مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٨

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٨

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٣
ISBN: 946-5665-07-8
الصفحات: ٣٩٧

بشعيرة الصلاة والتوجّه إلى عبادة الله تعالى بالتطهير من الخبائث وما يوجب البعد عن مقام الأحديّة عند الوقوف بين يديه عزوجل ، ليكون وسيلة للابتعاد عن أهوال يوم القيامة ـ ذلك اليوم الذي يتمنّى الكافر أن يسوى مع الأرض ـ والتقرّب إليه سبحانه وتعالى.

التفسير

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)

ذكرنا مرارا أنّ الخطابات القرآنيّة عامّة تشمل جميع أفراد الناس الموجودين حال الخطاب وغيرهم ، كما أنّها تعمّ المؤمنين وغيرهم ، إلا إذا دلّ على التخصيص ، وهو مفقود في المقام.

وإنّما خصّ عزوجل المؤمنين تشريفا لهم بالأهليّة للخطاب الربوبيّ ، وهم الفائزون بشرف العمل به. وللإرشاد بأنّ العمل بهذه التكاليف يوجب الاتصاف بصفة الإيمان.

وذكر بعضهم : أنّ الخطاب في المقام إنّما هو للمؤمنين السكارى ، وهم لا يعون الخطاب ، فيكون مثل هذا دليلا على جواز التكليف المحال ، ولكن فساد ذلك واضح ، فإنّ الخطاب لا يستلزم وجود السكارى حاله ، لما ثبت في الأصول أنّ صحّة الخطاب لا تدور مدار وجود المخاطبين ، ولذا صحّ خطاب المعدومين وفاقدي الأهليّة والشروط ، فراجع (تهذيب الأصول).

وكيف كان ، فهذا الخطاب المبدوء بحرف النداء والتنبيه يدلّ على أهميّة الحكم.

قوله تعالى : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى).

القرب معروف ، وهو الدنو من الشيء مقابل البعد ، فهما يستعملان في الزمان والمكان ، وفي النسبة والقدرة والرعاية وغيرها ، قال تعالى : (اقْتَرَبَ

٢٢١

لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ) [سورة الأنبياء ، الآية : ١] ، وقال تعالى : (لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً) [سورة الأحزاب ، الآية : ٦٣] ، وقال تعالى : (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) [سورة التوبة ، الآية : ٢٨] ، وقال تعالى : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى) [سورة النساء ، الآية : ٨] ، وقال تعالى : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) [سورة ق ، الآية : ١٦] ، وقال تعالى : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [سورة الأعراف ، الآية : ٥٦].

وقرب العبد من الله تعالى قرب روحانيّ ، لا قرب جسمانيّ ولا مكانيّ ؛ لأنّ ذلك من صفات الأجسام والله جلّ شأنه يتعالى عن ذلك ويتقدّس ، كما أنّ قرب الله إلى العبد هو بالإفضال والفيض عليه من مواهبه وألطافه والإحسان إليه وترادف مننه عليه ، وفي الحديث : «أن موسى عليه‌السلام قال : إلهي أقريب أنت فأناجيك؟ أم بعيد أنت فأناديك؟ فقال : لو قدرت لك البعد لما انتهيت إليه ، ولو قدرت لك القرب لما اقتدرت عليه» ، وفي الحديث عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله فيما ذكر عن الله تعالى في القدسيات : «من تقرّب إليّ شبرا تقرّبت إليه ذراعا» ، وقوله تعالى : «ما تقرّب إليّ عبد بمثل أداء ما افترضت عليه ، وأنّه ليتقرّب إليّ بعد ذلك بالنوافل حتّى احبّه» ، ومعنى حبّه إزالة الأوساخ عنه وتحلّية بأكمل الصفات وأجلّها ، وفي الحديث : «صفة هذه الامة في التوراة قربانهم دمائهم» ،أي : يتقرّبون إلى الله تعالى بإراقة دمائهم في الجهاد ، وفي مرضاته جلّت عظمته.

ولا تقربوا (بفتح الراء) بمعنى لا تلبسوا بالصلاة ، و (بضم الراء) بمعنى لا تدنوا ، والظاهر أنّهما متلازمان ، ومثل هذا التعبير معروف في القرآن الكريم ، وإنّما أتي به للتأكيد على احترام الصلاة والاجتناب عنها في حال السكر بعدم القرب منها.

والنهي عن الصلاة في تلك الحال مستلزم للنهي عن مقدّماتها ومواضع الصلاة ؛ لأنّه من أنحاء القرب منها ، فإنّ القرب من الرحمن إنّما يكون بها. وحالة السكر دنوّ إلى الشيطان ، فلا يمكن الجمع بينهما.

٢٢٢

والصلاة : هي الشعيرة المعروفة في الإسلام ومن العبادات التي لم تنفكّ شريعة منها ، وإن اختلفت صورها وشرائطها حسب شرع دون آخر ، وقد اهتمّ بها الإسلام اهتماما بليغا وحثّ على إقامتها.

وسكارى : (بضم السين) جمع السكران ، مثل كسالى وكسلان ، والسكر خلاف الصحو ، وهو حالة تعتري على الإنسان تفصل بين المرء وعقله ، فتعبث بشعوره ويخرجه عن الاستقامة الطبيعيّة ، فلا يعلم ما يقول ، كما ورد في قوله تعالى : (حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ).

