مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٨

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٨

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٣
ISBN: 946-5665-07-8
الصفحات: ٣٩٧

المنثور وتبعه بعض آخر ، تنسب ما لا يليق بساحة سيد العرفاء والأوصياء أمير المؤمنين عليه‌السلام ولا ينبغي ذكرها وقد تكلّف مؤنة الردّ عليها شيخنا البلاغي قدس سرّه ، ومن شاء فليرجع إلى تفسيره الشريف.

وفي الكافي بإسناده عن جميل قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الجنب يجلس في المساجد؟ قال : لا ، ولكن يمرّ بها كلّها إلا المسجد الحرام ومسجد الرسول».

أقول : الرواية مطابقة للآية الكريمة ، وعدم الاجتياز في المسجدين لشرفهما على غيرهما من المساجد وبيوت الله تعالى.

وعن الزمخشريّ في تفسيره : «روي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يأذن أن يجلس في المسجد أو يمرّ به جنب إلا لعليّ».

أقول : أمثال هذه الرواية كثير تدلّ على فضل أمير المؤمنين عليه‌السلام وقدسيته ولعلّ جنابته عليه‌السلام ليست كجنابة سائر الناس.

وفي تفسير العياشي : عن الحلبي عن الصادق عليه‌السلام قال : «اللمس هو الجماع ، ولكن الله ستّار يحبّ الستر ، فلم يسم كما تسمّون».

أقول : تقدّم في التفسير ما يدلّ على ذلك.

وعن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عمّار بن ياسر فقال : يا رسول الله ، أجنبت الليلة ولم يكن معي ماء. قال : كيف صنعت؟ قال : طرحت ثيابي فتمعكّت. قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : صنعت كما يصنع الحمار ، إنّما قال الله : (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) ، قال : فضرب بيده الأرض ثم مسح إحداهما على الاخرى ، ثم مسح يديه بجبينه ثم كفّيه ، كلّ واحد منهما على الاخرى».

أقول : رواه البخاري ومسلم والنسائي وأبو داود على اختلاف يسير ، وأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله علّم عمّار التيمّم عملا.

٢٤١

بحث فقهي

يستفاد من الآية الشريفة أحكام خاصّة تتعلّق بالجنابة والتيمم ، وسائر الأعذار.

الأوّل : يدلّ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) ، على بطلان الصلاة لو أتى بها في حال السكر من الخمر ، ويجب عليه الإعادة في الوقت والقضاء في خارجه بعد شعوره. ولو كان المراد من السكر النعاس فالنهي إرشاد إلى عدم الكمال لو تحقّق سائر شرائط صحّتها ، إلا إذا فقد الاختيار بسبب النعاس ، بحيث لا يصلح ما يقول ولا يدرك ما يتلفّظ به ، فتبطل الصلاة حينئذ.

كما تدلّ الآية المباركة على بطلان الصلاة حال الجنابة ، ولا ترتفع الجنابة إلا بالغسل عند التمكّن من استعمال الماء أو التيممّ بدلا عنه ، إلا إذا كان هناك عذر من مرض أو سفر أو نحو ذلك.

الثاني : يدلّ قوله تعالى : (إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) ، على عدم جواز مكث الجنب في المساجد إلا إذا كان مجتازا فيها ، فيجوز ما عدا المسجدين ، كما دلّت عليه السنّة.

الثالث : يدلّ قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا) ، أنّ التيمم بدل عن الماء في كلّ ما يشترط فيه الطهارة ، فيستباح به كلّ ما يستباح بالطهارة المائيّة ، وتدلّ على ذلك جملة من الروايات ، ففي بعضها : «انّ التراب أحد الطهورين».

ومن ذلك يعلم أن ما ذكره فخر المحقّقين في الآية الكريمة من عدم جواز الطواف بالبيت للجنب المتيمم ، بل ولا مكثه في شيء من المساجد وإن تيممّ تيمما مبيحا للصلاة ؛ لأنّه عزوجل علّق دخول الجنب إلى المساجد على الإتيان

٢٤٢

بالغسل مع وجود الماء وعلى التيمم مع العدم ، فحمل الطواف والمكث على الصلاة في ذلك قياس لا نقول به.

غير صحيح ؛ لأنّ الآية المباركة تبيّن حكم الصحيح غير المعذور مطلقا ، فعيّن له الطهارة المائيّة ، ثم بيّنت حكم المعذور فعيّن له التيمّم بدلا عنه ، فيقوم البدل مقام المبدل عنه في جميع الأحكام ، إلا ما خرج بالدليل ، مع أنّ الشارع أباح للمتيمّم الدخول في الصلاة ، فيدلّ على إباحته للدخول إلى المساجد بطريق أولى ، والمسألة محرّرة في الكتب الفقهيّة ، فراجع.

الرابع : قد ذكر سبحانه الجنابة وبيّن سببا واحدا لها في ذيل الآية المباركة ، وهو ملامسة النساء ، أي الجماع معهن مطلقا ، ولها سبب ثان أيضا وهو نزول المني مطلقا في نوم ويقظة ، سواء كان مع شهوة أم بدونها.

