذ لا يمكن استفادة الحرمة الأبديّة.

وعلى فقهاء المسلمين (رفع الله تعالى شأنهم) إعادة النظر في هذا الموضوع المهمّ في هذا العصر ، الذي كثر الفحشاء والمنكر فيه ، وانقلب المعروف منكرا والمنكر معروفا ، وزاد جرأة الناس على ارتكاب المآثم والموبقات ، وامتازت المجالس بالمخالطة بين الجنسين من دون رادع ديني ، واشتدّت المخالطة بينهما بلا حجاب ، وكادت الإباحيّة أن تستولي على المجتمع الإسلامي كما تراها في المجتمع الغربي الكافر ، والمسؤولية إنّما تقع على العلماء وغيرهم ، ولا أقل من سدّ باب الذرائع من الوقوع في الفحشاء ، حيث يحكم به جميع علماء الجمهور ، بل علماء الإسلام بأجمعهم ، والنكاح المؤقّت مع الشروط المطلوبة من أحسن الطرق ، مع أنّ فرقة كبيرة من المسلمين يقولون بشرعيته وإباحته ، ويجوز لغيرهم الرجوع إلى القائلين به ، فعلى المسلمين أن يسدوا باب الفحشاء باحياء سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى يسدّ الله تعالى عليهم أبواب البلاء والمحن ، التي عجزت عقول البشر عن معالجتها ورفعها ، والله الموفق للصواب.

٥٥

(وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٥))

بعد ما ذكر سبحانه وتعالى ما يتعلّق بنكاح الحرائر وبيّن القاعدة الكليّة في ما يحرم من النكاح وما يجوز ، وتعرّض لنكاح الإماء ، ذكر عزوجل في هذه الآية الشريفة شروط نكاح الإماء ، وهي الإيمان وانتفاء الطول من نكاح الحرائر وخوف العنت.

وبيّن عزوجل أصلا من الأصول المهمّة التي لا بد أن يقوم عليه المجتمع الإسلامي وبضمنه الاسرة ، وهو كون المؤمنين بعضهم من بعض ، يشعر كلّ واحد بالمسئولية تجاه الآخر ، وأنّه لا بد من الوفاء بالعهد الذي يطلبه منه الفرد والمجتمع ، ثمّ أمر عزوجل بالصبر عن نكاح الإماء ، وأنّه خير لمن يريد نكاحهن ، والله غفور رحيم.

التفسير

قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ).

مادة «طول» تدلّ على الفضل والزيادة ، ومنه الغنى والسعة والاعتلاء ، والنبيل ، وقد وردت هذه المادّة في ما يقرب من عشرة مواضع ، قال تعالى : (اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ) [سورة التوبة ، الآية : ٨٦] ، وقال تعالى : (فَطالَ

٥٦

عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) [سورة الحديد ، الآية : ١٦] ، وقال تعالى : (وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) [سورة القصص ، الآية ٤٥] ، إلى غير ذلك ممّا وردت في الآيات المباركة.

ومن أسمائه الحسنى (ذو الطول) ، قال تعالى : (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ) [سورة غافر ، الآية ٣] ، أي : واسع العطاء والمغفرة والرحمة.

والمراد به في المقام الزيادة والسعة في المال والحال والقدرة ، فإنّ في التزويج بالحرائر حقوقا وشروطا وأحكاما معينة ، وفي كلّ ذلك آداب متعارفة بين الناس في نكاح الحرائر ، وهي غير معتبرة عرفا في نكاح الإماء ، وكذا التزويج بالحرائر يتطلّب المهر والصداق ، بخلاف نكاح الإماء.

فإذا لم يكن له سعة معنويّة وماديّة في تزويج الحرائر المؤمنات ، فله أن ينكح الإماء المؤمنات ، ولم يبيّن سبحانه وتعالى خصوصيات الطول ؛ لأنّ المرجع حينئذ العرف ، وهو يختلف بحسب حالات الشخص وجهات معيشته ، وبحسب الأعصار والأمصار.

والمحصنات بفتح الصاد وهن الحرائر ، بقرينة المقابلة بقوله تعالى : (فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ) ، فإنّ الحرية تدعو إلى الإحصان والعفّة ، بخلاف الملكية في الإماء.

