مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٨

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٨

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٣
ISBN: 946-5665-07-8
الصفحات: ٣٩٧

السابق بعد النضج ، فالمراد من الغير الوارد فيهما الغير في نفس الجلد وذاته ، لا في ما يتعلّق به من الصفات ؛ لأنّ في ذلك نوعا من الإعجاز ، فلا مجال لدعوى الإطلاق.

وفي الفقيه : قال : «سئل الصادق عليه‌السلام عن قول الله عزوجل : (لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ)؟ قال : الأزواج المطهّرة لا يحضن ولا يحدثن».

أقول : هذا من باب ذكر بعض الصفات ، كما تقدّم في التفسير.

وهناك روايات ذكرها الواحدي في أسباب النزول ، تدلّ على أنّ الآيات المباركة نزلت في شأن جماعة من اليهود وغيرها من الأشخاص ، وتقدّم منّا مكرّرا أنّ ذلك من باب التطبيق لا التخصيص.

وفي الدرّ المنثور في قوله تعالى : (وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلاً) ، هو ظلّ العرش الذي لا يزول.

أقول : هذا تفسير بأجلى المصاديق ، كما مرّ في التفسير.

٣٠١

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (٥٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٥٩))

الآيتان الشريفتان من أهمّ الآيات القرآنيّة التي تبيّن دستور الحياة للمؤمنين على النهج الربانيّ الحكيم ، وترشدهم الى بعض الأمهات من الأعمال الصالحة التي يقوم بها نظام معاشهم ومعادهم ، كما أنّهما تتضمّنان أعظم الأحكام التي تقرّر مصير المجتمع الإسلامي وتهديهم الى نظام وثيق تتفق فيه العقيدة مع العمل ، وتنتظم به علاقات أفراد المجتمع بعضهم مع بعض ، وعلاقاتهم مع خالقهم مثل الأمر بحفظ الأمانة والحكم بالعدل ، اللذين هما أساس كلّ نظام قويم صالح.

والآية المباركة مع ايجازها البليغ تشتمل على التوجيه العقائدي للمؤمنين في تنظيم العقيدة مع الله تعالى ، وتهديهم الى إصلاح علاقات المجتمع الإسلامي وفق دستور متين ، يحفظ فيه كلّ العهود والمواثيق. كما تقرّر جانبا من المعاملات التي تستقيم بها الحياة الاجتماعيّة.

فهي توجيهات ترتبط فيها العقيدة مع العمل ارتباطا وثيقا ، فلم تهمل جانبا ، فكانت الإطاعة التي أمر الله تعالى المؤمنين بها هي مجمع تلك التوجيهات القويمة والعقيدة الصحيحة التي لها الأثر الكبير في إصلاح الفرد والمجتمع ، فإنّ إطاعة الله تعالى والرسول وأولي الأمر برزت في حفظ الأمانة ، بل هي الطريق الأمثل لتأديتها الى أهلها ، وسيأتي في الآيات التالية نماذج متعدّدة من التوجيهات التي تشرح هذه التعاليم وتطهّر النفوس من الخيانة والخبث والنفاق ، وتجلب لها السعادة وتصلح بها النظام.

٣٠٢

وفي هذه الآيات المباركة تبرز بوضوح نظرية الإسلام التربويّة التي تشتمل على العقيدة والعمل ، وتتضمّن دستور الإسلام الخالد في النظام الدنيويّ والاخروي ، وإنّما أدرج سبحانه وتعالى هاتين الآيتين على أهميتهما في ضمن الآيات ؛ لأنّها تضمّنت الحديث عن الكافرين ولا سيما اليهود ، ليقرّر مضمونها تقريرا متينا بأحسن وجه ويبيّن حقيقة الإيمان الصحيح عن الإيمان الادعائي الكاذب الذي يدّعيه أهل الكتاب ، ويرشد المؤمنين الى نبذ ما عليه الكافرون من رذائل الأخلاق ، والرجوع الى تعاليم القرآن الكريم.

التفسير

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها)

بيان الهي يتضمّن دستورا ربانيّا لجميع أفراد الإنسان به ، ينتظم نظامهم الدنيويّ والاخرويّ. والخطاب عامّ يشمل جميع المؤمنين وغيرهم ؛ لأنّ مضمونه ممّا تحكم فطرة العقول بحسنه.

والأمانات : جمع الأمانة ، اسم مصدر سمّي به المفعول ، وأداء الأمانة : إرجاعها الى صاحبها.

والآية المباركة عامّة تشمل كلّ أمانة على الإطلاق ، سواء كانت خالقية أم خلقية ، ولكن المهمّ منها التي تتعلّق بها سائر الأمانات وتتنظم هي الأمانة المتعلّقة بحقوق الله تعالى ، وأهمّها عبادته عزوجل وحده بلا شريك ، والإيمان به وبرسله والتحاكم الى شريعته ، واتخاذ دينه منهجا في الحياة ، فإذا تمّ ذلك وأديت تلك الأمانة بحذافيرها ، انتظمت سائر الأمانات وأديت الى أهلها تلقائيا ؛ لأنّ بأداء الأمانة الكبرى يستشعر الإنسان بتقوى الله تعالى وتتحدّد مسئوليته اتجاه سائر الأمانات ، فيكون مسئولا عن أدائها ، ويكون مراعيا لحقوق الآخرين الذين أمرنا الله تعالى بمراعاة حقوقهم في الآيات السابقة ، وإلا خرج عن أداء الأمانة الكبرى.

٣٠٣

بل يمكن أن يقال : إنّ كلمة «أهلها» تدلّ على أنّه لا بد أن يكون المؤدّى إليه الأمانة له أهليّة الأمانة ، فتختصّ الآية الشريفة بأداء الأمانة لله تعالى ورسله وأنبيائه العظام والأوصياء الأكرمين ، فإنّ لهم أهليّة أداء الأمانة ، وأما غيرهم فيكون ردّ أمانتهم لردّ أمانة أولئك المتقدّمين ، ويشهد لذلك تعقيب هذه الآية الكريمة بالحكم بالحقّ ، الذي هو حقّ إلهي وإطاعة الله والرسول واولي الأمر منكم ، فإنّه من باب التطبيق لتلك الأمانة التي أمرنا بأدائها الى أهلها.