وقد يكون السكر من الهوى والعشق ، والأكثر ما يعتري على الإنسان من الشراب المخصوص المعتصر من العنب وغيره ، قال الشاعر :

سكران سكر هوى وسكر مدام

كما يعترى على الإنسان من شدّة النعاس وهو سكر النوم ، وللسكر مراتب مختلفة شدّة وضعفا ، وكذا في سكرات الموت ، قال تعالى : (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) [سورة ق ، الآية : ١٩].

والمراد به في المقام هو المعنى العامّ ، وهي الحالة التي تستولي على الحواس الموجبة لعدم معرفة ما يقول ـ كما يدلّ عليه بعض الروايات كما يأتي ـ فإنّ المصلّي لا بد له من حفظ صورة الصلاة والالتفات إليها ليصونها عن الاختلاط في أفعالها وأقوالها والذهول عنها ، وهذا يستلزم أن يكون صحوا ذو التفات وشعور ، كما يدلّ عليه ذيل الآية الشريفة ، ويؤيّد ذلك ما ورد عن الصادق عليه‌السلام : «من صلّى ركعتين يعلم ما يقول فيهما ، انصرف وليس بينه وبين الله عزوجل ذنب له إلا غفر له».

وعلى هذا ، يشمل سكر النوم والسكر الحاصل من شرب الخمر بطريق أولى ، فيكون نهيا عن الصلاة كسالى وفي حالة الغفلة والذهول. وقال بعضهم : إنّه يختصّ بالسكر الحاصل من الخمر ؛ لكثرة الاستعمال فيه.

٢٢٣

وفيه : أنّ كثرة الاستعمال لا تمنع من إرادة المعنى العامّ ، خصوصا بملاحظة عموم التعليل (حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ).

وعلى هذا ، يظهر فساد القول بأنّ الآية الكريمة نزلت لتحريم الخمر في حالة خاصّة وهي الصلاة ؛ لأنّ الخمر كانت من الأمور المتفشّية في المجتمع الجاهلي وفي عصر نزول القرآن ، وكانت ما تزال عالقة بقلوب بعض المؤمنين ، وفي مثل ذلك يحتاج إلى تدرّج طويل حتّى تمحى من النفوس.

ولكن ذلك تطويل بلا طائل تحته ، إذ كم كانت من العادات السيئة العالقة في النفوس المستحكمة فيها قد ورد النهي الصريح عنها بلا إمهال وتدرّج ، منها قضية الألوهيّة والأخلاق الفاسدة ونكاح الأمهات والربا ، إلى غير ذلك من العادات السيئة والصفات الذميمة ، والخمر أيضا كذلك ، إلا أن يكون الخمر مختلفا عن غيرها ، كما قاله بعضهم (من أنّ الخمر عادة نفسيّة وجسديّة واجتماعيّة) ، ولكن ذلك لا يكون سببا للفرق ، فإنّ الكذب وسائر الفواحش أيضا كذلك إذا شاعت في المجتمع ، وإنّما ورد النهي المكرّر عن الخمر بالخصوص ؛ لأنّها ام الخبائث والسبب في إشاعة الفحشاء ، وقد ذكرنا ما يتعلّق بذلك في قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) [سورة البقرة ، الآية : ٢١٩] فراجع. وقد تكلّف بعض المفسّرين في تنظيم الآيات المباركة الواردة في الخمر وربط بعضها ببعض.

ومن ذلك يظهر بطلان ما ورد في شأن نزول هذه الآية الشريفة ، خصوصا الروايات المدسوسة المزيّفة ، وقد تكلّف مؤنة الردّ عليها شيخنا البلاغي قدس سرّه في تفسيره (آلاء الرحمن) ، فراجع.

ثم إنّ بعض المفسّرين ذهب إلى أنّ المراد بالصلاة في قوله تعالى : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) ، مواضع الصلاة. أما بحذف المضاف ، أو بارتكاب المجاز تسمية المحلّ باسم الحال ، لكثرة وقوعها في المساجد ، أو سمّي المسجد بذلك

٢٢٤

تقريبا ، كتسمية اليهود موضع عباداتهم «صلاة» ، كما في قوله تعالى : (وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ) [سورة الحج ، الآية : ٤٠] ، بقرينة قوله تعالى : (وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) ، والمقتضي لهذا التجوّز قوله تعالى : (حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) ، فإنّه لو قال : (لا تقربوا المسجد وأنتم سكارى) ، لم يستقم التعليل ، أو أفاد فائدة اخرى غير مقصودة ، ولخلوه عن شائبة التكرار.

وفيه : أنّه خلاف ظاهر اللفظ ، مع أنّه يستلزم أن يكون الأحكام الآتية للمسجد ، وهو مضافا إلى كونه بعيدا في نفسه ، يلزم النهي عن دخول الذي يجيء من الغائط إلى المساجد حتّى يطهّر بالماء ، أو التراب إن لم يجد الماء ، وهو خلاف الإجماع ، فالمراد بالصلاة هي الشعيرة كما عرفت ، فيكون النهي عن اجتنابها باجتناب القرب إليها ، ومن أنحاء القرب دخول المساجد.

وقوّى بعض العلماء من أصحابنا أن تكون الصلاة في قوله تعالى : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ) على معناها الحقيقي ، وفي قوله تعالى : (وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) على معناه المجازي ، أي : مواضعها ، وعدّ ذلك من باب الاستخدام المعروف في العلوم الأدبيّة ، فإنّه عزوجل استخدم لفظ الصلاة لمعنيين ، أحدهما إقامة الصلاة ، بقرينة قوله تعالى : (حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) ، والآخر مواضع الصلاة بقرينه قوله : (وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ).

