مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٨

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٨

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٣
ISBN: 946-5665-07-8
الصفحات: ٣٩٧

قوله تعالى : (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ)

بيان لصفة اخرى من الصفات الذميمة التي اتّصف بها من زكّى نفسه بعد أن وصفهم بالإيمان بالجبت والطاغوت والعداوة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وللمؤمنين وتفضيل المشركين عليهم.

وهذه الصفة هي البخل الذي يكون مصدرا لجملة من الرذائل الأخلاقيّة ، وكان سبب ذلك أن سبل الهداية بعد ما خفقت في تهذيب النفوس المريضة التي تدعي لنفسها الكمال وتزكّيها بالفضائل وهم بعداء عنها.

و (أم) منقطعة ، أي التي لا تقع في اللفظ معادلة لهمزة استفهام قبلها ، وإن تضمّنت معنى الاستفهام والإنكار مع ترق واضراب عن ما قبلها ، كما يستفاد من سياق الكلام.

والمراد إنكار أن يكون لهم نصيب من الملك وابطال لما يدعونه في ذلك ، أي ليس لهم ذلك. واحتمل بعضهم أن تكون (أم) متصلة ، وقد حذفت الهمزة ، والتقدير : أهم أولى بالنبوّة أم لهم نصيب من الملك.

ونوقش فيه بأن حذف الهمزة إنّما يجوز في ضرورة الشعر ، ولا ضرورة في القرآن الكلام.

وكيف كان ، فالآية الشريفة في مقام تعداد رذائل ما يتصفون به بعد ادعائهم الكمال في التزكية لأنفسهم ، وهكذا شأن التزكيّة الباطلة ، فيكون المنساق من الآية المباركة هو الاضراب بالترقي في توبيخ اليهود ، والإنكار على المزكي لأنفسهم.

والمراد بالملك هو السلطنة على الأمور المعنويّة والماديّة ، كالنبوّة والولاية والهداية والثروة ، كما هو المستفاد من سياق الآية الكريمة ، فإنّها تحكي عن أحوال اليهود وأهل الكتاب الذين يدّعون لأنفسهم الولاية والقضاء والانتصار على المؤمنين ورجوع الملك الظاهري إليهم ، وغير ذلك ممّا حكي عنهم القرآن الكريم

٢٨١

في مواضع مختلفة. وقد ذكر المفسّرون في تفسير الملك وجوها مختلفة لا دليل عليها.

قوله تعالى : (فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً)

النقير اسم للنقطة التي في ظهر النواة ـ كما عرفت آنفا ـ وقيل : إنّه فعيل بمعنى المفعول ـ كالقتيل أو الفتيل ـ وهو المقدار اليسير الذي يأخذه الطير من الأرض بنقر منقاره. وقيل : غير ذلك ، والظاهر أنّ الأوّل تشبيه بما نقر بمنقار الطائر أو منقار الحديد الذي تحفر به الأرض الصلبة.

وكيف كان ، فهو مثال للشيء الحقير.

و «اذن» تكون جوابا وجزاء لشرط محذوف ، وهي ملغاة عن العمل ، وسيأتي في البحث الأدبي ما يتعلّق بها ، والفاء للسببيّة ، أي : إن حصل لهم نصيب لمنعوا الناس من القليل الحقير.

والآية المباركة تدلّ على زيادة التوبيخ والإنكار عليهم ، حيث يجعلون ما هو سبب الإعطاء ـ وهو النصيب ـ سببا للمنع.

وهذه الآية الشريفة مع سابقتها متّحدتان في الإنكار والتوبيخ عليهم وعلى الكافرين ، إلا أنّ الاولى إنكار للوقوع ، والثانية إنكار للواقع ، فإنّهم مع ما أنعم عليهم الله تعالى من النعم الدنيويّة الظاهريّة من الثروة والزراعة والعقار وغير ذلك ، ولكنّهم عرفوا بالشحّ والبخل والحرص على المنع من أدنى الأشياء وأحقرها ؛ ولهذا اختصّت هذه الآية الكريمة بالملك الدنيويّ لبيان ما هو الواقع.

وأما الاولى ، فكانت عامّة تشمل الملك المعنوي والظاهري المادي ، فلا تكون الثانية مخصّصة للأولى كما زعمه بعض المفسّرين.

قوله تعالى : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ)

انتقال من توبيخ إلى توبيخ آخر ، ومن إنكار صفة ذميمة إلى إنكار صفة اخرى أشدّ قبحا ، وهي الحسد الذي هو من أقبح الرذائل المهلكة ، وسوق الكلام مع اليهود كالسابق.

٢٨٢

والمراد من الناس هو سيدهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على ما يدلّ عليه ذيل الآية الشريفة : (فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) ، الدال على أنّ ما أطلق عليه الناس من آل إبرهيم هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ويمكن شمول الآية المباركة للمؤمنين أيضا ، لأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان واسطة الفيض عليهم بما آتاه الله تعالى من الفضل العظيم ، وهو الكتاب والمعارف الربوبيّة والكمالات المعنويّة ، وحسدهم عليهم لمنعهم من ذلك الفضل وحصره فيهم غرورا وبخلا به.

قوله تعالى : (عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ)

بيان لعلّة حسدهم على الرسول الكريم لما آتاه الله تعالى من النبوّة والرسالة ، والمؤمنين بما آتاهم من الكرامة والمعارف الربوبيّة التي كانت السبب في حقدهم الأكبر ضدّ الدين الحقّ والإسلام ؛ ولذا كان صراعهم معهم مستمرا إلى أن تقوم الساعة ، كما تدلّ عليه آيات كثيرة ، قال تعالى : (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) [سورة البقرة ، الآية : ١٢٠] ، وقال تعالى : (وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا) [سورة البقرة ، الآية : ٢١٧].

