مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٨

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٨

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٣
ISBN: 946-5665-07-8
الصفحات: ٣٩٧

المكلّف به ، فإنّ الأول يرجع إلى بلوغ التكليف وتنجّزه ويجب عقلا على المكلّفين تعلّم التكاليف ومعرفتها ، ولا يكون الجهل عذرا كما هو واضح ، وإلا كان كلّ تكليف إلهي تكليفا بما لا يطاق ولا معنى له.

الثاني : أنّه يحتاج إلى تعريف من الله تعالى ورسوله ويكون صريحا فيه ، ولو كان كذلك لم يختلف فيه أحد بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وفيه : أنّ التعريف الصريح موجود والنصّ وارد في الكتاب والسنّة ، يعرّفنا بهم تعريفا تامّا ، فمن الكتاب آية الولاية ، وآية التطهير ، وآية المباهلة ونحو ذلك ، ومن السنّة أحاديث يمكن دعوى تواترها ، كحديث الثقلين ، وحديث : «مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح ، من ركبها نجا ، ومن تخلّف عنها غرق» ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّي تارك فيكم الثقلين ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبدا» ، وغير ذلك من الأحاديث التي نقلها أرباب الحديث من الفريقين في كتبهم ، وسيأتي في البحث الروائي نقل الأحاديث في اولي الأمر إن شاء الله تعالى.

الثالث : إننا وإن عرفنا الإمام المعصوم ، ولكن عاجزون عن الوصول إليه لنستقي من نمير علمه ونتعلّم منه الأحكام والمعارف الربوبيّة ، فلا سبيل إليه ولا خير في تكليف لا طريق إلى أخذه.

وفيه : أنّ الله تعالى عرّف الإمام المعصوم على لسان نبيّه الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكن الامة هي التي امتنعت من الاستفادة منه بسوء اختيارها ، فالإشكال متوجّه إليهم ، لا إلى الله تعالى ورسوله ، نظير ذلك ما لو قتلت امة نبيّها ، فاعتذرت أنّها لا تقدر على طاعته والاستفادة منه.

ثم إنّ الإشكال يتوجّه أيضا على من يقول إنّ المراد باولي الأمر أهل الحلّ والعقد لو تجتمع امة الإسلام على وحدة تنفذ فيهم رأيها.

الرابع : أنّ فائدة اتباع الإمام المعصوم انقاذ الامة من الخلاف والتنازع

٣٢١

وتشتت الكلمة والتفرّق ؛ ولذا أمر الله تعالى في هذه الآية المباركة بالرجوع الى الله تعالى والرسول عند ظهور التنازع ، فإذا اختلف اولوا الأمر في بعض المستجدات التي تعرض على الامة مع وجود الإمام المعصوم ، فهو غير جائز عند القائلين به ؛ لأنّه عندهم بمنزلة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، مع أنّه لا وجود لذلك ، فلا فائدة فيه.

وفيه : أنّ التنازع في الآية تنازع المؤمنين دون اولي الأمر ، كما هو ظاهر الآية الشريفة ، فإنّه لا نزاع في الأحكام الصادرة من الإمام المعصوم ، كالحكم الصادر من الله والرسول ، فإنّه لا خيرة لهم في ما إذا قضى الله ورسوله أمرا ، فإذا فهموا الحكم من الكتاب والسنّة وأمكنهم تطبيق ذلك ، فهو وإلا فلا بد من الرجوع إلى الإمام عليه‌السلام والسؤال عنه ، نظير ما كان المسلمون عليه في عصر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكان عصر الإمام امتدادا لعصر الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإذا حصل تنازع بين المؤمنين فلا بد من الرجوع إلى الرسول في عصره وإلى الإمام بعده.

الخامس : أنّ ذيل الآية الشريفة يدلّ على عدم إرادة الإمام المعصوم ، فإنّه عزوجل قال : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) ، فلو كان المراد باولي الأمر الإمام المعصوم لوجب الردّ عليه أيضا ، فيقول : «فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول والإمام» ، والمفروض ليس كذلك ، فليس المراد بولي الأمر الإمام المعصوم.

وفيه : أنّه تقدّم الجواب عن هذا ، وحاصل ما ذكرنا أنّ الملاك هو العصمة وأنّها موجودة في اولي الأمر بوحي من السماء ، ولقد عرفوا من قبل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وسيأتي مزيد بيان في تفسير ذيل الآية المباركة إن شاء الله تعالى.

والذي يتحصّل من مجموع ما ذكرناه أنّ المراد من اولي الأمر هم أفراد معينّون من هذه الامة ، امتازوا عن سائر الناس بالعصمة والعلم والمعرفة ، وقد كرّمهم الله تعالى بأنّ فرض طاعتهم على الناس وجعلهم قرناء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في

٣٢٢

الطاعة والعصمة ، وإن اختلفوا عنه من جهات اخرى ، وسيأتي مزيد بيان لذلك إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ).

بيان لأهمّ مظاهر الطاعة المفترضة ، فإنّ في التنازع والخصام يمتحن كثير من العباد ، فيتبيّن صدق إيمانهم وحسن سريرتهم وانقيادهم لأحكام الله تعالى وأوامره.

والآية المباركة تفريع على الحصر المستفاد ممّا ورد في صدر الآية حيث أوجب طاعة الله ورسوله وبيان لها بأنّ هذه الطاعة لا بد أن تكون في كلّ شيء يمسّ صلاح المؤمنين وسعادتهم في الدارين ، وهي الموارد الدينيّة التي تكون موارد لتطبيق الطاعة المفترضة ، وأنّها هي التي تتكفّل رفع كلّ تنازع واختلاف يفترض.