قوله تعالى : (فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ).

جواب الشرط ، والمراد بالفتيات الإماء ، وإن كانت مسنّة ؛ لأنّها كالصغيرة في أنّها لا توقر توقير الحرّة. وإنّما جيء بهذه الكلمة لرفع الحزازة والنقيصة من التزويج بالإماء ، أي : ينتقل إلى ما ملكت أيمان المؤمنين من الإماء المؤمنات ، فيتزوّج بهن أو يتسرّى.

وإنّما نسب ملك اليمين إلى اليمين ؛ لرفع جهة النقصان فيهنّ ؛ ولبيان أنّ

٥٧

الجميع في هذا الأمر واحد لاتحادهم في الدين ، وإن كان فيهم من لا يريد إلا التزويج والنكاح بالحرائر.

كما أنّ التقييد بالمؤمنات في المحصنات ؛ لبيان عدم جواز نكاح غير المؤمنات من المشركات ، ولبيان أفضل الأفراد. وأمّا التقييد في الفتيات لبيان أنّ الإيمان يمنعهنّ من بعض الرذائل الخلقيّة ، وأنّ اتباع الدين يحفظهنّ عن ارتكاب منافيات العفّة ، والإيمان الصحيح ما كان رادعا عن السوء والفحشاء ، ولبيان جهة الاتحاد بين جميع الأفراد.

ومعنى الآية الشريفة أنّ من لم يقدر على نكاح الحرائر المؤمنات والتزويج بهن لعدم قدرته على تحمّل المهر والنفقة ، وما يتطلّبه نكاح الحرّة ، فله أن ينكح من الإماء المؤمنات اللواتي اتصفن بالصفات الحميدة وأعرضن عن الفحشاء والمنكر بسبب إيمانهن ، فلا يتحرّج من ذلك ، فإنّ النكاح بهن حينئذ يمنع من الوقوع في الفحشاء وارتكاب المآثم. ونكاحهنّ يكون إمّا بالعقد ، أو بالتسرّي.

وسوق الآية الشريفة يدلّ على أنّها في مقام التنزيل ، فإنّ من لم يقدر على الأوّل ينتقل إلى الثاني ، وهما متفاوتان في الدرجة ، فتكون الآية الكريمة مبيّنة للصورة النازلة من نكاحي الدوام والمتعة ، إتماما لأحكام النكاح وبعض شؤونه وخصوصياته وآدابه.

وقد ذكرنا أنّ إطلاق النكاح في المنزل عنه يشمل الدوام والمتعة ، فإنّ لكلّ إنسان رغبة في أحدهما ، وإن كانا يختلفان في بعض المراتب ، لكنّه غير ضائر ، فإنّ حالات الشخص تختلف بالنسبة إليهما ، فإذا لم يتمكّن من أحدهما انتقل إلى الفرد الآخر الذي هو أقلّ مرتبة من النكاح الدائم والنكاح المؤقّت ؛ لوجود العذر ، وهو عدم القدرة على المهر أو الاجرة ، وما يتطلّبه كلّ واحد من الفردين من الأحكام.

وممّا ذكرنا يظهر أنّه لا وجه لتخصيص النكاح بالدائم في المنزل عنه الذي

٥٨

هو أحد أفراد النكاح بالمعنى العامّ ؛ لكونه هو الفرد المتعارف والموافق للطبع في نظر الإنسان ، فإنّ ذلك لا يوجب تخصيص الآية.

كما أنّه لا وجه للقول بأنّ هذه الآية تكون مؤيّدة بأنّ المراد من الاستمتاع في الآية السابقة هو النكاح الثابت ، فإنّه لا تأييد فيها بوجه من الوجوه ، بل الآية الشريفة في مقام التنزيل وذكر أفراد المنزل عنه والمنزل إليه ، مع أنّ الآية السابقة ظاهرة في نكاح المتعة ـ كما عرفت ـ وأنّ عدم الطول بالنسبة إليها يختلف بالنسبة إلى النكاح الدائم.

قوله تعالى : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ).