الخامس : يستفاد من قوله تعالى : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) أنّ المناط في الرجوع إلى التيمم هو عدم وجدان الماء مطلقا ، سواء كان من جهة العجز وعدم التمكّن من استعماله ، أم كان من جهة فقده ، أم كان من جهة حصول الضرر باستعماله ، فيستفاد جميع موارد العذر المذكورة منه.

ويحتمل أن يكون المراد من عدم الوجود فقده ولا يشمل عدم التمكّن من استعماله ، فحينئذ يستفاد بعض أفراد المعذورين من دليل آخر.

السادس : إطلاق الآية الكريمة يدلّ على كفاية الضربة الواحدة في التيمم ، سواء كان بدلا عن الوضوء أم كان بدلا عن الغسل إلا أنّ بعض الروايات تدلّ على التعدّد في البدل عن الغسل.

كما أنّ إطلاق الآية المباركة يدلّ على كفاية مطلق الضرب ، سواء كان تعلّق باليد شيء من التراب أم لا ، بل في بعض الروايات جواز النفض.

السابع : يستفاد من الآية الشريفة عدم احتياج غسل الجنابة إلى الوضوء ؛ لأنّه جعل النهي عن قربان الصلاة مغيا بالغسل ، فلو كان مفتقرا إلى الوضوء لوجب بيانه ، وإلا كان بعض الغاية غاية ، وهو باطل.

٢٤٣

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (٤٤) وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً (٤٥) مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (٤٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً (٤٧))

تتضمّن الآيات الشريفة بعض أحوال أهل الكتاب ولا سيما اليهود ، وتبيّن سوء أخلاقهم ومظالمهم وخيانتهم بالنسبة إلى دين الله تعالى والمؤمنين به ، والتأليب عليهم.

وقد كان من دأب القرآن الكريم ذكر أحوال أعداء الدين وأقاصيصهم ، لتنبيه المؤمنين من دخائل أنفسهم ودوافعهم الخبيثة الشريرة لحرب الدين والمؤمنين به.

وقد تعرّض عزوجل سابقا لجملة من أحوالهم لهذا الغرض ، ثم ذكر أحكاما شرعيّة لبيان الدين الحقّ وتثبيت عزيمة المؤمنين به وتنشيط قواهم في مقاومة زيغ المبطلين ومكرهم وخيانتهم ، وهذا من الأسلوب البديع الذي طالما يستعمله القرآن الكريم في تنشيط النفوس وإصلاحها ، فإنّ الدين القويم يحتاج إلى معرفة السبل لدفع كيد المبطلين وخيانة أعدائه ، كما يحتاج إلى معرفة حقائقه ومعالمه ، فهما أمران لا بد لهما في كلّ دين.

٢٤٤

التفسير

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ).

جملة مستأنفة لبيان سوء حال من اوتي نصيبا من الكتاب ـ وخاصّة اليهود الذين يدعون لأنفسهم الكمال ـ من حسدهم وحقدهم ، فقد قال عزوجل في حقّهم : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) [سورة النساء ، الآية : ٥٤] ، وسيأتي في قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) [سورة النساء ، الآية : ٤٩] ، بعض الكلام ، فإنّ الحسد الذي نبت في قلوبهم لأجل أنّهم يحسبون أنفسهم أفضل أهل الأرض ويدّعون الكمال ويرون أنّهم جديرون بالخير.

والخطاب وإن كان متوجّها لسيد الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله وفخر الموجودات ، لكنّه متوجّه إلى التابعين له أيضا باعتبار أنّه سيدهم.

والتعبير بالنصيب للدلالة على أنّهم لم يحفظوا ذلك ولم يتعهّدوا بالعمل به ، فقد احتفظوا بالاسم دون العمل به ، وأنّهم أهملوا الشيء الكثير ممّا أوتوا ولم يبق إلا النزر القليل الذي لا بد من الاحتفاظ به.

والتنوين في قوله تعالى : (نَصِيباً) للتفخيم أو للتكثير ، وكلاهما يثبت التشنيع.

والمراد بالكتاب جنسه ، ليشمل كلّ من أوتي علما ينتهي إلى الوحي ، فيشمل اليهود والنصارى والمجوس والمنافقين ، وإن كان ظاهر السياق يختصّ باليهود ، فإنّ هذا الخطاب يستعمل في حقّهم في القرآن الكريم ، وهم الذين عرفوا بالعداء والحقد لكلمة الله تعالى ودينه والمؤمنين به.

والخطاب لا يختصّ بعصر النزول ، فإنّ ما ورد في هذه الآية الشريفة لبيان أحوال أعداء الدين وكيدهم للإسلام والمسلمين ، وهو ليس من شأن

٢٤٥

المضي ، فلا يختصّ بوقت معين ، بل هو حديث الماضي والحاضر والمستقبل ، أي الزمن كلّه إلى أن تظهر دولة الحقّ ويمحق الأعداء وكيدهم وخيانتهم ، فإنّ الصراع بين الحقّ والباطل مستمر من أوّل الخليقة حتّى تقوم دولة الحقّ ويمحق الباطل كلّه ، ولهذا كان التوكيد الشديد في القرآن الكريم على الأعداء وكيدهم.

والآية المباركة في مقام التشنيع عليهم والتشهير بشنائع أعمالهم ومفاسد أخلاقهم وإظهارها في سلك الأمور المشاهدة ، وهذا الأسلوب له الوقع الكبير في النفوس وتنشيطها واستلفاتها إلى ما يجري حولها من الحوادث ، ولهذا أتى الخطاب في صورة التعجّب والاستفهام الإنكاري.

