مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٨

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٨

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٣
ISBN: 946-5665-07-8
الصفحات: ٣٩٧

أقول : الرواية من باب ذكر أحد المصاديق ، كما تقدّم في التفسير.

وعن الصادق عليه‌السلام في عقاب الأعمال قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من مشى في الأرض اختيالا ، لعنته الأرض ومن تحتها ومن فوقها».

أقول : الرواية تدلّ على أنّ الاختيال صفة ذميمة ، وأنّ المختال أبعد الناس من الله عزوجل.

وعن الصادق عليه‌السلام في المحاسن : «ثلاث إذا كن في المرأة فلا تتحرّج أن تقول إنّها في جهنّم : البذاء والخيلاء والفخر».

أقول : الروايات في ذلك كثيرة ، تدلّ على أنّها من الصفات السيئة التي توجب انهيار معالم الأخلاق الكريمة والفضائل السامية ، والاختصاص بالمرأة لأنّها الأكثر ابتلاء بتلك الصفات ، وإلا لا فرق بين الرجل والمرأة.

وقد وردت روايات في تفسير قوله تعالى : (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) ، تدلّ على أنّ الآية الكريمة نزلت في اليهود ، كانوا يأتون رجالا من الأنصار ينصحونهم ويقولون : لا تنفقوا أموالكم ، فإنّا نخشى عليكم الفقر ، ولا تدرون ما يكون. فنزلت الآية الشريفة ووبّختهم بكتمان نعم الله وما آتاهم من فضل الغنى ، وتقدّم مكرّرا أنّ شأن النزول لا يوجب التخصيص ، وأنّ الآية الشريفة عامّة تنطبق على جميع مواردها مدى العصور والأزمان.

بحث عرفاني

يمكن أن يستفاد من قوله تعالى : (وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ) ، مراتب العلماء بالله العاملين بعلمهم ، الذين يكونون حجّة على الخلق بأقوالهم وأفعالهم ، وتتبرّك الأرض بوجودهم ، فإنّ حسن المعاشرة معهم من حسن المعاشرة مع الله تعالى ، وهم الذين يدعون ربّهم في ليلهم ونهارهم

٢٠١

بقولهم : «إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك ، وأنر أبصار قلوبنا بضياء النظر إليك حتّى تخرق أبصار القلوب حجب النور ، فتصل إلى معدن العظمة ، وتصير أرواحنا معلّقة بعزّ قدسك» ، وهذا غاية كمال العارفين التي دعا إليها الأنبياء والمرسلون.

وما سوى ذلك ممّا دعا إليه بعض العرفاء كابن الفارض ومحي الدين والحلاج ونحوهم ، وما نسب إلى بعض الشيخيّة على ما صرّح به في شرح زيارة الجامعة ، فإنّ كلّ ذلك خروج عن الحقّ القويم وابتعاد عن الصراط المستقيم.

كما أنّ ترتّب الإحسان إلى الوالدين على عبادة الله الواحد ، يدلّ على فضل الوالدين ، وأنّ لهما المنزلة العظمى في الهداية والتشريع ، وأنّهما من طرق عبادة الله تعالى ، فيختصّان بالوالدين الحقيقيين ، وهما الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمير المؤمنين عليه‌السلام ، كما مرّ في الروايات.

والآية الشريفة ترشد أهل العرفان إلى أهمّ الفضائل التي لا بد من التحلّي بها ، وأهمّ الرذائل التي ينبغي أن يجتنب عنها ، وهي الرياء والكبر والفخر ، فإنّها من المهلكات والمبعدات عن ساحة الحبيب.

كما أنّ الاقتراب منه تعالى إنّما يكون بالإحسان إلى خلق الله تعالى ، وقد استوفت الآية المباركة جميع أصناف الخلق ، فإنّ الإحسان إليهم يوجب محبّته عزوجل إن لم يشب بما يوجب الإحباط وعدم محبّته لله تعالى ، وهو الفخر والكبر والرياء.

