مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٨

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٨

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٣
ISBN: 946-5665-07-8
الصفحات: ٣٩٧

فيها الخلاف بين الناس ، فصارت من أمهات المسائل الكلاميّة ، وقد الفت فيها رسائل وكتب. ومذهب أهل البيت عليهم‌السلام أنّهم معصومون من الصغائر والكبائر قبل البعثة وبعدها ، وقد تعرّضنا لهذا الموضوع في أحد مباحثنا السابقة ، فراجع.

الرابع : يدلّ قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ) ، على أنّ الإعراض عن طاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ظلم للنفس ، فإنّ حكمته اقتضت أن تكون الطاعة لصالح الامة ، والرسول إنّما يهدي لصالح الناس ، ليصلوا إلى سعادتهم وينالوا كمالهم اللائق بهم ، فإذا كان الظلم ـ الشامل بإطلاقه لجميع أنحائه ـ ظلما للنفس ، فلا بد أن تكون التوبة تطهيرا للنفس ، فحينئذ يجب أن يكون الاستغفار عن إقبال على الله تعالى ، وعزم على ترك الذنب ، وعدم العود إليه مع الإخلاص والصدق ، فمجرّد الاستغفار اللسانيّ لا أثر له في تطهير النفس عن الكدورات التي جلبها ارتكاب الظلم ؛ لأنّه لا بد أن يكون نابعا عن شعور النفس بالذنب والحاجة إلى التطهير ، ويكون عن توجّه قلبيّ إلى الله تعالى ، كما يدلّ قوله عزوجل (جاؤُكَ) فإنّ المجيء إلى الشيء لا يكون إلا بعد العزم والثبات والتفكّر في العواقب.

الخامس : يدلّ قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ) على وجوب التوبة من المعاصي والاستغفار من الذنوب.

ويستفاد من الآية الشريفة بعض شرائط التوبة.

منها : الفوريّة فيها كما يدلّ عليها الشرط والعطف بالفاء ، وهو المستفاد من قوله تعالى : (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) ، وقد تقدّم في بحث التوبة ما يتعلّق بالمقام فراجع.

ومنها : أنّ الذنوب التي تتعدّى إلى الغير وتكون من المتعلّقة بحقوق الناس لا بد من استرضائه ، وطلب الغفران منه ، ويدلّ عليه قوله تعالى : (جاؤُكَ

٣٦١

فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ) ، فإنّ الإعراض عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن ظلما للنفس فقط ، بل كان فيه إيذاء له وغصب لحقّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فاستوجب الرجوع إليه وإظهار التوبة لديه ، وطلب المغفرة منه.

وفي نفس الوقت كانت الآية الشريفة من موارد تطبيق التحاكم إليه ، ويدلّ على ذلك الإظهار في موضع المضمر ، ولم يقل : (استغفرت لهم) ونحو ذلك.

ويستفاد من الآية المباركة أدب الدعاء ، وهو أنّ دعاء الجمع أقرب إلى الاستجابة ، بل أنّ ظاهر الآية الكريمة يدلّ على لزوم الرجوع إلى واسطة الفيض وأولياء الله تعالى والتوسّل بهم في نجح طلباتهم ومقاصدهم عند الله تعالى ، فإنّ مقام قربهم عنده عزوجل وحظوتهم لديه جلّ شأنه ممّا يساعد على استجابة الدعاء ، وليس ذلك من الشرك كما يدّعيه بعض الجاهلين ، فأين الشرك من التوسّل بمن أذن له الله تعالى في الشفاعة ، وجعله شفيعا عنده في نجح المقصود والوصول إلى المطلوب؟!!

وسيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى.

السادس : يدلّ قوله تعالى : (لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) ، على أنّ التوسّل بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وجعله شفيعا عند الله تعالى ودعائه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، سبب تامّ لاستجابة الدعاء وعدم ردّ شفاعته ووجدان المقصود ، ولكن لا بد أن يكون التوسّل بإخلاص ومعرفة ، وتكون الحاجة التي يطلب فيها الشفاعة من الأمور الراجحة شرعا ، وإلا فليس كلّ توسّل يؤثّر الأثر المطلوب ، كما نراه بالوجدان.

السابع : يدلّ قوله تعالى : (حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) ، على أنّ الحدّ الفاصل بين الإيمان والكفر والنفاق ، هو الرجوع إلى طاعة الرسول لتحكيمه وقبول حكمه وقضائه ، وتسليم الأمر إلى الله تعالى تسليما تامّا والانقياد له ولرسوله ، فتكون الآية الشريفة ردّا لمزاعم المنافقين واليهود وغيرهم في الإيمان ، وحكمها عامّ يشمل جميع الأعصار ، وتدلّ الآية المباركة على عصمة الرسول من

٣٦٢

الخطأ والنسيان والسهو ، فإنّ الله تعالى أوجب قبول حكمه وقضائه من غير شرط ، فلو احتمل فيه ذلك لوجب بيانه.

