مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٨

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٨

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٣
ISBN: 946-5665-07-8
الصفحات: ٣٩٧

الخامس : أصالة منصب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في وصول الوحي إليه ، بخلاف الإمام عليه‌السلام ، فإنّه يعرف الأمور بإلهام ربّاني أو بفهم ثاقب أو بغيرهما ، كمصحف فاطمة عليهما‌السلام ، أو بكتاب علي عليه‌السلام.

السادس : أنّ الحاجة التي تدعو إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله عين الحاجة التي تدعو إلى اولي الأمر ، فإنّها تتضمّن مصالح مهمّة لا تستقيم حال الامة بدونها.

٣٤١

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (٦٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (٦١) فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (٦٢) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (٦٣))

الآيات الشريفة تكملة للحديث عن ما نزل في شأن اليهود والمنافقين الذين يتظاهرون بالإسلام ، فإنّه تعالى بعد ما ذكر في الآيات السابقة أنّ اليهود يؤمنون بالجبت والطاغوت ويحكمون للمشركين بأنّهم أهدى من الذين آمنوا سبيلا ، ذكر عزوجل سوء أحوالهم في الحال والعقبى ، وبعد ذلك بيّن تعالى الطريق المستقيم والمنهج ، ووضع القاعدة الاولى النظام الحكم ورقي المجتمع ودفع المشاكل التي تصيبه ، فأمر المؤمنين بأداء الأمانات إلى أهلها ـ وهي أمانة الإيمان ، ليشمل أساس الاعتقاد واصول العبادة وقواعد التعامل وسبل العلاقات كلّها بين الناس والأفراد ـ والحكم بالعدل ليطهّر المجتمع من العقاب ، فالعدل إحدى الأمانات الكبرى التي يجب أن ينشر بين الناس جميعا بلا استثناء ؛ ليعرفوا لذّة الحياة التي أنعم الله تعالى بها عليهم ، وهو أساس الحكم في الإسلام ، وأنّ الأمانة المطلقة والعدل المطلق هما أساس الحكم وأساس الحياة ، وطاعة الرسول واولي الأمر هي الدستور الأساسي لبناء المجتمع الذي فشا فيهم العدل ، وذلك هو الخير والتفسير الأحسن لتحقيق نظام أفضل ، وبعد الانتهاء عن بيان هذه القواعد والنظم التي تعطي الحياة للفطرة البشرية الخامدة وتعرّفها ، تلتفت الآيات المباركة

٣٤٢

إلى الذين ينجرفون عنهما ، وهم اليهود الذين آمنوا بالجبت والطاغوت وحكموا بشريعة غير شريعة الله تعالى واصول لم ينزلها الله عزوجل ، فاتبعوا الهوى في حكمهم والضلال في حياتهم ، وبيّن عزوجل فيها أحوال المنافقين وسجّل عليهم بعض الصفات الذميمة التي تكشف عن حقيقتهم ، ثم أمر نبيّه الكريم بالإعراض عنهم ووعظهم والقول لهم قولا بليغا.

التفسير

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ)

جملة «الم تر» تدلّ على الإنكار والتعجيب من أحوال من يزعم الإيمان في قلبه ، وقد تقدّم في قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) [سورة النساء ، الآية : ٥١].

والزعم هو الاعتقاد والادعاء ، سواء طابق الواقع أم لا ، وإن غلب استعماله في الثاني حتّى ظنّ بعضهم أنّ عدم مطابقة الواقع مأخوذ في مفهومه ، قال الراغب : الزعم حكاية قول يكون مظنّة للكذب ، ولهذا جاء في القرآن في كلّ موضع ذمّ القائلين به ، قال تعالى : (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي) [سورة التغابن ، الآية : ٧] ، وقال تعالى : (بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً) [سورة الكهف ، الآية : ٤٨] إلى غير ذلك من الآيات المباركة ، وقد وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم في مواضع كلّها تدلّ على الباطل والردّ على الزاعمين.

والآية الشريفة في مقام بيان كذب ادعائهم وزعمهم بأنّهم مؤمنون ، وتعقيب الأمر بالطاعة لله وطاعة الرسول والحكم بالعدل بهذه الآية ؛ للإعلام بأنّ هؤلاء هم الذين تخلّفوا عن الطاعة وأحجموا عن تنفيذ ما أمرهم الله به

٣٤٣

ورغبوا عن التحاكم إلى الله وإلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وأرادوا التحاكم إلى الطاغوت ، فإنّه من المؤسف أن يكونوا كذلك مع زعمهم الإيمان بما انزل إليك وما انزل من قبلك على سائر الأنبياء التي ما أنزلت إلا لبسط الحقّ والحكم بين الناس بالعدل ورفع التنازع بينهم.

وإنّما ذكر عزوجل الإيمان بما انزل من قبله ؛ لتشديد التوبيخ والتقريع ، ولتأكيد التعجيب.

قوله تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ)

الطاغوت مصدر بمعنى كثير الطغيان والتجاوز عن حدّ العبوديّة لله تعالى واستعلاء عليه ، واطلق على كلّ معبود من دون الله تعالى ، وقد تقدّم ما يتعلّق باشتقاق هذه الكلمة في قوله تعالى : (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٥٦].