قوله تعالى : (يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ).

تعليل للتشنيع السابق عليهم ، وبيان لمناط التعجّب منهم ؛ لأنّهم يشترون الضلالة ويختارونها على الهدى ، ويبذلون بإزاء ذلك أغلى الأمور وهو التوحيد وأسباب السعادة والكمال والصلاح والهدي.

والضلال هو الخروج عن الطريق المستقيم أو المنهج القويم ، عمدا كان أو سهوا ، كثيرا كان أو قليلا ، وسيأتي توضيح ذلك في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى ويضاده الهداية.

قوله تعالى : (وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ).

ترتّب هذا على السابق ترتّب المعلول على العلّة ، فإنّ من اشترى الضلالة وباع أعلى الأشياء وأغلاها وأعظمها بأخسّ الأشياء وهو الضلالة ، لأجل أنّهم على الضلالة ، وقد تمكّنت في نفوسهم وانهمكوا في الضلال والغي ، فهم يطلبونه للمؤمنين الذين هداهم الله تعالى للصراط المستقيم ، الذي أوضح الله اعلامه وأحكم حججه ، فقد جنّدوا أنفسهم لذلك وكتموا الحقّ الذي آتاهم الله تعالى وأظهروا النفاق وخدعوكم بإظهار النصيحة والمودة ، ولقوكم ببشر الوجه وزي الصلاح ، ولكن لا يريدون لكم إلا الفساد والخديعة والإضلال عن السبيل المستقيم الموصل إلى الحقّ.

٢٤٦

وذكر الفعل المضارع في الموضعين ، لبيان استمرارهم على ذلك وتجدّدهم عليهما.

قوله تعالى : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ).

تأكيد لمضمون ما ورد في الآية السابقة وبيان للتحذير منهم ، فإنّ العدو قد أظهر نفسه بمظاهر الصلاح والمودّة ، فالتبس الأمر على المؤمنين ، والله يعلم العدو من الصديق الناصح ، وقد أخبركم بعداوة هؤلاء ، وبيّن لكم حقيقتهم ، فإيّاكم أن تطيعوا لهم أمرا وتأخذوا منهم النصيحة.

قوله تعالى : (وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا).

فإنّه القادر على نصرة أوليائه وهو يكفيهم أعداءهم.

قوله تعالى : (وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً).

يدفع شرّهم ومكائدهم ، والتكرار مع إظهار الاسم الجليل للتأكيد على كفايته عزوجل ، وفيه إيماء بالعلّية ، فإنّه الله الخالق القادر.

قوله تعالى : (مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ)

بيان لأهمّ أفراد الذين اتّصفوا بالضلالة والغواية ، وقد ذكر سبحانه وتعالى جملة من أحوالهم ، بين البيان والمبين ، لمزيد الاعتناء بذكر محلّ التشنيع ، والاهتمام بحثّ المؤمنين على الابتعاد عنهم والاكتفاء بولاية الله تعالى ونصرته ، ومثل هذا الأسلوب كثير في القرآن الكريم ، فإنّه قد يعترض بجمل بين أطراف الكلام مع اتساق الكلام وتناسب أطرافه ، وقد ذكر المفسّرون وجوها في إعراب هذه الجملة.

والمراد من (الَّذِينَ هادُوا) اليهود ، لأنّهم ينتسبون إلى مملكة يهودا بعد أن تشتت سائر الأسباط من بني إسرائيل واضمحل وباد ملكهم الوثني باستيلاء الآشوريين عليهم وقتلهم لهم.

وقد وصفهم تعالى بتحريف الكلام عن مواضعه ، والتحريف إمالة الكلام

٢٤٧

عن مواضعه. وقد ذكرنا في احدى مباحثنا السابقة أنّ تحريف الكلام له وجوه متعدّدة فقد يكون بتلبيس الحقيقة بالكذب ، وقد يكون بستر الواقع والحقيقة وحجبها عن الناس ، وقد يكون بالتبديل إما بالزيادة وإدخال بعض الكلام فيه ، أو بالنقصان ، أو بتغيير مواضع الألفاظ ، وقد يكون بالتأويل المخالف للواقع والتفسير الباطل وغير ذلك ، وقد بيّن القرآن الكريم جملة من موارد تحريفهم ، والإطلاق يشمل جميع أقسام التحريف ووجوهه ، من التحريف الظاهري اللفظي والتحريف المعنوي.

قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا).

بيان لبعض وجوه التحريف ، وهو استعمال القول بوضعه في غير المحلّ الذي ينبغي أن يوضع فيه ، وإنّما خصّ هذا القسم لأنّه يكشف عن شدّة غيهم وضلالهم وتماديهم في العناد ، فإنّهم يحرّفون الكلام بمحضر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أي : يقولون له صلى‌الله‌عليه‌وآله وهم يعلمون أنّه على الحقّ بما عرفوا من أوصافه الواردة في التوراة : سمعنا قولك وعصينا أمرك عنادا ، مع أنّ السمع لا يكون إلا في موضع الطاعة ، فلا بد وأن يقولوا : سمعنا واطعنا ، ويمكن أن يكون قولهم ذلك تهكّما واستهزاء بالرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

قوله تعالى : (وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ).