الثامن : يدلّ قوله تعالى : (وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) ، أنّ التسليم من أعلى المراتب في الإيمان ، وأنّه لا يصل الإنسان إلى هذه المرتبة الا بعد طيّ مراحل عديدة ، ذكرها عزوجل في هذه الآية المباركة ، وهي الإيمان والطاعة لله وللرسول ، وقبول حكمه من دون حرج وحزازة قلبيّة وتردد ، ثم يصل إلى المرتبة الأخيرة وهي تسليم الأمر إلى الله والرسول والانقياد لهما انقيادا تامّا بالقول والفعل.

وهذه هي المرتبة التي أوصى بها الأنبياء عليهم‌السلام أممهم ، وأكّد سبحانه وتعالى عليها في مواضع متفرّقة في القرآن الكريم ، قال تعالى حكاية عن إبراهيم : (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [سورة البقرة ، الآية : ١٣٢].

بحث روائي :

في الكافي بإسناده عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «لقد خاطب الله أمير المؤمنين عليه‌السلام في كتابه ، قلت : في أيّ موضع؟ قال عليه‌السلام : في قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً* فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) ، فيما تعاقدوا عليه : لئن أمات الله محمدا ألّا يردّوا هذا الأمر في بني هاشم ، (ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ) عليهم من القتل أو العفو (وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)».

أقول : الرواية من باب التطبيق ، وقد استفيضت روايات في أنّ الآيات الشريفة نزلت في شأن علي عليه‌السلام ، ولا محذور في ذلك أصلا ، والمراد من الخطاب توجيه الكلام إليه عليه‌السلام ، كما يوجّهه إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنين.

روى الحافظ ابن عساكر : «أنّ أعرابيا جاء إلى قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وحثا من

٣٦٣

ترابه على رأسه وخاطبه ، وقال : وكان فيما انزل عليك : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) ، وقد ظلمت وجئتك تستغفر لي ، فنودي من القبر : قد غفر لك ، وكان هذا بمحضر من عليّ أمير المؤمنين عليه‌السلام.

أقول : أمثال هذه الرواية التي تدلّ على خروج النداء من قبور أولياء الله تعالى وأصفيائه كثيرة ، لارتباط الأرواح الطيبة مع عالم الشهادة وعدم انقطاعها عنه بالمرّة ، تقول فاطمة الخزاعيّة : «غابت الشمس بقبور الشهداء ومعي اخت لي فقلت لها : تعالي نسلّم على قبر حمزة وننصرف ، قالت : نعم ، فوقفنا على قبره فقلنا : السّلام عليك يا عمّ رسول الله ، فسمعنا كلاما ردّ علينا : وعليكما السّلام ورحمة الله وبركاته ، قالتا : وما قربنا أحد من الناس».

وعن ام سلمة : «والله لا يسلم عليهم أحد إلا ردّوا إلى يوم القيامة». وقد ورد مثل ذلك عن قبر الحسين عليه‌السلام ، وعن قبر مولانا أبي الحسن الرضا وغيرهم من الأولياء ، فكيف بقبر خاتم الأنبياء الذي هو أشرف ولد آدم وفخر الكائنات وصاحب اللواء!! لكن الحجب الظلمانيّة حالت بيننا وبين سماع كلامهم ، بل أنّها حالت بيننا وبين جميع الروحانيات والمعنويات ، ولم يمنع حاجب عن وصول كلام الأعرابي إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فسمعه نبيّ الرحمة واستغفر له وردّ جوابه. فقد ورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ابعثوا إليّ السلام ، فإنّه يبلغني».

وكيف كان ، يستفاد من الرواية امور :

الأول : أنّ استغفار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله للعاصين والمذنبين من أمته لم يختصّ بزمان حياته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل يعمّ حتّى بعد ارتحاله إلى الملأ الأعلى ؛ لعدم انقطاع فيضه عن أمته.

وما أبعد ما بين مفاد هذه الرواية وبين ما يقوله بعض المفسّرين من أنّ الآية المباركة تختصّ بالإعراض عن الطاعة فقط ، وبعصر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلا يشمل بعد ارتحاله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

٣٦٤

ولكنّه باطل ، إذ الآية الشريفة في مقام الامتنان على الامة ، وتدلّ على عظيم منزلة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله عند الله تعالى ، ولا فرق بين حياته وموته ، فهو حيّ عند ربّه.

الثاني : يستفاد منها أنّ استغفار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن إلا بعد طلب العاصي العفو والغفران ، أي : بعد تحقّق الأهليّة لاستغفاره صلى‌الله‌عليه‌وآله.

الثالث : يستفاد منها أنّ خطاب الأعرابي كان من صميم القلب ولم تمنعه الحجب والظلمانيّة الدنيويّة.

علي بن إبراهيم في تفسيره في قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ) ، أي : بأمر الله تعالى.

أقول : الأمر والإذن بالنسبة إليه في الإرادة التشريعيّة بمعنى واحد ، فيكون بمعنى الإيجاب.