والآية المباركة ردّ لزعمهم ، فإنّهم لو كانوا مؤمنين لما أرادوا التحاكم إلى الطاغوت ولم يسعوا في التحاكم إلى الطاغوت ، ولم تنزع نفسهم إليه ، فإنّه إلغاء لشريعته وابطال لكتبه المقدّسة.

قوله تعالى : (وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ)

أي : والحال أنّهم أمروا أن يكفروا بالطاغوت ، كما صرّح عزوجل به في قوله تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [سورة النحل ، الآية : ٣٦] ، وفي الآية المباركة تأكيد التعجيب السابق.

قوله تعالى : (وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً)

بيان لأمر واقعي وكشف عن حقيقة مستورة ، وهي أنّ إرادتهم التحاكم إلى الطاغوت إنّما هي من إرادة الشيطان الذي لا يريد إلا الشرّ والباطل ، ولا يكون قصده وتوجيهاته إلا الضلال البعيد.

وضلالا مصدر مؤكّد إما للفعل المذكور ، أو لفعله المدلول عليه بالمذكور ،

٣٤٤

أي : فيضلّون ضلالا. وإنّما وصفه بالبعد إما لأجل أنّه بعيد عن الحقّ بعدا كبيرا لا التقاء معه بوجه من الوجوه ، أو لأجل المبالغة في التنزّه عنه وعن سبل غوايته.

والآية الشريفة سجّلت عليهم أمورا أربعة تحدّد وصفهم تحديدا دقيقا ، وبها يحكم عليهم بوضوح بأنّهم ليسوا مؤمنين ، وهي : ادعاء الإيمان بما انزل الله تعالى ، وإرادة التحاكم إلى الطاغوت ، وأنّهم مأمورون أن يكفروا به ، وأنّ الشيطان يريد أن يضلّهم ضلالا بعيدا ، فحقّ أن يكونوا غير مؤمنين ، إلا أن يتحاكموا إلى شريعة الله كما أمر الله المؤمنين به في الآية السابقة.

قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً)

الآية الشريفة تبيّن بعض علاماتهم ، وهي أنّهم في حال السلم والأمن يظهرون الإعراض والصدود إذا دعوا إلى الإيمان بما أنزل الله تعالى من القرآن وما أنزل على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله من الحقّ ، وإذا أصابتهم المصيبة تلمّسوا المعاذير وادعوا أنّهم أرادوا الإحسان.

وتعالوا : طلب الإقبال إلى مكان عال ثم عمّم. والصدّ : هو الإعراض ، وصدودا مصدر مؤكّد لفعله المذكور ، ويبيّن أنّ الإعراض كان صريحا وعن عمد منهم ، وقد تقدّم ما يتعلّق باشتقاق هذه المادّة.

وإنّما ذكر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله مع أنّ الذي انزل إليه هو حكم الله تعالى ، للتأكيد على أنّ الإيمان بالله تعالى إنّما يتم بالإيمان بالرسول وما انزل إليه. والآية تثبت مضمون إطاعة الله وإطاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

كما أنّ تخصيص الرسول بالإعراض مع أنّ الذي دعوا إليه هو الكتاب والرسول معا ، لأنّ الخطاب مع المنافقين الذين يدّعون الإيمان بالكتاب ولم يتجاهروا بالإعراض عن كتاب الله تعالى ولكنّهم يخالفون رسوله ، ويصدون عنه صدودا متعمّدا.

٣٤٥

وإنّما أظهر «المنافقين» في مقام الإضمار للتسجيل عليهم بالنفاق ، ولبيان العلّة في ذمّهم.

قوله تعالى : (فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً)

بيان لسخافتهم وأنّ هذا الإعراض عن حكم الله ورسوله والإقبال إلى غيرهما ـ الذي هو الطاغوت ـ إنّما سيعقب السوء الذي هو نتيجة تصرّفهم ، أي : فكيف يكون حالهم إذا نالتهم مصيبة ونكبة نتيجة تصرّفهم ونفاقهم ، وبسبب الإعراض عن حكم الله تعالى والرسول ، وبسبب ما عملوا من الجنايات كالتحاكم إلى الطاغوت ، والآية الشريفة تبيّن أنّ تلك المصائب ليس لها سبب إلا الإعراض عن حكم الله والرسول والتحاكم إلى الطاغوت ، قوله تعالى : (ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً).

وحكاية الاعتذار منهم مخادعة بأنّهم أرادوا من الإعراض والتحاكم إلى الطاغوت ، الإحسان والتوفيق ، وبيان أنّهم لم يطيقوا الثبات على ذلك الإعراض والصدود. أي : لما رأوا المصائب تحدق بهم جاؤك مخادعة حالفين لك بالله العظيم نفاقا قائلين : إنّهم إنّما أرادوا من التحاكم إلى الطاغوت والإعراض عن حكم الله والرسول الإحسان لكم والتوفيق بينكم وبين الخصوم وقطع المشاجرة ، لا الإعراض عن حكمك.

قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ)

تكذيب لقولهم ، فإنّ الله تعالى الذي يعلم ما في الأرض والسماء ، وما في قلوب الناس جميعا ، يعلم ما في قلوب أولئك المنافقين ، وإنّما حذف المتعلّق لبيان خبث ضمائرهم ، وأنّها فاسدة لا يتأتّى منها إلا الشرّ.

كما أنّ تخصيص قلوب أولئك بالذكر مع أنّ الله تعالى عالم بجميع الأشياء ،

٣٤٦

لبيان أنّهم مهما حاولوا استخفاء حقيقتهم عن الناس ، ومهما تظاهروا بالإيمان ، فإنّ الله تعالى يعلم ما في قلوبهم ولا تخفى عليه خافية وستظهر حقيقتهم.

والآية المباركة تدلّ باسلوبها البليغ على تعظيم الأمر وتهويله وفظاعته.

قوله تعالى : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ)

بيان لفساد ضمائرهم ، إذ لو لم يكن كذلك لما أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بالإعراض عمّن يقول الحقّ : في قوله ، وإنّما كان توجيه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بالإعراض عنهم مطلقا ، سواء في قبول عذرهم أم غير ذلك ، وأمره صلى‌الله‌عليه‌وآله بوعظهم ليرجعوا عن غيّهم وعنادهم ويكفّوا عن النفاق ويستقيموا على أمر الله تعالى ، ويقبلوا حكم الله وحكم الرسول.

(وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً)

توعيد لهم ، فإنّ الأسلوب يحمل النذير ، أي : قل لهم قولا يبلغ من نفوسهم الأثر الذي ترجوه منه ، وهو الرجوع عن غيّهم وفسادهم ، وترك النفاق والرجوع إلى الحقّ.

والظاهر أنّ الأمر بالإعراض والموعظة إنّما كان قبل نزول الأمر بقتالهم ، فإنّ بهما تجلب النفوس اللائقة والمتأهّلة للحقّ إلى الصراط المستقيم ، فإذا لم تنفعها تصل النوبة إلى القتل لأجل الرضوخ إلى الحقّ.

وقد اختلف المفسّرون في المراد من الآية الشريفة ، فقيل : قل لهم منفردا بهم لا يكون معهم أحد ؛ لأنّه ادعى إلى قبول النصيحة ، فإنّ النصح بين الملأ تقريع.

وقيل : قل لهم في شأن أنفسهم قولا مؤثّرا.

وعلى كلا القولين يكون الظرف (فِي أَنْفُسِهِمْ) متعلّقا بالأمر «قل».

وقيل : إنّه متعلّق ب «بليغا» ، أي : قل لهم قولا بليغا في أنفسهم ، ولا يضرّ تقديم معمول الصفة على الموصوف الذي هو جائز عند جمع كثير من النحويين.

وقيل : المراد أنّه أمر بالقول البليغ.

٣٤٧

وكيف كان ، فإنّ الآية الكريمة تأمر بالموعظة سواء بالقول أم بالفعل ، ثم الأمر بالقول الذي يؤثّر في النفس تأثيرا بليغا ، وقد فوّض الوعظ إلى الرسول الكريم والنصح لهم بكل ما يراه مؤثّرا في نفوسهم التي خبثت وفسدت ، فلا بد من إصلاحها لتصلح سائر القوى والأعضاء.

وفي الآية الشريفة شهادة من الله تعالى على قدرة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الكلام البليغ ، كيف وهو القائل : «أنا أفصح من نطق بالضاد» ، وهو سيد الفصحاء وإمام البلغاء ، وهو الرسول الكريم الذي علّمه الله تعالى ما لم يعلم ، ومن نزل في شأنه : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [سورة القلم ، الآية : ٤] ، فيكون لكلامه الأثر البليغ في النفوس ولم يكن في كلام غيره مطلقا هذا الأثر العظيم ، وإنّ على كلامه مسحة ربانيّة يقع في القلب ويصلح ما أفسده صاحبه ، وهو الترياق الأكبر والأكسير الأعظم ، وقد كان العرفاء والصلحاء المتألّهون يرجعون إلى كلامه صلى‌الله‌عليه‌وآله ويحفظونه عند ما تتكّدر نفوسهم.

بحث دلالي :

تدلّ الآيات الشريفة على امور :

الأول : يدلّ قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا) على أنّ السبب في بطلان إيمانهم هو إرادة التحاكم إلى الطاغوت ، فيؤخذ بعموم السبب ، وهو أنّ كلّ من يرغب في حكم الطاغوت فهو ليس مؤمنا ولو زعم ذلك ، وأنّ التحوّل من حكم الله تعالى ورسوله إلى حكم الطاغوت يوجب خروج الناس عن الإيمان.