والآية المباركة على ايجازها البليغ تشتمل على معان كثيرة دقيقة ، لا بد من الالتفات إليها ، فإنّها أوّلا نصّ عقائدي توجيهيّ بأداء الأمانة الكبرى ، وهي عبادة الله الواحد المتفرّد بالالوهيّة والحاكميّة المطلقة التي قرّرتها الآية الكريمة اللاحقة.

ثم هي تتضمّن دستورا عمليّا مرتبطا بالعقيدة ، وهو تنظيم علاقات أفراد المجتمع الإسلامي على طبق الأمانة الكبرى ، وتنظيم علاقات الفرد مع خالقه.

وثانيا : أنّ الآية الشريفة تدلّ على أداء الأمانة الى من له أهليّة الأداء إليه ، وهو تارة : يكون من له الأهليّة الحقيقيّة الذاتيّة ، وهي تختصّ بالأمانة الكبرى واولى الأمانات التي يتعلّق بها سائر الأمانات ويجب أن تؤدى الى الله تعالى ، وهي تنحل الى الإيمان بأنّه إله واحد لا شريك له المتفرّد بالالوهيّة وله الحاكميّة المطلقة والربوبيّة العظمى ، وتنحصر الطاعة الحقيقية له عزوجل ، وهذا هو الذي تحدّث عنه تعالى في الآيات السابقة ، نظير قوله تعالى : (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) [سورة النساء ، الآية : ٣٦] ، وقوله تعالى الذي بدأت هذه السورة به : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [سورة النساء ، الآية : ١] ، وسيأتي موارد في الآيات التالية بيان ذلك.

٣٠٤

واخرى : تكون له أهليّة الإفاضة من الله تعالى ، وهم الأنبياء والمرسلون والأولياء ، الذين أفاض الله سبحانه وتعالى عليهم الولاية وجعلهم أنبياء ورسلا وأوصياء لتأدية الأمانة الملقاة على عاتقهم ، وهي الأحكام الإلهيّة والمعارف الربوبيّة ، وتأدية الأمانة الى هؤلاء إنّما تكون بالإيمان بهم والعمل بما انزل عليهم ، وسيأتي في الآية التالية بيان بعض المصاديق لهذا القسم ، قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [سورة النساء ، الآية : ٥٩].

وثالثة : الأهليّة المكتسبة ، وفي الدائرة بين الناس التي يقوم عليها نظام المعاش ويدور عليها صلاح الاجتماع والمدنيّة الكاملة الهادئة.

وفي الآيات التالية في هذه السورة مجموعة من التوجيهات والأحكام والتشريعات التي تبيّن مصاديق لهذه الأقسام الثلاثة ، وقد اجتمعت في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) [سورة النساء ، الآية : ١٣٥] ، وغيرها من الآيات الشريفة التي تبيّن هذه الآية المباركة وتوضيحها توضيحا كاملا في ضمن أمثلة في ثنايا هذه السورة وغيرها ، التي تكون معينة لفهم هذه التكاليف ، فيسهل عليه حمل التكاليف الاخرى ، كما تمدّه بزاد ليتلقّى به حمل تكاليف جديدة ، والتي تبيّن من يكون أهلا لأداء الأمانة إليهم.

وثالثا : أنّ هذه الآية الكريمة تنتظم علاقات الإنسان مع خالقه العظيم ، كما تنظم علاقات أفراد المجتمع الإنسانى ، ولا سيما الإسلامي.

ورابعا : أنّ هذه الآية تؤدّي أكثر من مهمّة بالنسبة الى الإنسان ، فهي

٣٠٥

المنهج الذي تستقيم به الحياة ، وتطهّر القلب من الخيانة وتصلح النفس ، وهي التي توازن بين جذب الشهوات ودفع النفس الأمّارة وهدوء العقل وإمساكه عن الوقوع في الموبقات والمهلكات.

وممّا ذكرنا يظهر أنّ ما ذكروه في شأن نزول هذه الآية الشريفة على فرض صحّته ، لا يمكن أن يكون مقيّدا لعمومها الشامل لكلّ أمانة ـ معنويّة وماديّة وأخلاقيّة وغيرها ـ على حدّ سواء ، ومنها الأمانة الملقاة على عاتق العلماء الأمناء لتأدية تلك الأمانة وتبليغها الى الناس من دون تحريف وخيانة وكتمان ، وسيأتي في البحث الروائي ما يتعلّق بذلك.

ولأجل تضمّن الآية الشريفة المعاني الدقيقة ، فقد اشتملت الآية الكريمة على امور تدلّ على عظمة الحكم والاعتناء بشأنه اعتناء بليغا ، كتصدير الكلام ب : (إن) الدالّة على التحقيق ، وإظهار الاسم الجليل وإيراد الأمر على صورة الإخبار (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ) من الفخامة ، وتأكيد وجوب الامتثال ، وإلقاء الخطاب بصورة التعميم ، وغير ذلك ممّا لا يخفى على من تدبّر في الآية الشريفة ، ولعلّ ما ورد في السنّة من التأكيد على أداء الأمانة مقتبس من هذه الآية المباركة ، ففي الحديث عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا إيمان لمن لا أمانة له» ، وسيأتي في البحث الروائي نقل بعض الروايات.