في الكافي بإسناده عن عبد الله الكاهلي عن الصادق عليه‌السلام قال : «لو أنّ قوما عبدوا الله وحده لا شريك له ، وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ، وحجّوا البيت ، وصاموا شهر رمضان ، ثم قالوا الشيء صنعه الله أو صنعه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لم صنع كذا وكذا؟ ولو صنع خلاف الذي صنع أو وجدوا ذلك في قلوبهم لكانوا بذلك مشركين ، ثم تلا هذه الآية (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) ، ثم قال الصادق : عليكم بالتسليم».

أقول : يستفاد من الرواية أهمية مقام التسليم الذي يختصّ بالأخيار من عباده وأوليائه ، وله مراتب يأتي البحث عنه إن شاء الله تعالى ، والرواية وردت على طبق القاعدة ؛ لأنّ المناط في الإيمان الاستقرار في القلب والإذعان بأنّ أفعاله تعالى تابعة للمصالح والمفاسد ، فالاعتراض يكشف عن عدم الإيمان به تعالى ، وكذا بالنسبة إلى الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لأنّه يرجع إلى الله تعالى ، ولذاك عدّ من المشركين ، وتقدّم أنّ الشرك له مراتب متفاوتة.

٣٦٥

عن البرقي بإسناده عن أبي جعفر عليه‌السلام في قول الله تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) قال : «التسليم الرضا والقنوع بقضائه».

أقول : الرواية من باب التطبيق ، وإنّ الحكم أعمّ من التشريعيّ والتكوينيّ ، وإنّ الصفات الثلاثة من مختصّات المؤمن ، ولكلّ منها درجات مختلفة حسب درجات الإيمان ، وإنّها لا ينافي العمل بالأسباب الظاهريّة بعد استقرار الإيمان به تعالى ، كما تقدّم مكرّرا.

نعم ، لا بد من ظهور الأثر الخارجي لتلك الصفات.

وفي الدرّ المنثور : «انّ عروة بن الزبير حدّث عن الزبير بن العوام أنّه خاصم رجلا من الأنصار قد شهد بدرا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في شراج من الحرّة ، كانا يسقيان به كلاهما النخل ، فقال الأنصاري : سرح الماء يمرّ ، فأبى عليه. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك ، فغضب الأنصاري ، وقال : يا رسول الله ، إن كان ابن عمّتك؟! فتلوّن وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثم قال : اسق يا زبير ثم احبس الماء حتّى يرجع إلى الجدر ، ثم أرسل الماء إلى جارك ، واسترعى رسول الله للزبير حقّه ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل ذلك أشار إلى الزبير ، أي : أراد فيه السعة له وللأنصاري ، فلما أحفظ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الأنصاري استرعى للزبير حقّه في صريح الحكم ، فقال الزبير : ما احسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ)».

أقول : الشراج مجاري الماء من الحرار إلى السهل ، وأحدها شرج ، وام الزبير صفيّة بنت عبد المطلب ، فيكون الزبير ابن عمّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإنّ الرواية من باب التطبيق ، وذكر بعض المصاديق وجرأة الأنصاري على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جرأة على الله تعالى.

العياشي في تفسيره بإسناده عن أبي أيوب الخزاز قال : «سمعت

٣٦٦

أبا عبد الله عليه‌السلام يقول في قوله : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) ، فحلف ثلاثة أيمان متتابعات لا يكون تلك النكتة السوداء في القلب وان صام وصلى».

أقول : لعلّ حلفه عليه‌السلام ثلاث أيمان متتابعات للتأكيد على وجود تلك النكتة السوداء في القلب ، وهي تحصل من ممارسة الذنوب والإصرار عليها ، وإنّها المصدر للشقاء الكامل ، والرواية لا تدلّ على أنّ الشقاء ذاتي أصلا.

في الكافي بإسناده عن محمد بن أبي العباس عن الصادق عليه‌السلام في قول الله عزوجل : (ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً). قال : «هو التسليم له في الأمور».

أقول : أي في التكوين والتشريع ، وتقدّم ما يرتبط بها.

بحث فلسفي

أثبت الفلاسفة المتألّهون أنّ السبل وما يوجب التقرّب إلى لله تعالى ويوصل إلى الحقيقة والكمال ويستلزم البعد عن الأوهام والجهالات ، كثيرة جدا ـ بل وهي غالبة على طرق الضلال والإغواء ، لما أثبتوه في محلّه من أنّ الحقيقة فائقة على غيرها ، وأنّ الواقع غالب على الأوهام والخيالات مهما بلغ أو طال الزمان ـ وقد ذكر القرآن تلك السبل الموصلة إلى الحقّ والحقيقة ، وأكّد عليها بأمثلة كثيرة وبعبارات مختلفة ، وأهمّها مخالفة النفس عن الهوى ، والصبر في جنب الله تعالى ، والتفكّر في عظمته جلّ شأنه ، بل أنّ العبادات كلّها ليست إلا طرقا شرعية لتزكية النفس وترقيتها حتّى يتأهّل العبد للإفاضة عليه منه تعالى ، وتحصل اللياقة له للتقرّب بساحته جلّ شأنه ، بنبذ الجهات الإمكانية ، فإنّ الفطرة قابلة للترقي في عالم الشهادة أو في غيره ، إن لم تمنعه الموانع فلا بد في

٣٦٧

الإفاضة من الأهليّة ، وإن اختلفت شدة وضعفا لقاعدة التناسب التي أثبتها المتألّهون من الفلاسفة ، وتدلّ عليها آيات شريفة يأتي التعرّض لها إن شاء الله تعالى وروايات كثيرة.