وإطلاق الآية الكريمة كما يشمل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله باعتبار ما اوتي من الرسالة والوحي والكمالات ، كذلك يشمل أمناء الله وأمناء رسوله على وحيه ودينه ، باعتبار ما أتوا من المقام الرفيع والمنزلة السامية ووجوب الطاعة وما حباهم من الفضل العظيم ، ويدلّ على ذلك ما ورد عن الإمام الباقر عليه‌السلام في تفسير الآية الشريفة : «نحن المحسدون» ، وروي مثله عن الإمام الصادق عليه‌السلام.

ويمكن أن يكون قوله تعالى : (ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) بيانا للملك في قوله تعالى : (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ) ، والقرآن يبيّن بعضه بعضا.

٢٨٣

قوله تعالى : (فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ)

إبطال لمزاعمهم وتعليل للاستقباح وسوق الكلام يفيد كمال الاعتناء بالأمر ، كما يستفاد من الفاء ـ التي قيل فيها إنّها فصيحة ـ وللالتفات ، وإجراء الكلام على سنن الكبرياء.

والمعنى : أن يحسدوا الناس على ما أوتوا من الفضل ، فإنّه ليس ببدع ، فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب الشامل للتوراة والإنجيل والقرآن الكريم والحكمة ، وهي المعارف الربوبيّة والأحكام الإلهيّة فهم على خطاء ووهم عظيم.

وفي الآية المباركة إيناس لهم في نيل مقصدهم وقطع لرجائهم في زوال النعمة عن المؤمنين ، فلن ينفعهم إلا حقدا وغيظا وهمّا.

ويستفاد من الآية الشريفة تعظيم آل إبراهيم ، الذين آتاهم الله تعالى الفضل العظيم ، فيختصّ بإبراهيم وذرّيته الأنبياء والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا يشمل بني إسرائيل الذين يدّعون أنّهم من نسل إبراهيم ، فإنّ الآية الشريفة تكون في شأن غير الظاهر المراد.

والجملة : تدلّ على أنّ المراد من الناس بعضهم دون الجميع ـ كما عرفت آنفا ـ فإنّ آل إبراهيم لا يشمل المؤمنين إلا إذا أدرجناهم في الآية بالعناية كما عرفت آنفا ، بل يمكن أن يقال : إنّ ايتائهم الكتاب والحكمة قرينة اخرى على أنّ المراد منه إبراهيم ، وهذا النبي وآله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، باعتبار أنّهم حفظة الكتاب ومستودع علم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

قوله تعالى : (وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً)

تأكيد لاستقباح حسدهم وتقريع لهم بذلك ، فإنّهم مهما حسدوا الأنبياء والمؤمنين ، فإنّ الله تعالى آتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين ، فقد آتاهم ملكا عظيما من النبوّة والرسالة والولاية ، وليس المراد بالملك هنا الملك الدنيويّ الماديّ ، فإنّ الله تعالى لم يعهد منه أن استعظمه في القرآن الكريم إلا إذا استتبع فضيلة

٢٨٤

معنويّة وكان سبيلا في نيل المقامات الرفيعة ، فالمراد بالملك العظيم هنا سلطان الرسالة وعظمة الدين والشريعة وزعامة الإمامة التي منحها لإبراهيم عليه‌السلام بعد الابتلاء العظيم ، فتشمل الآية الشريفة النبوّة والإمامة ، فإنّهما الملك العظيم.

وإنّما ذكر عزوجل الكتاب والحكمة ؛ لأنّهما من مظاهر النبوّة والإمامة والمبينين لسلطتهما.

قوله تعالى : (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ)

الضمير في (منهم) يرجع إلى أولئك الكافرين الذين وصفهم في الآيات السابقة بأوصاف مختلفة ، وقيل : يرجع إلى آل إبراهيم ، والضمير في «به» الى الملك العظيم ، أو ما اوتي آل إبراهيم ، وقيل : يرجع إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وما انزل عليه.

والظاهر أنّه لا نزاع في البين ، فإنّ المرجع شيء واحد ، وهو الحقّ المتمثّل تارة في إبراهيم وآله ، والملك العظيم أو النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما ذكره عزوجل في الآية التالية.

قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ)

الصدّ الصرف ، وتستعمل قاصرة بمعنى أعرض ، يقال : صرف نظره أو وجهه عن الشيء إذا أعرض عنه ، فيكون المعنى : ومن هؤلاء الكافرين الذين وصفهم الله تعالى بتلك الأوصاف المتعدّدة في الآية السابقة طائفة أعرضوا عن الإيمان أو الملك العظيم ، فيتمّ التقابل بين الطائفتين من غير عناية زائدة.

كما تستعمل بمعنى الصرف ، يقال : صدّ غيره إذا صرفه عنه ونفّره منه ، فيكون المعنى أنّهم لم يؤمنوا به وبذلوا جهدهم في صدّ الناس عن سبيل الله تعالى والإيمان بالملك العظيم ، وهذا هو شأن اليهود ، كما حكي عزوجل عن أحوالهم في القرآن الكريم ، فتكون المقابلة بين الطائفتين مع عناية زائدة.