المسمع بفتح الميم الثانية ، وهذا الكلام يستعمل على وجهين للخير والشرّ ، والأوّل اسمع غير مسمع مكروها ، فكانوا يخاطبون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك ، وهم يضمرون المعنى.

الثاني : أي الشرّ وهو : اسمع حال كونك غير مسمع كلاما أصلا بصمم أو موت أو آفة ، فأرادت اليهود من هذا القول الدعاء على المخاطب ، أي : معنى الشرّ ، والمعنى الخير الظاهر فيه هو (اسمع لا سمعت مكروها) ، ولكنّهم يضمرون السوء منه.

٢٤٨

قوله تعالى : (وَراعِنا).

كلمة ذات وجهين أيضا ، وهي عطف على ما قبلها ، فقد كشف سبحانه وتعالى مظهرا آخر من مظاهر تحريفهم للكلام ، وسوء سرائرهم ونفاقهم ، وتقدّم تفسير هذه الكلمة في سورة البقرة آية (١٠٤) ، وقلنا : إنّ اليهود كانوا يناسبون بكلمة (راعينا) ، وقد ورد في توراة كلمة (راع) مشالة إلى الألف ، وتسمّى عندهم (قامص) ، وهو بمعنى الشرّ أو القبيح ، فتكون بمعنى شريرنا ونحو ذلك من الصفات ، أما المؤمنون فكانوا يستعملون هذه الكلمة بمعنى الحفظ والمراعاة أو المراقبة أو غيرها من الصفات الحسنة ، وقد سمعها اليهود وأرادوا منها غير المعنى المقصود الصحيح.

وقد نهى الله سبحانه وتعالى في آية البقرة أن يستعملها المسلمون ؛ لئلا يستغلّها اليهود في ذمّ الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

قوله تعالى : (لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ)

تعليل لما تقدّم ، وانتصاب (لَيًّا) على العليّة ، أي : يقولون ذلك ليّا. واللي : الانحراف والفتل ، يقال : ليّ الحبل ، أي : فتل.

والمعنى : يظهرون الكلام بصورة الحقّ ويريدون خلافه ويميلون به إلى المعنى الباطل ، سواء في القلب أو باللسان ، ويقولون ذلك طعنا في الدين وقدحا فيه ، وقد عرفوا بذلك في مرّ الزمن.

قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ)

أي : ولو أنّهم اختاروا الهدى على الضلال ، وقالوا : سمعنا قولك وأطعنا أمرك ، واسمع منا ما نقول في مقام الاهتداء وانظرنا باللطف ، لكان خيرا لهم من القول الباطل المموه وأعدل في نفسه وأضرب ؛ لأنّ الكلام قد اشتمل على أدب الدين وطلب الهداية والخضوع للحقّ ، وهو خير لهم وأقوم ممّا قالوه ، وقد بدّل

٢٤٩

الله سبحانه سماع الردّ منهم بسماع القبول ، وقد جعل الإطاعة مكان العصيان وطلب السماع من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لهم بدلا من قولهم : «واسمع غير مسمع» ، وجعل (وَانْظُرْنا) بهمزة الوصل وضم الطاء المعجّمة ، بدل قولهم : (راعنا) ، وهو المعنى الذي كانوا يغالطون فيه ، فإنّ جميع ذلك خير لهم ؛ لأنّهم جعلوا قيادهم إلى الرسول والطاعة له ويلقون بسعادتهم عنده ، وهو الهادي إلى الصلاح والسعادة ، وكان ذلك أقوم لهم وأعدل لما فيه من الأدب والفائدة العظيمة وحسن العاقبة.

قوله تعالى : (وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ)

أي : أنّهم لم يقولوا ذلك لخبث سرائرهم وتمرّدهم على الحقّ وإعراضهم عنه ، فلعنهم الله تعالى وطردهم عن رحمته بسبب كفرهم ولجاجهم وعنادهم مع الله تعالى ورسوله. والباء في (بِكُفْرِهِمْ) للسببيّة.

قوله تعالى : (فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً)

أي : فلا يؤمنون بالله ورسوله بسبب جحودهم ولجاجهم إلا قليلا منهم ، الذين لم يتمرّدوا على الحقّ ولم يتوغّلوا في المحاورة مع الله ورسوله ، وفي الكلام ايئاس المؤمنين ، ويستفاد من كلمة (لو) المشعرة باستحالة وقوع المتمنّى به أيضا ، فإنّهم ملعونون لا يوفقون للإيمان ، والاستثناء من ضمير المفعول في (لَعَنَهُمُ).

أي : أنّ الله تعالى أبعدهم عن رحمته بسبب كفرهم وعنادهم ، فلا يؤمنون بعد ذلك إلا فريقا قليلا ممّن اختار الطريق الأنفع والأقوم ، فشملته العناية الربانيّة فآمن.

فالاستثناء إنّما يكون بالنسبة إلى الأفراد وخروج بعض الأفراد من الحكم المترتّب على المجتمع وهو عدم الإيمان المستفاد من قوله تعالى : (فَلا يُؤْمِنُونَ) ، فاستثنى منه قليل الأفراد ، ومثل ذلك كثير بالنسبة إلى المجتمعات ، لا سيما المجتمع اليهوديّ الذي استحقّ كثيرا من اللوم والغضب واللعن ، إلا بعض الأفراد.