قوله تعالى : (وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ)

بيان لبعض مصاديق الأمانة الكبرى ، بل يمكن أن يقال : إنّ أداء الأمانة الكبرى نحو الله جلّ جلاله ، لا يتمّ إلا بالتحكيم الى ما أنزل الله تعالى ، فإنّ أداء الأمانة الحقيقيّة الكبرى ، ليس مجرّد إيمان قلبي ، بل لا بد من إبرازه وإظهاره في مجال التطبيق ، وهو العمل بما أنزله الله تعالى ، الذي أعطى لكلّ ذي حقّ حقّه ، فالتحاكم الى الله والإقرار له بالحاكميّة المطلقة ، تطبيق عملي للعبوديّة ، وإبراز العدل الإلهي ، فإنّ الحكم بين الناس من المناصب الإلهيّة التي وضعها عزوجل

٣٠٦

على الناس وحثّهم عليها ، فلا بد أن يكون الحكم بالعدل هو الذي أراده عزوجل وأمر به في مواضع متعدّدة من القرآن الكريم ، وقد بيّن هنا الأهل الذي لا بد من أداء الأمانة إليه وهم الناس جميعا.

وإنّما ذكر عزوجل هذه الأمانة لأهميتها البالغة في حياة الناس ، وهي التي تتكلّف تطبيق النظام الأحسن المشتمل على العدل الربانيّ بمستوى جميع أفراد الإنسان كلّهم ، لا في محيط ضيق ، والحكم بالعدل هو الحكم لشريعة الله تعالى التي أنزلها على أنبيائه العظام ، ولقد جمعت هذه الأمانة جميع الأمانات الثلاث المتقدّمة ، الأمانة الكبرى وهي الحكم بالعدل الذي هو منصب إلهي ، والتطبيق العملي للإيمان بالله تعالى وعبادته ، والطاعة له عزوجل.

وفي هذه الأمانة يتحقّق تصديق الأنبياء في ما بلّغوه من الأحكام الإلهيّة ، كما أنّ فيها يعمّ العدل على مستوى البشرية ليسود النظام ويصل كلّ ذي حقّ الى حقّه.

ثم إنّ إطلاق الآية الشريفة يشمل كلّ أنواع الحكم ، سواء كان عن ولاية عامّة أم خاصّة والتحكيم الذي يرجع إليه المتخاصمين وغير ذلك ، لكن يجب أن يكون الحكم بالعدل ، وهو المأمور به في عدّة آيات اخرى قال تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) [سورة النحل ، الآية : ٩٠] ، وقوله تعالى : (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [سورة المائدة ، الآية : ٨] ، وقال تعالى : (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ) [سورة الحجرات ، الآية : ٩] ، وقال تعالى : (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا) [سورة الانعام ، الآية : ١٥٢] ، وهو يدلّ على عظم شأنه.

والعدل معروف يطلبه كلّ ذي شعور ، ولعلّه لوضوحه لم يذكر سبحانه وتعالى في القرآن الكريم الا ما يكون تطبيقا عمليّا له ، وأما المفهوم فقد أوكله الى الفطرة لوضوحه ، ويرشد الى ذلك أنّ الأمر بالعدل مطلقا ورد في آيات السور المكية قبل بيان الأحكام الشرعيّة.

٣٠٧

وكيف كان ، فهو لا يتحقّق إلا بإجراء أحكام الشرع المبين لقصور العقول عن درك كثير من المصالح ، وقد ذكر جلّ شأنه في القرآن الكريم موارد كثيرة من تطبيقات العدل ، وفي السنّة الشريفة ما بيّنه بيانا واضحا شافيا ، ولا بد وأن يكون العدل ظاهرا في جميع خصوصيات الحكم من القول والفعل والخلق والحكم.

وإنّما ذكر عزوجل الحكم بالعدل بعد الأمر بأداء الأمانة لما ذكرناه آنفا ، ولأنّ الاحتياج الى الحكم بالعدل إنّما يكون بعد تخلّف أداء الأمانة وثبوت الخيانة في الناس ، فيستلزم الرجوع الى الحاكم الذي لا بد أن يكون أمينا في إجراء الحكم وبسط العدل بين الناس ، ولنا أن نقول : إنّ الرجوع الى الحكم بالعدل لا يكون في الامة التي يراعي أفرادها حقوق الآخرين ، وإنّما العدل هو مراعاة الأمانة وأداءها الى أهلها.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ)

جملة مستأنفة مقرّرة لمضمون ما قبلها ، وإنّما تصدّرت باسم الجلالة للترغيب والترهيب ، و (نعمّا) أصله (نعم ما) ، والجملة مركبة من المبتدأ ، وهو اسم (ان) ، والخبر وهو جملة (نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ).

وهذه الجملة باسلوبها البديع وسياقها الجذّاب تدلّ على الأهميّة العظيمة البالغة التي أعطاها عزوجل لأداء الأمانة الى أهلها والحكم بين الناس بالعدل ، فإنّهما الخير العظيم ، ولذا كانت لائقة أن تجعل خبرا للفظ الجلالة ، كما تدلّ الجملة على مزيد اللطف بالمخاطبين وحسن استدعائهم الى الامتثال ، بعد ما نبّههم على أنّ ما ورد في الآية المباركة هو من الموعظة الحسنة والخير العظيم في الدارين.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً)

أي : أنّ الله تعالى لا يخفى عليه جميع أقوالكم وأفعالكم ونيّاتكم ، وفيه وعد للمطيعين ووعيد للعاصين الذين خالفوا الأحكام الإلهيّة وخانوا الأمانة الربانيّة.

٣٠٨

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ)

بيان لأساس الشرائع الإلهيّة والأحكام الربوبيّة ؛ لأنّ الطاعة محور كلّ تكليف إلهي وقانون وضعي ، فلا فائدة في تشريع لا تطبيق فيه.

