مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٨

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٨

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٣
ISBN: 946-5665-07-8
الصفحات: ٣٩٧

(وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٢٤))

بيان لمحرّم آخر ممّا حرّمه في النكاح التي شرّعها الله تعالى لتهذيب الشهوة العارمة ، وتصحيح النسل وتحديده على ما ينبغي أن يكون عليه من الصلاح والكمال ، وقد فصّل عزوجل جملة منها في الآيات السابقة ، وذكر تعالى في هذه الآية الشريفة حرمة نكاح المحصنات المتزوّجات إلا الإماء المملوكات ، فإنّ إحصانهن لا يمنع الزواج بهن بعد الاستبراء ، ثم أحلّ الله تعالى ما رواء المذكورات حتّى التمتع بالنساء إذا كان المراد منه إحصان النفس وتهذيبها وترويضها بعدم الوقوع في الفحشاء وارتكاب الإثم ، ولا بد من توفّر الشروط المطلوبة في المتعة ، كالأجر والمدّة وغيرهما ، وذكر عزوجل أن جميع تلك الأحكام إنّما هي لمصالح الناس ، وهو العليم بالمصالح الحكيم في أفعاله.

التفسير

قوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ).

عطف على ما سبق من المحرّمات. والمحصنات جمع المحصنة ـ بفتح الصاد وهي قراءة المشهور ، بل قيل : إنّها على الكسر في غير هذا الموضع ، وقال ابن الأعرابي : «كلّ أفعل اسم فاعله بالكسر إلا ثلاثة أحرف : أحصن ، وألفج إذا ذهب ماله ، وأسهب إذا كثر كلامهم» ، وهي اسم مفعول من أحصن ، وقيل : يمكن أن تكون اسم فاعل باعتبار أنهنّ أحصنّ فروجهن عن غير أزواجهن ، أو أحصنّ أزواجهن.

٢١

وكيف كان ، فمادة (حصن) تدلّ على المنع والتمنّع ، ومنه الحصن وهو المكان المنيع الحمي ، وحصّنت المرأة (بضم الصاد) حصانة وحصنا ، بمعنى عفّت ومنعت نفسها من الوقوع في الإثم وامتنعت من الفجور ، قال تعالى : (مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ) [سورة النساء ، الآية : ٢٥] ، ومنه الحصان لأنّه حصن بمائه فلم ينز إلا على كريمة.

وأحصنت المرأة إذا تزوّجت ومنعت نفسها من غير الزوج ، كما منعت الزوج من الوقوع في الحرام ، فيقال لها : محصنة (بفتح الصاد) ، ومحصنة (بالكسر) ، كما عرفت آنفا.

وقيل : إنّ كلّ امرأة عفيفة محصنة (بالفتح والكسر) ، وكلّ امرأة متزوّجة محصنة (بالفتح) لا غير.

وقد وردت هذه المادّة في القرآن الكريم في ما يقرب من ثمانية عشر موضعا ، وجميعها تدور حول ذلك المعنى الذي ذكرناه ، اي : المنع والامتناع ، قال تعالى : (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها) [سورة الأنبياء ، الآية : ٩١] أي : عفت : وقال تعالى : (قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ) [سورة يوسف ، الآية : ٤٨] أي : ممّا تحفظونه في الحصن والأماكن المعدّة لحفظ الأغذية ، وقال تعالى : (مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ) [سورة الحشر ، الآية : ٢] ، وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) [سورة النور ، الآية : ٢٣] أي : الحرائر ، لأنّ الحرية تمنع الحرّة عن الفجور ، بخلاف الإماء اللواتي كان الزنا فاشيا فيهن ، وقال تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ) [سورة النساء ، الآية ٢٥] أي : الحرائر.

والمراد بالمحصنات في الآية الشريفة المتزوّجات من النساء مطلقا ، من الحرائر والإماء المسلمات والكافرات.

والمعنى : وحرّمت عليكم النساء المزوّجات مطلقا ، الحرائر والإماء ، وقيل : في الآية المباركة وجوه اخرى لا يخفى بعدها.

٢٢

قوله تعالى : (إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ).

استثناء عن الحكم السابق في الإماء المندرجة تحت المحصنات. حرّمت عليكم المحصنات مطلقا إلا المحصنات اللاتي ملكتموهن ، فإنّه يجوز لمولى الأمة المتزوّجة أن يحول بينها وبين زوجها ثم ينال منها بعد استبرائها ، بلا فرق في هذه المملوكة بين المسبيّة وغيرها.

وقيل : إن هذه الآية الشريفة تختصّ بالإماء المسبيّات إذا كنّ ذوات ازواج من الكفّار ، واستدلّوا عليه بما رواه مسلم في جامعه وأحمد عن أبي سعيد الخدري ، وأخرجه في الدرّ المنثور أيضا من أن السبب في نزول الآية المباركة في سبي أوطاس حيث أصاب المسلمون نساء المشركين ، وكانت لهن أزواج في دار الحرب ، فلما نزلت نادى منادي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ألا لا توطأ الحبالى حتّى يضعن ، ولا غير الحبالى حتّى يستبرئن».

وروي عن عليّ عليه‌السلام في الآية أنّها نزلت : «في سبي من كان لها زوج».

وفيه : أن سبب النزول لا يصلح لتخصيص عموم الآية الشريفة ، كما لا يخفى.

وقيل : إنّ المراد بالملك في قوله تعالى : (إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) ملك الاستمتاع ، أي : وأحلّ لكم ما ملكتم نكاحها وملكتم رقبتها من العفيفات.