فلفظ الشيء وإن كان عامّا يشمل الأحكام الشرعيّة وغيرها ، ولكن قوله تعالى : (فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) يدلّ على أنّه مختصّ بتلك الأشياء التي ليس لأولي الأمر الاستقلال والاستبداد فيها ، لما يراه من المصالح كالجهاد والصلح ونحو ذلك ، وإلا لا معنى لإيجاب الردّ إلى الله والرسول مع فرض طاعة اولي الأمر في هذه الموارد.

وكيف كان ، فالآية الشريفة تدلّ على أنّ تشريع الأحكام ممّا يختصّ به الله تعالى ومن أفاض عليه عزوجل وهو الرسول الكريم. وأما اولوا الأمر ، فإنّ عليهم شرح الأحكام وتفسيرها وتطبيقها ورفع التنازع بين أفراد الامة بارجاعهم إلى طاعة الله والرسول ، فليس لأحد ـ سواء أكان من اولي الأمر أم من دونهم ـ التصرّف في حكم ديني شرّعه الله ورسوله ، فهما وحدهما المرجع الديني الذي يرجع إليه في كلّ الأمور ، ويستفاد من ذلك أنّ ولي الأمر لا بد أن يكون عالما بجميع الخصوصيات ، وذا معرفة تامّة بالأحكام الشرعيّة ليردّ المتنازعين إلى طاعة الله والرسول.

٣٢٣

قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)

تثبيت لما ورد من الأوامر في الآية الشريفة وتشديد في الحكم ، وبيان الى أن حقيقة الإيمان لا تتحقّق إلا بذلك ، ومثل هذا التعبير قد ورد كثيرا في القرآن الكريم ، ويراد به بيان حقيقة الإيمان ، وأنّ مخالفة هذا الأمر يوجب الخروج عن دائرة الإيمان ، فلا يعود المؤمنون حينئذ مؤمنين حقيقيين ، ففي الآية الشريفة تهديد خفي وتوعيد للمؤمنين إن هم خالفوا ما ورد فيها من الأوامر والأحكام ، لا سيما الحكم الأخير ، وهو الردّ إلى الله تعالى والرسول عند التنازع ، أنّهم يخرجون عن حقيقة الإيمان وسيجزون جزاء أعمالهم في اليوم الآخر.

قوله تعالى : (ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)

بيان لبعض الفوائد المترتّبة على هذه الأحكام ، واسم الإشارة يرجع الى ما ورد في الآية الشريفة من الأوامر ، أي : أنّ طاعة الله وطاعة الرسول واولي الأمر وردّ المتنازع فيه إلى الله والرسول خير لكم وأنفع ، وفيها صلاح أمركم وسعادتكم ، وأحسن ما يوجب تحقيق مصالحكم وأغراضكم في الدارين ، دون ما تتوهّمون.

وقد تقدّم في قوله تعالى : (وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) [سورة آل عمران ، الآية : ٧] ، المراد من التأويل وذكرنا أنّه هي المصالح الواقعيّة التي ينشأ منها الحكم ، فيترتّب عليها العمل ، وهي التي يسعى الإنسان في جهده للوصول إليها ، ويرى أنّ بها تتمّ أغراضه وسعادته ، وفي قوله تعالى : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) [سورة النساء ، الآية : ٦٩] ، بيان بعض مصاديق حسن التأويل.

٣٢٤

بحوث المقام

بحث أدبي :

قوله تعالى : (وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) ، الواو حرف عطف ، والظرف «بين الناس» متعلّق بحكمتم و (أَنْ تَحْكُمُوا) معطوف على (أَنْ تُؤَدُّوا) ، والجار متعلّق به ، ولا يضرّ الفصل بين العطف والمعطوف بإذا والظرف وهما منصوبان بأن تحكموا ، وذهب جمع من النحويين إلى عدم جواز الفصل بينهما بالظرف وجعل الظرف منصوبا بفعل مقدّر ، ويكون «أن تحكموا» مفسّرا لتلك المقدرة.

وجملة : (نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ) خبر (إنّ) واسمها اسم الجلالة ، و «ما» إما أن يكون بمعنى الشيء ، و «يعظكم» صفة لموصوف محذوف ، وهو المخصوص بالمدح ، أي : نعم الشيء شيئا يعضكم به. ويجوز نعم هو الشيء شيئا يعظكم به. وإما أن يكون بمعنى (الذي) وما بعدها صلتها ، وهو فاعل «نعم» ، والمخصوص محذوف ، أي : نعم الذي يعظكم به تأدية الأمانة والحكم بالعدل.

وأشكل عليه بأنّ فاعل «نعم» إذا كان ظاهرا يجب أن يكون معرّفا بلام الجنس أو مضافا إلى المحلّى به.

وأجيب عنه بأنّ بعض العلماء جوّز قيام (ما) إذا كانت معرفة تامّة مقامة ، بل بعضهم جوّز قيام الموصولة ؛ لأنّها في معنى المعرّف باللام.

وأشكل أيضا بأنّ (ما) لا تقع تمييزا ؛ لأنّها مساوية للمضمر في الإبهام ، فلا تميّزه ؛ لأنّ التمييز لبيان جنس المميز.

وأجيب عنه بمنع المساواة ؛ لأنّ المراد بها شيء عظيم.