وتقسيمه عزوجل أولئك إلى هاتين الطائفتين تسلية للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولبيان أحوالهم في يوم القيامة ، فتكون الآية التالية بمنزلة الشرح والتعليل لها ، ولبيان

٢٨٥

الفرق العظيم بينهما ، فإنّهما على طرفي النقيض ، وعلى قطبين متخالفين من السعادة والشقاوة ، فأما دخول الجنّات والتنعّم بأنواع النعم ، وأما دخول جهنم والصلي بالنار والعذاب الأبدي ، الذي صوّره عزوجل في الآية التالية بأعظم صورة وأبدع أسلوب.

قوله تعالى : (وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً)

توعيد لمن صدّ عن الحقّ وتهديد لهم بعذاب جهنّم التي لا ينقطع سعيرها ، فإنّهم عذاب الدنيا ، ولكنّه كفاهم سعير جهنم ، والسعير بمعنى المسعور ، يستوي فيه المذكّر والمؤنّث ، يقال : سعر النّار أو أسعرها ، إذا أوقدها إيقادا شديدا.

وإنّما كان جزاؤهم ذلك لأنّهم سعّروا نار الفتنة على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى الذين آمنوا ، وصدّوا الناس عن الإيمان به.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً)

تقرير لما سبق وتفصيل بعد إجمال ، وتعقيب يملك مشاعر النفس ويؤثّر فيها أشدّ التأثير ، وعموم الآية المباركة يشمل كلّ من كفر بآيات الله تعالى ودينه الحقّ ، وإن ذكرت بعد الكفر بما انزل على آل إبراهيم ، فإنّهم سوف يصلون نار جهنّم ويدخلونها يوم القيامة.

وإنّما دخلت «سوف» لإمهالهم حتّى يرجعوا إلى دين الحقّ ، كما هو دأب القرآن الكريم في بيان العذاب ، وذكر بعضهم أنّ (سوف) للتهديد ، وسيأتي في البحث الأدبي ما يتعلّق بذلك.

قوله تعالى : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها)

أعظم آية تثير الرهبة والفزع في النفس ، وهي تملك الحّس ويقشعرّ منها الجلد ، فلا تدع مجالا للتفكّر في غير الإيمان ورفع هذا العذاب الأبدي ، الذي لا يعرف مداه ، فإنّ أعظم ما يصيب الإنسان من العذاب في الدنيا هو الحرق بالنار والألم الذي يحسّه منه هو شديد ، ولكنّه مع ما فيه من القوّة والشدّة هو هين

٢٨٦

بالنسبة لعذاب لا أمد فيه ولا ينقطع ألمه ولا يقف عند حدّ ، وأوّل ما يتصوّره الإنسان من ملاحظة هذه الآية الشريفة أنّ الاحتراق يصيب الجلد كلّه بما فيه من الإحساس ، وأنّ صاحبه لا يجد الراحة ، فلا يشفى ولا يموت ، فإذا احترق منه الجلد ونضج كما ينضج اللحم بالنّار ، فلا بد أن يقلّ إحساسه إن لم نقل بزواله ، فإذا له في نفس اللحظة جلد جديد بكامل إحساسه ينقل إليه الحسّ بالعذاب ليذوقه ، فهو في احتراق دائم لا يتوقّف ولا يكفّ ولا يقلّ ، فنفس تصوّر مثل هذا العذاب وتخيّله أمر فوق الطاقة يثير الخوف والدهشة ، ولا يمكن تحمّله فكيف بالعذاب الحقيقي؟! فما بال الإنسان لا يتذكّر في عواقبه وما يرد عليه ، وما أعظم غفلته وما أكثر إعراضه!

والآية الشريفة المباركة تبيّن الحقيقة والواقع الذي يؤول إليه الكافر ، وليست هي مجرّد تمثيل أو كناية ، كما يدّعيه بعض المفسّرين.

ومسألة نضج الجلود أثّرت في النفوس وغلبت على مشاعر المؤمنين ، فآمنوا بما أنزله تعالى واسترهبوا قدرته واستوهبوا مغفرته ورضوانه ، وقد اختلف العلماء والمفسّرون في مسألة تبدّل الجلود إلى جلود اخرى ، فأثاروا مسألة اخرى ، وهي كيفية استحقاق الجلود الجديدة للعذاب ، وذكروا وجوها في دفع هذه المشكلة ، جميعها لا تجدي شيئا ، وهذه المسألة من فروع المعاد الجسماني الذي دلّت عليه آيات كثيرة ، قال تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً* وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً* قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً* أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً) [سورة الاسراء ، الآية : ٤٨ ـ ٥١] ، وقد غفلوا عن أمر القيامة وبقاء الأجسام في النّار العظيمة المهولة ، مع أنّها لا تقلّ عن تبديل الجلود إلى جلود اخرى ، فهي جلود جديدة مكوّنة من نفس البدن المستحقّ للعذاب ،

٢٨٧

وقد أوضح ذلك الإمام الصادق عليه‌السلام فقال عليه‌السلام : «هي هي ، وهي غيرها» ، وشبّهها عليه‌السلام باللّبنة إذا كسرت ودقت فصارت ترابا ثم صبّ عليها الماء فصارت لبنة اخرى ، فهي هي في المادّة ، وإنّما حدثت المغايرة في الصورة ، وسيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : (لِيَذُوقُوا الْعَذابَ)

أي : إنّما كان ذلك ليدوم ذوقهم للعذاب فلا ينقطع ، والتعبير بالذوق لبيان الإحساس المرير.