ويرد عليه : أنّه مبني على أن يكون المراد من المحصنات العفائف دون المتزوّجات ، وهو خلاف ظاهر الآية الشريفة ، مضافا إلى أنّ المنساق من جملة (ما ملكت ايمانكم) هو ملك الرقبة دون غيره.

قوله تعالى : (كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ).

مصدر مؤكّد منصوب بفعل مقدر قريب من معنى فعله ، أي : أن المحرّمات المذكورة هي فرض من الله تعالى ، وقد كتبها عليكم فالزموها وارعوا حدودها ، فإنّها شرّعت لمصالحكم.

٢٣

وقيل : إنّه منصوب ب «عليكم» ، فإنّه اسم فعل.

وأورد عليه بأن اسم الفعل ضعيف لا يتقدّم معموله عليه.

ولكنّه ليس بشيء ، فإنّه إذا جعلناه معمولا لاسم الفعل ، فليكن المقام دليلا على جواز التقديم لأجل التأكيد.

وقيل : إنّه منصوب على الإغراء.

وأشكل عليه بأن الإغراء لا يجوز فيه تقديم المنصوب على حرف الإغراء.

قوله تعالى : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ).

أحل مبني للمفعول ، وهي القراءة المعروفة ، وقرئ على البناء للفاعل. و (ما وراء) أي : ما عدا ، والمراد بالموصول واسم الإشارة ما هو المقدّر في قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) ، فقد ذكرنا أن مناسبة الحكم والموضوع تقتضي أن يكون المقدّر هو النكاح وغشيان النساء.

والمعنى : وأحلّ الله تعالى لكم نكاح ما سوى الأنواع المذكورة من المحرّمات في الآية المباركة السابقة ، والحليّة هذه شأنيّة معلّقة على حصول أسباب الفعل وشروطه.

وللمفسّرين في هذه الآية الشريفة أقوال وتفاسير لا يخفى فسادها ، والحقّ ما ذكرناه ، وهو الظاهر من سياق الآية المباركة.

قوله تعالى : (أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ).

المصدر المؤول إليه ـ وهو (الابتغاء) ـ بدل من قوله تعالى : (ما وَراءَ ذلِكُمْ) ، أو عطف بيان منه. وقيل : إنّه مجرور باللام التي هي للتعليل ، أي : لابتغاء مباشرة النساء وغشيانهم صحيحا لا فاسدا ، بإنفاق أموالكم مهرا أو ثمنا لشراء الأمة.

٢٤

قوله تعالى : (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ).

بيان لقاعدة كلية في التمييز بين الطريق الصحيح والباطل في النكاح ، فإنّ النكاح الصحيح المشروع ما تحقّق فيه تحصين النفس عن الوقوع في ما يوجب سخط الله تعالى ، والتعفّف عن ابتغاء الحرام باستغناء كلّ واحد من الزوجين بالآخرين الاستمتاع المحرم ، وهذا القصد هو من أهمّ الطرق التي يوجب تهذيب داعية الفطرة وكبح جماحها ، لئلّا تذهب كلّ مذهب ، فيكون قصد التعفّف من أهمّ مقومات تكوين الاسرة الصالحة وتأسيس مجتمع قويم يتقوّم من أفراد مهذّبين صالحين ، فكلّ نكاح شرعي متحقّق في الخارج ، سواء كان بالعقد الدائم أو بملك اليمين أو بعقد انقطاع ، إنّما هو لأجل تحصين النفس والعفاف ، وهو يغاير السفاح الذي لا يكون إلا استجابة وقتية لداعي الشهوة واستيلائها على داعية العقل والعفّة.

وهذه الآية الشريفة على إيجازها قد اشتملت على مقوّمات التشريع الإلهي في هذا الموضوع المهمّ ، الذي اعتبره بعض علماء النفس السبب الوحيد في ما يجري في الاجتماع الإنساني وما يتخلّق به الأفراد من الصفات والعادات ، واعتبر أنّ للشهوة الفطريّة الأثر المهمّ في تكوين الإنسان نفسيّا وتربويّا وخلقيّا ، وهذا الرأي فيه من الإغراء والمبالغة ما لا يخفى ، وسوف ننقل هذا الرأي في الموضع المناسب إن شاء الله تعالى ونذكر ما فيه من المناقشات.

وكيف كان ، فالآية المباركة من الآيات المعدودة التي تبيّن جميع مقوّمات التشريع ، من الحكم والحكمة والقصد والغاية ، فالنكاح المشروع هو ما قصد فيه تحصين النفس وبعث العفّة في النفوس التي أثارتها الشهوة العارمة ، وسدّ أبواب الفحشاء والسفاح الذي هو وليد حاجة وقتيّة غير مهذّبة غلبت على القوة العاقلة ، لأجل عدم تحصين النفس ، فهذا المناط إذا تحقّق في كلّ نكاح كان مشروعا في كلّ دين ـ الإسلام وغيره على حدّ سواء.

٢٥

ومن هنا يظهر وجه التفريع في الآية اللاحقة على هذه الآية المباركة ، باعتبار أن النكاح المؤقّت إنّما شرّع لأجل تحصين النفس والتعفّف ، كما هو الحال في النكاح الدائم ، فهو مغاير للسفاح البتة.

وممّا ذكرنا يتبيّن فساد ما ذكره بعض المفسّرين من أن المراد من المسافحة مطلق سفح الماء وصبّه ، من غير أن يقصد به الغاية التي وضع الله تعالى لأجلها الداعيّة الشهويّة ، وهي غرض تكوين البيت وإيجاد النسل والولد ، فيكون الإحصان المقابل للسفاح هو الزواج الدائم الذي يكون الغرض منه التوالد والتناسل.