والآية المباركة تفصيل لما أجمله عزوجل في الآية الكريمة السابقة ، فإنّه بعد ما أمر الناس بأداء الأمانة والحكومة بالعدل ، بيّن سبحانه وتعالى في هذه الآية الشريفة أنّ الطريق لذلك إنّما يتمّ بطاعة الله وطاعة الرسول واولي الأمر منكم ، ثمّ ردّ المتنازع فيه الى الله تعالى والرسول ، فالجملة كما أنّها بيان لما ورد في الآية السابقة ، تمهيد وتوطئة للأمر بردّ المتنازع فيه الى الله عزوجل ورسوله.

والطاعة هي الالتزام مع العمل ، وطاعة الله هي الإيمان به وبدينه الحقّ والعمل بأحكامه وشريعته التي أنزلها على رسوله الأمين.

وأما طاعة رسوله ، فلأنّه المبعوث لتبليغ أحكام الله تعالى والمأمور لبيان كتابه الحقّ ، فلأنّه لا ينطق عن الهوى.

فكانت طاعة الله تعالى واجبة بالذات ؛ لأنّ له الطاعة المطلقة والحاكميّة التامّة. وأما طاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهي وإن كانت واجبة بالذات أيضا ؛ لأنّ الله تعالى أمره بتبليغ الأحكام وبيان الكتاب ، قال تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) [سورة النحل ، الآية : ٤٤] ، وجعل له الولاية العامّة والحكومة بين الناس والقضاء والفصل بينهم بما يراه من المصلحة وما ألهمه الله تعالى من صواب الرأي ، قال تعالى : (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) [سورة النساء ، الآية : ١٠٥] ، إلا أنّها إضافية من قبله جلّ شأنه.

وممّا ذكرنا يظهر أنّ طاعة الله تعالى وطاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله واجبتان بالذات ، فيجب إطاعتهم في كلّ ما يأمرون به وينهون عنه ، بوصفهم أنّ لهم سلطة تطاع لذاتها ، إلا أنّه تفترق الثانية عن الاولى بأنّها مستندة إلى الله تعالى ، وأنّها إفاضيّة من قبل الله قال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ) [سورة

٣٠٩

النساء ، الآية : ٦٤] ، ويكون إطاعته إطاعة لله تعالى ، قال سبحانه : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) [سورة النساء ، الآية : ٨٠] ، فتختلف الطاعتان من هذه الجهة ، ولعله لذلك كرّر سبحانه وتعالى الفعل في الآية الشريفة لبيان الاختلاف بينهما من هذه الجهة ، لا لما ذكره بعض المفسّرين من أنّ التكرار إنّما هو للتأكيد ، فإنّ ذلك خلاف الظاهر ؛ ولأنّ التأكيد قد يتأتّى من دون تكرار وبحذف الفعل ، فيقال (وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) ، فيفهم منه أنّ طاعة الرسول من طاعة الله تعالى وأنّهما واحدة ولهما الطاعة المطلقة غير المشروطة بشيء.

ومن ذلك يستفاد عصمة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأنّ الأمر بطاعته المطلقة يقتضي أن لا يكون حكمه مخالفا لما أراده الله تعالى ، وإلا كان فرض طاعته تناقضا واضحا ، وهذا لا يتمّ إلا بعصمتهم.

قوله تعالى : (وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)

عطف على ما قبلها ، والظاهر من سياق الآية المباركة ـ حيث قرن طاعتهم بطاعة الله وطاعة الرسول ـ أنّ طاعتهم ملحقة بطاعتهما ، فلا بد أن تكون طاعتهم في حدود ما أمر الله تعالى ورسوله ، فليس لهم نصيب من الوحي والتشريع ، وإنّما شأنهم تفسير ما أنزله الله تعالى ، ويدلّ على ما ذكرناه أنّه لا بد من الردّ على الله والرسول عند التنازع والمشاجرة ، فهما وحدهما المرجع الذي يرجع إليه في كلّ الأمور ، والخطاب للمؤمنين الذين يقع بينهم التنازع ، فيجب عليهم الردّ لا التنازع بين اولي الأمر والمؤمنين ، كما ذكره بعض المفسّرين ، فإنّه لا معنى له مع افتراض طاعة ولي الأمر.

وكيف كان ، فليس لأولي الأمر من التشريع ، ولا وضع حكم جديد ، ولا نسخ حكم ثابت في الكتاب والسنّة ، فإنّ الله تعالى نفى عنهم هذا التصرّف بالرجوع الى الله والرسول عند التنازع ، فيكون أولو الأمر شرّاحا للكتاب والسنّة ومبيّنين لما ورد فيهما ، بمقتضى ثبوت الولاية لهم وما ألهمهم الله تعالى من

٣١٠

الذهن الثاقب ، فلهم أن يكشفوا عن حكم الله ورسوله في القضايا والموضوعات العامّة.

واولوا الأمر اسم جمع يدلّ على كثرة التلبّس بهذا العنوان ، وهو يتصوّر على وجهين :

الأول : أن يكونوا آحادا يتلبّس كلّ واحد بهذا العنوان ، لكون مفترض الطاعة واحدا منهم بعد واحد ، فينسب افتراض الطاعة الى جميعهم بحسب اللفظ والأخذ بجامع المعنى ، ونظير ذلك مثل قولنا : صل قربائك وأطع ساداتك ، ونحو ذلك.

واعترض بعض المفسّرين على هذا بأنّه يوجب حمل الجمع على المفرد ، وهو خلاف الظاهر.

ويردّ عليه أنّ ما هو خلاف الظاهر في حمل الجمع على المفرد أن يطلق لفظ الجمع ويراد به واحد من آحاد ، فإنّه يحتاج الى عناية زائدة ، وأما حمل الجمع على الأفراد على سبيل انحلال الحكم الى أحكام متعدّدة حسب تعدّد الآحاد ، فهو صحيح ، بل واقع في القرآن الكريم والسنّة الشريفة وكلام الفصحاء ، قال تعالى : (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) [سورة الحجر ، الآية : ٢٣٨] ، وقال تعالى : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٣٨] ، وقال تعالى : (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) [سورة القلم ، الآية : ٨] ، وقال تعالى : (وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ) [سورة الشعراء ، الآية : ١٥١] ، وغير ذلك ممّا هو كثير لا سيما في تشريع الأحكام.