والتفصيل في قوله تعالى : (ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) لبيان الكمال

٣٢٥

وبطلان ما سواه ، إذ لا حسن ولا خير في الرجوع إلى غير طاعة الله والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

بحث دلالي :

تدلّ الآيات الشريفة على امور :

الأول : يدلّ قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) ، على أهمية الحكم وعظمة الموضوع ، حيث قدّم عزوجل الأمر بأداء الأمانة على الأمر بالعدل ، وأظهر اسم الجلالة ونسب الأمر إلى نفسه الدال على شدّة الاهتمام به ، وتعلّق الأمر بالجميع ، لبيان أنّ الحكم إنّما يظهر أثره إذا كان الجميع يشعرون بالمسؤولية واتفقوا على تنفيذ الحكم وأداء الأمانات إلى أهلها ، وقد ورد التأكيد على هذا الحكم في عدّة مواضع من القرآن الكريم ، وفي السنّة الشريفة الشيء الكثير ، ففي الحديث عن مولانا الباقر عليه‌السلام : «انظر إلى ما بلغ علي عليه‌السلام عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وما بلغ إلا بصدق الحديث وأداء الأمانة» ، وإطلاق الآية الشريفة يشمل جميع الأمانات ، لكن القرائن تدلّ على أنّ المراد أمانة خاصّة ، وهي ما تكون من سنخ النبوّة والإمامة والأحكام الإلهيّة.

الثاني : يدلّ قوله تعالى : (إِلى أَهْلِها) على أنّ ردّ الأمانة لا بد أن يكون إلى من له أهليّة الأمانة ، وهذه نكتة لطيفة ، فيدلّ على الانحصار في الأمانة الكبرى ، وهي الأحكام الإلهيّة والإيمان بالله والرسول وطاعة اولي الأمر ، فتكون الآية التالية مفسّره لهذه الأمانة.

الثالث : يبيّن قوله تعالى : (وَإِذا حَكَمْتُمْ) أنّ المراد من الأمانة ما هو من سنخ الحكم والعلم.

الرابع : يمكن أن يكون تعقيب الآيات الشريفة السابقة التي وردت في أحوال اليهود من حكمهم للمشركين ، بأنّهم (أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً) ،

٣٢٦

وقد وصفهم عزوجل بكتمان الحقّ وعدم تبيين آيات الله تعالى ومعارفه ، وفي هذه الآيات إشارة إلى أنّ تلك الأمانات مأخوذ عليها الميثاق أن تبيّن للناس ، فلا بد أن لا تكتم عن أهله ، ولكن اليهود خانوا الأمانة فكتموا الحقّ عن أهله ، وقد حكى عزوجل جملة كثيرة من خياناتهم ، منها : حكمهم للمشركين بأنّهم أهدى سبيلا من المؤمنين.

ومنها : بخلهم بالحقّ وعدم بيانه.

ومنها : تحريفهم لكلام الله تعالى ، ولأجل ذلك استحقّوا اللعنة وعذاب السعير.

الخامس : إنّما قدّم عزوجل الأمر بأداء الأمانة على الأمر بالعدل في الحكم ؛ لأنّ الأخير إنّما يكون عند التنازع والمشاجرة والخصام والخيانة بالأمانة ، وتنفيذ الأمر الأول يرفع موضوع الثاني ، فإذا راعى الناس أماناتهم وأدّوها إلى أهلها لا يبقى مجال للاحتياج إلى الحكم بالعدل ؛ ولأنّ قوام النوع الإنساني إنّما يكون بأداء الأمانة ، وبدونه يختلّ النظام ، فهو أساس كلّ حكومة ومصدر كلّ نظام ، وعزّ كلّ سلطان ، وهو روح العدالة ، وبحفظ الأمانة تصل الامة إلى كمالها وسعادتها.

السادس : يدلّ قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) ، على أنّ كلّ طاعة سوى هاتين الطاعتين باطلة ، لا سيما إذا لا حظنا ورود هذه الآية بعد تقريع اليهود والمشركين وذمّهم بالإيمان بالجبت والطاغوت.

والمستفاد من الآية الشريفة أنّ هناك طاعتين مفروضتين ، هما طاعة الله تعالى المتمثّلة في العمل بكتاب الله تعالى وما أنزله على نبيّه الكريم في الأحكام والمعارف ، وطاعة اخرى هي طاعة الرسول واولي الأمر ، وهذه الإطاعة مطلقة غير مشروطة بشيء ، فالمستفاد منه أنّ كلّ ما ينطق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ويحكم به هو من الله تعالى ويجب طاعتهما ، ولا يتمّ ذلك إلا بعصمته ، وإلا كان فرض طاعته تناقضا.

٣٢٧

السابع : يستفاد من قوله تعالى : (وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) أنّ اولي الأمر أفراد من هذه الامة لهم فرض الطاعة نظير ما للرسول ، ولا بد أن يكونوا معصومين ، وإلا كان فرض طاعتهم تناقضا ، ولكن لما لم تكن عصمتهم معلومة لكلّ أحد ؛ ولذا توهموا عدمها فيهم ، إلا أن الإطلاق استلزم كون المتعيّن أنّ عصمتهم إنّما يعرف من الله تعالى أو بتعليم من الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويختلف طاعتهم عن الرسول بعد كون طاعتهم طاعة الله تعالى. وإنّ اولي الأمر ليس لهم نصيب من الوحي ، وإنّما شأنهم هو بيان الكتاب والسنّة وشرحهما وتطبيق الأحكام وكشفها ، لمكان صواب رأيهم في ذلك ، فلهم افتراض الطاعة ، والجميع راجع إلى الكتاب والسنّة.