وللإفاضة مراتب غير متناهية لا يمكن تحديدها ؛ لأنّ الذات المفاض منها غير متناهية ، وكذا صفاتها التي منها الإفاضة ، قال تعالى : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً) [سورة الكهف ، الآية : ١٠٩] ، وقال تعالى : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [سورة لقمان ، الآية : ٢٧] ، وكذا تختلف لياقة المفاض عليه حسب إيمانه أو دركه ، أنّ الذوات تختلف ـ لا على سبيل سلب الاختيار عنه ـ وغير ذلك.

ولا تختصّ الإفاضة بعالم دون آخر ، فهي تكون في جميع العوالم ، عالم الشهادة ، وعالم البرزخ ، وعالم القيامة. وإن ناقش بعضهم في الإفاضة في عالم البرزخ ، ولكنّها غير صحيحة ، لما يأتي في محلّه.

بل يمكن ابتناء مسألة الخلود على الإفاضة ؛ لأنّ التنعّم في الجنّة عناية ولطف وإفاضة منه تعالى ، فلا يمكن تحديده لا كما ولا كيفا ولا زمانا لما تقدّم ، فيتحقّق الخلود لا محالة ، كما أنّ بعد النفوس الشريرة عن النفوس المقدّسة بالتقابل ، والفاصل بينهم وبين المتّقين والتباعد بين المؤمنين والكافرين ، نعمة ولطف وعناية للمؤمنين ، فلا بد وأن تكون غير محدودة أيضا ، فيتحقّق الخلود في النّار وإن كان دخول أصل النّار من باب الجزاء ، قال تعالى : (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ) [سورة الأعراف ، الآية : ٤٤] ، وقال تعالى : (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالُوا إِنَّ اللهَ

٣٦٨

حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ) [سورة الأعراف ، الآية : ٥٠].

والإفاضة تارة عامّة ، كالرزق والخلق وغيرهما.

واخرى : خاصّة ، وهي ما يفاض على الإنسان لأجل إيمانه وأعماله الصالحة حسب الشرع ، ولكلّ منهما مراتب ، كما مرّ.

وثالثة : أخصّ ، وهي تخصّ الأولياء والأنبياء حسب درجاتهم ، فعن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «أبيت عند ربيّ فيطمعني ربيّ ويسقني».

ومن أهمّ أسباب الإفاضة والتقرّب إلى الله تعالى الأذكار الواردة عن الأئمة الهداة عليهم‌السلام ، المنتهية إلى الوحي من السماء ، وهي كثيرة مذكورة في محلّها ، وأهمّها الاستغفار الموجب لمحو الذنوب ورفع الدرجات ، بل قال نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّه من خير العبادة ، ففي الكافي بإسناده عن الصادق عليه‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : الاستغفار وقول لا إله إلّا الله ، خير العبادة ، وقال الله العزيز الجبّار : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ)» ؛ ولذا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يواظب عليه ، فعن الصادق عليه‌السلام : «أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان لا يقوم من مجلس وإن خفّ حتّى يستغفر الله خمسا وعشرين مرّة».

وله آثار معنويّة ، منها صفاء النفس ، فعن مولانا الصادق عليه‌السلام : «انّ للقلوب صدأ كصدأ النحاس ، فاجلوها بالاستغفار» ، وعنه عليه‌السلام أيضا : «إذا أكثر العبد من الاستغفار ، رفعت صحيفته وهي تتلألأ».

وآثار خارجيّة ، كما عن بعض مشايخنا في العرفان ، وتدلّ عليه روايات كثيرة ، فعن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من كثرت همومه فعليه بالاستغفار» ، وعن الصادق عليه‌السلام : «من أكثر من الاستغفار جعل الله له من كلّ همّ فرجا ، ومن كلّ ضيق مخرجا ، ورزقه من حيث لا يحتسب».

والاستغفار كسائر الأذكار الشريفة على أقسام فتارة : باللسان فقط.

٣٦٩

واخرى : بالقلب.

وثالثة : بهما.

والأخير من أجلّ المقامات ، وبه يحصل بعض المكاشفات حسب مراتب التوجّه والتأهّل.