وقيل : لبيان أنّه لا يدخله نقصان بدوام الملابسة ، أو للاشعار بمرارة العذاب ، وللإعلام على حدّة تأثيره.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً)

تعليل لما سبق ، أي : إنّما عذّبهم الله تعالى بذلك العذاب المرير ؛ لأنّ الله تعالى عزيز لا يمنعه مانع إذا أراد العذاب ، وهو قادر عليه حكيم في أفعاله ، لا يعذّب أحدا من دون سبب ولا علّة ، كما لا يجزى المحسنين إلا كذلك ، وأما العفو ومضاعفة الحسنات ، فهو فضل منه جلّت عظمته.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ)

بيان لحسن حال المؤمنين ، وتنبيه لمعرفة التفاوت العظيم بين الطائفتين ـ المؤمنين والكافرين ـ في الجزاء. وفي تعقيب تلك الطائفة بالمؤمنين لتتميم الرهبة بالرغبة ، ولتكميل المساءة بالمسرة.

والمراد بالموصول هم الذين آمنوا بالرسول الكريم وما انزل عليه من المعارف الإلهيّة والأحكام ، التي هي لصالح البشرية وصلاحها.

وعقّب سبحانه وتعالى الإيمان بالعمل الصالح ، للدلالة على أنّ الجزاء العظيم الذي يناله المؤمنون إنّما يكون بالأمرين ، الإيمان والعمل الصالح ، فلا جدوى في أحدهما مع انتفاء الآخر ، فإنّ الإيمان بغير عمل صالح لا يكفي لتزكية

٢٨٨

النفس وإعدادها لذلك الجزاء العظيم ، كما أكّد على ذلك القرآن الكريم في مواضع متفرّقة.

نعم ، في الإيمان المجرّد قد يكون بعض الآثار ـ كما هو معروف ـ فهو يكفي في تخفيف العذاب أو لنيل الشفاعة وغير ذلك.

قوله تعالى : (سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ).

السين وسوف يدلان على التنفيس وسعة الاستقبال واختلفوا فيهما ، فقيل : إنّ (سوف) أبلغ في الاستقبال والتنفيس من السين ، وقيل : هما متساويان.

وكيف كان ، ففي دخول السين في جزاء أهل الجنّة ، وسوف في جزاء أهل النّار من البلاغة ما لا يخفى ، فإنّ رحمته الواسعة اقتضت أن يعجّل لأهل النعيم نعيمهم ، ولا يعجّل لأهل العذاب عذابهم ، بل يمهل لهم حتّى يتوبوا ، فكان ذلك سببا في دخول (سوف) الدال على التراخي والتنفيس والسعة في جزائهم.

وتوصيف الجنات بجريان الأنهار من تحتها ، لبيان روعة تلك الجنّات وصفائها.

قوله تعالى : (خالِدِينَ فِيها أَبَداً)

الخلود : دخول المكث ، وتأكيده ب : «أبدا» لزيادة المنّة ، ولبيان أنّ نعيم الجنّة لا ينقطع ، فتطمئن إليها نفوس المؤمنين ، ويذهب عنها الخوف والحزن ، كما دلّت عليه آيات اخرى.

قوله تعالى : (لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ)

بيان لترادف نعمه وآلائه على المؤمنين في أنّ لهم حياة هنيئة في تلك الجنّات ، منها أنّهم يعيشون مع أزواج متعدّدة مطهّرة من كلّ عيب ودنس ، خلقا وخلقا ، كما يدلّ عليه إطلاق التطهير ، فلا ينافي ذلك

ما ورد في بعض الأخبار عن الصادق عليه‌السلام : «اللاتي لا يحضن ولا يحدثن» ،

فإنّه في مقام بيان أكبر القذارات الملازمة لنوع النساء.

٢٨٩

قوله تعالى : (وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلاً)

قال الراغب : «الظل أعمّ من الفيء ، فإنّه يقال : ظل الليل وظل الجنّة ، ويقال لكلّ موضع لم تصل إليه الشمس : ظل ، ولا يقال الفيء إلا لما زالت عنه الشمس ، ويعبّر بالظل عن العزّة والمنعة وعن الرفاهة».

والظليل : صفة اشتقّت من الظل تؤكّد معناه ، أي : ظل الجنّة دائم لا حرّ فيه ، ولا تنسخه شمس كظلّ ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس في هذه الدنيا ، قال تعالى : (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ* وَماءٍ مَسْكُوبٍ* وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ* لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ) [سورة الواقعة ، الآية : ٣٠ ـ ٣٣].

ويمكن أن يكون المراد من الظلّ قرب الوصول إليه تعالى في الجنّة ، فإنّ المؤمن في هذه الدنيا وإن كان قريب الوصول إليه تعالى ، ولكنّه في عالم الجنّة أقرب ، فادخله في ظلاله وإن ظلّه جلّ شأنه عليه دائما لا ينفع.

كما يمكن أن يكون المراد من الظلّ خلع المؤمن الكثافات الجسمانيّة عن نفسه وتنزّهه عنها في ذلك العالم ، فكما أنّ الظلّ شيء ، ولكنّه مجرّد عن الكثافة كذلك المؤمن لتناسب المكين مع المكان ، وإنّ شرف المكان بالمكين ، فيدخل الله تعالى المؤمن الجنّة بعد تطهيره عن الكثافات الجسمانيّة ، كما دلّت عليه آيات شريفة وروايات كثيرة في وصف أهل الجنة يأتي التعرّض لهما إن شاء الله تعالى.