الثامن : يدلّ قوله تعالى : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) على أنّ لكلّ واقعة حكما محفوظا عند الله تعالى وعند الرسول ، باعتبار أنّ لهما وحدهما حقّ التشريع وسلطة جعل الحكم فقط ، وهذا هو رأي الإماميّة ، فإذا كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله موجودا فهو المرجع في ردّ المتنازع فيه إليه وأخذ الحكم منه ، وبعد ارتحاله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا بد أن يكون بيان الأحكام ممّن له أهليّة أداء الأمانة إليه ممّن اتصف بالعلم والحكمة ، ومن يكون حجّة في رأيه ولهم الذوق الثاقب في استنباط الحكم من الكتاب الكريم والسنّة الشريفة ، حتّى يكون شاغلا للفراغ الذي حصل من فقد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهؤلاء ينحصرون في الأئمة الهداة عليهم‌السلام الذين هم عدل القرآن وأحد الثقلين ، فلا محالة تكون السنّة الشريفة تشمل أقوالهم التي لا مدرك لها إلا الكتاب والسنّة المحفوظة عندهم بوجوه متعدّدة ، وحينئذ فإن أمكن الرجوع إليهم فهو المتعين ، وإلا فالطريق منحصر بالاجتهاد في الأدلّة الواصلة إلينا منهم ، واستنباط الأحكام منها بالطرق المعتبرة ، ولا تدلّ الآية المباركة بشيء من الدلالات على اعتبار القياس والاجتماع والعقل ، كما يدّعيه جمع من المفسّرين.

٣٢٨

التاسع : يشمل قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) على الوعد والوعيد ، فهو يدلّ على أنّ العمل بمضمون الآية له الأثر في تنظيم نظامي الدنيا والآخرة. كما يدلّ على أنّ التخلّف عنه يوجب سلب حقيقة الإيمان.

العاشر : يدلّ قوله تعالى : (ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) على أنّ ما ورد في الآية الشريفة ممّا يوجب سعادة الإنسان ، وأنّه أحسن نظام تعيش الامة تحت ظلاله في أحسن أحوال ، ويصل كلّ فرد إلى ما يبتغيه في سعيه من الراحة والكمال. وبذلك تبطل جميع النظريات الوضعيّة التي وضعها الإنسان في تنظيم النظام ، فإنّها وإن نجحت في بعض الجهات ، لكنّها فشلت في كثير منها.

والآية المباركة تبيّن أنّ النظام الإسلامي ـ المبتني على الإيمان بالله تعالى والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وردّ الأمانات إلى أهلها والحكم بالعدل والإطاعة لله والرسول وإطاعة اولي الأمر في تنظيم النظام وتطبيق الأحكام ـ هو السبب في الوصول إلى أوج الكمال والسعادة ، وأنّ بقية النظم لا تكفل ذلك إلا إذا أخذت منه.

بحث روائي :

الروايات التي تدلّ على أنّ المراد من قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) هم الأئمة الطاهرون عليهم‌السلام متواترة ، وفي بعضها أن يؤدّي الإمام عليه‌السلام الأمانة إلى الإمام الذي بعده ولا يزولها عنه. وجميعها من باب التطبيق لأجلى المصاديق وأكملها ، وإلا فالآية المباركة عامة تشمل كلّ أمانة ، ففي الكافي بسنده عن بريد العجلي قال : «سألت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن قول الله عزوجل : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها)؟ فقال : هم الأئمة من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أن يؤدّي الأمانة إلى من بعده ، ولا يخصّ بها غيره ولا يزويها عنه».

أقول : وقريب منه ما عن الصادقين عليهما‌السلام بأسانيد متعدّدة ، ويستفاد من هذه الرواية وأمثالها امور :

٣٢٩

الأول : أنّ الأمر الوارد في الآية الكريمة إرشاد إلى ما يحكم به العقل ؛ لأنّ معرفة الإمام عليه‌السلام وإبلاغ الإمام ـ الذي ثبت إمامته بالنصّ من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ للناس بالإمام الذي بعده ، ممّا تحكم به الفطرة السليمة ، لما فيه من المصالح العامّة ، كحفظ الناس من الضلال وإخراجهم عن الغواية ، وفي عدمه مفاسد كثيرة.

الثاني : أنّ الإمامة لا تكون اعتباطيّة وممّا تميل النفس في جعلها لأحد ، بل لا بد فيها من الأهليّة التي هي العصمة كما تقدّم ، فإنّها منحة إلهيّة تخصّ أفرادا معيّنين من آل محمد ، امتحنهم الله تعالى لذلك فجعلها لهم ، كما ذكرهم النبيّ على ما سبق.

الثالث : يستفاد منها أنّ الأمانات التي هي عند الإمام المعصوم لا بد وأن تصل إلى إمام مثله في الصفات ، وأنّ لها الأهميّة العظمى ، فكلّ إمام معصوم عنده أمانات إلهيّة يعطيها عند ارتحاله إلى الملأ الأعلى لمن له الأهليّة لحفظها ، من الأشخاص الذين عيّنهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالوحي المنزل عليه ، وليس له أن يعطيها لأي أحد كما مرّ ، بل لا بد من امتياز إلهي أفاضه الله عليه لما فيه من المصالح.

الرابع : يستفاد منها أنّ الأئمة عليهم‌السلام ـ مضافا إلى أن لهم العبوديّة الخاصّة المحضة لله ـ أمانات الله تعالى في أرضه ، وتدلّ على ذلك روايات كثيرة.

وعن الشيخ في التهذيب بإسناده عن معلى بن خنيس عن الصادق عليه‌السلام قال : قلت له : «قول الله عزوجل : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) قال : على الإمام أن يدفع ما عنده إلى الإمام الذي بعده ، وأمرت الأئمة بالعدل ، وأمر الناس أن يتبعوهم».

أقول : في بعض الروايات فسّر الأمانة بالوصية يدفعها الرجل منا إلى الرجل ، فيمكن أن تكون الوصية مطلقة تشمل كلّ وصية ، كما يمكن أن تكون الوصية خاصّة كما يأتي في الرواية الآتية.

وكيف كان ، فالرواية من باب التطبيق.

٣٣٠

وفي تفسير العياشي : عن يزيد بن معاوية قال : «كنت عند أبي جعفر عليه‌السلام وسألته عن قول الله عزوجل : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) ، قال : إيانا عنى أن يؤدي الإمام منا إلى الإمام الذي بعده الكتب والعلم والسلاح (وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) الذي في أيديكم».