ولعلّ تأكيد الآية المباركة باستغفار الرسول لهم إنّما لأجل حصول الاستعداد والأهليّة بسبب الاستغفار والرجوع إليه تعالى بنبذ النفاق حتّى يفيض عليهم ما يوجب كمالهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة.

٣٧٠

(وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (٦٦) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (٦٧) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٦٨))

بعد ما بيّن عزوجل الإيمان الصحيح وعرّف المؤمنين المحكّ الحقيقيّ له ، ذكر عزوجل في هذه الآيات المباركة بعض الأمور التطبيقيّة لذلك ، اختبارا للمؤمنين لإعلامهم مقدار تأثّرهم بتلك التوجيهات الكريمة ، فاستنهضهم بقبول حكم الله تعالى ، فأمرهم بالقتال والهجرة من الديار ، أو فعل ما يوعظون به ، وأخبرهم بأنّ تلك الأحكام إنّما نزلت لصلاحهم وسعادتهم وهدايتهم إلى الصراط المستقيم الذي يوصلهم إلى الكمال المنشود ، ويبيّن عزوجل أنّ من يدخل في طاعة الله عزوجل ويقبل أحكامه وينفذها قليل ، فلا بد من الجهاد والصبر والمثابرة وقبول مواعظه عزوجل التي لها الأثر الكبير في ترويض النفوس وتهذيبها للدخول في طاعته.

التفسير

قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ)

سياق الكلام وإن كان مع المنافقين ، ولكن يمكن تعميمه لجميع المكلّفين اختبارا لإيمانهم ، والكتابة هي الفرض والوجوب ، أي : ولو أنّا فرضنا عليهم قتل أنفسهم بتعريضها للجهاد والقتال مع أعداء الله تعالى أو الخروج من أوطانهم وديارهم المألوفة والهجرة في سبيل الله تعالى ، والغرض من فرض هذين الحكمين اختبارهم لإظهار طاعتهم وانقيادهم لحكم الله تعالى ورضائهم به والتسليم لأمره عزوجل في جميع الأحوال ، ولعلّه لأجل ذلك تصدّرت الآية الشريفة

٣٧١

بكلمة «لو» الدالّة على الامتناع ، فلم يكتب عليهم ذلك ، فتكون هذه الآية من موارد تطبيق الآية السابقة.

وإنّما خصّ هذين الحكمين بالذكر لما فيهما من المشقّة والحرج الشديدين بالنسبة إلى الإنسان ، فإنّ الإنسان لشديد الحبّ للنفس والديار ، ويكره فراق الأحبّة وهجران الأخلّة.

قوله تعالى : (ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ)

قرئ «قليلا» على أنّه صفة لمصدر محذوف ، أي : ما فعلوه إلا قليلا.

أي : لم يطع منهم إلا القليل ؛ لأنّ فرض الحكمين إنّما كان لإظهاره قوة إيمانهم وثبات عزيمتهم ومقدار تقبّلهم لأحكام الله تعالى والطاعة له عزوجل ، فلم يفعل ذلك إلا قليل منهم ، وهم أصحاب العزائم القويّة الذين آثروا رضا الله تعالى على رضى النفس وحبّها.

والآية المباركة تخبر عن امتناعهم عن امتثال الأحكام والتكاليف الحرجيّة والتوبيخ لهم.

والاستثناء ـ بناء على التعميم لجميع المكلّفين واضح لا لبس فيه ، وهو استثناء متصل. وأما بناء على اختصاص الخطاب بالمنافقين فالاستثناء غير متصوّر ، إذ المنافق لا تطيب نفسه لما دون القتل ، فكيف به وبالخروج من الديار. لكن يمكن أن يقال إنّ الاستثناء إنّما هو لدفع توهّم استغراق الحكم واستيعابه للجميع ، فإنّ منهم المؤمنين حقّا ، المخلصين الذين سلّموا أمرهم إلى الله تعالى ، فلا يشملهم الحكم المزبور وإنّما دخلوا فيهم تبعا.

بل يمكن أن يقال إنّ الأمر والتكليف اختباري ، وإنّه في مقام امتحان المؤمنين واختبارهم عن إيمانهم وطاعتهم وثباتهم ، فلا فرق حينئذ بين أن يكون الاستثناء متصلا أو منفصلا ، وقد تقدّم في قوله تعالى : (وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) [سورة النساء ، الآية : ٤٦] ما يتعلّق بالمقام.

٣٧٢

قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ)

أي : ولو أنّهم فعلوا تلك التكاليف لكان خيرا لهم في جميع شؤونهم وأحوالهم في الدنيا والآخرة.

وفي تبديل الكتابة (ما يُوعَظُونَ بِهِ) لبيان أنّ تلك الأحكام إنّما هي إرشاد لصلاحهم وسعادتهم ، فإنّ التكاليف الإلهيّة مواعظ ونصائح يراد لهم منها الخير والصلاح ، فتدلّ على أنّ الحكمين المذكورين في الآية السابقة اختبارهم.