وفساد ما ذكره واضح ، فإنّ الآية الكريمة لم تشر فيها إلى أنّ غاية النكاح مجرّد التوالد فقط ، وقد اختلط عليه البحث ، فإنّ الأمر لو كان كذلك لكان النكاح الذي لا يتوفّر فيه غرض التوالد والتناسل باطلا ، سواء كان من جهة عدم قابلية تكوين المرأة لذلك ، كالكبيرة والصغيرة ، أو لأجل مرض أو مانع عابر ، وهذا ممّا لم يقل به أحد ، فالنكاح سنّة مشروعة بين الرجل والمرأة ، به يستغنى أحدهما بالآخر ، فيحصل تحصين النفس وتعففها وتكوين الاسرة التي تجتمع فيها أسباب السعادة والكمال ، بخلاف السفاح والزنا.

والمسافحة : من السفاح وهو الزنا ، والسفح هو صبّ الماء ، فكأن الزاني بحكم غلبة الشهوة عليه لا غرض له إلا صبّ النطفة فقط ، مع قطع النظر عن ما يلزمه من اللوازم السيئة ، بخلاف الإحصان ، فإنّه نكاح توفّر فيه قصد التحصين والعفاف ، مع الالتزام بجميع ما يترتّب عليه من الآثار واللوازم الحسنة.

وممّا ذكرنا يظهر أن المراد بالإحصان في الآية الشريفة ، إحصان عفّة وتحصين النفس عن الوقوع في الحرام ، مقابل السفاح والزنا.

قوله تعالى : (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً).

تفريع على الجملة السابقة في الآية المباركة المتقدّمة التي بيّنت الحدّ الفاصل بين النكاح الذي يبتغي منه الإحصان ، وبين الزنا والسفاح ، فيكون العقد

٢٦

المنقطع من أفراد ما يوجب العفّة وتحصين النفس عن الوقوع في الحرام ، فيكون التفريع من باب تطبيق الكبرى على الصغريات ، والكليّ على الجزئيات ، وتقدّم آنفا ما يدلّ على ذلك.

و «ما» إمّا موصولة ، وجملة : «استمتعتم به» صلة لها ، والموصول كناية عن القسم الذي يطلق بمفهومه العامّ على من لا يعقل ، مثل : بعض ، ولذا استعمل (ما) دون (من) ، أو يكون (ما) للتوقيت ، والظرف في (منهن) متعلّق بقوله : (استمتعتم).

وكيف كان ، فالآية المباركة في مقام تشريع قسم خاص من المنكوحات التي يقصد بهن الإحصان.

والاستمتاع طلب المتعة والتلذّذ ، والمراد به هو النكاح المؤقّت المحدود الذي يتوصّل به إلى التمتع بالنساء طلبا للإحصان ، ويدلّ على أنّ المتعة تطلق على طلب الانتفاع مؤقّتا. ومشتقات هذه المادّة واستعمالاتها كلفظ المتاع والتمتع ونحو ذلك.

ومنه يظهر بطلان ما قيل : من أن الاستمتاع يطلق على طول التمتع به ، فإنّه خلاف استعمالات هذه المادّة ، وقد سمّى الله تعالى الدنيا بالمتاع ، باعتبار قلّتها وقصر مدّتها ، قال تعالى : (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) [سورة الأحقاف ، الآية : ٢٠] ، وقال تعالى : (مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ) [سورة النساء ، الآية : ٧٧] ، ولأجل ذلك سمّي العقد المنقطع بنكاح المتعة ؛ لانقطاع مدّتها وعدم دوامها.

والأجور : جمع الأجر ، وهو المال الذي يبذل مقابل العمل أو الانتفاع ، وهو في الأصل يطلق على الثواب ، ويطلق على المهر ؛ لأنّه أجر الاستمتاع ، والفاء في «فآتوهن» للجواب لتضمّن الموصول معنى الشرط.

و «فريضة» حال من الأجور ، وهي بمعنى مفروضة ، أي محدودة. ويحتمل

٢٧

أن تكون صفة لمصدر محذوف ، أي : إيتاء مفروضا. يعني : ما فرضتموه من الأجرة في العقد.

والآية المباركة تدلّ على مشروعية نكاح المتعة ، وأنّه مثل النكاح الدائم وملك اليمين من سبل الإحصان والتعفّف ، ويدلّ على ذلك امور :

الأول : أنّ الله تعالى قد ذكر في الآيات السابقة حكم النكاح الدائم وملك اليمين إما تصريحا أو إشارة ، وأكّد على وجوب إيتاء المهر في النكاح الدائم بوجوه مختلفة ، سواء في هذه السورة كقوله تعالى : (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً) [سورة النساء ، الآية : ٢٠] ، أو في سورة البقرة كقوله تعالى : (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) [سورة البقرة ، الآية ٢٣٦] ، فلا يبقى مجال للقول بأنّ آية المتعة مسوقة لبيان إعطاء المهر كاملا بالتمتع من المرأة ، فإنّ الآية الكريمة أجنبيّة عن هذا الأمر كما لا يخفى ، مضافا إلى أنّه لا بد من ارتكاب التجوّز في المقام ، وهو القول بأنّ السين والتاء في «استمتعتم» للتأكيد ، وأنّ المراد بالاستمتاع هو النكاح ؛ لأنّ إيجاد علقة النكاح طلب للتمتع ، وكلاهما خلاف ظاهر الآية الشريفة ، وتصريح أهل اللغة في هذه المادّة كما عرفت.