أقول : في مضمونها روايات اخرى كثيرة ، ولعلّ المراد من الكتب مصحف فاطمة عليها‌السلام ، الذي فيه كثير من الأحكام بإملاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكتاب علي عليه‌السلام ، وغيرهما من الكتب الموروثة فيهم ، والمراد من العلم ما أفاض الله تعالى عليهم من العلم بالغيب بما يجرى على هذه الامة ، والمراد من السلاح إما السلاح المعنويّ الذي هو التقوى والانقطاع إليه عزوجل بمراتبه التي تطمئن النفس ، أو السلاح الخارجي ، أي : سلاح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما تدلّ عليه الرواية الآتية ، وهو موجود عند ولي العصر عليه‌السلام ، كما في كثير من الروايات ، والمراد من العدل الذي في الأيدي هو الكتاب والسنّة.

في تفسير العياشي : عن زرارة وعمران ومحمد بن مسلم ، عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام قال : «الإمام يعرف بثلاث خصال ، انّه أولى الناس بالذي كان قبله ، وانّه عنده سلاح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعنده الوصية ، وهي التي قال الله في كتابه (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) ، وقال : إن السلاح فينا بمنزلة التابوت في بني إسرائيل يدور الملك حيث دار السلاح ، كما كان يدور حيث دار التابوت».

أقول : ذكر هذه الخصال لتعيين الإمام المعصوم عن غيره وتعريفه للناس ولا يمكن الاتصاف بها لغيره ، كما كان في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله صفات خاصة يعرف بها ، والمراد من سلاح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ما ورثه الأئمة عليهم‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو من المفاخر لقداسته ، وفيه آثار وضعية كالتابوت في بني إسرائيل. والمراد من الوصية هي التي صدرت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ويدفعها كلّ إمام إلى من بعده ، والمراد من الملك الملك المعنوي.

٣٣١

وهناك روايات ذكرها الجمهور تدلّ على أنّ الآية المباركة : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) نزلت في عثمان بن طلحة ، الذي كان سادن الكعبة المشرّفة وبيده مفتاحها ، وأخذه علي عليه‌السلام منه قسرا وفتح الكعبة ودخل فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وصلّى ركعتين ، فلمّا خرج منها سأله العباس أن يعطيه المفتاح وأبى علي عليه‌السلام حتّى أنزل الله تعالى هذه الآية فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يعطى المفتاح إلى عثمان ، ففعل ذلك علي ، فأسلم عثمان بن طلحة إثر ذلك.

أقول : الرواية إن صحّت ، فإنّها يمكن أن يكون من باب التطبيق بعد العلاج والتأويل.

وفي كنز العمال للمتقيّ الهنديّ قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : الشفعاء خمسة :

القرآن ، والرحم ، والأمانة ونبيّكم وأهل بيته».

أقول : يستفاد من هذه الرواية امور :

الأول : تحقّق الشفاعة في يوم القيامة ـ وأنّه لا سبيل لإنكارها ـ كما تدلّ عليها آيات كثيرة تقدّمت في بحث الشفاعة ، وأنّ الشفيع لا بد أن يكون له شأن ومنزلة عند الله تعالى حتّى يصحّ التقرّب به إليه جلّت عظمته ، فإنّ لهذه الخمسة شأن معنوي ومنزلة رفيعة عند الله تعالى.

الثاني : تلازم كلّ واحد من هذه الخمسة مع الآخر ؛ لأنّ العمل بكلّ واحد منها يستلزم العمل بالآخر ، وتقدّم أنّ الرحم أعمّ من الرحم التكوينيّ وغيره الذي فسّر بمحمد وآل محمد ؛ ولذلك قرنه الله عزوجل معه في قوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) [سورة النساء ، الآية : ١].

الثالث : المراد من الأمانة معناها العامّ الشامل للأحكام الشرعيّة والدستورات الإلهيّة التي جاء بها القرآن أو النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لا خصوص المعصومين ، بقرينة ذيل الرواية.

الرابع : أنّ الحصر في الخمسة إضافي لا حقيقيّ ، ففي بعض الروايات :

٣٣٢

«المؤمن يشفع لأخيه عند الله تعالى» ، وكذا الملائكة ، قال تعالى : (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) [سورة النجم ، الآية : ٢٦] ، وغيرهما كما تقدّم في بحث الشفاعة ، فراجع سورة البقرة الآية : ٢٥٤.

وأخرج البيهقيّ في شعب الإيمان عن ابن مسعود قال : «إنّ القتل في سبيل الله يكفّر الذنوب كلّها إلا الأمانة ، يجاء بالرجل يوم القيامة وإن كان قتل في سبيل الله فيقال له : أدّ أمانتك ، فيقول : من أين وقد ذهبت الدنيا؟! فيقال : انطلقوا به إلى الهاوية ، فينطلق فتمثل له أمانته كهيئتها يوم دفعت إليه في قعر جهنم ، فيحملها فيصعد بها حتّى إذا ظنّ أنّه خارج بها ، فهزلت من عاتقه فهوت وهوى معها أبد الآبدين».

أقول : المراد من الأمانة الأعمّ ـ ممّا كانت في الودائع أو ما أخذت غصبا بالحيلة أو القوّة ـ أو ما خالف الأحكام الشرعيّة.

وعن ابن بابويه بإسناده عن أبي بصير ، عن أبي جعفر عليه‌السلام في قول الله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) ، قال : «الأئمة من ولد علي وفاطمة (صلوات الله عليهما) الى أن تقوم الساعة».

أقول : الروايات الدالّة على أنّ المراد من اولي الأمر الأئمة المعصومون متواترة ، وقد ورد بعضها عن الجمهور ، وتقدّم في التفسير أنّ ذلك منحصر بهم ولا يمكن التعدّي عنه ، فالرواية من باب ذكر المصداق الحقيقي ، وقد ورد في رواية جابر بن يزيد الجعفي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ذكر أسمائهم الشريفة.