وهذا الاحتمال وإن كان لا بأس به إلا أنّه خلاف الاستخدام المعروف في العلوم الأدبيّة ، فإنّ الاستخدام هو أن يؤتى بلفظ له معنيان حقيقيان أو مجازيان أو مختلفان يراد به أحدهما ، ومن الضمير العائد إليه المعنى الآخر ، أو يعاد إليه ضميران ، يراد من الثاني غير المعنى الذي أريد من الأوّل ، وما ذكره من الاستخدام غيره كما هو واضح. يضاف إلى ذلك أنّه خلاف ظاهر الآية المباركة ، فالحقّ ما ذكرناه.

والآية الشريفة بإيجازها البليغ تضمّنت النهي عن الصلاة حال السكر

٢٢٥

وتأثير النوم أو الخمر في الإنسان ، بحيث أوجب إذهاب الحالة الاعتياديّة عنه كما تضمّنت حكم الدخول في المساجد حال السكر وحال الجنابة ؛ لأنّ النهي عن قربان الصلاة يستلزم النهي عن دخول المسجد ؛ لأنّه من أنحاء القرب.

قوله تعالى : (حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ).

تعليل للنهي وغايته ، وبيان لمعنى السكر أيضا. أي : إنّما نهيتهم عن الصلاة في هذه الحالة ؛ لأنّ السكران لا يعلم ما يقول ، فإنّكم في حال الصلاة تواجهون مقام الكبرياء والعظمة ، وتخاطبون الربّ الرؤف والصلاة إنّما يطلب بها التقرّب والطاعة ، فلا بد من حفظ حدودها والتدبّر في أفعالها وأقوالها وأذكارها ، والإقبال بها مع الخضوع والخشوع والتوسّل بها ، لرفع الدرجات وقضاء الحوائج ، فكيف يؤتى بها مع السكر والطيش والذهول والغفلة وما يوجب بطلان القول ، فلا تعلمون ما تقولون في حالة السكر ، فلا يصلح لكم أن تقربوا بشيء من الصلاة أو مطلق العبادات في حالة السكر ، والنهي عن قرب الصلاة يلازم النهي عن مواضعها ، فإنّه من أنحاء القرب كما عرفت ، وأنّ ذلك من تعظيم شعائر الله تعالى.

والآية الشريفة تعليل للنهي عن مقاربة ما يوجب السكر ، سواء كان نوما أم خمرا ، بحيث يبقى أثره حين دخول الصلاة ، فلا يعي ما يقول ، والنهي مغيى ب : (حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) ، وإنّما ذكر عزوجل : (ما تَقُولُونَ) ليشمل أقوال الصلاة من القراءة والذكر وغيرها.

قوله تعالى : (وَلا جُنُباً).

عطف على محلّ (وَأَنْتُمْ سُكارى) ، أي : سكرانين ، على ما سيأتي في البحث الأدبي ، والجنب من أصابته الجنابة. والاسم الجنابة ، وهي في الأصل البعد ، ويستوي فيها المذكّر والمؤنّث والمفرد والتثنية والجمع ؛ لجريانه مجرى المصدر ، كالبعد والقرب. وقد ذكر بعض أهل اللغة أنّه يثنى ويجمع ، فيقال : جنبان

٢٢٦

وأجناب وجنوب. وهو من المجانبة ، أي : المباعدة ، كما عرفت في قوله تعالى : (وَالْجارِ الْجُنُبِ). والجنابة في الشرع تحصل بالجماع ، سواء خرج مني أم لا ، وبخروج المني سواء كان بالدخول أم بغيره ، ولها أحكام كثيرة مذكورة في الكتب الفقهيّة ، فراجع (مهذب الأحكام) ، وفي الحديث : «إنّا معاشر الملائكة لا ندخل بيتا فيه جنب» ، ولعلّ المراد منه : من يترك الغسل ويكون أكثر أوقاته جنبا ، وهذا يدلّ على قلّة دينه ، والمراد من الملائكة غير الحفظة ، أي : ملائكة الرحمة والخير.

وتكرار النهي (وَلا جُنُباً) لبيان أنّ المنهي كلّ واحد من الحالين لا مجموعهما ، والنهي عن الصلاة في حال الجنابة مغيّى إلى الغسل ، أي : لا تقربوا الصلاة حتّى تغتسلوا ، إلا أن تكونوا مسافرين ولم تجدوا ماء في السفر فتيمّموا.

قوله تعالى : (إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ).

مادة (عبر) تدلّ على المرور والتجاوز من حال إلى حال ، يقال : عبرت الطريق إذا جاوزته وقطعته من جانب إلى جانب ، والمعبر ما يعبر به أو عليه من سفينة أو قنطرة ونحوها.

والسبيل : الطريق ، وعابر السبيل مار الطريق ، وقد يراد به المسافر ، والاستثناء من عموم أحوال المصلّين وانتصابه على الحال.

وقد اختلفوا في المراد من الآية الشريفة على أقوال :

الأول : أنّ المراد منها المسافر ، أي : لا تقربوا الصلاة جنبا في عامّة الأحوال حتّى تغتسلوا ، إلا إذا كنتم مسافرين وأصابتكم الجنابة ، فإن لم تجدوا ماء فتيمّموا ، ونسب هذا القول في المجمع إلى عليّ عليه‌السلام وابن عباس ، وهذه النسبة لم نجدها في أحاديث الإماميّة إلا ما رواه في الدرّ المنثور عن علي عليه‌السلام. ويضعف هذا القول ـ مضافا إلى أنّه يستلزم التكرار ، فإنّه تعالى بيّن حكم الجنب العادم للماء في آخر الآية المباركة ـ أنّ تخصيص الاستثناء بالسفر يحتاج إلى دليل وهو

٢٢٧

مفقود ، فإنّ ظاهر عبور السبيل هو الأعمّ من السفر ، بل وحمله عليه بعيد عن سياق الآية الشريفة.