٢٠٢

(إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (٤٠) فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (٤١) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً (٤٢))

الآيات الشريفة تحثّ المؤمنين على الاعتقاد بحقيقة واقعيّة لها الأثر في هداية الإنسان واطمئنانه ، وإنّها : لا إله إلا الله ، وتحرّضهم لعبادة الواحد الأحد والعمل بما تؤدّيه تلك الحقيقة ، التي هي الهدف الرئيسي في الأديان الإلهيّة.

كما تدلّ الآيات المباركة على أن أجر العاملين محفوظ لا ينقص منه شيء ، ولا تصل إليه يد الظلم والجور ، بل يعطيهم سبحانه وتعالى الحسنات المضاعفة والأجر العظيم إن هم استقاموا على تلك العقيدة.

وتندّد هذه الآيات المباركة بالذين لا يعملون بمقتضاها ويحجمون عن تنفيذ أحكامها ويعصون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في تعاليمه وشريعته.

وقد بيّن عزوجل فيها أهمّ موضوع ، وهو نفي الظلم عنه تعالى عن ذلك علوّا كبيرا ، فهو عدل في حكمه وأفعاله ، وضمّ إلى ذلك شهادة الشاهدين من صفوة الخلق لتثبيت مضمونها ، ولا يخفى ارتباط هذه الآيات بالسابقة منها.

التفسير

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ)

مثقال منصوب إما على أنّه مفعول ثان ليظلم ، وهو الحقّ ، وإما على أنّه صفة مصدر محذوف مفعول ، أي : ظلما قدر مثقال ذرّة ، فحذف المصدر وأقيم المضاف مقامه.

والظلم معروف ، وقد ذكر في معناه امور جميعها ترجع إلى ما هو المعلوم

٢٠٣

المعروف والمرتكز في النفوس ، وهو الجور ومجاوزة الحدّ. وأنّه يتعدّى إلى مفعولين ، يقال : ظلمه حقّه ، وظلمه ماله ، ونحو ذلك لتضمّنه معنى الغصب والنقصان ، فعدّي إلى اثنين.

والمثقال : مفعال من الثقل ، وهو في الأصل مقدار من الوزن ـ أي شيء كان من قليل أو كثير ـ وفي الحديث عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا يدخل النّار من في قلبه مثقال ذرّة من إيمان».

والذرّة قيل : إنّها الصغير من النمل ، وسئل ثعلب عنها فقال : «إنّ مائة نملة وزن حبّة ، والذرّة واحدة منها».

وقيل : الذرة ليس لها وزن ؛ لأنّها الهباء المبثوث في الهواء ، ويرى في شعاع الشمس الداخل من النافذة.

والصحيح أنّها مثال للشيء المتناهي في الصغر ، وإنّما ضرب المثال بالذرّة لأنّها أقلّ شيء ممّا يدخل في وهم البشر في عصر النزول ، وإلا فإنّ العلوم الطبيعيّة المعاصرة قد أثبتت أشياء أصغر منها بكثير لا ترى بالعين المجرّدة.

وإنّما عبّر عزوجل بالمثقال للإشارة إلى أنّه وإن كان شيئا حقيرا ووزنا قليلا لكنّه عظيم عند الله عزوجل والظلم فيه كبير.

والآية الشريفة تدلّ على نفي الظلم عنه عزوجل ؛ لمنافاته لحكمته المتعالية ، وهذا هو المشهور بين العدليّة والحكماء المتألّهين ، أو لأنّ الظلم يستلزم الجهل ، وهو منزّه عنه جلّت عظمته ، فإنّه عالم بجميع الأشياء ، لا يعزب عن علمه شيء ، فيرجع نفي الظلم عنه إلى نفي الجهل ، وهو من صفات الذات ، أي : أنّ ذاته تبارك وتعالى التي تكون جامعة لجميع صفات الكمال ، لا يتصوّر في حقّها النقص الذي هو الظلم ، وذيل الآية الشريفة يدلّ على ما ذكرناه ، فإنّ مضاعفة الحسنة لا بد أن تكون عن علم بجميع خصوصيات المنعم عليه والنعمة والفضل والزيادة.