وفي الكافي بإسناده عن أبي مسروق ، عن الصادق عليه‌السلام قال : «قلت له : إنّا نكلّم أهل الكلام فنحتجّ عليهم بقول الله عزوجل : (أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) ، فيقولون : نزلت في المؤمنين ، ونحتجّ عليهم بقول الله عزوجل : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) ، فيقولون : نزلت في قربى المسلمين ، قال :

٣٣٣

فلم ادع شيئا ممّا حضرني ذكره من هذا وشبهه إلا ذكرته ، فقال لي : إذا كان ذلك فادعهم إلى المباهلة ، قلت : وكيف أصنع؟ فقال : أصلح نفسك ثلاثا وأظنّه قال : وصم واغتسل وابرز أنت وهو إلى الجبال ، فتشبك أصابعك من يدك اليمنى في أصابعه ثم أنصفه ، وابدأ بنفسك وقل : اللهم ربّ السموات وربّ الأرضين السبع ، عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم ، إن كان أبو مسروق جحد حقّا وادّعى باطلا فانزل عليه حسبانا من السماء وعذابا أليما ، ثم ردّ الدعوة عليه فقل : وإن جحد حقّا وادّعى باطلا فانزل عليه حسبانا من السماء وعذابا أليما ، ثم قال لي : فإنّك لا تلبث أن ترى ذلك فيه ، فو الله ما وجدت خلقا يجيبني إليه».

أقول : يستفاد من الرواية أنّ تفسير اولي الأمر بالأئمة المعصومين عليهم‌السلام إنّما هو من التفسير بالمصداق الواقعيّ الحقيقيّ المنحصر فيهم ، وكذا في آية المودّة ، ولذلك أنّ الإمام عليه‌السلام دعاهم إلى المباهلة .. وإنّما لم يجب أحد منهم.

وفي كتاب الغيبة للنعماني بإسناده عن سليم بن قيس الهلالي ، عن علي عليه‌السلام قال : «كنت أنا ادخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كلّ يوم دخلة وكلّ ليلة دخلة ، يخليني فيها ، وقد علم أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه لم يكن يصنع ذلك بأحد غيري ، وكنت إذا سألت أجابني وإذا سكتّ ابتدأني ، ودعا الله أن يحفظني ويفهمني فما نسيت شيئا أبدا منذ دعاني ، وإنّي قلت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا نبي الله ، إنّك منذ دعوت لي بما دعوت لم انس شيئا ممّا تعلّمني ، فلم تمليه عليّ؟ ولم تأمرني بكتبه؟ أتتخوف عليّ النسيان؟! فقال : يا أخي ، لست أتخوف عليك النسيان ولا الجهل ، وقد أخبرني الله عزوجل أنّه قد استجاب لي فيك وفي شركائك الذين يكونون من بعد ذلك ، فإنّما تكتبه لهم ، قلت : يا رسول الله ، ومن شركائي؟ فقال : الذين قرنهم الله بنفسه وبي فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) ، قلت : يا نبيّ الله ، ومن هم؟ قال : الأوصياء إلى أن يردوا عليّ حوضي ، كلّهم هاد مهتد لا يضرّهم خذلان من خذلهم ، هم مع القرآن

٣٣٤

والقرآن معهم لا يفارقونه ولا يفارقهم ، بهم تنصر امتي ويمطرون ويرفع عنهم مستجابات دعواتهم ، قلت : يا رسول الله ، سمهم لي ، فقال : ابني هذا ، ووضع يده على رأس الحسن عليه‌السلام ، ثم ابني هذا ، ووضع يده على رأس الحسين عليه‌السلام ، ثم ابن له اسمه اسمك يا علي ، ثم ابن علي اسمه محمد بن علي ، ثم أقبل على الحسين فقال : سيولد محمد بن علي في حياتك ، فأقرأه مني السّلام ، ثم تكمله اثني عشر إماما ، قلت : يا نبيّ الله ، سمّهم لي : فسماّهم رجلا رجلا منهم ، والله يا أخا بني هلال ، مهدي أمة محمد يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا».

أقول : يستفاد من هذه الرواية امور :

الأول : منزلة عليّ عليه‌السلام عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومحبّته صلى‌الله‌عليه‌وآله له.

الثاني : استجابة دعاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حقّ عليّ عليه‌السلام بعدم النسيان في الأمور الخارجيّة التي لا تنافي العصمة.

الثالث : تعليم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله له ما أفاض الله عليه ، وفي الحديث : «علّمني رسول الله ألف باب يفتح من كلّ باب ألف باب».

الرابع : يستفاد منها أنّه تعرف الإمامة بالوصية التي كتبها عليّ بإملاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّها موجودة عندهم ، يعطيها كلّ إمام لمن بعده ، كما تقدّم في الروايات السابقة.

الخامس : مقارنة طاعة الأئمة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما تقدّم في التفسير.

السادس : أنّ الأوصياء يمتازون عن سائر الخلق بصفات خاصّة ، كانقطاعهم إلى الله عزوجل وهداية الناس إليه تعالى ، وملازمتهم مع القرآن ، وأهليّتهم لإفاضة منه سبحانه وتعالى عليهم ، وغيرها من الصفات الكثيرة.

السابع : يستفاد منها أنّه لا بد من تحقيق الغاية المنشودة والهدف الذي من أجله بعثت الأنبياء وتحمّلوا المتاعب والمشاق ، وهو العدل الحقيقيّ والتجلّي الأعظم على هذه البسيطة بظهور مهدي هذه الامة (عجل الله تعالى فرجه الشريف).