وقيل : إنّ الآية الشريفة مسوقة للتأكيد. وقد عرفت آنفا أنّ الآيات السابقة قد استوفت بيان النكاح الدائم والمهر فيه وملك اليمين وأقسام النكاح المحلّل والنكاح المحرّم ، وقد تضمّنت وجوها من الدلالة التي لا تدع مجالا للتأكيد بعد ذلك.

الثاني : أنّ نكاح المتعة كان معروفا في عصر نزول القرآن ، بل قيل : إنّ الإسلام لم يكن المشرّع الوحيد لذلك ، ولكن الذي لا ينبغي الشكّ فيه أنّه كان معروفا في النصف الأول من عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد الهجرة ، وكان دائرا بينهم قولا

٢٨

وعملا ، بحيث كلّما اطلق هذا اللفظ انصرف إلى هذا القسم من النكاح فقط ، ومع ذلك لا نحتاج إلى التماس دليل آخر في تطبيق هذه الآية على النكاح المؤقّت ، أو بالأحرى نكاح المتعة.

يضاف إلى ذلك أن الأصحاب والقدماء من المفسّرين ـ كابن عباس وابن مسعود ، وأبي بن كعب ، وقتادة ، ومجاهد والسدّي وابن جبير والحسن وغيرهم ، وأهل البيت عليهم‌السلام بأجمعهم ـ فسرّوا الآية الشريفة بنكاح المتعة.

وممّا ذكرنا يظهر فساد القول بأنّ الآية المباركة وردت في مطلق النكاح والتأكيد على وجوب إعطاء المهر كاملا.

الثالث : أنّ سياق آية المتعة يدلّ على مشروعيّة نكاح المتعة ، وأنّه من أفراد ما يوجب الإحصان والتعفّف ، كالنكاح الدائم وملك اليمين. وأنّ ما سوى ذلك يدخل تحت قوله تعالى : (فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) [سورة المؤمنون ، الآية : ٧].

ومن ذلك يظهر بطلان ما قيل : إن قوله تعالى : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ) ، حيث قيّد حلّية النساء بالمهر وبالإحصان من غير سفاح ، ولا إحصان في النكاح المنقطع ـ ولذلك لا يرجم الرجل المتمتع إذا زنا ؛ لعدم كونه محصنا ـ يدفع كون المتعة هي المرادة من الآية المباركة.

ووجه البطلان أن ما ذكر يجرى في ملك اليمين أيضا ، مع أن المراد بالإحصان إحصان العفّة دون إحصان التزويج ، إلا أن تخصيص الرجم في زنا المحصن بزنا المتمتع ، إنّما هو بحسب السنّة والكتاب ، فإنّه من الواضح أنّ حكم زنا المحصن لم يرد في الكتاب أصلا.

ومن جميع ذلك يظهر أنّه لا ريب في ظهور الآية المباركة في حلّية نكاح المتعة ، ولم يناقش في ذلك المتقدّمون من الأصحاب والمفسّرين ، وأنّ ما ذكر من

٢٩

الإشكالات من المتأخّرين إنّما هي مغالطات واضحة البطلان. هذا بالنسبة إلى ما يستفاد من نفس الآية الكريمة. وأمّا بالنسبة إلى السنّة الشريفة ، فسيأتي في البحوث اللاحقة ما يتعلّق بذلك.

قوله تعالى : (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ).

الجناح : الإثم والمنع ، أي : لا منع ولا إثم على الزوجين في المتعة إذا تراضيا على حطّ المهر كلا أو بعضا من بعد الفريضة والتقدير ، وهذا الحكم لنفي التوهّم في أنّه بعد الفرض والتقدير للأجر لا يجوز لأحدهما التصرّف فيه ، فيكون النهي في مقام دفع توهّم الحظر والمنع كما هو معروف ، ولا يختصّ هذا الحكم بالمتعة ، بل قد تقدّم في مهر عقد النكاح أيضا ، قال تعالى : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) [سورة النساء ، الآية : ٤].

نعم ، يفترق النكاح الدائم عن المنقطع في أنّه يشترط في الأخير ذكر المهر والأجل في العقد ، وإلا يكون باطلا دون الأوّل ، فإنّه لو لم يذكر فيه المهر كان العقد صحيحا ، ويسمّى حينئذ تفويض البضع ، كما أنّه لو ذكره إجمالا في عقد النكاح من دون تفصيل سمّي مفوضة المهر.

ويمكن أن تحمل الآية الشريفة على المعنى العامّ في كلّ شرط سائغ بعد الفريضة في العقد إذا تراضيا عليه ، هذا في غير الأجل ، فإنّ التراضي على زيادة الأجل بأجر آخر موضع خلاف بين الفقهاء.

وكيف كان ، فإنّ هذا الاحتمال وإن كان صحيحا ثبوتا ويمكن الاستشهاد عليه ببعض الأخبار ، إلا أن تطبيق الآية المباركة عليه يحتاج إلى تكلّف ، لا سيما بعد ظهور قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ) في الأجر ، وسيأتي في البحث الروائي ما يتعلّق بذلك.

٣٠

بحوث المقام

بحث دلالي :

تدلّ الآية الشريفة على امور :

الأوّل : يدلّ قوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ) على أنّ إحصان المرأة بالتزويج بشخص يمنعها من الفجور ومن التزويج بشخص آخر.