وقد عبّر عن المجرّدات بالظلّ في لسان الأئمة عليهم‌السلام كثيرا ؛ للإشارة إلى أنّ المجرّدات قد يكون من الجواهر ، فإنّها شيء لا كالأشياء ، فعبّر عن عالم الذرّ بعالم الظلّ ، ففي حديث مفضل : «كيف كنتم حيث كنتم في الأظلّة ، قال : يا مفضل كنّا عند ربنّا في ظلّ خضراء» ، فهو كناية عن قدسية أرواحهم الشريفة ، وأنّها كانت من القرب المعنوي الى المبدأ الأعلى ، وفي حديث صفات الباري جلّ شأنه : «أزليّا صمديّا لا ظلّ يمسكه ، وهو يمسك الأشياء بأظلّتها».

وكيف كان ، فإنّ الآية المباركة تبيّن عظيم جزاء أهل الجنّة ، وتصوّره

٢٩٠

بأعظم صورة في أحسن أسلوب وأبدع عبارة ، تنشرح النفوس عند سماعها ، ويشتاق الإنسان الى تلك النعمة العظيمة ، رزقنا الله تعالى التفيؤ في تلك الظلال الوارفة برحمته الواسعة ، فإنّه أرحم الراحمين.

بحوث المقام

بحث أدبي

تقدّم مكرّرا أنّ جملة : «الم تر» تستعمل في مقام التعجّب والإنكار على الغير ، والتنبيه على رداءة الفعل ، وإنّما عدّيت بكلمة (الى) لتضمّنها معنى ألم يصل الى علمك.

و (فتيلا) في قوله تعالى : (وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) منصوب على أنّه مفعول ثان ليظلمون.

وقيل : منصوب على التمييز ، كقولك : «تصبّبت عرقا».

وانتصاب «إثما» في قوله تعالى : (إِثْماً مُبِيناً) على التمييز.

و «أم» في قوله تعالى : (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ) منقطعة ، وهي التي لا تكون معادلة كهمزة الاستفهام في اللفظ وإن تضمّنت في الأكثر الاستفهام الإنكاري مع ترق واضراب عن ما قبلها ، فتدلّ على إبطال مدخولها.

و «إذا» في قوله تعالى : (فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً) ملغاة عن العمل ، كما هو المعروف ، واختلفوا في أنّه على سبيل الجواز أو غير ذلك ، فقيل بالأوّل إذا وقعت بعد الواو والفاء ، مع اتفاقهم على أنّ عملها ـ وهو نصبها المضارع ـ مشروط بتصديرها ، أي : يكون ما بعدها جزاء للشرط الذي قبلها المذكور في الكلام.

٢٩١

وكيف كان ، ف (إذا) تكون جزاء وجوابا في الأكثر كما يقال لك : أحبّك ، فتقول : إذا أظنّك صادقا ، والتفصيل يطلب من كتب النحو.

و (سوف) في قوله تعالى : (سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً) تسويف وتنفيس وسعة الاستقبال كالسين ، وقيل : تأتي سوف للتهديد وتنوب عنها السين ، واستشهدوا بهذه الآية الكريمة ، ولكنّه بعيد ، واستفادة التهديد إنّما تكون بقرائن خارجيّة.

وكيف كان ، فالمعروف أنّ (سوف) أبلغ من السين في التنفيس وسعة الاستقبال في المضارع الذي تدخله ؛ نظرا الى القاعدة المعروفة : «إن زيادة المباني تدلّ على زيادة المعاني» ، وقد تقدّم في التفسير ما يتعلّق بذلك ، فراجع.

بحث دلالي

تدلّ الآيات الشريفة على امور :

الأول : يدلّ قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) أنّ التزكية للنفس بغير حقّ مذموم لا تصدر من عاقل ، وقد وصف الله تعالى المزكّين لأنفسهم في الآيات الكريمة بأمور تدلّ على بعدهم عن الكمال وسفاهة أحلامهم واتصافهم برذائل الأخلاق ، منها الكذب على الله تعالى ، ومنها الإيمان بالجبت والطاغوت ، والإعراض عن الحقّ ، والازدراء بالذين آمنوا وترجيح الكافرين والباطل عليهم. ومنها : البخل ممّا آتاهم الله تعالى الذي أخذ العهد منهم بالبذل ، ومنها : الحسد لأهل الفضل ومن حباهم الله بالفضل العظيم ، ولعلّه لأجل اتصافهم بهذه الصفات الذميمة أوجبت استحقاقهم بأشدّ العذاب ، وأرشدهم عزوجل الى نبذهم هذه العادة السيئة ، فإنّ الله تعالى يعلم حقيقة الأمر وواقع الحال ، وكلّ يرجع الى عمله وما استحقّه من الجزاء ، ولا يظلمون في أقلّ ما يمكن أن يتصوّر ، ولا عبرة بتزكيتهم لأنفسهم.

الثاني : يدلّ قوله تعالى : (بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) أنّ التزكية حقّ من حقوق الله تعالى ، ولا يحقّ لأحد التدخّل في شؤون الخالق وما يخصّه عزوجل ،

٢٩٢

وقد بيّن عزوجل في القرآن الكريم شروط التزكية الحقّة الحقيقيّة ، وخصّ بها أولياءه الكرام وأنبياءه العظام والمؤمنين المخلصين.

الثالث : يدلّ قوله تعالى : (وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) أنّ التزكية للنفس بغير حقّ ظلم للنفس وتضييع لحقوق الآخرين ، فإنّ كلّ تزكية إنّما تكون في سلب حقّ وتضييعه ، والله تعالى يعلم حقائق الأمور ، وأنّه لا يظلم حقّ أحد ويصله الى جزاء عمله.