والآية المباركة تثبت هذه الحقيقة لكلّ من يريد هذا التحوّل ويرضى بحكم الطاغوت ؛ لأنّ الإرادة القلبيّة تبعث الإنسان إلى الرضا وتدفعه إلى تنفيذ حكم الطاغوت. وإنّها تكشف عن عدم ثبات الإيمان في قلب المرتد ، فيكون

٣٤٨

إيمانا مزعوما ، وهذا من المواضع القليلة التي يترتّب الأثر على الإرادة. وإنّها تكشف الإيمان الباطل وتميّزه عن الإيمان الصحيح الثابت ، وتبيّن علامات الإيمان الباطل ، وهي : إرادة التحاكم إلى الطاغوت الذي أمروا أن يكفروا به ، ومخالفة حكم الله تعالى ، وإنّ الشيطان يريد أن يضلّهم ضلالا بعيدا لا التقاء فيه مع الحقّ والإيمان الصحيح.

الثاني : يدلّ قوله تعالى : (رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً) على أنّ التسليم لحكم الله تعالى والتوقّف في حكم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله نفاق.

الثالث : يدلّ قوله تعالى : (إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) على أنّ المصائب تكون كسبية ، يكتسبها الإنسان من فعل الذنوب والآثام ، وتدلّ عليه آيات اخرى ، إلا أنّ ذلك هل يكون جزاء وعقوبة (كفّارة) ويكون لطفا ورفع درجة؟ والظاهر أنّه يختلف باختلاف الأفراد أو باختلاف العمل.

والأمر الذي لا بد من الإذعان به أنّ ذلك نتيجة للأعمال والذنوب ، وتكون موافقة لنوع الذنب ، لقانون توافق الجزاء مع الذنوب ، وأنّ التوبة ترفع تلك الآثار وتمحوها ، كما تقدّم في مبحث التوبة وغيره.

الرابع : يستفاد من قوله تعالى : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً) أدب الاحتجاج ومراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فأوّل ما يبدأ به هو الإعراض عمّا صدر منهم من مخالفات وسوء في القول والفعل ، ثم الوعظ والإرشاد وإصلاح النفوس بهما ، ثم القول البليغ ، ولم يرد في تحديده من قبل الإسلام شيء ، فالأمر موكول إلى المرشد والمصلح بما يراه من المصلحة وما يوجب الوصول إلى بغيته ، وهي الصلاح والرشاد وتأثّر النفوس بالمواعظ والنصائح ، وقد يصل إلى التهديد والتوعيد ، ولكن لا بد أن يكون كلّ ذلك موافقا لظاهر الشرع ، وأن لا يخرج عن أدب الإسلام في هذا المضمار.

٣٤٩

بحث روائي

على بن إبراهيم في تفسيره لقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ) إنّه نزل في الزبير بن العوام ، فإنّه نازع رجلا من اليهود في حديقة. فقال الزبير : ترضى بابن شيبة اليهودي؟ وقال اليهودي : ترضى بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأنزل الله تعالى الآية».

أقول : الرواية من باب التطبيق ، إذ لا خصوصية للمورد ؛ لأنّ فعل ابن العوام كان ممّا يوجب تأييد المنكر وتقوية الطاغوت ، وقد نهى سبحانه وتعالى عن ذلك ، وكلّ من يكون كذلك تشمله الآية الشريفة.

وفي أسباب النزول للواقدي : عن المروزي في كتابه قال : «أخبرنا محمد بن الحسين بإسناده عن الشعبي ، قال : كان بين رجل من المنافقين ورجل من اليهود خصومة ، فدعا اليهوديّ المنافق إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأنّه علم أنّه لا يقبل الرشوة ، ودعا المنافق اليهوديّ إلى حكامهم ؛ لأنّه علم أنّهم يأخذون الرشوة في أحكامهم ، فلما اختلفا اجتمعا على أن يحكما كاهنا في جهينة ، فأنزل الله تعالى في ذلك : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) ـ يعني المنافق ـ (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) ـ يعني اليهودي ـ (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ) ـ الى قوله تعالى ـ (وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)».

أقول : الرواية من باب التطبيق ، وقد يكون للنزول مناشئ متعدّدة ، كما تقدّم وجه ذلك ، وهي تدلّ على أنّ أمانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بوجهها العامّ في كلّ شيء كانت محرزة ومتيقّنة حتّى عند اليهود والمنافقين ، وكان يعرف صلى‌الله‌عليه‌وآله بالأمين.

وعن الشيخ في التهذيب بإسناده عن أبي بصير ، عن الصادق عليه‌السلام قال : «أيما رجل كان بينه وبين أخيه منازعة فدعاه إلى رجل من أصحابه يحكم

٣٥٠

بينهما ، فأبى إلا أن يرافعه إلى هؤلاء ، كان بمنزلة التي قال الله تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ).

أقول : الروايات في ذلك مستفيضة دالّة على حرمة الرجوع في القضاء إلى حكام الجور.

وفي الكافي بإسناده عن أبي جنادة الحصين بن المخارق بن عبد الرحمن بن ورقاء بن حبشي بن جنادة السلولي صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن أبي الحسن الأوّل عليه‌السلام ، عن أبيه عليه‌السلام في قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) قال : «فقد سبقت عليهم كلمة الشقاء وسبق لهم العذاب و (وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً)».