٢٥٠

وقيل : إنّ (قَلِيلاً) صفة لموصوف محذوف ، أي : لا يؤمنون إلا إيمانا قليلا ، ولكن اتصاف الإيمان بالقلّة إنّما هو بلحاظ المتعلّق ، فيرجع إلى ما ذكرناه.

والقول : بأنّ المراد حينئذ قليل الإيمان مقابل كامله ، أي : لا يؤمنون إلا قليلا من الإيمان الذي لا يعتدّ به لجحودهم وعنادهم وغيّهم ؛ لأنّ اللعن إنّما كان على الأفراد ، ولعنة الله تعالى إيّاهم لا يجوز أن يتخلّف عن التأثير بإيمان بعضهم ، فاستوجب أن يكون المراد قليل الإيمان الذي لا يعتدّ به ، وهو لا يوجب رفع اللعنة عنهم.

فاسد : أما أوّلا ، فلان الإيمان يتّصف بالكامل والناقص والمستقرّ والمستودع ، كما ورد في القرآن الكريم ، ولم يرد فيه اتصاف الإيمان بالقلّة والكثرة.

وثانيا : فلأنّ الإيمان القليل ـ سواء كان صوريّا أم قلبيّا ـ ممّا يعتني به الإسلام ، قال تعالى : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً) [سورة النساء ، الآية : ٩٤] ، وهو يوجب رفع اللعنة عنهم.

وثالثا : لا فائدة في هذا الاستثناء بعد استحقاقهم اللعنة مطلقا.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا)

خطاب عامّ لجميع أهل الكتاب بالإيمان بما أنزل الله تعالى على عبده ورسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله من القرآن والشريعة وصفات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، التي عرفوها بأوصافه في كتبهم.

وإنّما نسبهم إلى إيتاء الكتاب باعتبار أسلافهم الذين أوتوا الكتاب مصونا من التحريف وعرفوا حقائقه وأحكامه ، وهو يكفي في الداعويّة إلى الإيمان بالرسول الكريم.

قوله تعالى : (مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ)

ممّا ورد في الكتاب من التوحيد والبشارة برسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وبعض الحقائق التي لم تصل إليها يد التحريف والنقصان ، وإنّما عبّر سبحانه وتعالى (لِما مَعَكُمْ) دون أن يذكر اسم التوراة ، مع كون الخطاب معهم ، إيذانا بكمال وقوفهم على حقيقة

٢٥١

الحال ، فإنّ التوراة قد بشّرت برسالة خاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّ القرآن الكريم المنزل عليه مصدّق لها.

قوله تعالى : (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها)

مادة (طمس) تدلّ على محو أثر الشيء واستئصاله ، وقد وردت هذه المادّة في القرآن الكريم في خمسة مواضع. والدائر والدارس متقاربة المعنى ، ونطمس ـ بكسر الميم وبالضم لغة ـ مضارع طمس بفتحها يستعمل قاصرا ، ومتعدّيا كما في الآية الشريفة ، وفي قوله تعالى : (فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ) [سورة القمر ، الآية : ٣٧] ، ويعدّى ب (على) كما في قوله تعالى : (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ) [سورة يونس ، الآية : ٨٨] ، وقوله تعالى : (وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ) [سورة يس ، الآية : ٦٦] وطمس البصر هو محو أثره ، أي : أعميناهم ، قال الشاعر :

من يطمس الله عينيه فليس له

نور يبين به شمسا ولا قمرا

والوجوه : جمع الوجه ، وهو ما يستقبل من الشيء ويظهر منه ، وفي الإنسان الجانب الظاهر المقدّم من الرأس الذي يستقبلك منه ، ويستعمل في الأمور الحسيّة ، كما يستعمل في الأمور المعنويّة ، فيقال : وجه الشيء ، أي : حقيقته. والتنوين في الوجوه لتهويل الأمر مع لطف ، حيث إنّ العذاب لا يلحق إلا ببعضهم ، ويحتمل الانطباق على كلّ فرد من القوم ، فلا يأمن أحدهم من هذا العذاب.

والأدبار جمع دبر ـ بضمتين ـ وهو القفا ، وجملة : (فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها) عطف تفسيري للطمس وبيان له ، فيكون الطمس محمولا على ظاهره ، أي : نمحي أثر الوجه ونجعله كالادبار ، بتغيير الخلقة الأصليّة ، وهو يوجب عدم قيام الإنسان بوظائفه الحيويّة وعدم تحقّق المقاصد التي فطر عليها الإنسان لو كان على غير الصورة التي خلقها الله تعالى ، فإنّ الإنسان على خلقته الأصليّة يسعى

٢٥٢

للكمال وتحقيق مقاصده الدنيويّة والاخرويّة ، وإصلاح شؤون نفسه ونيل سعادته وكلّ ما يراه خيرا ، ولا يتحقّق ذلك في طمس الوجه والردّ على الأدبار ، فيستلزم الضلال وعدم الفلاح حينئذ.