الثاني : أن يكون الجمع من حيث هو جمع ، أي الهيئة الحاصلة من عدّة معدودة ، كلّ واحد من اولي الأمر وصاحب نفوذ في الناس وذو تأثير في أمورهم ، مثل رؤساء الجنود وأمراء السرايا وأولياء الدولة والعلماء وسراة القوم وأهل الحلّ والعقد ، وهم الهيئة الاجتماعيّة كما عن بعض المفسّرين.

٣١١

وهذا الاحتمال لا شاهد له ، بل هو بعيد عن ظاهر الآية الشريفة ، فلا وجه للأخذ به بعد ما استظهرناه من لزوم عصمتهم بحكم إطلاق الطاعة كما مر.

يضاف الى ذلك أنّ افراض طاعة اولي الأمر لأجل أنّهم يمتازون عن سائر أفراد الامة بمميزات خاصّة أهّلتهم لتصدّي هذا المنصب الخطير ـ كما ستعرف ـ لا ما جعلوه هم لأنفسهم.

ثم إنّ الأمر في (أُولِي الْأَمْرِ) يراد به الشأن الراجع الى دين المؤمنين ودنياهم ، كما هو المستفاد من آيات اخرى ؛ لأنّ الإسلام لم يهمل جانبا من جوانب حياتهم ، وقد وردت هذه الكلمة في مواطن اخرى ممّا يؤيّد ذلك ، قال تعالى : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٥٩] ، أي : ما يتعلّق بالموضوعات الخارجيّة ، وقال تعالى في مدح المتقين : (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) [سورة الشورى ، الآية : ٣٨] ، أي : ما يرتبط بالأمور الدنيويّة التي فيها أغراض صحيحة عقلائية ، وقال تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) [سورة الأحزاب ، الآية : ٣٦].

واحتمل بعضهم أن يكون المراد بالأمر ما يقابل النهي.

وفيه : أنّه خلاف ظاهر اللفظ.

و (مِنْكُمْ) يدلّ على أنّ اولي الأمر ليسوا هم ، أيّ ناس يقومون بالحكم ويتسلّطون على الأمر ، أو ينصب نفسه على المسلمين ، بل لا بد أن يكونوا مؤمنين وبالذات أن يكونوا منكم في الأمانة والتقوى ، وإلا لا وجه لطاعتهم ، فإنّ الله تعالى لا يأمر بطاعة من لم يكن من أهل الإيمان ولو تسلّط على المؤمنين جبرا وغصبا ، حتّى يكون (مِنْكُمْ) ظرفا مستقرا ، أي : اولي الأمر الكائنين منكم ، بل أنّ لهذه الكلمة مزيّة خاصّة في المقام ، وهي أنّ اولي الأمر لا يكون بالضرورة فردا خارجا عن أفراد الإنسان ، بل أنّهم منكم ، نظير ما ورد في الرسل ، قال

٣١٢

تعالى : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ) [سورة الجمعة ، الآية : ٢] ، وقال تعالى : (رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي) [سورة الأعراف ، الآية : ٣٥] ، فهم منكم لكن لهم مزيّة خاصّة أهّلتهم لتصدّي هذا المنصب ـ كما ستعرف ـ فلهذه الكلمة في المقام تأثير كبير في نفوس المؤمنين ، بأنّ من يتصدّى لهذا الأمر هو منهم يطمئنون إليه ويرتضون به حاكما عليهم.

وقال بعضهم : إنّ تقييد اولي الأمر بقوله : (مِنْكُمْ) يدلّ على أنّ اولي الأمر منهم إنسان عادي ، وهو من المؤمنين من غير مزيّة وعصمة إلهية.

وفساده واضح ظهر ممّا ذكرناه ، وسيأتي مزيد بيان لذلك.

وكيف كان ، فالآية الشريفة تدلّ على افتراض طاعة اولي الأمر ولم تقيّدها بقيد ولا شرط ، فتكون إطاعتهم كإطاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بمقتضى التشريك وذكر الطاعة لهما معا ، ومن المعلوم أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يأمر بمعصية ولم يكن بوسعه أن يشتبه في حكم أو يغلط فيه ، وهذا ممّا لا ريب فيه ، فلا بد أن يكون اولوا الأمر كذلك ، فلو جاز عليهم ذلك لكان لا بد من تقييد ذلك ، ولو في غير هذه الآية المباركة بأن يقال : أطيعوا اولي الأمر منكم في ما لم يأمروا بمعصية أو لم تعلموا خطاهم ، وإلا فلا طاعة لهم عليكم في المعصية ، أو أنّه يجب عليكم أن تعلّموهم بخطئهم فقوّموهم بالردّ الى الكتاب والسنّة ، كما قيّد سبحانه وتعالى في إطاعة الوالدين في قوله تعالى : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما) [سورة العنكبوت ، الآية : ٨] ، فإذا لم يكن مثل هذا القيد في المقام ، فتكون طاعتهم مطلقة غير مشروطة بشيء ، ويلزم من ذلك اعتبار العصمة في اولي الأمر كما اعتبر في الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، من غير فرق من هذه الجهة بينه وبينهم ، وإن أمكن الفرق من جهة اخرى ، وهي أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله له سلطة التشريع ، بخلاف اولي الأمر ، فإنّ لهم سلطة بيان الشرع والتطبيق وحفظ الشريعة. هذا ما يستفاد من ظاهر الآية الكريمة بانضمام ما ورد في تفسيرها من السنّة الشريفة.