وبعبارة أخرى : أنّ الآية المباركة تدلّ على حرمة تعدّد الأزواج بالنسبة إلى امرأة واحدة ، الذي كان معروفا عند بعض المجتمعات في العصر القديم ، والإسلام حرّم ذلك ، وحكم بأنّ الزوجة لا يجوز أن تتزوّج برجل آخر مع كونها محصنة بالزوج الأوّل ، بخلاف العكس ، فإنّه أباح لرجل واحد أن يتزوّج بأكثر من واحدة حتّى أربعة نساء ، وقد تقدّم في أوّل هذه السورة ما يتعلّق بالأخير ، فراجع.

الثاني : يدلّ قوله تعالى : (إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) على أنّ الإحصان في الإماء بالتزويج لا يمنع المولى من التسرّي بهن ، فله أن يحول بين مملوكته وزوجها ثمّ التسرّي بها بعد استبرائها بالعدّة ، والإطلاق يشمل جميع أنواع الإماء والجواري ، سواء كن مسبيّات أو غيرهن.

الثالث : يدلّ قوله تعالى : (كِتابَ اللهِ) على أنّ الأحكام المذكورة في الآيات السابقة تحليلا وتحريما ، ممّا كتبه الله تعالى على العباد وفقا لمصالح حقيقيّة واقعيّة ، ولا يمكن التعدّي عنها بوجه من الوجوه.

الرابع : يدلّ قوله تعالى : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ) ، على أنّ المطلوب في كلّ نكاح هو تحصين النفس والتعفّف ، دون الابتذال والإباحة وسفح الماء من غير غاية ، فهذه الآية الشريفة

٣١

تبيّن روح الشريعة في هذا الحكم والجانب المعنوي منها ، كما تشير إلى بعض الجوانب المادّية فيه أيضا ، وهو المال والزوج والزوجة ، فإنّ كلّ نكاح يتقوّم بهذه الأمور الثلاثة.

وأمّا الجانب المعنوي ، فهو العفّة وتحصين النفس والتجنّب عن الإباحيّة والزنا والمباشرة من دون غاية سوى قضاء الشهوة العارمة.

ويستفاد من مجموع الآية الشريفة أنّ الغرض من هذه الأحكام التوفيق بين الاستجابة التكوينيّة وداعي الفطرة والعقل ؛ لتثبيتها على أساس محكم متين ، وحفظ النفس والتحرّز عن الفحشاء التي تعتبر بحقّ مفسدة للحياة الزوجية ، وقاطعة للنسل ، وهادمة للسعادة ، بخلاف ما إذا كانت الفطرة والشهوة التكوينيّة تحت سيطرة العقل وإمارته ، فإنّه يوجب تأسيس حياة سعيدة تبتني على الخير والمحبّة وبثّ النسل الطيب على ما يريده الله تعالى.

الخامس : ذكرنا أنّ ظاهر السياق من قوله تعالى : (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً) هو نكاح المتعة ، وأنّه مشروع كالقسمين اللذين ذكرهما عزوجل في الآية السابقة ، وأنّه من سبل تحصين النفس من الوقوع في الحرام ، وأنّ الثلاثة هي الطرق الشرعيّة في الاستمتاع واللذّة الجنسيّة ، وغير تلك الثلاثة يكون سفاحا محرّما ، وهذا ممّا لا شبهة فيه ، فلا يبقى مجال للنقاش في دلالة الآية الشريفة على المطلوب ، وقد ذكرنا سابقا بعض ما قيل في وجه الاشكال فراجع.

وذكر بعضهم أنّ الآية الكريمة منسوخة ، واختلفوا في الناسخ لها ، فقيل : إنّها منسوخة بقوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ. إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ. فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) [سورة المؤمنون ، الآية : ٥ ـ ٧].

٣٢

وفيه أوّلا : أنّ آية المتعة متأخّرة عن آية المؤمنون في النزول ، فإنّ الاولى مدنيّة والأخيرة مكيّة ، ولا يصلح أن تكون المكيّة تنسخ الآية المدنيّة.

وثانيا : أنّ المتعة نكاح بمقتضى الآية الشريفة وما ورد في السنّة المباركة ، فتدخل في قوله تعالى : (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ) ، والإشكال بأنّه يلزم من ذلك ثبوت التوارث والطلاق وغير ذلك من الأحكام المترتّبة على النكاح الدائم.

مردود بأنّ تلك منفيّة بدليلها الخاصّ الوارد في السنّة ، وسيأتي ما يتعلّق بذلك.

وقيل : إنّ آية المتعة منسوخة بالآيات الشريفة الدالّة على لزوم العدّة ، كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) [سورة الطلاق ، الآية ١] ، وقوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) [سورة البقرة ، الآية ٢٢٨] ، فإن المتعة لا طلاق فيها ولا عدّة ، والزوجيّة لا تنقصم إلا بهما.

ويردّ عليه : أنّ النسبة بين الآيتين الكريمتين نسبة العامّ والخاصّ أو المطلق والمقيّد ، لا نسبة الناسخ والمنسوخ ؛ لأنّ قوله تعالى : (إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) عامّ أو مطلق يشمل كلّ النساء في النكاح الدائم والمؤقّت ، ولكن خصّص في الزواج المؤقّت بدليل وارد في السنّة.

يضاف إلى ذلك أنّ العدّة لا تختصّ بالنكاح الدائم ، بل هي موجودة في النكاح المنقطع أيضا.

نعم ، تختلف العدّتان في المدّة ، ولكنّه لا يرتبط بأصل الموضوع.

وقيل : إنّ المتعة منسوخة بآية الميراث ، قال تعالى : (وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ) [سورة النساء ، الآية ١٢] ، ولا إرث في نكاح المتعة.