قوله تعالى : (وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً)

التثبيت : التقوية ، وذلك بجعل الشيء ثابتا وراسخا ، أي : وأشدّ تثبيتا لإيمانهم وقلوبهم على طاعة الله ، والآية المباركة تدلّ على أنّ تنفيذ الأحكام الإلهيّة وتطبيقها لهما الأثر الكبير في تقوية الإيمان ، بل هي العلّة التامّة في رسوخه في النفس ، فإنّ العمل بالأحكام يزيد العامل قوة وإحكاما على ترسيخ الملكات الفاضلة والأخلاق الحسنة في النفس ، فتقوم بالتكليف بأحسن وجه لا تخاف الضلال والغواية.

قوله تعالى : (وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً)

إذن حرف جواب وجزاء ، أي : حين ما ثبتوا على الإيمان وقويت فيهم عرى الحقّ والصواب لاعطيناهم أجرا عظيما لا يعرف أحد مداه ولا يبلغ منتهاه ، وسيأتي في الآيات التالية بيان بعض ذلك الأجر العظيم.

قوله تعالى : (وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً)

أي : لهديناهم لسلوك الطريق المستقيم الذي يوصلهم إلى المراتب العالية في القرب ، وقد تقدّم في سورة الفاتحة معنى الصراط المستقيم.

وهذه الهداية أجلّ وأعظم من الأجر المتقدّم ، كما قال تعالى : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) [سورة محمد ، الآية : ١٧] ، والاختلاف في الأجر والجزاء لاختلاف درجات الإيمان ، فبعضهم ينعم عليهم الخير ، وآخرون الثبات والعزيمة ، وثالثهم الهداية إلى الصراط المستقيم.

٣٧٣

بحوث المقام

بحث أدبي :

«قليل» في قوله تعالى : (ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ) بدل من الضمير المرفوع في «فعلوه» ؛ لأنّ الكلام غير موجب. وأمّا الضمير المنصوب في «فعلوه» راجع إلى أحد الأمرين من القتل والخروج ؛ لأنّ العطف ب (او) يستلزم ذلك ، أو يرجع إلى المكتوب الشامل لهما.

وقرئ بالنصب «الا قليلا» إما على أصل الاستثناء ، وإما على أنّه صفة لمصدر محذوف ، أي : ما فعلوه إلا فعلا قليلا.

وأشكل على هذا الوجه بأمور مذكورة في كتب النحو ، من شاء فليرجع إليها.

وإذا في قوله تعالى : (وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ) مقحمة وجواب لسؤال مقدّر ، وقد اختلف العلماء في أنّها لمعنيين في حال واحدة ، أي : الجواب والجزاء في كلّ حال ، أو أنّها قد تأتي لمعنى واحد كالجواب ، وقد تأتي لمعنيين الجواب والجزاء ، وهي مسألة يبحث عنها في علم النحو.

واختلف القرّاء في (ان) و (او) في قوله تعالى : (أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا) فقرئ بكسر نون (ان) وضمّ واو (أو) ، وقرأ بعضهم بكسرهما وآخرون بضمّهما ، فأما الكسر فللتخلص من التقاء الساكنين ، وأما الضمّ فاجراؤهما مجرى الهمزة المتصلة بالفعل التي تنتقل حركة ما بعدها إليها.

٣٧٤

بحث دلالي

تدلّ الآيات الشريفة على امور :

الأول : إنّما جمع عزوجل بين القتل والخروج من الدار والجلاء عن الوطن في ما فرضه تعالى عليهم ؛ لأنّهما أشدّ شيء على الإنسان ، ولأهمية الوطن عنده ، ولأنّ الجسم مستقرّ الروح كما أنّ الوطن دار الجسم والبدن.

وكيف كان ، فتدلّ الآية الشريفة على أهمية الهجرة في سبيل الله تعالى.

الثاني : يدلّ قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ) أنّ الأحكام الإلهيّة والتكاليف الربانيّة إنّما هي مواعظ تصلح النفوس المريضة ، وتهدي المكلّفين إلى ما فيه الصلاح والسعادة ، ولعلّ هذه الآية الشريفة تبيّن المراد من قوله تعالى : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً) ، فالإعراض عنهم كان حكما أدبيا وخلقا رفيعا اتصف به نبيّ الرحمة ، ثم الوعظ بإنزال التكاليف والأحكام لتهذيب النفوس وهدايتها إلى الصلاح والسعادة ، والقول البليغ هو الوعد والوعيد اللذين وردا في هذه الآية الكريمة والآية التالية.

الثالث : لعلّ ما ورد من تعدّد الجزاء واختلافه ، وهو الخير والثبات والأجر العظيم والهداية ، إنّما هو لأجل اختلاف درجات الإيمان التي وردت في الآية السابقة من التحكيم ، والرضا بالحكم ، والتسليم الكامل ولما كان التسليم من أعلى تلك الدرجات ، كان الجزاء أيضا عظيما ، وهو الأجر العظيم والهداية إلى الصراط المستقيم.