الثاني : المراد من الاستثناء هو المرور في المسجد ، أي : لا تقربوا الصلاة جنبا في المساجد وغيرها ، ولا يجوز دخول الجنب المساجد إلا عابر السبيل ، أي : مارّا بها ، فيستفاد منه جواز عبور الجنب في المساجد وحرمة لبثه فيها ، وذهب إلى هذا القول جمع كثير ، ويدلّ عليه جملة من الروايات ـ كما سيأتي نقلها في البحث الروائي ـ وإنّ المتبادر من ظاهر الآية الشريفة النهي عن قرب الصلاة ، ومن مناهي القرب هو الدخول في المسجد لشدّة ارتباط الصلاة به ، فالنهي عنها نهي عن الدخول في المساجد ، فيدلّ الاستثناء على النهي عن الصلاة في حالة الجنابة بالمطابقة ، وعلى النهي في الدخول في المساجد بالالتزام ، وهذا الأسلوب شائع في القرآن الكريم.

وقد تقدّم أنّ بعض الأعلام حمل لفظ «الصلاة» في الآية الشريفة على ضرب من الاستخدام ، فجعل لفظ الصلاة في قوله تعالى : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ) على المعنى الحقيقي ، وفي قوله تعالى : (وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) على المعنى المجازي ، أي : مواضع الصلاة.

الثالث : ذكر بعضهم أنّ «إلا» في الآية المباركة تحمل على الوصفيّة ، لتكون بمعنى (غير) صفة لجنبا ، أي : جنبا غير عابري سبيل ، بأن يكونوا لابثين ، فيكون المنهي عنه ـ وهو قرب الصلاة في حالة الجنابة ـ مقيّدا بالإقامة ، فيستفاد منه أنّ قربانها حال الجنابة مع عدم الاقامة غير منهي عنه.

ويردّ عليه أنّ الحمل على الوصفيّة إنّما يصحّ إذا تعذّر الحمل على الاستثناء ، ولا تعذّر هنا ، لعموم النكرة في سياق النهي.

قوله تعالى : (حَتَّى تَغْتَسِلُوا).

غاية للنهي عن قربان الصلاة حال الجنابة. والمراد بالاغتسال هو غسل

٢٢٨

الجنابة بالشروط المعروفة المذكورة في كتب الفقه ، أي : لا تقربوا الصلاة جنبا حتّى تغتسلوا ، إلا أن تكونوا عابري سبيل.

وإنّما قدم لبيان أنّ الحكم حال الجنابة ليس على الإطلاق ، كما في صورة السكر ، وللإعلام بكفاية الاغتسال في الدخول في الصلاة وفي المساجد.

قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى).

تفصيل بعد إجمال في الاستثناء ، وبيان الحكم لأصحاب الأعذار بعد ذكر حكم الواجدين للشرائط ، فشرّع الله تبارك وتعالى الطهارة الترابية (التيمم) في الحدث الأكبر والأصغر لإباحة الدخول في الصلاة بدلا عن الطهارة المائيّة.

والمرض : معروف ، وهو خروج الجسم أو المزاج عن الاعتدال ، وهو على قسمين :

الأول : المرض الجسمي ، أي : العارض على الجسم أو المزاج ، كما في قوله تعالى : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [سورة البقرة ، الآية : ١٨٤] ، وقوله تعالى : (وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) [سورة النور ، الآية : ٦١].

الثاني : ما يخصّ القلب ويستقر فيه ، كالجهل والجبن والبخل والنفاق وغيرها من الرذائل الخلقية والصفات السيئة المانعة عن ادراك الفضائل وتحصيل السعادة الدنيويّة والاخرويّة ، كالمرض الجسمي المانع عن التصرّفات والأعمال التي تستقر الحياة عليها ، قال تعالى : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) [سورة البقرة ، الآية : ١٠] ، وقيّد هذا القسم في القرآن الكريم بالقلب دائما ، لاستقراره فيه كما مرّ ، وأما قوله تعالى : (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) [سورة الشعراء ، الآية : ٨٠] ، فهو في غير المعصومين أعمّ من المرض الجسمي والقلبي ، وفيهم يختصّ بالجسمي فقط.

والمنساق من الآية الكريمة هو القسم الأوّل منه ، وإطلاقها يشمل كلّ مرض ، إلا أنّه مقيّد بالمرض الذي يمنع من استعمال الماء معه ، إما لأنّه يوجب

٢٢٩

شدّة المرض أو زيادته أو بطء البرء منه ، أو ما يكون سببا للعجز عن تحصيل الماء.

وبعبارة اخرى : ما يكون موجبا للمنع من استعمال الماء ، إما بتعذّر استعماله ، أو بتعذّر الوصول إليه.

وأما المرض اليسير الذي ليس فيه كلفة ولا مشقّة ، ولا يكون سببا للحرج كالصداع ووجع السنّ ونحوهما ، فلا يكون عذرا ، والتفصيل مذكور في كتب الفقه ، فراجع كتابنا (مهذب الأحكام).

قوله تعالى : (أَوْ عَلى سَفَرٍ).