٢٠٤

قوله تعالى : (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها).

تعليل لما سبق من الاستفهام في الآية المباركة السابقة : (وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ، وبيان لنفي الظلم ، فإنّ الذي يضاعف الحسنات لا يتصوّر في حقّه الظلم ؛ لأنّه لا فائدة فيه ترجع إليه.

والحسنة : هي الأفعال التي يقبلها العقل ويحثّ عليها الشرع. والمضاعفة : هي الزيادة على الشيء بمثله في المقدار أو أمثاله ، وقد أهمل سبحانه وتعالى المضاعفة في العدد والمدّة ولم يحددها في المقام ـ وإن ذكر في موضع آخر : (أَضْعافاً كَثِيرَةً) [سورة البقرة ، الآية : ٢٤٥] ؛ لأنّها من مظاهر رحمته الواسعة غير المتناهيّة ، فهو عزوجل في مقام الجزاء يضاعف الحسنات بما شاء من المضاعفة لرحمته الواسعة.

والمعنى : أنّهم لو آمنوا وأنفقوا لم يكن الله ليظلمهم ، ولأعطى جزاء أعمالهم وإنفاقهم ، بل ضاعف لهم الأجر بما يشاء في العدد أو المدّة أو كليهما.

قوله تعالى : (وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً).

بيان للحسنة المضاعفة وتعليل لها ، أي : أنّ الله يضاعف الحسنات لأنّه يعطي الأجر العظيم ، ولا يقتصر على مضاعفة حسنات المحسنين ، بل يزيد عليهم وأنّه يعطيهم الأجر العظيم.

وإنّما ذكر عزوجل تكريما للمطيع وإكمالا لابتهاجه ، وقد اختلفوا في الأجر العظيم ، فذكر بعضهم أنّه الجنّة.

وقال آخرون : إنّه اللذّة الحاصلة عند اللقاء والاستغراق في المحبّة والمعرفة ، والحقّ هو الأوّل ؛ لأنّها مقابل الحسنات ، وهذه أعظم وأكثر ، فإنّه يشمل اللذائذ المعنويّة الروحانيّة ودرجاتها أيضا.

٢٠٥

قوله تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً).

تثبيت لمضمون ما ورد في الآيات السابقة وتعظيم الأمر على المخالفين والمعاندين والكافرين ، وتهويل حالهم في يوم لا سبيل لهم إلا الإقرار والاعتراف ، فيستحقّون جزاء إنكارهم وأعمالهم الفاسدة ، وقد دأب القرآن الكريم أنّه إذا ذكر أحكاما معيّنة وأمورا ترتبط بالعقيدة والتوحيد وشؤون الخالق والربّ العظيم أن يذكر بعد ذلك ما يثبتها بأمور حسنة لا يمكن إنكارها ، لئلا يكون للناس على الله حجّة ، ولدفع شبه المعاندين ، ومن تلك الأمور الحسنة الشهادة التي يقبلها جميع أفراد الإنسان وتقوم عليها نظام معاشهم ، فيأتي الله تعالى يوم القيامة بالشهداء المحمودين المقبولين عند جميع الأمم ، وهم الأنبياء والأوصياء ، فإذا شهدوا على أحوال أممهم ثم قرّر تلك الشهادات بشهادة خاتم الأنبياء ، لأنّه أشرفهم وهو غاية بعث الرسالات السماويّة ، فهو الخاتم لما سبق والفاتح لما استقبل والمهيمن على ذلك كلّه ، فإنّ هؤلاء الشهداء يشهدون على أحوال أممهم من إطاعتهم وعصيانهم وبغيهم وعنادهم واستقامتهم وخروجهم عن الطاعة وإعراضهم عن ما جاءوا به من المشهود ، إذ لا سبيل لهم للإنكار ولا خلاص لهم من أهوال ذلك اليوم العصيب بعد أن يتبرّأ منهم الأنبياء والشهداء ، فلا تفيدهم ادعاء الاتباع لهم. وقد تقدّم في قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ) [سورة البقرة ، الآية : ١٤٣] معنى الشهادة وما يتعلّق بكيفيّة الشهادة ، فراجع.