الرابع : يدلّ قوله تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) ، على أنّ التزكية التي كانت من حقوقه سبحانه وتعالى إذا انتحلها أحد غيره كان كاذبا على الله تعالى ، ويختصّ الكذب على الله تعالى أنّه افتراء محض يقطع الرابطة الموجودة بين الإله وعبده ، ويوجب البعد عنه عزوجل ، ويوجب استحقاق صاحبه العذاب العظيم وأشدّ العقوبات ، كما ذكره عزوجل في الآيات التالية ، ولهذا ترى أنّه عزوجل يصف الكذب عليه بأنّه افتراء.

الخامس : يدلّ قوله تعالى : (يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) على أنّ الإيمان بالجبت والطاغوت يوجب طمس الفطرة التي تقضي باتباع الحقّ والحبّ لأهله ، وأما اتباعهما ، فهو يقضي تعظيم غير الله تعالى والإذعان له بالطاعة ، والقول بأنّ الكافرين أهدى من الذين آمنوا سبيلا ، ولا يكون قولهم هذا إلا لأجل أنّهم أحبّوا طمس الحقّ وأيّدوا ستره ، فاتبعوا من اتّصف بذلك وعظّموه ، وليس ذلك إلا لسبب إيمانهم بالجبت والطاغوت ، فابتعدوا عن الحقّ وطمسوا نور فطرتهم ، فيكون قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً) مبيّنا لبعض مظاهر إيمانهم بالجبت والطاغوت ، فاستحقّوا اللعنة والطرد عن مظاهر الرحمة الإلهيّة.

السادس : يدلّ قوله تعالى : (فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً) على أنّ من استحقّ اللعنة بسبب سوء اعتقاده وأعماله لا تشمله الرحمة الإلهيّة ، فهو في عذاب

٢٩٣

الخذلان والبعد عن ساحة الرحمن دائما ، وكيف تشمل الرحمة من أبعده الله عن ساحته وطرده عن قربه إليه ، فلا ناصر له من الشفاعة وغيرها حتّى ينجيه من العذاب الذي استحقّه باختياره ويهديه الى الرشاد.

وإطلاق الآية المباركة يشمل عدم النصرة والخذلان في الدنيا والآخرة ، وإن كانت الاولى أهون بالنسبة الى الثانية ، وسواء كان الناصر هو تعالى بالأسباب أم غيره.

السابع : يدلّ قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) على الذمّ والتشنيع عليهم بأنّ كونه ذوي نصيب من الكتاب لا بد أن يكون مانعا عن الإيمان بالجبت والطاغوت ، فيكون إيمانهم بهما مع الكتاب لهم أشنع وأفظع.

الثامن : يستفاد من قوله تعالى : (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً) غاية بخلهم وشدّة حرصهم على منع الناس من أدنى النفع وأحقره ، فالآية الشريفة تبيّن ما تقتضيه طباعهم لو حصل لهم ملك ن فهم بعيدون عن الملك المعنوي وليس لهم أي نصيب منه ، وإنّ الذي هو موجود في أيديهم إنّما هو الملك المادّي من المال والتجارة ، ولا ضير في ذلك بعد ما تكفّل عزوجل أرزاق عباده وما هو موجود في أيديهم ، ضرره عليهم أكثر من انتفاعهم منه ، فقد امتحنهم الله تعالى به وظهر سوء سرائرهم وأوجب ابتعاد الناس عنهم.

التاسع : ترتّب قوله تعالى : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ) على الآيات السابقة من قبيل ترتّب المعلول على العلّة ، فإن اتّصف بالبخل وشدّة الحرص وتزكية النفس بالادعاء الباطل وكتمان الحقّ وعدم الايمان به وعدم الإذعان للفضل والفضيلة ، يستتبع الحسد العظيم وتمنّي زوال كلّ فضل عن صاحبه ، ويستفاد ذلك من قوله تعالى : (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً

٢٩٤

حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) [سورة البقرة ، الآية : ١٠٩] ، فإنّ الحسد لا ينبت في قلب إلا إذا ما وجد ما يقتضيه ، وهو البخل وكتمان الحقّ وتزكية النفس بالادعاء الباطل والإيمان بالجبت والطاغوت ، فإنّ كلّ ذلك ممّا يمهد القلب للاتصاف بالحسد الذي هو من الأمراض المهلكة ، فحينئذ يستفاد من الآية المباركة أسباب هذا المرض ، وكيفية علاجه إنّما تكون بالانقلاع عن الأسباب وإزالتها وتخلية النفس عن الرذائل الموجبة للحسد ، فهذه الآيات الشريفة تبيّن أسباب هذا المرض ، وإذا عرف السبب أمكن علاجه بسهولة ، وسيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام إن شاء الله تعالى.

العاشر : يستفاد من قوله تعالى : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ) شدّة الألم ، لأنّ النضج هو المرتبة الدانية من الطبخ ، الذي يوجب زوال الحسّ ، بخلاف النضج ، فإذا تعدّى عن مرتبة النضج تبدّلت جلودهم الى جلود اخرى.

الحادي عشر : لا تنافي بين قوله تعالى : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) وبين قوله تعالى : (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً) [سورة الكهف ، الآية : ٢٩] ؛ لاختلاف طبقات السعير حسب الجرائم ، ويمكن الاختلاف حسب اختلاف الأزمنة أو الحالات التي تمر عليهم.

الثاني عشر : يستفاد من قوله تعالى : (لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) ، أنّ السبب في تبديل الجلود التي نضجت واحترقت الى جلود اخرى هو ذوق العذاب ومقاساته ؛ لأنّهم انغمسوا في الرذائل واتصفوا بصفات مهلكة.