أي : وإن كنتم على سفر ، والمراد به المعنى اللغوي ، وإطلاقه أيضا يشمل كلّ سفر قصير أو طويل ، سفر معصية كان أم طاعة ، ولكن التنكير فيه يوجب تقييده بالسفر الذي لا يحصل لكم فيه الماء ، فإنّ الغالب عدم وجدان الماء في السفر ، ويدلّ عليه أيضا هذا التعبير : (على سفر) بدلا عن مسافرين ونحوه ، فإنّ الأول أوضح في المقصود.

قوله تعالى : (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ).

عذر آخر من الأعذار المبيحة للطهارة الترابيّة ، وحالة اخرى مقتضية لها ، وهي حصول الحدث الأصغر.

والغائط : الموضع المنخفض والمطمئن من الأرض ، ويقصد عند قضاء الحاجة والتخلّي ، لأنّه استر له ، وصار اللفظ كناية عن الحدث الأصغر الخارج عن أحد السبيلين ، والمجيء من الغائط ، كناية عن حصول الحدث.

وفي التعبير ب : (أَحَدٌ) على التنكير والإبهام ، إيماء بأن الإنسان يتفرّد عند قضاء الحاجة ، وهذا من أدب القرآن الكريم حفظا للحشمة.

ولا يختصّ هذا العذر أو الحالة بالسفر أو بالحضر ، بل يشمل كلا الحالين ، ولذا قال بعضهم إن (أَوْ) هنا بمعنى الواو ، ولكن الظاهر أنّه بمعنى التقسيم والتنويع لبيان مطلق الأعذار والأحداث.

٢٣٠

قوله تعالى : (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ).

المسّ في القرآن الكريم يكنّى به عن الجماع مطلقا ، أو ما يستهجن التصريح به ، ولذا قال بعضهم : إنّه كناية عن الحدث الأكبر.

والمسّ واللمس بمعنى واحد إلا أنّ الثاني أقرب في الكناية عن الجماع ، لأنّ الملامسة مفاعلة من اللمس بقصد الإحساس والتلذّذ في مباشرة الرجل والمرأة.

وذكر هذا بعد الجنابة من باب النصّ بالخاصّ بعد العموم ، لبيان أنّ الجنابة الاختياريّة الحاصلة من مقاربة النساء ، كالجنابة غير الاختياريّة ، توجب الرخصة للتيمم ، فلا يتوهّم أحد بعدم الدخول فيه.

قوله تعالى : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً).

عطف على (وَإِنْ كُنْتُمْ) ، لبيان أنّ السبب في الجميع هو عدم التمكّن من الطهارة بالماء ، سواء عدم أو وجد ولم يتمكّن من استعماله ، فإنّ الممنوع عنه كفاقده ، فهو غير موجود بالنسبة إليه.

والمعنى : إن لم تجدوا ماء لتستعملوه في رفع الحدث الأصغر أو الحدث الأكبر فتيمّموا. واحتمل بعضهم أن يكون المراد من عدم الوجدان فقده ، لا ما يشمل عدم التمكّن من استعماله للتبادر ، ويدخل فيه بعض أفراد المريض الذي يكون ممنوعا عن استعمال الماء.

ولعلّ التعبير بالفاء للإشعار بالتعميم وإيماء إلى أنّ المعتبر في عدم الوجدان إنّما هو بعد حصول هذه الأسباب.

قوله تعالى : (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً).

جواب الشرط في قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى) ، ومادة (ي م م) تدلّ على القصد ، يقال : تيمّمت الشيء قصدته ، وتيمّمته برمحي وسهمي ، أي : قصدته دون من سواه ، قال الأعمش :

تيممت قيسا وكم دونه

من الأرض من مهمة ذي شزن

٢٣١

وقد وردت هذه المادّة في القرآن الكريم في ثلاثة موارد ، أحدها المقام ، ومثله في آية (٦) من سورة المائدة ، والثالثة في سورة البقرة ، قال تعالى : (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٦٧] ، وفي الشرع هو اسم للطهارة الترابيّة المعروفة ـ أي : ضرب الكفّين على الأرض ومسح الوجه بها واليدين ـ لاستباحة الدخول في ما هو مشروط بالطهارة ، تقرّبا إليه تعالى.

ومادة (ص ع د) تدلّ على الارتفاع والعلو ، ومنه وجه الأرض ، لأنّه نهاية ما يصعد إليه من باطن الأرض ، أو لصعوده وارتفاعه فوق الأرض ، فيشمل التراب والحجر ، قال تعالى : (فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً) [سورة الكهف ، الآية : ٤٠] ، أي : أرضا ملساء ، وقال تعالى : (وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً) [سورة الكهف ، الآية : ٨] ، أي : أرضا غليظة لا نبت عليهان وفي الحديث : «يحشر الناس في صعيد واحد» ، أي : في أرض واحدة ملساء لا نبت فيها.

ونقل عن الزجاج أنّه قال : «لا اعلم خلافا بين أهل اللغة في أنّ الصعيد وجه الأرض ، سواء كان عليه تراب أو لم يكن» ، ونقل المحقّق في المعتبر عن الخليل عن ابن الأعرابي ذلك أيضا ، ويدلّ عليه أيضا الحديث المعروف بين المسلمين عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» ، والمراد به هو وجه الأرض ، فلا يشمل المعادن وغيرها ، والمسألة محرّرة في كتب الفقه ، فراجع (مهذب الأحكام).

وجمع الصعيد صعدات ، كطريق وطرقات ، وقيل : صعد ، كطريق وطرق ، وفي الحديث : «إياكم والقعود بالصعدات» ، وهي فناء باب الدار وممرّ الناس.