أقول : المراد من السبق بالاختيار ، أي : أنّهم باختيارهم اختاروا العذاب والشقاء ، ولذا عقّبه بالقول البليغ لعلّه يؤثّر في نفوسهم ويرجعوا عن غيّهم.

بحث فقهي

الترافع إلى قضاة الجور ومن لم يوجد فيه شرائط القضاء حرام بالأدلّة الأربعة ، فمن الكتاب آيات شريفة ، منها ما تقدّم ، ومنها قوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ) [سورة البقرة ، الآية : ١٨٨] ، بتقريب أنّ حكام الجور لا اعتبار لحكمهم ؛ لأنّهم يتعاطون الرشوة ، وهذا الملاك لو وجد في حكّام العدل تسقط ولايتهم ، وغيرهما من الآيات المباركة.

ومن السنّة : روايات كثيرة تبلغ حدّ التواتر ، تدلّ على الحرمة وضعا وتكليفا ، وتقدّم بعضها.

ومن الإجماع : ما هو مسلّم بين جميع الفقهاء على حسب اختلاف آرائهم ، بل مذاهبهم.

ومن العقل : أنّه تأييد وتقرير للباطل ، وهو قبيح ، فإذا ترافع إليهم كان

٣٥١

عاصيا ، سواء كان معه الحقّ في الواقع ام لا ، بل لا يحلّ ما أخذ بحكمهم إن كان دينا ، وكذا في العين على إشكال فيها تعرّضنا له في الفقه ، ومن شاء فليرجع إلى كتاب القضاء من (مهذب الأحكام).

إلا أنّه استثني من ذلك ما لو توقّف استيفاء الحقّ وعدم ضياعه على الترافع إليهم على سبيل الانحصار ، ولم تكن مفسدة اخرى في البين ؛ لانصراف ما تقدّم من الأدلّة عن مثل ذلك وشمول ذلك ، وشمول أدلّة نفي الضرر له ، ولقاعدة تقديم الأهمّ على المهمّ خصوصا في صورة الحرج بشمول أدلّته لذلك.

ولا فرق فيما تقدّم بين المسلم وغيره ؛ لإطلاق الأدلّة ، ولأنّ الكفّار مكلّفون بالفروع ، كما أنّهم مكلّفون بالأصول وأنّ الواقع حجّة على جميع الناس ، وقد تعرّضنا في الفقه لما يتعلّق بتكليف الكفّار بالفروع ، ومن شاء فليرجع إلى (مهذب الأحكام).

بحث أخلاقي

النفاق من الصفات الذميمة ، بل هو أمها ؛ لأنّه يوجب تأنيب النفس في هذه الدنيا ، والجحيم الابدي في الآخرة ، كما قال تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) [سورة النساء ، الآية : ١٤٥] ، وأنّه يوجب تغيّر الفطرة المستقيمة الخالصة عن الشوائب ، كما خلقها الله تعالى إلى فطرة غير مستقيمة متلوّنة لا يمكن الاعتماد عليها ، كما أنّه يوجب هدم النظام الاجتماعي ؛ ولذا لم يذمّ سبحانه وتعالى صفة خبيثة أشدّ من هذه الصفة ، فجعل المنافقين شرّا من الكافرين ، كما في الآية المتقدّمة.

وهو التلبّس بالشرع ظاهرا والخروج عنه واقعا ، أو التظاهر بالواقع والحقيقة ، والبعد عنهما في النفس والضمير. وللنفاق مصاديق كثيرة ـ كالكذب ، والمكر ، والحيلة وغيرها ـ متفاوتة لا يخلو إنسان ـ ما عدا المعصومين ـ عن

٣٥٢

الابتلاء ولو بأدنى مرتبته وإن لم يترتّب عليها ذنب ، لعدم إظهارها وعدم ترتّب أثر شرعيّ عليها.

وله أسباب كثيرة ، لعلّ أهمّها حبّ النفس ، والحرص على الدنيا وطول الأمل ، وحبّ الرياسة ، والبغض والعداوة مع أولياء الله تعالى ، وغيرها من الأسباب ، لعلّنا نتعرض لبعضها إن شاء الله تعالى في الروايات المناسبة.

وقد أكّد سبحانه وتعالى في كثير من الآيات الشريفة بالإعراض عن المنافقين في المرحلة الاولى ؛ لما فيهم من الصفات الذميمة التي قد توجب السراية إلى غيرهم بإغواء الشيطان ، ثم إصلاحهم إما بالوعظ والإرشاد حتّى يرجعوا إلى أنفسهم ويصلحوا ما رسبت في نفوسهم من الصفات الذميمة والأخلاق الفاسدة ، وهذه هي المرحلة الثانية ، وإما بالقتل والقتال معهم ، وهذه هي المرحلة الأخيرة ، ولكلّ من المرحلتين الاوليتين مراتب متفاوتة ، والآيات الكريمة المتقدّمة تبيّن المراحل المتقدّمة بوضوح ، وسيأتي في المباحث الآتية ما يرتبط بهذا البحث.