٣٣٥

وفي تفسير العياشي : عن عبد الله بن عجلان ، عن أبي جعفر عليه‌السلام في قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) ، قال : «هي في عليّ وفي الأئمة ، جعلهم الله في مواضع الأنبياء ، غير أنّهم لا يحلّون شيئا ولا يحرّمونه».

أقول : تقدّم ما يتعلّق بذلك في التفسير ، وذكرنا أنّ التشريع مختصّ بالله ورسوله ، وأنّ الأئمة عليهم‌السلام مهمتهم تبليغ الأحكام وهداية الناس إلى الرشاد والصلاح.

وعن مجاهد في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) يعني : الذين صدقوا بالتوحيد ، (أَطِيعُوا اللهَ) يعني : في فرائضه ، (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) يعني : في سنّته ، (وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) ، قال : نزلت في أمير المؤمنين عليه‌السلام حين خلّفه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالمدينة ، فقال : تخلّفني على النساء والصبيان؟ فقال : أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى حين قال له : اخلفني في قومي وأصلح. فقال الله : (وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) ، قال عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام : ولاه الله الأمر بعد محمد في حياته حين خلّفه رسول الله بالمدينة ، فأمر الله العباد بطاعته وترك خلافه».

أقول : الروايات في مضمون ذلك كثيرة ، وتقدّم في التفسير أنّ ولي الأمر منحصر في الأئمة عليهم‌السلام.

وفي تفسير العياشي بإسناده عن أبي بصير ، عن أبي جعفر عليه‌السلام : «أنّه سأله عن قول الله تعالى : (أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ) قال : نزلت في عليّ بن أبي طالب قلت : إنّ الناس يقولون : فما منعه أن يسمّي عليّا وأهل بيته في كتابه؟ فقال أبو جعفر : قولوا لهم إنّ الله أنزل على رسوله الصلاة ولم يسمّ ثلاثا ولا أربعا حتّى كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هو الذي يفسّر ذلك ، وأنزل الحجّ فلم ينزل : طوفوا سبعا ، حتّى فسّر لهم ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنزل : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) ، فنزلت في عليّ والحسن والحسين ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أوصيكم بكتاب الله وأهل بيتي ، إنّي سألت الله أن لا يفرّق بينهما حتّى يوردهما عليّ الحوض ، فأعطاني ذلك».

٣٣٦

أقول : يستفاد من هذه الرواية أنّ تفسير النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بما أوحاه إليه سبحانه وتعالى له أهمية خاصّة ، ونحو تأكيد على المسلمين ، وتقدّم أنّ الحكمة الإلهيّة اقتضت أن تكون الآية المباركة كذلك ، وأنّ المصلحة العامّة تثبت ذلك.

وقد نقل الجمهور في تفاسيرهم روايات كثيرة وقصصا متنوّعة ، ولكن جميعها من باب التطبيق من الرواة في ظروف خاصّة ، ولذا رأينا أنّ الأجدر ترك التعرّض لها والمناقشة فيها ، ومن شاء فليرجع إلى الدرّ المنثور وغيره.

وفي أسباب النزول في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) عن ابن عباس في رواية باذان : «بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خالد بن الوليد في سرية إلى حي من أحياء العرب ، وكان معه عمّار بن ياسر ، فسار خالد حتّى إذا دنا من القوم عرس لكي يصبحهم ، فأتاهم النذير فهربوا غير رجل قد كان أسلم فأمر أهله أن يتأهّبوا للمسير ، ثم انطلق حتّى أتى عسكر خالد ودخل على عمّار ، فقال : يا أبا اليقظان إنّي منكم ، وإنّ قومي لما سمعوا بكم هربوا ، وأقمت لإسلامي ، أفنافعي ذلك ، أم اهرب كما هرب قومي؟ فقال : أقم ، فإنّ ذلك نافعك ، وانصرف الرجل إلى أهله وأمرهم بالمقام وأصبح خالد فأغار على القوم فلم يجد غير ذلك الرجل ، فأخذه وأخذ ماله فأتاه عمّار فقال له : خلّ سبيل الرجل فإنّه مسلم وقد كنت أمنته وأمرته بالمقام ، فقال خالد : أنت تجير عليّ وأنا الأمير؟! فقال : نعم ، أنا أجير عليك وأنت الأمير ، فكان في ذلك بينهما كلام ، فانصرفوا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فأخبروه خبر الرجل فأمّنه النبيّ وأجاز أمان عمّار ، ونهاه أن يجير بعد ذلك على أمير بغير إذنه ، قال : واستب عمّار وخالد بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأغلظ عمار لخالد ، فغضب خالد وقال : يا رسول الله ، أتدع هذا العبد يشتمني؟! فو الله لو لا أنت ما شتمني ، وكان عمّار مولى لهشام بن المغيرة ـ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا خالد ، كف عن عمار ، فإنّه من يسبّ عمارا يسبّه الله ، ومن يبغض عمّارا يبغضه الله. فقام عمار فتبعه خالد فأخذ

٣٣٧

بثوبه وسأله أن يرضى عنه فرضي عنه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية وأمر بطاعة اولي الأمر».

أقول : على فرض صحّة الرواية ، تقدّم في التفسير أنّ طاعة اولي الأمر في معصية الخالق لا يجوز عقلا وشرعا ، فعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كما في الدرّ المنثور : «لا طاعة لبشر في معصية الخالق» ، أو : «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» ، وغيرهما من الروايات المتواترة بين المسلمين ، فلا وقع لعتاب خالد أصلا ؛ ولذا أمضى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فعل عمار ، وأما نهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لعمّار ، فهو إرشادي في غير معصية الخالق لبعض المصالح ، وتقدّم في التفسير أنّ المراد من اولي الأمر من له أهليّة الإطاعة بإفاضة من الله تعالى ، أي : المعصوم عن الخطأ ، فلا ينطبق على أمراء السرايا وغيرهم ، ويستفاد من الرواية شأن عمار عند الله تعالى وعند رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأما نزول الآية الشريفة ، فلا يدلّ على تعيين مصداق اولي الأمر في المورد إلا بعد تعيين النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله له ، ويحتمل أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عيّن عمارا أميرا للسرية في الواقع ولم يظهره لأجل مصلحة يراها.