والطيب معروف ، وهو الخالص عمّا يستخبث ويكره ، أي : ما تستلذّه النفس أو الحواس ، وقد وردت هذه الكلمة في ما يزيد على خمسين موردا في القرآن الكريم ، قال تعالى : (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ) [سورة الأعراف ، الآية : ٥٨] ، وقال تعالى : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ

٢٣٢

يَرْفَعُهُ) [سورة فاطر ، الآية : ١٠] ، وقال تعالى : (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٧٩] ، وغير ذلك من الآيات الشريفة ، وفي الحديث عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله في شأن عمّار ابن ياسر : «مرحبا بالطيب المطيب» ، أي : الخالص من ظلمات الجهل والفسق وقبائح الأعمال والمتحلّي بالعلم والإيمان ومحاسن الأعمال ، كما قال تعالى : (طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ) [سورة الزمر ، الآية : ٧٣].

والمراد به في المقام الطاهر والحلال ، كما فصّل في الكتب الفقهيّة.

والمعنى : فاقصدوا شيئا من الصعيد طاهرا حلالا ، خاليا عمّا يستخبث ويستقذر.

قوله تعالى : (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ).

بيان للتميم الشرعي ، والمسح عبارة اخرى عن جرّ اليد على الممسوح ، والأيدي جمع يد ، وتطلق على جميعها وعلى بعضها كما في المقام.

ويستفاد من هذه الآية المباركة امور :

الأول : النيّة لما يستفاد من لفظ التيمم الدالّ على القصد ، ويدلّ عليه

قول نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّما الأعمال بالنيّات».

الثاني : وضع اليدين معا على ما يصحّ التيمم عليه ، لإطلاق الآية الشريفة ، وتدلّ عليه بعض الروايات.

وقيل : إنّه يعتبر الوضع المشتمل على الاعتماد ؛ لأنّ المستفاد من الضرب الوارد في الروايات ذلك ، ويدلّ عليه بعض الروايات أيضا ، ويمكن تقييد إطلاق الآية الكريمة بها.

ولا يشترط العلوق لإطلاق الآية الشريفة وخلوها عن التقييد ، وأما قوله تعالى : (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) [سورة

٢٣٣

المائدة ، الآية : ٦] ، فهو وإن وردت فيه لفظة (من) ، لكنّها ابتدائيّة لا تبعيضيّة ، ويمكن إرجاع الضمير في (منه) إلى التيمم المستفاد من سوق الكلام.

الثالث : أنّ الماسح هما اليدان ؛ لأنّ المستفاد من المسح أن يكون ماسح وممسوح ، ولما ورد الممسوح في الآية المباركة ، فالماسح هو باطن الكفّين.

الرابع : أنّ الممسوح هما الوجه واليدان ؛ لأنّ التيمم قائم مقام الوضوء ، فإذا وضع الشارع الوضوء عن صاحب الأعذار المعروفة المتقدّمة ، أثبت بعض الغسل مسحا.

الخامس : أن يكون المسح ببعض الوجوه والأيدي لمكان الباء.

السادس : أن يكون مسح اليدين على ظاهر الكفّين وحدّهما الزندين ، لدلالة ظاهر الآية الشريفة ، وتدلّ عليه بعض الروايات.

السابع : الترتيب بين الضرب على الأرض ثم مسح الوجه ثم اليمنى وبعده اليسرى ، ويدلّ عليه سياق الآية الشريفة الدالّ على الترتيب ، كما تدلّ عليه ظواهر النصوص أيضا.

الثامن : الموالاة ، وهي المتابعة بين الأفعال الظاهر الآية الشريفة.

التاسع : كفاية التيمم عن الوضوء وجميع الأغسال ، وأنّه يستباح به كلّما يستباح بالطهارة المائيّة ، لمكان البدليّة بينهما ، وفي الحديث : «ربّ الصعيد ربّ الماء».

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً).

تعليل لما ورد من التكاليف وتقرير للترخيص والتسهيل فيها ، أي : أنّ الله تعالى كثير الصفح والتجاوز ، كثير المغفرة والستر على ذنوب عباده ، فهو الرحيم ذو الفضل عليكم الميسّر لكم حين أجاز لكم التراب مكان الماء ، فلم يشدّد عليكم كما شدّد على غيركم من الأمم السابقة.

٢٣٤

بحوث المقام

بحث أدبي

قوله تعالى : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ) ، أبلغ من أن تقول : «لا تصلّوا» وغيره ، لأنّه يشمل الغشيان والتلبّس بالفعل وجميع أنحاء القرب والدنو منه ، ومنها الدخول في مواضع الصلاة ومقدّماتها كما عرفت في التفسير ، وقد ورد مثل هذه العبارة في غير المقام ، مثل قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ) [سورة الاسراء ، الآية : ٢٤] ، وقوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ) [سورة الأنعام ، الآية : ١٥١] ، لبيان شدّة النكير وعظمة الأمر.