الرابع : يدلّ قوله تعالى : (وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً) على أنّ الأحكام الشرعيّة الإلهيّة لها الأثر الكبير في تثبيت النفوس على الإيمان ورفع الشكوك والأوهام وتزكية القلوب وترويضها على مكارم الأخلاق ، ورفع كلّ ما يوجب البعد عن الله تعالى.

٣٧٥

الخامس : يستفاد من قوله تعالى : (وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً) أنّ الأحكام الإلهيّة هي الثابتة ، وأما غيرها من القوانين الوضعيّة فليست لها ثبات ، وإنّما هي تختصّ بزمان معين لا دوام لها.

بحث روائي

في الدرّ المنثور في قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) أخرج ابن المنذر عن عكرمة قال : «عبد الله بن مسعود وعمّار بن ياسر ، يعني من أولئك القليل».

أقول : الرواية من باب التطبيق.

وفي الكافي بإسناده عن أبي بصير عن الصادق عليه‌السلام في قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) وسلّموا للإمام تسليما ، (أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ) رضا له ، (ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) ولو أنّ أهل الخلاف (فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً) ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا ممّا قضيت ويسلّموا لله الطاعة تسليما».

أقول : المراد من الإمام المعصوم الذي وجب طاعته ، سواء كان نبيّا أو إماما ، والرواية من باب التطبيق ، وهناك روايات اخرى واردة عن أئمة الهدى عليهم‌السلام ، تدلّ على أنّ الآية المباركة نزلت في حقّ علي عليه‌السلام هكذا : «ولو أنّهم فعلوا ما يوعظون به في علي عليه‌السلام لكان خيرا لهم» ، ولكنّها من باب التفسير والتطبيق لأجلى المصاديق.

والحمد لله ربّ العالمين ، وله الشكر على ما أنعم.

٣٧٦

فهرس الجزء الثامن من مواهب الرحمن في تفسير القرآن

[سورة النساء، الآیه: ٢٢ ـ ٢٣]

الآيات الشريفة تبيّن النكاح الصحیح وتميزه عن النكاح الفاسد......................... ٥

مادة نكح ومعناها................................................................ ٦

المقت ومعناها................................................................... ٧

الآية الكريمة تشتمل على المجاز العقلي وتبيّن أنواع المحرّمات في النكاح................... ٨

النوع الأول من المحرّمات في النكاح وهو على اصناف.................................. ٩

النوع الثاني من المحرّمات في النكاح وهي ما حرم بالرضاعة............................ ١٠

النوع الثالث من المحرّمات في النكاح وهي ما حرم بالمصاهرة........................... ١١

الربائب ومعناها................................................................ ١٢

الوجه في التقييد بالحجور........................................................ ١٢

المراد من حالاثل الأبناء.......................................................... ١٢

لا مفهوم للقيد (من اصلابكم)................................................... ١٣

النوع الرابع من المحرّمات في النكاح................................................ ١٣

معني الجمع بين الاختين......................................................... ١٣

في المراد من العفو في ما سلف.................................................... ١٤

التعليل الوارد في الآية المباركة..................................................... ١٤

بحث دلالي وفيه ان الآيات الشريفة تدلّ على امور:................................. ١٥

الأول: ما يترتّب على النكاح المحرّم................................................ ١٥

الثاني: يستفاد من الآية المباركة رفع الحكم الوضعي والتكلیفي معاً بالنسبة إلى ما مضى فقط ١٥

الثالث: يستفاد من الآية الشريفة الحكمة في التشريع وهي الاختلاط وشدة المصاحبة والمعاشرة ١٦

بحث روائي يتعلّق بالآية المباركة................................................... ١٦

٣٧٧

[سورة النساء، الآیه: ٢٤]

المحصنات ومعناها............................................................... ٢١

الاستثناء عن الحصنات.......................................................... ٢٣

تشتمل الآية الكريمة على التأكيد في المحرّمات النكاحية المذكورة فيها................... ٢٣

الآية المباركة تبيّن قاعدة كلية تميز بين الطريق الصحيح عن الباطل في النكاح............ ٢٥

المسافحة ومعناها............................................................... ٢٦

الاستمتاع ومعناه............................................................... ٢٧

الآية المباركة تتضمّن اموراً تدلّ على مشروعية المتعة في النكاح......................... ٢٨

الآية الشريفة تدلّ على شروط نكاح المتعة......................................... ٢٨

الجناح ومعناه................................................................... ٣٠

بحوث المقام

بحث دلالي وفيه ان الآية الكريمة تدلّ علی امور:.................................... ٣١

الأول: الآية المباركة تدلّ على حرمة تعدد الأزواج بالنسبة إلى امرأة واحدة في زمان واحد.. ٣١

الثاني: الإحصان في الإماء بالتزويج لا يمنع المولى من التسري بهنّ...................... ٣١

الثالث: تدلّ الآية الشريفة على ان الأحكام المذكورة ممّا كتبها الله تعالي ولا يمكن التعدي عنها ٣١