والتعبير بالذوق لبيان شدّة إحساسهم بالعذاب ودوامه ، ويدلّ ذلك على بقاء أبدانهم على حالها مصونة ، ولا بد أن يكون كذلك حتّى يدوم مقاساة أهوال النّار ويدوم ذوقهم للعذاب ، وهو يدلّ على إياسهم عن النجاة.

٢٩٥

وتبيّن الآية المباركة تمام قدرته عزوجل على بقاء الأبدان وتبديل الجلود المحترقة ، مع أنّ احتراق الجلود يستلزم احتراق الأبدان ، لكنّ لجهنّم حياة خاصّة كما هي ثابتة بالأدلة الكثيرة.

الثالث عشر : يستفاد من الآية المباركة أنّ التبديل بما هو تبديل أيضا نحو عذاب ومشقّة لهم ، وإن لم يكن باختيارهم.

الرابع عشر : يستفاد من قوله تعالى : (بَدَّلْناهُمْ) حيث أضاف التبديل الى نفسه الأقدس كمال القدرة والقهّارية ، وأنّ ذلك لا يمكن لغيره جلّ شأنه.

الخامس عشر : يمكن أن يستفاد من قوله تعالى : (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) أنّ الخلود إنّما يكون للبقاء في الجنّة ، والأبديّة إنّما هو لدوام النعمة المتنعّم بها المؤمن فيها ، أي : يخلد في الجنّة ويدوم في النعمة ، وهذا الاحتمال أولى ، حملا للكلام على التأسيس الذي هو خير من التأكيد.

السادس عشر : يمكن أن يستفاد من قوله تعالى : (لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) التطهير عن كلّ ما يشوب المادّة ، فتكون مطهّرة عن الأنجاس والأرجاس وملابسات المادّة وغيرها ، ويقتضي الإطلاق ذلك كما مرّ في التفسير.

السابع عشر : يدلّ قوله تعالى : (وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلاً) على كمال العناية بالمؤمنين ، حيث شرّفهم الله عزوجل أن أدخلهم في ذلك الظلّ الوارف.

ويمكن أن يستفاد من الآية الشريفة أنّ كلّ شيء في الجنّة ظلّ لا مادّة له للطافته ، بخلاف ما في الدنيا.

والتكرار في كلمة (ندخل) في قوله تعالى : (سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي) ، وفي قوله تعالى : (وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلاً) ، إنّما هو للتأكيد والتشريف لرفع شأن المؤمن حين دخوله الى الجنّة.

٢٩٦

بحث روائي

في الكافي بسنده عن أبي بصير عن الصادق عليه‌السلام قال : «كلّ راية ترفع قبل قيام القائم ، فصاحبها طاغوت يعبد من دون الله عزوجل».

أقول : وقريب منه غيره ، والرواية من باب التطبيق وذكر أحد المصاديق ، ولعلّ الوجه في ذلك عدم إمكان إجراء صاحبها الحقّ المحض والعدالة الاجتماعيّة الكاملة ، فتكون الدعوة حينئذ إلى خلاف الواقع بزيّ الواقع ، وتلبيس غير الحقّ بلباس الحقّ مع العلم والاختيار ، فيكون ذلك عبادة من دون الله عزوجل ، بخلاف ما لو ظهرت دولة الحقّ وورث الأرض ومن عليها من أراده الله تعالى ، وهو الإمام المعصوم المؤيّد منه جلّ شأنه ، فلا يبقى حينئذ للباطل مجال ولا للجور مكان بعد ظهوره إما لتكميل نفوسهم وعقولهم بالسير الاستكمالي ، أو بشروق ربانيّ كما في بعض الروايات ، وما ذكرنا لا ينافي وجوب القيام لتبليغ الأحكام وتطبيقها قبل قيام الحجّة الثابت بالأدلّة الأربعة ، إن لم يناف المقرّرات الشرعيّة من جهة اخرى.

وفي الدرّ المنثور : عن ابن عباس قال : كانت اليهود يقدمون صبيانهم يصلّون بهم ويقرّبون قربانهم ويزعمون أنّهم لا خطايا لهم ولا ذنوب ، وكذبوا قال الله تعالى : «إني لا أطهّر ذا ذنب بآخر لا ذنب له» ، ثم أنزل الله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ).

أقول : الرواية أيضا من باب التطبيق ومطابقة للآية المباركة : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [سورة الأنعام ، الآية : ١٦٤].

وعن السدّي في قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ) ، قال : نزلت في اليهود ، قالوا : إنّا نعلّم أبناءنا التوراة صغارا ، فلا يكون لهم ذنوب ، وذنوبنا مثل ذنوب أبنائنا ، ما عملنا بالنهار كفّر عنا بالليل».

٢٩٧

أقول : لا ينافي ذلك التطبيق والجري على غيرهم ؛ لأنّ منشأ النزول تلك الصفات السيئة والعادات الذميمة والأخلاق الفاسدة التي كانت عند اليهود ، فلو كان السبب أو العلّة موجودة في غير اليهود تجري الآية عليه وتنطبق.

وفي الكافي بسنده عن بريد العجلي قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن قول الله عزوجل : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) ، فكان جوابه : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً) ، يقولون الأئمة الضلال والدعاة الى النّار : هؤلاء أهدى من آل محمد سبيلا : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً* أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ) ، يعني : الإمامة والخلافة ، (فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً) ، نحن الناس والنقير النقطة التي في وسط النواة ، (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) نحن الناس المحسودون على ما آتانا الله من الإمامة دون خلق الله أجمعين ، (فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) ، يقول : جعلنا منهم الرسل والأنبياء والأئمة ، فكيف يقرّون به في آل إبراهيم وينكرونه في آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً* إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً)».