وقوله تعالى : (وَأَنْتُمْ سُكارى) ، جملة اسميّة مركّبة من المبتدأ والخبر حاليّة ، والواو فيها لبيان الحال ، وإنّما أتي بالجملة الاسميّة في ضمن النهي حالا ، استلفاتا إلى المنافاة للفعل المنهي عنه مع مضمون الكلام ، واحتجاجا لحكمة النهي ، فكأنّه قيل : إنّ الصلاة المطلوب فيها الطاعة والإقبال بها على الله تعالى في الخضوع له عزوجل والتدبّر في أقوالها وأذكارها والتوسّل بدعائها ، ينافي إتيانها مع السكر وذهوله وغفلته ، ونظير المقام قوله تعالى : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٢] ، وقوله تعالى : (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) [سورة البقرة ، الآية : ١٨٧] ، فإنّ المطلوب من الاعتكاف هو الانقطاع إلى الله تعالى في المساجد والابتعاد عن التلذّذ ، فينافي التلذّذ مباشرة النساء ، وكذا قوله تعالى : (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) [سورة المائدة ، الآية : ٩٥] ، فإنّ الإحرام حبس النفس على الطاعة وترويضها على الاجتناب عن المحرّمات ، بل عن كثير من المباحات ، فهو ينافي طلب الصيد وقتله ؛ ولذا نرى أنّ هذه المنافاة لما كانت غير ظاهرة في الجنابة ، وإنّما فرض

٢٣٥

الشارع الطهارة في الصلاة تعبّدا ، فاختلف التعبير في الموردين ، فكان الحال مفردا في قوله تعالى : (وَلا جُنُباً) ، فالواو فيه عاطفة ، و «لا» نافية ، وإنّما أتى بها لبيان دخول الثاني في حيز النهي للإفادة بأن المنفي كلّ واحد من الحالين ، لا مجموعهما.

و (عابري) في قوله تعالى : (إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) منصوب على الحاليّة قد حذف النون لأجل الإضافة ، أي : لا يجوز لكم الدخول في المساجد إلا حال كونكم عابري سبيل ومجتازين فيها.

وتدلّ الجملة على مضمونها بالمطابقة ، وعلى المستثنى منه بالالتزام.

و (لامستم) في قوله تعالى : (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) فعل ماضي ، يلامس ولمس فعل ماضي يلمس.

والالتفات من الخطاب إلى الغيبة في قوله تعالى : (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) مبالغة في الحشمة ـ وهو من أبدع الأساليب ـ كراهيّة إسناد ذلك إلى المخاطبين ، يضاف إلى ذلك لفظ التغليب بقوله تعالى : (أَوْ جاءَ أَحَدٌ) ، وهو من أحسن الكلام وأطيبه.

والغائط مفرد ، وجمعه غيطان أو أغواط ، وفي الحديث في قصة نوح عليه‌السلام : «وانسدت ينابيع الغوط الأكبر وأبواب السماء» ، ومنه غوطة دمشق ، وقرأ بعضهم (من الغيط) بفتح الغين وسكون الياء ، وهو مصدر يغوط ، والقياس أن يكون غوطا قلبت الواو ياء وسكنت وانفتح ما قبلها لخفتها.

وقيل : إنّه تخفيف غيط ، كهين وهيّن.

و (صعيدا) في قوله تعالى : (صَعِيداً طَيِّباً) إما منصوب بنزع الخافض ، أي : فتيمّموا بصعيد ، أو على أنّه مفعول به.

٢٣٦

بحث دلالي

تدلّ الآيات الشريفة على امور :

الأوّل : يدلّ قوله تعالى : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) على أنّ السبب في النهي عن قربان الصلاة جهتان ، حدث النوم وسكره ، وأنّكم لا تعلمون ما تقولون. ولا تقربوا المساجد التي هي مواضع الصلاة جنبا إلا مرورا. وأما إذا كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط ، أو لامستم النساء ، فإن وجدتم الماء فتطهّروا بالطهارة المائيّة ، وإن لم تجدوا فتيمّموا صعيدا طيبا ، وقد شرحت السنّة الشريفة كيفيّة التيمم شرحا وافيا.

الثاني : يستفاد من الآية الشريفة مانعيّة حدث النوم والبول والغائط والجماع والجنابة عن الصلاة ، بأبلغ بيان وأخصره.

الثالث : يستفاد من قوله تعالى : (حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) أنّ المراد بالكسر مطلق ما يوجب عدم الالتفات إلى الصلاة والغفلة عنها ، ولا اختصاص له بالسكر الاصطلاحي.

كما أنّ المراد من الصلاة مطلقها ، واجبة كانت أو مندوبة.

الرابع : إنّما خصّ سبحانه وتعالى القول : (حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) ؛ لأنّ أوّل ما يظهر عليه من آثار السكر هو القول ، وأما الفعل فقد يحدث عن عادة مستمرة.

الخامس : يمكن أن يكون قوله تعالى : (حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) إرشادا إلى لزوم التطهير ظاهرا وباطنا ، أي : تتطهّروا فتلتفتوا إلى ما تقولون.

٢٣٧

بحث عرفاني

الصلاة عبادة روحانيّة وتزكية نفسانيّة ، ومن أهمّ طرق المناجاة مع الله سبحانه وتعالى ، وقد ورد في القرآن الكريم في فضلها الآيات الكثيرة ، قال تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) [سورة العنكبوت ، الآية : ٤٥] ، وقال تعالى مخاطبا نبيّه الأعظم : (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ) [سورة إبراهيم ، الآية : ٣١] ، فلا بد لمن يريد التقرّب إلى مقام الحضور والمناجاة مع الحضرة الأحديّة أن يتنزّه عن كلّ ما يوجب البعد عنه عزوجل.

والآية الشريفة التي تقدّم تفسيرها تشمل على الأجزاء الجامعة لها والأسباب المانعة عنها ، وبهما تتمّ الجهات وتتحقّق المقاصد ، ولما كانت الصلاة معراج المؤمن ، فلا بد أن تكون جامعة على جهات القرب والمحبوبيّة ومنزّهة عن الجهات المانعة.