الرابع: تدلّ الآية الكريمة على ان المطلوب في كلّ نكاح هو تحصين النفس والتعفّف دون الابتذال     ٣١

يستفاد من مجموع الآيات المباركة أن الغرض من هذه الأحكام التوفيق بين الاستجابة التكوينيّة ودواعي الفطرة وحفظ النفس والتحرز عن الفحشاء................................................................... ٣٢

الخامس: الآية الكريمة تدلّ على أن نكاح المتعة من سبل تحصين النفس من الوقوع في الحرام ٣٢

الآية الشريفة غير منسوخة وما قيل في نسخها مردود................................ ٣٢

بحث علمي يتعلق بنكاح المتعة وما اورد عليه من الاشکالات......................... ٣٥

٣٧٨

الاشكال الأول والجواب عنه..................................................... ٣٧

الأشكال الثاني على نكاح المتعه والجواب عنه....................................... ٣٨

الأشكال الثالث والجواب عنه.................................................... ٤١

بحث روائي يتعلّق بالآية المباركة................................................... ٤٣

الروايات الدالّة على مشروعية نكاح المتعة.......................................... ٤٥

ما ورد من الروايات الدالّة على قراءة الآية المباركة.................................... ٤٧

الروایات الدالّة على النسخ والتحريم واقسامها والاشكال الوارد عليها................... ٤٨

بحث فقهي.................................................................... ٥٣

[سورة النساء، الآیه: ٢٥]

مادة [طول] ومعناها............................................................ ٥٦

المراد من الفتيات الواردة في الآية الشريفة........................................... ٥٧

ما يستفاد من سياق الآية المباركة................................................. ٥٨

الآية الكريمة تبيّن حقيقة من الحقائق القرآنية وانها من الآيات المعدودة التي وردت في تهذيب الإنسان وتربيته    ٥٩

الآية الشريفة تدلّ بمفهومها على حرمة نکاح المملوكة بدون اذن اهلها.................. ٦٠

المراد من الاُجور في الآية الكريمة.................................................. ٦١

الاخدان ومعناها............................................................... ٦١

العنت ومعناها................................................................. ٦٤

الآية الشريفة في مقام الإرشاد إلى ترك نكاح الإماء ولا يستفاد منها التحريم............. ٦٥

بحوث المقام

بحث أدبي يتعلّق بالآية المباركة.................................................... ٦٦

بحث دلالي وفيه ان الآية الشريفة تدلّ على امور.................................... ٦٧

الأول: تدلّ الآية المباركة على مرجوحية نكاح الإماء وما ذهب جمع إلى الحرمة قابل للمناقشة ٦٧

الثاني: يستفاد من الآية الكريمة رجحان النكاح بالحرائر المؤمنات....................... ٦٧

٣٧٩

الثالث: ظاهر الآية المباركة يدلّ على أنّه لابد لكل نکاح من مهر..................... ٦٧

الرابع: يستفاد من الآية الشريفة الرد على العادات والتقاليد التي كانت سائدة في هذا النوع من افراد المجتمع الإنساني    ٦٧

الخامس: يستفاد من الآية الكريمة الحكمة في هذا التشريع لهذا الأمر التكويني........... ٦٨

السادس: يستفاد من الآية المباركة ان الغاية من النكاح هو الإحصان.................. ٦٩

بحث روائي يتعلّق بالآية المباركة................................................... ٦٩

بحث عرفاني وفيه ان الآية الشريفة تشتمل على امور................................. ٧٢

[سورة النساء، الآیه: ٢٦ ـ ٢٨]

الآيات المباركة تبيّن وجوهاً من الحكم في تشريع الأحكام الإلهيّة........................ ٧٤

الإرادة من صفات الفعل والفرق بين صفات الفعل فيه تعالى وصفات الذات فيه تعالی... ٧٤

السنن والمراد منها............................................................... ٧٥

التوبة ومعناها.................................................................. ٧٦

المراد من اتباع الشهوات......................................................... ٧٨

الآية الكريمة تبيّن الصراع المرير بين الحق والباطل وتميز الحق عن غيره................... ٧٨

الآية المباركة من قبيل ترتب المعلول على العلة التامة.................................. ٧٩

الآية الشريفة تبيّن حقيقة من الحقائق التكوينيّة...................................... ٨٠

المراد من الضعف في الآية الكريمة................................................. ٨٠

بحوث المقام

بحث أدبي يتعلّق بالآية المباركة.................................................... ٨١

بحث دلالي وفيه ان الآيات الشريفة تدلّ علي امور:................................. ٨٢

الأول: الوجه في تعقيب الآيات التي تضمّنت احكام النكاح بالارادة الأزليّة............. ٨٢

الثاني: المراد من السنن الواردة في الآية الكريمة وفي الآية الشريفة الإشارة إلى بطلان دعوى جواز الجمع بين الاخوة والاخوات في الزواج.............................................................................. ٨٢

٣٨٠