أقول : الرواية من باب التطبيق وذكر أجلى المصاديق ، وإلا فالآيات الشريفة عامّة تنطبق على كلّ شخص يدعو الى الحقّ والواقع ، وأفاض الله تعالى عليه من فضله وإن كان ذلك منحصرا في محمد وآله.

وفي الأمالي للشيخ ، بإسناده عن أبي جعفر عليه‌السلام في قوله تعالى : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) قال : «نحن الناس» ، وعنه عليه‌السلام في رواية بريد : «نحن الناس المحسودون».

٢٩٨

أقول : الروايات في هذا المضمون متواترة في جوامع الشيعة ، بل ورد من طرق أهل السنّة أيضا ، ففي الدرّ المنثور عن ابن عباس في قوله تعالى : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ) ، قال : «نحن الناس دون الناس».

وعن ابن المغازلي في مناقبه بسنده عن جابر ، عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليه‌السلام في قوله تعالى : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) فقال : «نحن الناس» ، وفي المقام قال ابن الأعرابي في كتاب معجم الشيوخ : «انبأنا الغلابي ، انبأنا ابن عائشة ، انبأنا إسماعيل بن عمرو البجلي ، عن عمرو بن موسى ، عن زيد بن علي ، عن آبائه عن علي قال : «شكوت الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حسد الناس إياي ، فقال : يا عليّ أما ترضى أنّ أوّل أربعة يدخلون الجنّة أنّا وأنت والحسن والحسين ، وأزواجنا عن أيماننا وشمائلنا وذرارينا خلف أزواجنا وأشياعنا من ورائنا» ، ورواه أحمد بن حنبل وابن الجوزي في تذكرة الخواص باختلاف يسير.

وفي تفسير العياشي : عن حمران ، عن الباقر عليه‌السلام في قوله تعالى : (فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ) ، قال : «النبوّة» و «الحكمة» ، قال : الفهم والقضاء ، «وملكا عظيما» قال : «الطاعة».

أقول : الروايات في ذلك متواترة ، والمراد من الطاعة الطاعة المفترضة في الأئمة عليهم‌السلام ، كما في بعضها.

وعن ابن المغازلي في مناقبه وابن حجر في الصواعق في الآية الشريفة عن هشام بن الحكم عن جعفر بن محمد عليهما‌السلام في قوله تعالى : (وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) ، قال : جعل فيهم أئمة ، من أطاعهم فقد أطاع الله ، ومن عصاهم فقد عصى الله».

وفي الاحتجاج للشيخ : عن حفص بن غياث ، قال : «شهدت المسجد الحرام وابن أبي العوجاء يسأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن قوله تعالى : (كُلَّما نَضِجَتْ

٢٩٩

جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) ، ما ذنب الغير؟ قال عليه‌السلام : ويحك هي هي ، وهي غيرها ، قال : فمثّل لي ذلك شيئا من أمر الدنيا ، قال : نعم ، أرأيت لو أنّ رجلا أخذ لبنة فكسرها ثم ردّها في ملبنها وهي هي وهي غيرها».

أقول : وفي هذا المعنى روايات اخرى مرويّة عنه عليه‌السلام ، ويستفاد منها امور :

الأول : أنّ المادّة الأوّلية موجودة في هذه التبدلات ، وأنّها تذوق العذاب جزاء لما كسبت وإن تبدّلت بهيئات مختلفة وصور متعدّدة ، وبهذا يرتفع كثير من الشبهات الواردة على المعاد الجسمانيّ ، كشبهة الآكل والمأكول وغيرها.

الثاني : يستفاد منها أنّ تغيير الهيئة يوجب الاختلاف في ألم العذاب وطعمه الشدّة أو الضعف أو النوع ؛ لأنّ للحادث أثرا خاصّا غير ما هو السابق ، كما ثبت في محلّه.

الثالث : أنّ التبديل إنّما يكون من نفس الجسم ، لا من جلد خارجي.

الرابع : أنّ التبديل استمراري وتدريجي ، لا أن يكون دفعيا كخلع الثوب وتبديله بثوب آخر ؛ لأنّه تابع للنضج وهو يختلف حسب اختلاف الجلد ، ولعلّ ذلك أشدّ عذابا من غيره ، أعاذنا الله تعالى منه.

الخامس : يختلف زمان التبديل حسب اختلاف نضج الجلد ، وذلك حسب شدّة النّار واختلاف الطبقات المعدّة للمجرمين ، ففي بعض الروايات كما في الدرّ المنثور : «في ساعة مائة مرّة» ، وفي الاخرى : «مائة وعشرين» ، وهذا الاختلاف لا يضرّ بما ذكرنا ، ولا فصل في العذاب عند التبديل لأنّه بنفسه عذاب.

السادس : يستفاد منها التقريب الذهني بتمثيل ما في الآخرة بما في الدنيا ، سواء كان في الجنّة كما في كثير من الروايات ، أم في النّار كما في المقام.

السابع : يستفاد منها أنّ تبديل الجلد بالآخر إنّما يكون مثل الجلد السابق وبأوصافه ، لا أن يكون أسمك مثلا أو بلون آخر غير الأوّل.

نعم ، في الدرّ المنثور أنّه يكون بيضاء ، ولعلّ ذلك بملاحظة لون الجلد

٣٠٠