وكيف كان ، فالرواية لا تدلّ على وجوب طاعة غير الأئمة المعصومين عليهم‌السلام ، أي غير اولي الأمر من آل محمد ، كما عن جابر ومرّ في التفسير.

بحث عرفاني :

لا شكّ في أنّ تقرّب الإنسان إلى خالقه ومبدئه هو من أسمى الكمالات وأجلّها ، بل هو نتيجة جهد الأنبياء والأولياء ، به تطمئن النفوس وتستقرّ وتحصل السعادة في عالم الشهادة وسائر العوالم ، وبه يذوق الإنسان لذّة الحضور في ساحة المعشوق ، وإنّما خلقت الدنيا لأجل ذلك ، قال تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [سورة الذاريات ، الآية : ٥٦] ، ويدلّ على ذلك الأدلّة العقليّة والنقليّة.

٣٣٨

ولكن للتقرّب إليه جلّت عظمته درجات متفاوتة وعرض عريض ، وأنواع كثيرة تختلف حسب المقامات والاستعدادات بل الاعتقادات ؛ لأنّ الذات غير متناهيّة وكذلك الصفات ، فالتقرّب إليه يكون كذلك ، فلا يمكن تحديده.

وإنّ التقرّب إليه سبحانه وتعالى لا يختصّ بالإنسان ، فكلّ موجود ما سواه يسعى للتقرّب إليه جلّت عظمته ، قال تعالى : (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) [سورة الاسراء ، الآية : ٤٤] ، وقد أثبت الفلاسفة الإلهيّون أنّ قوام العالم ـ بكلّياته وجزئياته العلويّ منه أو السفلي ـ وسيره الاستكمالي يدور مدار العشق لمظهر الأحديّة ، وهذا العشق قد يكون تكوينيّا ، وقد يحصل بالاختيار من الإشراق منه في الإنسان ؛ لأنّ النفس الناطقة في الإنسان ليست من المادّيات المحضة ، بل لها نحو تجرّد قابل للارتباط بعالم الغيب باختياره ؛ ولهذا الارتباط مراتب كثيرة شدّة وضعفا ، ولذا قد يحصل للإنسان بعض مراتب التقرّب إليه تعالى باختياره ثم تزول عنه كذلك ، فيكشف ذلك عن أنّ التقرّب إليه جلّ شأنه لم يكن عن إيمان عميق ، قال تعالى : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) [سورة الفرقان ، الآية : ٢٣].

وسبل التقرّب إليه تعالى والارتباط بعالم الغيب لا بد وأن تفاض منه جلّت عظمته إلينا بالإلهام على العقول البريئة عن المستلذّات والشهوات وتقرير الأنبياء والأولياء ، وإلا لم تحصل تلك الغاية المنشودة والهدف الأسمى من خلق الإنسان ، ويكون الإنسان في حيرة من التقرّب إليه دائما ، وقد ثبت في محلّه أنّ بعث الأنبياء واجب عقلي له دخل في نظامي التكوين والتشريع ، وليس ذلك إلا لأجل بيان سبل التقرّب إليه تعالى ، إما بالتقرير ، أو الكشف.

وتلك السبل هي الأحكام الشرعيّة بأقسامها التابعة للمصالح العائدة إلينا والمفاسد التي تضرّنا ، المجعولة ممّن وجب حقّه علينا ؛ ولذا تكون الأحكام

٣٣٩

أمانات منه تعالى عندنا ، لا بد من مراعاتها وردّها إلى أهلها وإنّما جعلت لأجل ارتباط الإنسان معه جلّ شأنه ، ولا يحصل هذا الارتباط لو تخلّف أحد عن تلك الأحكام ولم يؤد حقّها ، ويدور التقرّب مدار الانقياد الذي يحصل من العمل بها وحفظها عن الضياع وردّها إلى أهلها من غير شكوك ولا عتاب ، والآية الشريفة : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) تؤكّد سبل التقرّب إليه جلّ شأنه وتبيّن للعبد مصاديقها ، وذيل الآية المباركة : (ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) يدلّ على أنّ غير ذلك من السبل الباطل له التي لا يحصل بها التقرّب إليه تعالى.

بحث كلامي :

استدلّ الإماميّة بقوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) على الامامة الأئمة عليهم‌السلام وخلافتهم بعد الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقالوا : إنّ الآية المباركة تدلّ على امور مهمّة :

الأول : عصمة اولي الأمر ، حيث قرن طاعتهم بطاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله المطلقة غير المشروطة بشيء وقد اعترف جمع غفير من الجماعة على هذا الأمر لظاهر الآية الشريفة ، لكنّهم اختلفوا في تعيين مصداق اولي الأمر كما عرفت في التفسير ، وذكرنا أنّ المراد من اولي الأمر هم الأئمة المعصومون عليهم‌السلام.

الثاني : ان اولي الأمر أعلم الامة بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّ من فرض طاعته لا بد أن يكون عالما بجميع الأحكام وجهات التشريع.

الثالث : أنّ اولي الأمر هم أفراد من هذه الامة معلومون ، إلا أنّ معرفتهم لا بد أن تكون بنصّ جليّ من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يبيّن أسماءهم وخصائصهم.

الرابع : أصالة منصب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ونيابة منصب الإمام عليه‌السلام وولي الأمر وخلافته عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

٣٤٠