وذكر بعض المفسّرين أنّ المراد ب (هؤُلاءِ) هم الذين كانوا موجودين حين النزول ، فهو صلى‌الله‌عليه‌وآله يشهد أنّه جاء لهم بالدين القويم وبلّغ ذلك أحسن تبليغ وأقام الحجج على الدعوة ، وما قاساه من العتاة والمشركين من العناد والضلال وشدّة الأذى ، وتألبهم عليه مجاهرة ونفاقا ، فيكون حجّة على المفرطين والمعاندين.

٢٠٦

ولكن ظاهر الآية الشريفة يعطي معنى أبعد من ذلك ، فإن شهادة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على أمته يوم الشهادة أمر يدلّ عليه قوله تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) ، فإنّ عمومه يشمل امة خاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضا ، فيكون ذيل الآية المباركة لبيان أنّ شهادة الأنبياء ، جميعهم أيضا ممّا يقرّر بشهادة سيدهم وخاتمهم ، فإنّ له المقام المحمود يوم القيامة ، ويدلّ على ذلك بعض الروايات ، كما سيأتي في البحث الروائي.

يضاف إلى ذلك أنّه لا وجه لاختصاص الآية المباركة بالذين كانوا موجودين حين النزول ، فهو صلى‌الله‌عليه‌وآله حجّة على أمته من حين النزول إلى يوم القيامة ، فيشهد صلى‌الله‌عليه‌وآله على كلّ انحراف وتغيير وتبديل وإعراض عن تعاليمه المقدّسة ، كما تدلّ عليه آيات متعدّدة.

ويمكن رفع الاختلاف بأنّ شهادة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على أمته شهادة على جميع الأمم باعتبار أنّ تعاليمه مكمّلة لتعاليم الأنبياء ، وأنّ أمته امتداد لسائر الأمم.

قوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ).

بيان لحالهم بعد شهادة الأنبياء وتمامية الحجّة عليهم. أي : أنّ الذين كفروا بالله وعصوا الرسول في تعاليمه وأحكام الشريعة وما جاء به من الله تعالى عند تماميّة الحجّة عليهم بشهادة الأنبياء ، يتمنّون أن ينعدموا ولا يبقى لهم أثر في ذلك اليوم العصيب.

قوله تعالى : (لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ)

أي : الدفن فيستوون مع الأرض ، وهو كناية عن بطلان الوجود وانعدامهم ، فلا يؤخذوا بما فعلوا. وقد فسّرت هذه الجملة في موضع آخر من القرآن الكريم بالتراب ، قال تعالى : (وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) [سورة النبأ ، الآية : ٤٠].

٢٠٧

قوله تعالى : (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً)

أي : يودّون أن ينعدموا ولا يبقي لهم أثر ، لعدم قدرتهم على كتمان أحوالهم وأعمالهم وصفاتهم بعد ما ظهرت بشهادة الأنبياء وأعضاء أبدانهم وحضور أعمالهم ، فهم بارزون لله تعالى لا يخفى عليه منهم شيء ، فيودّون لو لم يكونوا بعد ما لم يقدروا على كتمان أمر من أمورهم ، كما كانوا يفعلون في دار الدنيا فقد تمّت الحجّة عليهم واستحقّوا جزاء أعمالهم.