٣٥٣

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً (٦٤) فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٦٥))

الآيتان الشريفتان متممتان للآيات السابقة التي وردت في وجوب إطاعة الله والرسول ، وتمهيد لبيان خطئهم في الاشتغال بما يوجب الدخول في نار جهنمّ ومقاساة أهوالها وهما تبيّنان أهمّ مقصد من مقاصد الرسل وهو إطاعتهم ، وتشيران إلى أنّ المحكّ الرئيس في الإيمان هو أخذ الأحكام منهم ، مع التسليم لهم والرضا بحكم الله تعالى.

والآية المباركة تأمر الناس الذين ظلموا أنفسهم بالرجوع إلى الرسول وطلب الاستغفار منه ؛ لأنّه واسطة الفيض ، ولأنّ الإعراض عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان سببا للنفاق والتشنيع عليهم ، فاستوجب الدخول في الإيمان الصحيح غير المزعوم ، التوجّه إليه والتسليم لأمره وطلب الغفران منه.

التفسير

قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ)

بعد ما بيّن عزوجل حال المنافقين وضلالهم وفساد ضمائرهم وإعراضهم عن الرسول والحقّ ونبذ حكمه وحكم الله تعالى وتحاكمهم إلى الطاغوت وحلفهم كذبا ، ثم الاعتذار بالإحسان والتوفيق ، فإن كلّ تلك كانت صدّ عن الحقّ ومخالفة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ويبيّن عزوجل في هذه الآية الشريفة أنّ الغاية من بعث الرسل هي طاعتهم مطلقا من غير قيد ولا شرط ، وأنّ طاعتهم من طاعة الله تعالى ، فأمرهم

٣٥٤

امره عزوجل ، وليست الطاعة فقط هي طاعته عزوجل كما زعمه هؤلاء المنافقون ، وأنّ شأن الرسل لم يكن الوعظ والإرشاد فقط فيأخذ به من يأخذ ويتركه من يترك ، أو أنّ اتباع الرسل إنّما هو لأجل الصلاح ، فإذا أحرز أحد في نفسه ذلك ليس له مع الرسول شأن وله أن يتركه في جانب ، بل إذا أطاعه حينئذ كان إشراكا بالله تعالى وعبادة للرسول معه ، وهذه الآية الكريمة تدفع هذا التوهّم وتبيّن خطأ معتقدهم ، وتثبت طاعة الرسول وأنّها من طاعة الله تعالى ، وسيأتي في موضع آخر من هذه السورة تأكيد ذلك ، قال تعالى : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) [سورة النساء ، الآية : ٨٠].

والآية الشريفة لا تثبت سلطة ظاهريّة للرسل ، بل أنّ الطاعة هي غاية إرسال الرسل ، وإلا فإنّ كثيرا من الرسل لم تكن لهم سلطة ظاهريّة ولم يكونوا حكّاما ـ وسواء كانوا أم لم يكونوا ـ فإنّ ذلك لا يغيّر من الواقع شيئا ، فهم رسل من الله تعالى ، أثبت لهم عزوجل الطاعة وأوجب تعالى على الناس أن يطيعوهم في أوامره تعالى وأحكامه ، وأنّ تهذيب النفوس إنّما يكون بطاعتهم وإصلاحها بالعمل ، لا بمجرّد سماع نصائحهم وترك أوامرهم.

ويستفاد من قوله تعالى : (بِإِذْنِ اللهِ) أنّ طاعة الرسل لم تكن ذاتيّة ، بل إفاضية من قبل الله تعالى ، فطاعتهم واجبة بإذنه ، كما ذكرنا في قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) ، وأنّها لم تكن على الناس بنحو الجبر والإلجاء ، بل الطاعة كسائر الأشياء إنّما تكون بمشيئة الله عزوجل وإذنه.

ثم إن قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ) أبلغ في استغراق النفي من غيره ، فكلّ رسول تجب طاعته.

قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ)

تبيت لمضمون الآية السابقة ، وبيان بأنّ السبيل الموصل إلى الله تعالى إنّما يكون عن طريق الأنبياء والرسل ، فهو عزوجل لم يغلق بابه أحد مهما بلغت

٣٥٥

جريمته ، ولكن لا بد من سلوك الطريق الموصل إليه جلّت عظمته ، وهو ينحصر بالاستغفار والتوبة وطلب المغفرة من الرسول الكريم لهم ، دون مجرّد الاعتذار الباطل والاشتغال بما يوجب الدخول في سخط الله تعالى ، فهم حين ما ظلموا أنفسهم بالنفاق والتحاكم إلى الطاغوت والإعراض عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إن رجعوا إلى الصواب وندموا على ما فعلوا وآمنوا بالرسول وطلبوا الغفران من الله تعالى واستغفر لهم الرسول ، غفر الله تعالى لهم.