ومن تلك الجهات المانعة هو السكر والغفلة والتفكّر في الدنيا وحبّها ، وكلّ ما يشغل القلب بسوى الربّ ، فإنّ ذلك كلّها من الجهات المانعة والمبعدة عن ساحة الربّ الرؤوف الرحيم العالم بالأسرار والخفايا. فالآية الكريمة تدلّ على كمال الاهتمام بالصلاة ، حيث نهى عن قربانها مع أهمّ الجهات المانعة ، وهي السكر والغفلة.

ثم بيّن عزوجل أنّه لا بد من التنزّه عن القذارات الظاهريّة والمعنويّة والتطهير عنهما ، ولا تجدون لذّة التقرّب ونعيم الحضور الا بالتطهير عنهما ، إما بالغسل عن الأوساخ مع خلوص النيّة ، أو الوضوء بما يوجب الصفاء وصدق الإرادة ، أو بالتيمم من الأرض الطيبة البعيدة عن مساوئ الأخلاق والنزعات النفسانيّة ، وإن كنتم مرضى بالانحراف عن الحقّ ، أو على سفر في طلب الدنيا ، أو جاء أحد منكم من غائط تتبع الهوى والنزعات النفسانيّة ، أو لامستم النساء

٢٣٨

بملامستكم الأشغال الدنيويّة ، وتباعدتم عن حظائر القدس بتوجيه قلبكم بالانس إلى غيره تعالى ، فلم تجدوا ماء الحقيقة وصدق الإنابة ، فتيمّموا بالانقطاع إليه ونبذ الصفات الدنيئة ، فامسحوا بوجوهكم بالتوجّه إليه جلّ شأنه ، وتمسّكوا بأيديكم بذيل كرمه ، منقطعين إليه بعد نفض غبار الشهوة عن النفس وترك الخصال السيئة ، فإنّه يعفو عنكم بعد ما علم صدق إرادتكم بالرجوع إليه ، ويغفر لكم بمحو آثار الشقوة عنكم ، فإنّه رؤوف يريد سعادتكم ، ولا تكونوا غافلين بسكر الدنيا عن الوصول إلى حضرته والدنو من معرفته ، فإنّه يتجلّى لعباده كما تجلّى لأنبيائه ، وفي الحديث الشريف : «إن الله تعالى يتجلّى لعباده في صورة معتقدهم ، فيعرفه كلّ واحد من أهل الملل والمذهب ، ثم يتحوّل عن تلك الصورة فيتجلّى في صورة اخرى ، فلا يعرفه إلا الموحدون الواصلون إلى حضرة الأحديّة من كلّ باب» ، وللحديث شرح لطيف لو ظفرت على أهله لذكرته له ، والحمد لله على كلّ حال ، واشكره على ما ألمّ بي ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم.

بحث روائي

في الكافي بإسناده عن اسامة بن زيد الشحّام قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : قول الله عزوجل : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) ، فقال : سكر النوم».

أقول : ومثلها روايات كثيرة متواترة عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، وفي صحيح البخاري عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إذا أنعس أحدكم وهو يصلّي فلينصرف ؛ فليتمّ حتّى يعلم ما يقول ، وعن ابن عباس في قوله تعالى : (وَأَنْتُمْ سُكارى) قال : «النعاس» ، لأنّ ذلك مانع عن حضور القلب الذي هو روح العبادة والتوجّه إلى المعبود ، وتشمل سكر الخمر بطريق أولى.

العياشي في تفسيره عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «لا تقم إلى الصلاة

٢٣٩

متكاسلا ولا متناعسا ولا متثاقلا ، فإنّها من خلل النفاق ، فإنّ الله تعالى نهى المؤمنين أن يقوموا إلى الصلاة وهم سكارى ، يعني : من النوم».

أقول : المراد من النفاق اختلاف القلب مع الجوارح ، وعدم ميله ورغبته إلى العمل ، فما ذكره عليه‌السلام من الحالات تمنع عن توجّه القلب إليه تعالى.

نعم ، للتوجّه مراتب كثيرة شدّة وضعفا ، يختلف عند الأشخاص حسب اختلاف معرفتهم وانقطاعهم إليه تعالى.

وفي تفسير العياشي : عن الحلبي ، عن الصادق عليه‌السلام قال : «سألته عن قول الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى)؟ يعني : سكر النوم ، يقول : وبكم نعاس يمنعكم أن تعلموا ما تقولون في ركوعكم وسجودكم وتكبيركم ، وليس كما يصف كثير من الناس يزعمون أنّ المؤمن يسكر من الشراب ، والمؤمن لا يشرب مسكرا ولا يسكر».

أقول : ما ذكره عليه‌السلام محمول إما على الكلّ من المؤمنين ، أو على الغالب الأكثر.

وفي تفسير العياشي : عن محمد بن الفضل ، عن أبي الحسن عليه‌السلام في قول الله تعالى : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) ، قال : «هذا قبل أن تحرّم الخمر».

أقول : المراد من الحرمة فيه الحرمة الظاهريّة ، وإلا فإنّ الخمر كانت محرّمة في جميع الشرائع الإلهيّة ، وفي بعض الروايات : «ما بعث الله نبيّا إلا وقد حرّم الخمر» ، مضافا إلى آية تحريم الخمر نزلت في مكّة ؛ لأنّ سورة الأعراف مكيّة ، وهذه الآية الكريمة : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) مدنيّة.

وكيف كان ، فتطبيق السكر على السكر الحاصل من الخمر من باب ذكر أحد المصاديق ، كما مرّ.

وهناك روايات مزيّفة غير قابلة للاعتماد عليها ذكرها السيوطي في الدرّ

٢٤٠