٣١٣

وذكر العلماء والمفسّرون في تفسيرها وجوها اخرى :

الأول : أنّ ظاهر الآية المباركة يدلّ على أنّ الحكم المجعول فيها إنّما هو لمصلحة الامة ، تحفظ به الاجتماع الإسلامي من الخلاف والتشتت والانهيار ، فيعطي لواحد افتراض الطاعة ونفوذ الكلمة ، مثل أنواع الولايات المجعولة بين الأمم ، ولا يتوهّم أحد لزوم عصمتهم في مثل ذلك ، وربّما يعصي الوالي المنصوب وربّما يغلط ، فإذا اتفق ذلك فلا بد من التنبيه فيما أخطأ وعدم الإطاعة في المخالفة للقانون في حكمه ، بل يمكن أن يقال : إنّه ينفذ حكمه وإن كان مخطئا في الواقع ولا يعتنى بخطئه ، فإنّ حفظ وحدة المجتمع والتحرّز من تشتت الكلمة من مصلحة تدارك أغلاطه واشتباهاته ، فطاعة اولي الأمر كطاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بمقتضى الاشتراك ، إلا أنّ وجود العصمة في الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ممّا دلّت عليه الحجج والبراهين ، فاقتضت أن لا يصدر منه الخطأ والغلط والنسيان في الحكم ، دون اولي الأمر ، فلا يجب فيهم العصمة ولا يستلزمها دلالة الآية الشريفة ، فتكون طاعة اولي الأمر واجبة وإن كانوا غير معصومين يجوز عليهم الفسق والعصيان والخطأ ، فإن فسقوا فلا طاعة لهم ، وإن اخطأوا ردّوا الى الكتاب والسنّة إن علم منهم الخطأ ، وإلا فينفذ حكمه ، ولا بأس بالوقوع في المخالفة أحيانا لوجود مصلحة أقوى ، وهي مصلحة حفظ وحدة المجتمع ، نظير ذلك ما ذكره علماء اصول الفقه في حجّية الطرق الظاهريّة ، فإنّها إن خالف مؤدّاها للواقع تتدارك تلك المفسدة بمصلحة السلوك والطريق ، يطرأ عليها تغيير وتبديل تبعا لاختلاف الطريق ، كما يراه من يذهب الى التصويب في الرأي أو السببيّة في الطريق ، والتفصيل يطلب من كتب اصول الفقه ، فراجع كتابنا (تهذيب الأصول).

ويردّ عليه : أنّ ذلك وإن كان صحيحا ، بل هو واقع في الشرع المبين نظير الحجج الظاهرية وحجّية قول المجتهد على مقلّديه ، وجعل أمراء الجيوش والسرايا وفرض طاعتهم ، كما كان ينصبهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وجعل الحكّام والولاة

٣١٤

للذين كان يولّيهم على البلاد ، حيث يتمشّى منهم الخطأن ومع ذلك فرض متابعتهم ، وورد : أنّه : «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» ، فإنّه يمكن تقييد إطلاق الآية الشريفة بالنسبة الى الفسق ، فإن كان ذلك صحيح وقد دلّت عليه أدلّة كثيرة إلا أنّ ذلك لا يوجب صرف ظهور الآية المباركة ، الذي يدلّ على افتراض طاعة اولي الأمر من دون تقييد واشتراط ، كما دلّت على افتراض طاعة الرسول ، ولا شيء من الأدلّة ما يوجب تقييدها ، بحيث يصير معنى الآية الكريمة : (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأطيعوا اولي الأمر فيما لم يأمروا بمعصية أو لم تعلموا خطأهم ، وإلا فلا طاعة لهم عليكم في الصورة الاولى ويجب عليكم تقويمهم وإعلامهم بالخطإ في الصورة الثانية) ، فإنّ ذلك بعيد عن ظاهر الآية الشريفة التي هي في مقام البيان ، فتكون طاعتهم كطاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بمقتضى التشريك وذكر طاعة واحدة لهما ، فلو كان كذلك لوجب بيانه كما بيّن في موارد اخرى أقلّ خطرا وأهمية من المقام ، كما في طاعة الوالدين على ما تقدّم.

الثاني : أن يكون المراد من اولي الأمر هم أهل الحلّ والعقد ، وهم الهيئة الحاصلة من وجوه الامة الذين يديرون أمرها ، كالأمراء والحكّام ورؤساء الجنود وغيرهم والزعماء الذين يرجع إليهم الناس في الحاجات والمصالح العامّة ، فهؤلاء إذا اتفقوا على أمر وحكم يرجع الى صالح الامة وجب عليهم الطاعة لهم بشرط أن يكونوا أمناء ، وأن لا يخالفوا أمر الله ولا سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأن يكونوا مختارين في بحثهم في الأمر واتفاقهم عليه ، بل يمكن أن يقال : إنّ هذه الهيئة معصومون في هذا الإجماع ؛ ولذلك اطلق الأمر بطاعتهم لا شرط.

ويردّ عليه : أنّ دلالة الآية الشريفة على عصمة اولي الأمر صحيح ، وقد اعترف به جمع كثير من العلماء والمفسّرين من الجمهور ، بل كلّ من فسّر الآية المباركة بهذا المعنى لا بد له من القول بالعصمة ، وتقدّم ما يرتبط بذلك ، وسيأتي مزيد بيان في مورده إن شاء الله تعالى.

٣١٥

وكيف كان ، فإنّه يمكن المناقشة في هذا المعنى.

أما أولا : فإنّ عصمة اولي الأمر بهذا المعنى تتصوّر على وجوه :

الأول : أن يكون المتصف بالعصمة جميع أفراد أهل الحلّ والعقد وآحادهم ، أي : أنّ الحكم مترتّب على كلّ فرد فرد ، نظير العامّ الإفرادي المعروف في علم اصول الفقه ، فيكون المجموع معصومين ؛ لأنّه ليس المجموع إلا الآحاد والأفراد.

وفيه : أنّ هذا مجرّد فرض لا مصداق له في الخارج ، فإنّه لم يتحقّق مورد في هذه الامة أن اجتمع فيه أهل الحلّ والعقد وكان جميع الأفراد فيه معصومون ، وهذا ممّا لا ريب فيه ، وإذا كان كذلك فمن المحال أن يأمر الله تعالى بشيء لا مصداق له في الخارج.