قوله تعالى : (جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ)

أي : جاءوك بعد الإعراض وطلبوا الغفران من الله تعالى ، وسأل الرسول لهم من الله تعالى الغفران وقبول توبتهم وغفران ذنوبهم ، وفي التعبير ب (اسْتَغْفَرَ) دون غيره ، تعظيم لشأن الرسول الكريم ، حيث عدل عن خطابه إلى أعظم صفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث أسنده إلى لفظ ينبئ عن علو مرتبته.

قوله تعالى : (لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً)

أي : لعلموا أنّه قبل توبتهم ، وقد تفضّل عليهم بالغفران ؛ لأنّه رحيم واسع الرحمة لا يضرّه ذنوب عباده ، بل يفرح من توبتهم.

وفي التعبير بالوجدان كمال العناية ، فإنّه يملأ المشاعر ، كما أنّ وضع الظاهر (اسم الجلالة) موضع المضمر ، إيذان بفخامة القبول وكمال الرأفة.

والآية الشريفة إرشاد لقوله تعالى : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) [سورة النساء ، الآية : ٥٩] ، فإنّ الله تعالى أمرهم بالمجيء إلى الرسول وطلب الدعاء منه بالمغفرة ؛ لأنّه عزوجل أمرهم بالتحاكم إليه ، وقد خيّره في الحكم لما وهبه عزوجل من الفطنة والذهن الثاقب وكمال العرفان.

قوله تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ)

بيان للإيمان الصحيح الحقيقيّ بعد ذكر الإيمان الكاذب الذي يزعمه المنافقون ، ولأهمية الموضوع وقع القسم باسم الرّب مؤكّدا بأمور في المقام يأتي بيانها.

٣٥٦

وظاهر السياق وإن كان ردّا للمنافقين إلا أنّ عموم الحكم في الغاية والقرائن المحفوفة بالكلام ، يشمل غيرهم أيضا ، فتكون الآية الشريفة محكّا حقيقيّا للإيمان الصحيح ، فإنّه لا إيمان بدون تحكيم شريعة الله تعالى والرضا بحكمه وحكم رسوله والتسليم لهما عملا واعتقادا ، وإلا فليس الإيمان مجرّد النطق بالشهادتين من دون الطاعة له عزوجل ولرسوله ، فتكون هذه الآية تطبيقا آخر للأمر بطاعة الله تعالى وطاعة الرسول ، وتثبت مضمونه وتؤكّده ، وقد أكّد عزوجل في مواضع متفرّقة من القرآن الكريم أنّ الإيمان الحقيقيّ هو الاعتقاد المقرون بالعمل.

قال تعالى : (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ* وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ* وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ* أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ* إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [سورة النور ، الآية : ٤٧ ـ ٥١].

فهذه الآية الشريفة مفسّرة لقوله تعالى في هذه السورة ، وتبيّن بوضوح أنّ الإيمان الصحيح هو ما كان الاعتقاد مطابقا للعمل ، وإلا فمجرّد النطق بالشهادتين مع قطع النظر عن الاعتقاد الجازم ، لا يوجب الاتصاف بالإيمان الذي يريده عزوجل الداعي إلى العمل والتسليم بحكم الله تعالى ورسوله والطاعة لهما ، بل نفى عزوجل في موضع آخر من كتابه المجيد أن يكون القيام ببعض الشعائر التعبديّة من مظاهر الإيمان إذا لم تكن عن صدق وثبات وتسليم ، قال تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً) [سورة النساء ، الآية : ١٤٢].

وقد ذكر عزوجل في المقام ثلاث علامات صريحة وحاسمة ، كلّ واحدة

٣٥٧

منها تدلّ على مرتبة معينة للإيمان الصحيح الحقيقيّ الواقعيّ ، مقابل الإيمان الكاذب المزعوم. وهي :

العلامة الاولى : تحكيم الرسول في ما شجر بينهم. والتحكيم جعل فرد حاكما أو حكما وتفويض الأمر إليه وقبول حكمه. ومادة [شجر] تدلّ على الاختلاط والتداخل ، فمنها الشجار ـ ككتاب ـ وهو خشب الهودج لاشتباك بعضه مع بعض ، والشجر لاشتجار أغصانه وتداخلها ، والتشاجر والمشاجرة في الدعاوي والأقوال لاختلاط بعضها مع بعض.

وشجر في الآية الشريفة مأخوذ من الشجر ـ بسكون الجيم ـ والشجور وهو الاختلاف والتنازع.

والمعنى : أنّهم لا يؤمنون أبدا وإن زعموا الإيمان حتّى يحكّموك في القضايا التي يختصمون فيها ويتشاجرون ويتنازعون ، فتحكم فيهم بشريعة الله تعالى ، فهذه اولى درجات الإيمان الحقيقيّ ، وهي العلامة الظاهرة ، فإنّ تلك القضايا التنازعيّة يكشف عن مخالفة هوى النفس.

قوله تعالى : (ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ)

هذه هي العلامة الثانية ، وهي عدم تحرّج المؤمنون حقّا عن تنفيذ حكم الرسول ، لا سيما إذا خالف هوى النفس وإذعان نفوسهم بقضائه وحكمه ؛ لأنّهم يؤمنون بأنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله يحكم بشريعة الله تعالى ، لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) [سورة النساء ، الآية ١٠٥].