جملة معترضة لبيان الوجه في اعتبار الإيمان في الفتيات المؤمنات ؛ لأنّ الإيمان قد رفع شأنهن وساوى بينهن وبين الحرائر ، وأنّ الإيمان يرفع المتّصف به إلى أعلى الدرجات ، وهو مناط التفاخر ، لا الأحساب والأنساب والأوهام الباطلة ، فرب أمة مؤمنة أفضل من حرّة عند الله تعالى لكمالها بالإيمان.

ولكن الإيمان أمر قلبيّ يتفاوت فيه الأفراد ، والله تعالى أعلم بدرجات إيمانكم قوة وضعفا وكمالا ونقصا ، والمناط هو الجري على الأسباب الظاهريّة ، والإيمان الظاهريّ هو المبنيّ على الشهادتين وإتيان الوظائف الدينيّة والدخول في جماعة المسلمين ، وهو كاف في التكاليف ، ومنها المقام ، أي : نكاح الأمة. والآية المباركة في مقام نفي إزالة النفرة عن نكاح الإماء وتأنيس القلوب بهنّ.

قوله تعالى : (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ).

بيان لحقيقة من الحقائق القرآنيّة في مطلق الإنسان ، فإنّ جميع الأفراد متساوون في الإنسانيّة ، فالرقيق إنسان والحرّ إنسان ، لا امتياز بينهما من هذه الجهة وإن اختلفا في بعض الخصوصيات التي يبتني عليها النظام العامّ ، ولكن تلك لا توجب القرب والامتياز عند الله تعالى إلا ما بيّنه عزوجل آنفا ، وهو الإيمان والتقرّب إليه سبحانه بالطاعة.

٥٩

والآية المباركة ردّ على تلك العادات والتقاليد التي ميّزت أفراد الإنسان على حسب الطبقات ، وجعلوا طبقة العبيد والإماء من أخسّ الطبقات وأرذلها ، ممّا أوجب الابتعاد عنهم والانقباض عن مخالطتهم ، لا سيما الازدواج بهم ، فكان لهذا التعليم الإلهي والتربية الربانيّة أعمق الأثر في نفوس المؤمنين في ترك ما خلّفته الجاهلية البغيضة من سوء الأخلاق وسفاسف الأمور.

والآية الشريفة من الآيات المعدودة التي وردت في تهذيب الإنسان وتربيته تربية صالحة ، بردّه إلى فطرته ، وبيّنت أن أساس الكمال والرفعة هو الإيمان واتباع الشريعة بعد تساوي الجميع في شؤون الإنسانيّة ، وأن الإيمان يشدّ بعضهم ببعض ، ويربطهم بخالقهم ويسعدهم في حياتهم ، بعد كونهم متساوين من جهة الإنسانيّة ، فلا موجب بعد ذلك للنفرة من الإماء والابتعاد عنهن ، ولا ينبغي للمؤمن أن يصغي إلى الأوهام الباطلة والعادات السيئة ، فتبعده عن الحقائق التي تجلب السعادة والفوز بالفلاح. والآية الكريمة في مقام التأليف بين الناس وعطف بعضهم مع بعض.

قوله تعالى : (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَ).

شرط آخر من شروط نكاح الإماء ، وهو أن يكون نكاحهن بطيب نفس أهلهن ، وذكر الإذن إنّما هو من باب الطريقيّة لإحراز طيب النفس.

والمراد بالأهل الموالي ، وإنّما عبّر عزوجل به لبيان أنّ الفتاة واحدة من أهل بيت مولاها ، فيكون مثل قوله تعالى : (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) ؛ لرفع الحزازة والمنقصة من نكاحهن ؛ ولبّث التأليف بين القلوب.

والآية المباركة تدلّ بمفهومها على حرمة نكاح المملوكة بدون إذن أهلها ، وتدلّ عليه السنّة الشريفة أيضا ، ففي الحديث الشريف عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه».

وعن الصادق عليه‌السلام : «لو تزوّج الرجل بالأمة بغير علم أهلها ، فهو زنا» ، والإطلاق في المنطوق والمفهوم يشمل النكاح الدائم والمنقطع.

٦٠