وفيه : أنّه يرد عليه ما ذكرناه آنفا ، فإنّ النسبة بين الآيتين نسبة العامّ

٣٣

والخاصّ ، لا نسبة النسخ ، فإنّ آية الميراث تدلّ على عموم الحكم بالنسبة إلى الأزواج الدائم والمنقطع ، ولكن السنّة خصّصت عموم آية الميراث بالزواج المنقطع ، فلا إرث فيه حينئذ.

وقيل : إنّ آية المتعة منسوخة بالآية التي تدلّ على تعدّد الزوجة وانحصارها في أربع ، قال تعالى : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا) [سورة النساء ، الآية ٣].

وفيه : أنّه لا وجه للنسخ مع دلالة السنّة على عدم انحصار المتعة في الأربعة ، فتكون النسبة من العامّ والخاصّ كما عرفت.

ودعوى : نسخها بآية التحريم ، قال تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) [سورة النساء ، الآية : ٢٣].

فهي باطلة كما هو واضح ، فإنّ المتعة نكاح تجري فيها جميع ما شرّع في النكاح الدائم إلا ما خصّصته السنّة الشريفة ، مثل الإرث ونحوه ، ممّا سيأتي في البحث الفقهي إن شاء الله تعالى.

وقيل ـ وهو المعروف المشهور بين الجمهور ـ : إنّها منسوخة بالسنّة ، فقد نقل أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نسخها عام خيبر ، وقيل : عام الفتح ، وقيل : في حجّة الوداع ، وقيل غير ذلك.

ولكن ذلك لم يثبت بدليل معتبر ، بل معارض بروايات معتبرة أخرى من الفريقين تدلّ على عدم النسخ ، وعلى فرض القول به فيحتمل أن يكون النهي

٣٤

من الخليفة الثاني حكما وقتيا لا نسخا دائميا ، لمصلحة رآها تختصّ بزمانه ، وعلى فرض التعارض ، يكون الترجيح مع الروايات الدالّة على عدم النسخ ؛ لما ورد من أنّه لا بد عند التعارض من عرض الأخبار المتعارضة على الكتاب ، فما وافق الكتاب يؤخذ به ، وما خالفه يطرح ، وسيأتي في البحث الروائي ما يتعلّق بذلك.

بحث علمي

نكاح المتعة من الموضوعات التي كثر الجدل فيها بعد عصر النزول ، مع أنّه لم يخالف أحد في مشروعيتها ، وقد فهم الأصحاب (رضي الله تعالى عنهم) من الآية المباركة هذا القسم من النكاح ، وجرى عليه العمل عندهم برهة من الزمن ، وفهمهم والعمل به من القرائن المعتمدة عند الجميع ، ولم تظهر مناقشات القوم في دلالة الآية الكريمة إلا بعد زمن طويل ، فإنّ من حكم بالمنع إنّما حكم به لأجل النسخ ، لا من جهة عدم الدلالة. ولعمري إنّ الموضوع لا يحتاج إلى هذا الجدل العنيف والمناقشة العظيمة التي شغلت بال كثير من العلماء.

وقد الفت في ذلك كتب ورسائل في الحلّية والحرمة ، مع أنّه لم يقصر عن سائر المسائل الفقهيّة التي طالما اختلف الفقهاء فيها ، ولم تصل إلى الحدّ الذي وصل إليه نكاح المتعة من التشكيك والمغالطة ، مع اتفاق الجميع على حرمة الزنا وأنّ الذي يحلّله يريد الخروج من الفاحشة والسفاح إلى الإحصان والتعفّف ، وأنّ الذي يحرّمه لا يريد اتخاذ الزنا بدلا عنه ، وقضاء الوطر بالسفاح دون النكاح. مع أنّ جمعا من الفقهاء يحكمون بأنّه يجوز للمكلّف الرجوع إلى أي مذهب من المذاهب الإسلاميّة شاء في تعيين الوظيفة وكسب التكليف في الحكم الفرعي.

وبعد الإحاطة بما ذكرناه ، لا موجب لهذا الاختلاف العظيم في هذا الموضوع الذي يمسّ المجتمع الإسلاميّ ويحتاج إليه المسلم في حياته اليومية أشدّ

٣٥

الاحتياج ، وهو يبتغي رضا الله تعالى ويريد العمل بالشرع المبين ، ولو اهتمّ العلماء بهذا الموضوع وتشييد أركانه وإعلام الناس بحدوده وقيوده وتعليم فروعه وآدابه ، لما حصلت هذه المفاسد العظيمة التي أخلّت بالنظام ، مع علمهم بأنّ الإنسان لا يمكنه التغاضي عن حاجته الفطريّة ، ولو لا ما تفاحش الزنا ـ العلن منه والخفي ـ لرأيت وقوع الناس في الحرج والمشقّة وسمعت الضجّة في الخلاص من الورطة ، ولو بقيت شرعية المتعة ولم يحصل منع وتحريم ، لما كان وقع للزنا واللواط وسائر الفواحش في المجتمع الإسلاميّ التي هددت كيانه واستنزفت أمواله وهتكت أعراضه ، وفشت بها الأمراض الموبقة الرديّة ـ الجسمانيّة والروحانيّة ـ في أفراده ، ودبّ الضعف في جسمه وكيانه ، وفسدت أخلاقه ، وأفسدت النسل بالتعرّض للهلاك والدمار ، ولو وجد لهذه الشهوة المكنونة طريق يغنيهم من الدخول في خسّة الزنا والسفاح ، لما استرسل أكثرهم في هذه الزذيلة ، ولما استدرجوا في اتباع الهوى ، ولما اجترؤوا على الزنا بالمحصنات وهتك الأعراض ، ولما اختلطت الأنساب ، ولما ظهرت المفاسد الأخلاقيّة ، وهذا هو السرّ في قول أمير المؤمنين عليه‌السلام : «لما زنى إلا شقي» ، أو «لما زنى إلا شفى» ، أي : القليل.