وهذه العلامة تكشف عن إيمان القلب الذي لا يعلم حقيقته إلا الله تعالى ، ومن هنا جاء العطف بين العلامتين ب (ثم) ، والمراد بقوله تعالى : (ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) ، هو انشراح صدورهم لحكم الرسول ، الذي هو حكم الله تعالى ، وهو أبلغ من نفي الحرج كما لا يخفى.

٣٥٨

قوله تعالى : (وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)

هذه هي العلامة الثالثة التي تكشف عن رسوخ الإيمان في القلب رسوخا تامّا ، فينبثّ على الجوارح ويكون داعيا إلى العمل طوعا ، فيكون إذعانا تامّا ظاهرا وباطنا لأمر الله تعالى ، سواء في التشريع أم التكوين ، وهذا هو آخر موقف من مواقف الإيمان الحقيقيّ الذي لا حرج ولا اعتراض من المؤمن على أي حكم من أحكام الله تعالى والرسول لا ظاهرا ولا باطنا ، فتكون هذه العلامة عامّة تشمل التشريع والتكوين وحكم الله وحكم الرسول وأفعاله وسيرته ، فإنّ جميع ذلك من طاعة الله تعالى.

وحكم الآية الشريفة عامّ يشمل عصر النزول وغيره ، والمنافقين وغيرهم ، فإنّها في مقام إعطاء الضابطة للإيمان الصحيح ، والقاعدة التي لا بد أن يرتكز عليها المؤمن في اعتقاده وأعماله وسيرته.

بحوث المقام

بحث دلالي :

تدلّ الآيتان الشريفتان على امور :

الأول : يدلّ قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ) ـ باسلوبه الدالّ على الحصر وعلى الاهتمام البليغ بالموضوع ـ على أنّ الغاية من إرسال الأنبياء طاعتهم والعمل بشريعتهم وتنفيذ أوامرهم وليس الإيمان مجرّد التلفّظ بالشهادتين من دون الطاعة ، وسيأتي في الآية التالية بيان الطاعة التي فرضها الله عزوجل على الناس ، ولعلّ تعقيب الطاعة بكونها من إذن الله تعالى فيه الإشارة إلى أنّ الطاعة هذه لا بد أن يأتي بيانها من قبل الله تعالى ، وليس لكلّ أحد أن يفسّرها بما يريده ويتوهّمه ، وقد فسّرها عزوجل في المقام بأحسن

٣٥٩

وجه ، لا لبس ولا إجمال فيه ، فكانت الطاعة في نظر القرآن الكريم هي الرجوع إلى الرسول وتحكيمه في موارد التنازع والتشاجر ، وقبول حكمه برضاء واطمينان لا اعتراض فيه ، والتسليم لله تعالى ولرسوله في جميع الأمور ، فكانت هذه الآية الشريفة من الآيات المعدودة التي نزلت في بيان هذا الأمر المهمّ ، الذي لم يرسل الرسل إلا لأجله ، وبها ينتظم نظاما التشريع والتكوين ؛ لأنّ التشريع له الدخل الكبير في التكوين ، كما تقدّم.

الثاني : يدلّ قوله تعالى : (بِإِذْنِ اللهِ) على أنّ طاعة الرسل إنّما تكون إفاضية من قبل الله تعالى وبإيجاب منه عزّوجلّ ، فتكون طاعتهم في الحقيقة طاعة الله عزوجل ، فمن خرج عن طاعتهم ورغب عن حكمهم كان خارجا عن حكم الله تعالى وطاعته عزوجل ، فلهذه الكلمة الشريفة الوقع الكبير في هذا الموضع ، فإنّها ترشد الناس إلى أمر مهمّ وهو طاعة الرسل والأنبياء ، وأنّها ليست من الأمور الدنيويّة الدائرة في الاجتماع الإنسانيّ ، يمنحها المجتمع أو شخص معين ـ سواء أكان رئيسا أم غيره ـ لأحد جهلا بالمقادير ، فمتى أراد سلبها عنه ونزعها منه ، بل الطاعة المفترضة على الناس للأنبياء من الأمور التشريعيّة المهمّة التي تكون تحت سلطانه وإرادته وإذنه تعالى ، ولم يمنحها لأحد إلا مع العلم والحكمة المتعالية.

الثالث : يدلّ قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ) على عصمة الرسل ؛ لأنّ الله تعالى فرض طاعتهم على جميع الناس مطلقا من غير شرط ، فلو جاز أن يأتوا بمعصية لوجب علينا طاعتهم ، فتكون واجبة علينا ، والمفروض أنّها محرّمة يجب تركها ، فيلزم تخصيص الآية الشريفة ، والمفروض خلاف ذلك ، فتدلّ على أنّهم معصومون لم يرتكبوا محرّما إليها ، فتكون أفعالهم وأقوالهم وسيرتهم حجّة علينا ، وتجب علينا طاعتهم فيها.

فهذه الآية المباركة من الأدلّة الدالّة على عصمة الأنبياء عليهم‌السلام ، التي كثر

٣٦٠