الثاني : أن يكون المتّصف للمجموع ما هو مجموع ، أي : أنّ العصمة صفة حقيقيّة قائمة بالهيئة ، نظير العامّ المجموعي في علم الأصول ، فلا تكون الآحاد والأفراد معصومين ، فيجوز عليهم المعصية وإذا صدر حكم منهم مع هذه الحالة فيمكن أن يكون داعيا الى الضلال والمعصية ، بخلاف ما إذا رأته الهيئة ، فإنّ عصمتها تمنع من ذلك.

وفيه : أنّ الهيئة والمجموع أمر اعتباري لا يمكن أن يكون موضوعا لصفة حقيقيّة ، فإنّ الهيئة الاجتماعيّة لأهل الحلّ والعقد لا وجود لها في الخارج إلا الأفراد والآحاد.

الثالث : أن تكون العصمة منحة إلهيّة لهذه الامة تصون هذه الهيئة أن تأمر بالمعصية ، أو أن تقع في الخطأ ، فليست العصمة وصفا لأفراد هذه الهيئة ولا لنفس الهيئة كما عرفت في الوجهين المتقدمين ، بل الله تعالى يصونها عناية منه عزوجل على الامة ، ويدلّ على هذا الحديث المعروف عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا تجتمع امّتي على خطأ» ، نظير ذلك الخير المتواتر المصون عن الكذب ، فإنّ العصمة فيه ليست

٣١٦

وصفا لكلّ واحد من المخبرين ، ولا للهيئة الاجتماعيّة بل أنّ العادة جرت على امتناع الكذب فيه.

ويرد عليه : أنّ كون العصمة التي هي عناية إلهيّة لهذه الهيئة أمر مشكوك فيه ، فإنّ لكل امة من الأمم ـ صغيرة كانت أو كبيرة ـ أهلا للحلّ والعقد يديرون شؤونها من دون اختلاف بين الأمم في هذه الهيئة ، ولا دليل على اختصاص هذه الامة بمزية العصمة ، بل الروايات على خلاف ذلك ، فقد ورد عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله المروي بطرق متعدّدة عند الفريقين : «إنّ اليهود افترقت على إحدى وسبعين فرقة ، والنصارى على اثنين وسبعين فرقة ، والمسلمين على ثلاث وسبعين فرقة ، كلّهم هالكون إلا واحدة» ، فما بال هذا الاختلاف والهلاك مع العصمة؟!

يضاف إلى ذلك أنّ امتياز هذه الامة بالعصمة لا بد أن يكون بمعجزة خارقة وليست بالعوامل العادية ، وإلا فلا فرق بين هذه وغيرها في إجراء أهل الحلّ والعقد أمورها كما عرفت ، فلو كان كذلك فلا بد أن تحفظ هذه المزيّة بجميع حدودها وخصوصياتها ، ويرشد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أمته إليها ، فإنّها كرامة باهرة لهذه الامة ، بها منّ عليهم كما منّ عليهم بالقرآن الكريم ورسوله الأمين ، ويجب أن يهتمّ بها المسلمون كما اهتّموا بكثير من الأمور التي ليست على هذه الأهميّة وسألوا الرسول عنها وأنزلت فيها الآيات القرآنيّة ، ولكان اللازم أن يحتجّ بها المسلمون في خلافاتهم وفي الفتن الواقعة التي استجدت بعد ارتحال الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وأما الحديث الذي استدلّ به على هذا الوجه ، فهو على فرض صحّة سنده يدلّ على أن الخطأ لا يستوعب جميع الامة ، بل يكون فيهم دائما من يكون على الحقّ والصواب ، ولو كان واحدا. يضاف الى ذلك أنّه يدلّ على أنّ الامة لا تجتمع على الخط ، لا على أنّ أهل الحلّ والعقد لا يجتمعون على الخطأ ، فهذا القول لا

٣١٧

دليل عليه ، وقد ردّه جمع من المفسّرين ، منهم الرازي فقال : «بأن هذا القول خرق للإجماع المركّب ، فإنّ الأقوال في أهل الحلّ والعقد أربعة ، وهي الخلفاء الراشدون ، وأمراء السرايا ، والعلماء ، والأئمة المعصومون ، وليس فيهم هذا القول ، مضافا إلى أنّه لم يقم دليل على عصمتهم» ، إلا أنّه ارجع هذا القول الى القول الثالث ، ولكنّه باطل أيضا ، فهذا الوجه باطل أيضا ، والقول بأنّ عصمة أهل الحلّ والعقد أمر خارق للعادة لا دليل عليه.

الا أن يقال : إنّ العصمة فيهم ترجع الى تعاليم الإسلام وتربيته ، فإنّه استند ذلك على قواعد متينة واصول دقيقة ، فهي أمر طبيعي مترتّب على تلك التعاليم الإلهيّة ، فأهل الحلّ والعقد إنّما عملوا بتعاليم الإسلام ، وتهذّبوا بأخلاقهم ، فهم لا يغلطون في ما اجتمعوا عليه ، ولا يتعرّضون الى خطأ في رأيهم.

ولكن هذا القول أيضا باطل بالوجدان ، فكم من أهل الحلّ والعقد على زعمهم صدر منه المعصية وأوقع نفسه وأمته في الضلال ، فلو كان الأمر كما ذكره لظهر أثره على من يراهم من أهل الحلّ والعقد ولم يتغلّب الفساد والباطل.

فلا مناص من القول بأنّ أهل الحلّ والعقد كسائر أفراد الناس يجوز عليهم الخطأ والغلط ، مهما بلغت بهم الخبرة والتدريب والتجربة.