وقد ذكر المفسّرون في معنى الآية الكريمة وجوها اخرى ، فقيل : إنّ المراد بالطمس تحويل وجوه قوم إلى الأقفية في آخر الزمان أو في يوم القيامة ، فتصير عيونهم مثلا في قفاهم.

وقيل : إنّ المراد بالطمس هو الخذلان الدنيويّ ، فلا يزالون على الذلّة والمسكنة ، قال تعالى : (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا) [سورة آل عمران ، الآية : ١١٢].

وقيل : يردّهم عن الهداية إلى الضلالة ، قال تعالى : (وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ) [سورة الجاثية ، الآية : ٢٣].

وقيل : إنّ المراد من الطمس إجلاؤهم من الحجاز وردّهم إلى الشام.

وقيل : إنّ المراد من الوجه هو الوجهاء والأعيان ، ومن الطمس مطلق التغيير ، أي : نجعل رؤوسهم أذنابا ، وذلك أعظم سبب البوار والدمار.

وهذه الوجوه خلاف ظاهر الآية الشريفة التي تدلّ على أنّ الطمس تصرّف إلهي في الإنسان يوجب تغيير طبعه عن قبول ما يوافق الفطرة والارتداع عن مطاوعة الحقّ ، الذي كان حاصلا من تغيير البيئة الأصليّة للإنسان ، وعدم وصوله إلى الكمال اللائق بحاله ، وهو يستلزم عدم تحقّق السعادة الدنيويّة والاخرويّة.

والآية المباركة صريحة في عدم تحقّق هذا النوع من التصرّف الإلهي ، وإنّما هو وعيد يكشف عن شدّة سخطه بأبلغ وجه ، حيث لم يعلّق وقوع المتوعّد به بالمخالفة ، ولم يصرّح بوقوعه عندها ، تنبيها على أنّ ذلك أمر واقع لا محالة غني عن الإخبار به الحقّ ، فإنّه تعالى بعد أن دعاهم إلى الإيمان بالكتاب الذي نزل

٢٥٣

مصدّقا لما معهم فوعدهم بأحسن وجه ، ولكنّهم خالفوا الله تعالى ورسوله وامتنعوا عن المطاوعة للحقّ ، وكان جزاء ذلك أن حرموا من العناية الربوبيّة إلا قليلا منهم ممّن وفّق للإيمان ، وهنا أوعدهم بالسخط والعذاب.

قوله تعالى : (أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ).

توعيد آخر مترتّب على الوعيد الأوّل ، أي : إن لم يتحقّق الأمر الأوّل ، يتحقّق هذا لا محالة. واللعن هو الطرد عن الرحمة.

والتشبيه بأصحاب السبت لبيان تهويل الأمر والإغراق في الوصف ، وقد ذكر سبحانه وتعالى أصحاب السبت في آية اخرى ، قال تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ* فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) [سورة البقرة ، الآية : ٦٥ ـ ٦٦] ، وأصحاب السبت الذين ذكرهم الله عزوجل في قوله : (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٦٣] ، وسيأتي ذكر أخبارهم إن شاء الله تعالى.

و (أو) في الآية الكريمة على ظاهرها من التنويع والترديد ، والاختلاف بين الوعيدين ظاهر ، فإنّ الأول يوجب تغيير الخلقة الأصليّة بأن ينصرف عن فطرته التي فطر الله عليها الإنسان في كفاحه وجهاده في الدنيا ، نظير ما ورد في آكل الربا (لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٧٥] ، فراجع ما ذكرناه هناك ، وأمّا هذا الوعيد ـ وهو اللعن كلعن أصحاب السبت ـ فهو يوجب البعد عن الرحمة وسلب التوفيق والرجوع إلى الخلقة الحيوانيّة ، التي ليس لها غرض إلا الأكل والنوم والسفاد ، فقد سلب عنه الكمالات المعنويّة المعدّة للإنسان ، مضافا إلى أنّ الوعيد الأول لا يعمّ الجميع ، وإنّما يختصّ ببعض القوم ، بخلاف الثاني فإنّه سيعمهم إن تمرّدوا عن الامتثال ، كما هو المستفاد من إرجاع ضمير الجماعة «نلعنهم» الى جميع الأفراد.

٢٥٤

قوله تعالى : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً)

جملة مستأنفة تقرير لما سبق وإخبار بجريان عادة الله تعالى بوقوع الأمر لا محالة ، وأنّه سينفذ فيهم ما توعّد به ، وقد وقع ما توعد به بالنسبة إليهم من نزول اللعنة والسخط عليهم ووقوع العداوة والبغضاء بينهم إلى يوم القيامة ، كما أخبر به عزوجل في مواضع متعدّدة في القرآن الكريم.

والمراد بالمفعول النفوذ ، وحكم الآية المباركة عامّ لا يختصّ بقوم دون قوم ، وإن كان أظهر مصاديقه ما تقدّم في صدر الآية المباركة.

بحوث المقام

بحث دلالي

تدلّ الآيات الشريفة على امور :

الأول : يدلّ قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) على أنّ الذين أوتوا الكتاب كانوا يستميلون المؤمنين إلى الضلال بوجوه كثيرة ، وهذا هو من شعب نفاقهم ، وقد بيّن عزوجل حقيقة الأمر للمؤمنين ، وأعلمهم بأنّ الذين أوتوا الكتاب على عداوة وبغضاء لهم ، فلا يغترّوا بمظاهرهم ، وقد أكّد عزوجل ذلك بالأمر بالنظر إليهم ، فلا يركنوا إلى ما يظهرونه لهم من العطف وحسن الكلام ، فإنّهم يبالغون في تحريف الكلام ، كما بيّن عزوجل شطرا منهما في الآية الشريفة.