ثم إنّه ذكر نكاح المتعة في علوم متعدّدة منها علم الكلام.

ومنها : علم الفقه ، فبحثوا فيه من حيث الجواز والحرمة.

ومنها : علم التفسير من حيث النظر في دلالة قوله تعالى : (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً) ، فإنّهم اختلفوا في أنّه هل يدلّ على تشريع المتعة ، وعلى فرضه فهل هو منسوخ بشيء كالآيات والسنّة كما عرفت آنفا ، وعلى فرض التشريع فهل تشريعه ابتدائي أو إمضائي. كما ذكر أمر المتعة في علم السير والتراجم ، ونحن نذكر بعض ما قيل في هذا الموضوع مطلقا ، والتفصيل يطلب من محله.

٣٦

قال بعض وهو يوجز ما ذكره الجمهور في دلالة الآية الشريفة : «وهذه الآية لا تدلّ على الحلّ ، والقول بأنّها نزلت في المتعة غلط ؛ لأنّ نظم القرآن يأباه ، حيث بيّن سبحانه أوّلا المحرّمات ، ثم قال تعالى : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ) ، فإنّ فيه شرطا بحسب المعنى ، فيبطل تحليل الفرج وإعارته ، وقد قال بهما الشيعة ، ثم قال جلّ وعلا : (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ) ، وفيه إشارة إلى النهي عن كون القصد مجرّد قضاء الشهوة وصبّ الماء واستفراغ أوعية المني ، فبطلت المتعة بهذا القيد ؛ لأنّ مقصود المتمتع ليس الا ذاك دون التأهّل والاستيلاد وحماية الذمار والعرض ؛ ولذا نجد المتمتع بها في كلّ شهر تحت صاحب ، وفي كلّ سنة بحجر ملاعب ، والإحصان غير حاصل في المرأة المتمتع بها غير النكاح إذا زنا لا رجم عليه ، ثم فرّع سبحانه على النكاح قوله عزّ من قائل : (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ) ، وهو يدلّ على المراد بالاستمتاع هو الوطء والدخول ، لا الاستمتاع بمعنى المتعة التي يقول بها الشيعة ، والقراءة التي ينقلونها عمّن تقدّم من الصحابة شاذة».

ومراده من القراءة التي ينقلونها هي القراءة المروية عن عائشة : (فما استمتعتم به منهن إلى اجل مسمى فآتوهن أجورهن فريضة من الله) ، وهذه القراءة لم يروها الشيعة ، بل نقلها بعض الجمهور في كتبهم والشيعة في غنى عنها بعد تصريحهم بدلالة الآية الشريفة على المطلوب مع قطع النظر عن وجود جملة (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) ، وإنّما يذكرها بعضهم من المؤيدات.

وكيف كان ، فالمناقشة في ما ذكره ظاهرة بعد الإحاطة بما ذكرناه في تفسير الآية الشريفة ، وقلنا إنّ الآية الكريمة تدلّ على أنّ النكاح المؤقّت الموسوم بالمتعة من طرق الإحصان ، لمقام التفريع على قوله تعالى : (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ) ، فإنّه تعالى بعد أن بيّن المحرّمات ثم أحلّ ما وراءها ، ذكر أنّ المناط في كلّ نكاح واستمتاع هو الإحصان ، دون مجرّد قضاء الشهوة وصبّ الماء

٣٧

واستفراغ أوعية المني ، مع غضّ النظر عن ما يترتّب على ذلك وعدم الالتزام بآثاره ، كما هو الحال في الزنا ، وأما المتعة فإنّها وإن تضمّنت صبّ المني واستفراغ أوعيته ، لكن مع الالتزام بآثار ذلك كما يلتزم المتمتع في النكاح الدائم ، وأمّا التأهّل ، والاستيلاد ، وحماية الذمار والعرض ، فليست من العلل التامّة في النكاح والمتمتع مطلقا ، فإنّ الله تعالى قد أذن بالتمتع بالإماء ، ولا ينكر ذلك أحد من المسلمين وليس فيه أي واحدة من تلك الأمور التي ذكرها في وجه حلّية النكاح ، فهذه الأمور إنّما هي من وجوه الحكمة ، لا العلّة في التشريع ، والفرق بين الأمرين ، واضح لمن له أدنى تأمّل.

ثم إنّ الذي ذكره في المتعة من أنّ : «المتمتع بها في كلّ شهر تحت صاحب ، وفي كلّ سنة بحجر ملاعب» ، فإنّه ينقض ذلك في الأمة ، بل قد يتحقّق في المتزوّجة بالزواج الدائم ، ولا ضير في أن يكون الأمر كذلك ؛ بعد أن ذكر أنّ المتزوّج بالزواج المؤقّت يلتزم بآثار هذا العقد وما يترتّب على هذا النكاح من لحوق الولد به ، ووجوب الإنفاق عليه ، ولزوم العدّة على المرأة بعد المفارقة ، ونحو ذلك ممّا سيأتي في البحث الفقهيّ ، فالإحصان حاصل بالمتعة بعد الالتزام بلوازمها الشرعيّة ، ولا يضر بها كون المراد بالاستمتاع في الآية الشريفة هو الوطء والدخول ، كما هو الحال في بعض أفراد النكاح الدائم ولا يمكن إنكاره.