اللهم إلا أن تقول بأنّ هذا الخطأ والغلط لا بأس به إذا كان المناط هو تقديم مصلحة الامة وسعادتها ورقي أفرادها ، نظير القوانين الوضعية التي تتصدّى بها جمعية منتخبة تحكم على المجتمع ، فتصدر قوانين حسب ما تراه من مقتضيات الأحوال ومتطلبات الوضع ، وفي الإسلام أيضا كذلك ، فإنّ أهل الحلّ والعقد قد يفسّرون حكما من أحكام الدين بغير ما كانوا يفسّرون سابقا بما يوافق مصلحة الامة ، وقد صرّح بعض الكتاب المحدّثين : «أنّ الخليفة يعمل بما يخالف صريح الدين ؛ حفظا لصلاح الامة».

وهذا الرأي أيضا باطل ، فإنّه يبتني على أصل التطور ، وأنّ الدين ليس إلا

٣١٨

سنّة اجتماعيّة يتطرّق إليها التطور كما يتطرّق في كلّ سنن الحياة ، وهما أصلان باطلان ، وكيف يمكن أن يجعل ذلك أصلا يبتني عليه الدين بجميع معارفه وأحكامه وأصوله وفروعه ، وأن يكون ما يصدر من الخلفاء من بعد عصر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الى العصر الحاضر مثل ما يصدر عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهذا أمر لا تتقبّله الفطرة المستقيمة.

الثالث : أنّ المراد باولي الأمر هم الخلفاء الراشدون ، أو أمراء السرايا ، أو العلماء الذين يقتدى بأفعالهم وأقوالهم وآرائهم.

ويرد عليه أولا : أنّه لا دليل على ذلك.

وثانيا : أنّ الآية الشريفة تدلّ على عصمة اولي الأمر ـ كما عرفت ـ ولا عصمة في هؤلاء المذكورين باعتراف الجميع.

الرابع : أنّ الآية الكريمة لا تدلّ على شيء ممّا ذكره المفسّرون والعلماء على اختلاف أقوالهم ؛ لأنّ فرض طاعة اولي الأمر ـ كائنين من كانوا ـ لا يدلّ على أنّ لهم ميزة فضلا ليس لغيرهم أصلا ، بل أنّ طاعتهم في هذا الأمر مثل طاعة الجبابرة والظلمة عند الاضطرار اتقاء شرّهم ، فإنّه لن يكونوا أفضل ممّن يطيعهم عند الله تعالى. مع أنّ الحكم في هذه الآية المباركة كسائر الأحكام الشرعيّة تتوقّف فعليتها على تحقّق موضوعاتها ، فإذا تحقّقت وجب تنفيذها ، وإلا فلا يكون أحد مكلّفا بإيجاد الموضوع حتّى يتحقّق الحكم ويصل الى المرتبة الفعلية ، وهذا واضح ، فلا يجب علينا إيجاد اولي الأمر حتّى يجب علينا طاعتهم ، ولكن إذا وجد وجبت طاعتهم.

ويرد عليه : أنّ ما ذكره مبنيّ على أن يكون المراد باولي الأمر هم السلاطين والأمراء وغيرهم ، وقد عرفت فساده ، يضاف الى ذلك أنّ الله تعالى لم يأمر بطاعة الظالمين فضلا عن أن يقرن طاعتهم بطاعته وطاعة رسوله ، بل قد ورد النهي الأكيد عن ذلك في عدّة موارد من القرآن الكريم ، قال تعالى : (وَلا

٣١٩

تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) [سورة هود ، الآية : ١١٣] ، وفي مورد التقية يتبّدل الموضوع ، فيتبدّل الحكم قهرا ، كما هو مذكور في الفقه والأصول ، وإذا ثبت أنّ الآية الشريفة تدلّ على فرض طاعتهم في مورد ، فلا بد أن يكون له مصداق خارجي ؛ إذ لا معنى لأن يأمر الله تعالى بشيء لا مصداق له خارجا ، فإذا كان كذلك لا بد وأن يكونوا معصومين كما عرفت.

الخامس : أن يكون المراد من الآية المباركة هم أفراد من هذه الامة عصمهم الله تعالى من الزلل والخطأ ، وافترض علينا طاعتهم فصاروا حجّة على سائر أفراد الامة في أقوالهم وأفعالهم ، ولكن لما لم يسع لكلّ أحد معرفتهم فيحتاج الى تنصيص من الله تعالى ، إما في كتابه ، أو على لسان نبيّه الكريم ، ولا مصداق لهؤلاء إلا أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، كما دلّت عليه الأدلّة الكثيرة العقليّة والنقليّة المذكورة في الكتب الكلاميّة ، وسيأتي في البحث الروائي نقل بعض الروايات.

وأورد على هذا الوجه بأمور نذكر المهمّ منها :

الأول : أنّ طاعة من فرض طاعتهم في هذه الآية الشريفة مشروطة بمعرفتهم ، كما في كلّ تكليف إلهي ، فإنّه مشروط بالمعرفة وإلا كان تكليفا بما لا يطاق ، وإطلاق الآية المباركة يدفع الشرط فيلزم التناقض.

وفيه : أنّه لا يفرق بناء على اشتراط المعرفة في الطاعة بين أن يكون من فرض طاعتهم هم الأئمة المعصومون عليهم‌السلام ، أو أهل الحلّ والعقد أو غيرهم. إلا أن يقال : إنّ الأخير يعرف من عند أنفسنا من غير حاجة الى بيان من الله تعالى ورسوله ، ولكن ذلك لا يوجب فرقا بعد أن كان الإمام المعصوم عليه‌السلام يحتاج إلى من يعرفه ، فالشرط على كلّ حال مناف لإطلاق الآية الكريمة.

يضاف الى ذلك أنّه ثبت في اصول الفقه أنّ المعرفة والعلم بالتكليف وإن كان شرطا فيه ، إلا أنّه يختلف عن سائر الشروط الراجعة الى التكليف أو

٣٢٠