الثاني : يدلّ قوله تعالى : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً) على عدم الاكتفاء بالمظاهر ، ولا بد من الرجوع إلى ما بيّنه عزوجل من حالات الذين أوتوا الكتاب ، فإنّه تعالى أعلم بما في الضمائر وما تحمله قلوبهم من العداوة والبغضاء ، فلا ينبغي التخطّي عن تعاليم القرآن في دفع كيد الأعداء ومكرهم والتصدّي لنفاقهم وضلالهم.

٢٥٥

الثالث : يدلّ قوله تعالى : (مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) ، أنّ اهتمام اليهود هو تحريف الكلام ، وهو من أهمّ ما اتّصفوا به في العصور ، وقد ذكر عزوجل في مواضع متعدّدة في القرآن الكريم وجوها مختلفة لذلك ، وفي المقام ذكر سبحانه وتعالى وجها آخر ، وهو تغيير الكلام وإظهاره بصورة الدعاء والخير ، وهم يقصدون وراء ذلك شيئا آخر ، كالطعن في الدين والحطّ من منزلة سيد المرسلين أمام أتباعه من المؤمنين ، وقد بيّن عزوجل للمؤمنين هذه الخديعة ، وأمرهم بالحيطة منهم وأرشدهم إلى ما يصحّ أن يقال في مقام التخاطب ، ليفوزوا بالخير والسعادة.

الرابع : يدلّ قوله تعالى : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) ، على أنّهم غيّروا مواضع الآيات المباركة ، وبه تغيّر المعنى واختلف ، ونظير ذلك قوله تعالى : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) [سورة المائدة ، الآية : ٤١] ، ولعلّ الأخير يدلّ على أنّ التحريف كان بحذف الكلام أصلا ، بخلاف الأوّل ، فإنّه يدلّ على أنّ التحريف بتبديل مواضع الكلمات.

الخامس : يدلّ قوله تعالى : (مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) أنّ في القرآن الكريم الشيء الكثير ممّا ورد في كتبهم التي لم تنله يد التحريف ، فهذا الدين يتفق مع سائر الأديان الإلهيّة في الأصول وكثير من الفروع ، فهي تدعو إلى التوحيد والعدل بين الناس والنهي عن المعاصي والفواحش ، وتأمر بالتحلّي بمكارم الأخلاق ، كما يدعو القرآن إلى ذلك ، فلا يجوز الإعراض عن مطاولة الحقّ والإيمان بالإسلام وإلا فإنّ الجزاء المعدّ لهم يكون عظيما ، وقد ذكر عزوجل نوعين من الوعيد ، الطمس واللعنة ، وهما يوافقان العمل العظيم الذي هم كانوا عليه ، فكان الجزاء موافقا للعمل ، وهو أنّ القوانين الإلهيّة المعروفة هي مشاكلة العقوبة مع الجناية.

السادس : تدلّ نوعية الجزاء ـ وهي الطمس واللعنة ـ على نوع العمل

٢٥٦

الذي يعملونه ، فإنّ الجناية عظيمة ، وهي التحريف والتغيير وعدم الإيمان بما يعملونه أنّه حقّ ، فاستوجب طمس فطرتهم وبعدهم عن الرحمة الإلهيّة واختلاف الجزاء باختلاف الأشخاص ونوع العمل.

السابع : انّما وصف الذين كفروا بأهل الكتاب ؛ لإعلامهم بأنّ من تلبّس بالكتاب لا ينبغي أن يعرض عمّا في الكتاب الذي أتوه ، وأنّ العلماء بالله وآياته لا بد أن يتلبّسوا بما أنزله الله تعالى ، فالإصرار على الإعراض يوجب الانسلاخ عن الكتاب وعلمه.

بحث روائي

في تفسير العسكري : عن الكاظم عليه‌السلام : كانت هذه اللفظة : «راعنا» من ألفاظ المسلمين الذين يخاطبون بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، يقولون : «راعنا» ، أي : ارع أحوالنا واسمع منا كما نسمع منك ، وكان في لغة اليهود معناه : اسمع لا سمعت ، فلما سمع اليهود المسلمين يخاطبون بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ويقولون : «راعنا» ويخاطبون بها ، قالوا : كنا نشتم محمدا إلى الآن سرّا ، فتعالوا الآن نشتمه جهرا ، وكانوا يخاطبون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ويقولون : «راعنا» ، يريدون شتمه ، ففطن لهم سعد بن معاذ الأنصاري ، فقال : يا أعداء الله عليكم لعنة الله ، أراكم تريدون سبّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جهرا ، توهمونا أنّكم تجرون في مخاطبته مجرانا ، والله لا أسمعها من أحد منكم إلا ضربت عنقه ، ولو لا أنّي أكره أن أقدم عليكم قبل التقدّم والاستيذان له ولأخيه ولوصيه عليّ بن أبي طالب القيم بأمور الامة نائبا عنه فيها ، لضربت عنق من قد سمعته منكم يقول هذا. فأنزل الله : يا محمد (مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) ، وأنزل :

٢٥٧

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا) ، فإنّها لفظة يتوصّل بها أعداؤكم من اليهود إلى سبّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وسبّكم وشتمكم ، (وَقُولُوا انْظُرْنا) ، أي : قولوا سمعنا واطعنا ، لا بلفظة راعنا ، واسمعوا ما قال لكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قولا وأطيعوه ، وللكافرين ـ يعني اليهود الشاتمين لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ (عَذابٌ أَلِيمٌ) وجيع في الدنيا إن عادوا لشتمهم ، وفي الآخرة بالخلود في النّار.