والمرأة المتمتع بها لا يمكنها التزويج بعد المفارقة من الزوج الأوّل إلا بعد العدّة واستبراء رحمها ، فكيف تكون : «صولجانة يلعب بها» كما قاله بعض المفسّرين ، فدلالة الآية المباركة على أنّ المراد بها النكاح المؤقّت لا غبار عليها.

الإشكال الثاني قال بعضهم : إنّه قد استدلّ الجمهور بقوله تعالى : (فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) ، على تحريم نكاح المتعة الذي هو النكاح المؤقّت بأجل بلفظ المتعة ، وهو استدلال ظاهر ، إذ انّ التي عقد عليها هذا لم تكن مملوكة ملك يمين ، وهو ظاهر ، ولم تكن زوجة ؛ لأنّ لعقد الزوجيّة لوازم

٣٨

تترتّب عليه من صحّة الطلاق والإرث والعدّة ووجوب النفقة ، وهي كلّها منتفية في نكاح المتعة ، وهو لا يحمل شيئا من خواص النكاح إلا التسمية المقيّدة التي عرضت له من ناحية صورة العقد ...

ثمّ قال : إنّ عقد النكاح هو الالفة والمحبّة والشركة في الحياة. وأيّ ألفة وشركة تجيء من عقد لا يقصد منه إلا قضاء الشهوة على سبيل التوقيت ، أليس الزنا يقع بالتراضي بين الزانيين على قضاء الوطر ، وهل عقد نكاح المتعة إلا هذا؟!! وهل تقلّ المفاسد التي تترتّب على نكاح المتعة عن المفاسد التي تترتّب على الزنا؟!!

أقول : إنّ ما ذكره من أقوى ما قيل في هذا الموضوع ، حيث جعل ما أباحه الله تعالى واعتبره عزوجل من إحدى الوسائل لتحصين النفس وسبيلا من سبل التعفّف ، كالزنا وما حرّمه الله تعالى ، وليس ذلك إلا من الجهل بأحكام الله تعالى والتعنّت والعناد ، فما ذكره بعيد عن البحث الموضوعي النزيه وجرأة على الله تعالى.

وكيف كان ، فالإشكال على ما ذكره واضح بعد الإحاطة بما ذكرناه في التفسير :

أوّلا : بأنّ النكاح المؤقّت هو من أفراد مطلق النكاح ، وانتفاء بعض الأمور المعتبرة في النكاح الدائم كالطلاق والإرث ووجوب النفقة من الزواج المؤقّت لأجل ذليل شرعي لا يجعله خارجا عن صدق النكاح ويدخله في المحرّمات.

وثانيا : أنّ هذه الأمور قد تنتفي من النكاح الدائم في بعض الحالات أيضا ، فلا بد أن يكون من الزنا كما يدعيه هذا الخصم ، أمّا الطلاق فكما إذا وقع الزواج على امرأة فيها أحد العيوب المجوّزة للفسخ ، فإنّه يجوز للزوج فسخ العقد من دون طلاق ، وكذا بالنسبة إلى المرأة إذا وجدت في الرجل أحد العيوب التي

٣٩

تجوّز الفسخ ، فإنّه يجوز لها فسخ العقد من دون طلاق ، فانتفاء الطلاق لا يوجب ردّ الزواج إلى الزنا المحرم.

وأما الإرث ، فإنّه ربّما ينتفي في الزواج الدائم أيضا ، كما إذا تحقّقت في الزوجة أحد موانع الإرث ، كالقتل والكفر ، فإنّه إذا ارتدّت الزوجة وكفرت ، فإنّها لا ترث من زوجها.

وأما انتفاء العدّة في الزواج الدائم فغير عزيز ، فإنّه لا عدّة في الصغيرة غير البالغة ، والكبيرة التي يئست عن المحيض ، والزوجة التي لم يقاربها الزوج فطلّقها قبل الاستمتاع بالمقاربة بها ، مضافا إلى أنّه لم يقل أحد بانتفاء العدّة في المتعة والزواج المؤقّت.

وأمّا وجوب النفقة ، فلأنّ النفقة حقّ من حقوق الزوجة ، يجوز للزوج الشرط على الزوجة حين العقد إسقاط هذا الحقّ ، فلا تجب النفقة على الزوج حينئذ بمقتضى الشرط بينهما ، كما تسقط النفقة عن الزوج أيضا في ما إذا نشزت الزوجة وامتنعت عن وظائف الزوجية.

فانتفاء هذه الأمور عن الزواج لا يصيرها من أفراد الزنا بالاتفاق من جميع الفقهاء ، فليكن المقام كذلك ، فإنّ الشارع الأقدس الذي شرّع الزواج المؤقّت قد حكم بانتفاء هذه الأمور عنه ، مع حكمه بأنّه من أفراد تحصين النفس والعفّة ومطلق النكاح ، فيكفينا عمومات النكاح والزواج الواردة في الكتاب والسنّة ، بعد تسالم العلماء وأهل المحاورة على أنّ تخصيص بعض العمومات لبعض الخصوصيّات ، لا يوجب سقوط العمومات عن التمسّك بها.

وثالثا : أنّ جعل الالفة والمحبّة من العلل الخاصّة في النكاح والزواج بحيث أنّ الزواج لم يشرّع إلا لأجلها من مجرّد الدعوى ، بل الدليل على خلافها ، فإنّه بناء على ما ذكره إذا تحقّق في الحياة الزوجيّة الخصام والنزاع ، فلا بد وأن تنفصم من دون طلاق ؛ لانتفاء المعلول بانتفاء العلّة ، فالزواج الدائم والزواج المؤقّت

٤٠