أقول : يستفاد من هذه الرواية أنّ اليهود كانت تستعمل النفاق وبالإهانة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكشف الله خبث سرائرهم بما تفطّن به معاذ فهدّدهم ، ولعلّ الرواية من باب ذكر أحد الموارد أو التطبيق.

وفي الدلائل للبيهقي : عن ابن عباس قال : «كان رفاعة بن زيد التابوت من عظماء اليهود إذا كلّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لوى لسانه وقال : ارعنا سمعك يا محمد حتّى نفهمك ، ثم طعن في الإسلام وعابه ، فأنزل الله فيه الآيات الكريمة».

أقول : الرواية من باب ذكر أحد المصاديق ، فلا تنافي بينها وبين ما تقدّم.

وفي الدلائل للبيهقي ـ أيضا ـ : عن ابن عباس قال : «كلّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رؤساء من أحبار يهود ، منهم كعب بن أسد وعبد الله بن صوريا ، فقال لهم : يا معشر اليهود ، اتقوا الله وأسلموا ، فو الله إنّكم لتعلمون أنّ الذي جئتكم به الحقّ ، فقالوا : ما نعرف ذلك يا محمد ، فأنزل الله فيهم : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا).

أقول : الرواية من باب ذكر أحد الموارد ، وإنّ إنكارهم لكلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان عن خبث سرائرهم ولجاجهم ، فكشف الله تعالى ما حوت به قلوبهم من الصفات الذميمة.

وهناك روايات تدلّ على أنّ الآيات الكريمة نزلت في حقّ علي عليه‌السلام ، فقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا) في علي نورا مبينا (مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) ، ولكنّها من باب التطبيق والتفسير.

٢٥٨

بحث كلامي

لا شكّ أنّ الجزاء المترتّب على الأعمال ـ قبيحة كانت أو صالحة أو الملكات النفسانيّة التي لها أثر في الخارج ، أو ما لا تكون كذلك إلا أنّها قابلة للزوال ولم يعالجها آنها ، فرسخت في النفس بالاختيار ـ لا بد وأن يكون مطابقا لها ويناسبها ، ويدلّ على ذلك كثير من الآيات المباركة والسنّة الشريفة ، بل قد يكون الاختلاف حسب العامل بما عنده من الدرجات ، أو حسب الأزمنة المعيّنة أو حسب الصفات النفسيّة ، بلا فرق في ذلك بين العذاب الدنيويّ والاخرويّ ، وأما مسألة الخلود في النّار ، فقد أجبنا عنه في أحد مباحثنا السابقة ، ويأتي التعرّض لها في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

والطمس الذي هو نوع من أنواع العذاب الذي يستحقّه المتمرّد أخف من المسخ في الجملة ، فإنّ المسخ قلب الشيء أو تبديله إلى أسوء منه ، وهو تارة : في العين ، أي : مسخ الخلق ، كما يمسخ الله الإنسان المتمرّد المنهمك في المعصية إلى القرد.

واخرى : مسخ الخلق ، وهو يحصل في كلّ زمان ومكان ، وذلك أن يصير الإنسان ـ نستجير بالله ـ متخلّفا بخلق ذميمة فاسدة من أخلاق بعض الحيوانات ، نحو أن يصير في شدّة الحرص كالكلب ، وفي الشره كالخنزير أو غيرهما من الحيوانات التي لها خلق ذميمة وصفات سيئة.

بخلاف الطمس الذي هو تغيير في الصورة والوجه ، بمحو محاسنها وزوال تخطيطها من العين والأنف والحاجب ، وجعل الوجه على هيئة الأدبار ، وفي المقام لما كانت جماعة من اليهود قد أعرضوا عن الحقّ ومتابعته بعد إقامة الحجّة عليهم ، فقد طمس الله تعالى على وجوههم وغيّرهم عن تلك الخلقة الأصليّة ،

٢٥٩

جزاء لأعمالهم الفاسدة ولإعراضهم عن الواقع الذي علمت به ضمائرهم ونفوسهم ، وسيأتي في الآيات الآتية ما يرتبط بالبحث إن شاء الله تعالى.

ثم إنّ الطمس أو المسخ لو وقع على قوم ـ أو على فرد ـ لا يمكن رفعهما ؛ وذلك لا لأجل القصور في القدرة ، فإنّه تعالى قادر على كلّ شيء وإذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ، بل لأنّهما من مظاهر غضبه والطرد من رحمته وساحته ، ومن حلّ به غضبه فقد هوى ، فالموضوع غير قابل ، ولا يكون لائقا للعود إلى رحمته.

٢٦٠