وإنّما ذكر تعالى هذه الجملة بعد تمنّيهم الانعدام والتسوية مع الأرض لبيان يأسهم وشدّة حالهم في تلك اللحظة.

بحوث المقام

بحث أدبي :

قوله تعالى : (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها) ، (تك) أصلها (تكن) حذفت النون للتخفيف ، ويكثر حذفها في مثل هذه ، وعلّله بعضهم بأنّ النون تشبه حروف العلّة من حيث الغنة والسكون.

والقراءة المعروفة في (حَسَنَةً) على النصب خبر كان ، فيكون اسمها مستترا عائدا على الذرة.

وقيل : يعود إلى المثقال ، وإنّما أنث لأنّ المثقال مضاف إلى ذرّة. ونوقش بأنّ تأنيث المضاف باعتبار المضاف إليه شاذّ ، خصوصا إذا كان المضاف إليه محذوفا ، والحقّ أنّ التأنيث راجع إلى الخبر ، قال تعالى : (فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ) [سورة النساء ، الآية : ١٧٦] ، وقال تعالى : (فَإِنْ كُنَّ نِساءً) [سورة النساء ، الآية : ١١] ، ونحو ذلك ممّا هو كثير ، هذا إذا جعلنا كان ناقصة ، وقرئ برفع (حسنة) على أنّ (تك) تامّة.

٢٠٨

و (لدن) بمعنى عند ، قال بعضهم : إنّه أقوى في الدلالة على القريب من عند. وفيه اربع لغات بفتح اللام ، وضمّ الدال ، و (لدن) بضم اللام وسكون الثاني ، ولدن بفتح الأوّل وضمّ الثاني وحذف النون ، و (لدن) بفتح الأوّل والثاني مع الياء ، وإذا أضافوه إلى أنفسهم شدّدوا النون.

وإنّما دخلت «من» عليه لابتداء الغاية ، ولدن كذلك ، فلما تشاكلا حسن دخول (من) عليه.

و (كيف) في قوله تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا) محلّها إما الرفع على أنّها خبر لمبتدأ محذوف ، أو النصب بفعل محذوف ، والتنوين في «يومئذ» تنوين عوض ، حذفت الجملة وعوض عنها التنوين.

و (لو) في قوله تعالى : (لَوْ تُسَوَّى) مصدريّة.

وقد اختلفوا في جملة : (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) ، فقيل : إنّها عطف على جملة : (لو تسوى) ، وقيل : إنّها معطوفة على جملة (يود) ، وقيل : إنّها مستأنفة ، ولا يضرّ هذا الاختلاف بأصل المعنى.

بحث دلالي

تدلّ الآيات الشريفة على امور :

الأول : يدلّ قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) على نفي وقوع الظلم منه تعالى مطلقا ، ويستفاد من ذيل الآية المباركة : (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها) ، أنّ عدم وقوع الظلم عنه يستند إلى أمرين :

الأوّل : الاستغناء المطلق ، فإنّه عزوجل مستغن عن كلّ شيء ، ولاستغنائه تعالى عن الخلق يضاعف الحسنات ، فلا وجه للظلم الذي هو لازم الحاجة والفقر ، وهو تعالى منزل عنهما.

الثاني : الحكمة الإلهيّة ، فإنّها تقتضي نفي الظلم عنه ، لا من حيث القدرة

٢٠٩

التي تعلّقت بجميع الأشياء حتّى الظلم ـ المنزّه عنه ذاته الأقدس ـ فإنّ الذي يقدر على مضاعفة الحسنات وإيتاء الأجر العظيم ، لقادر على تنقيص ذلك ، ومنع الأجر عن صاحبه ، لكنه لا يفعل ذلك لحكمته المتعالية ، وهذا هو معنى العبارة المعروفة : «إنّ الله تعالى لا يظلم لحكمة ، لا لقدرة» ، أي : أنّ حكمته المتعالية تقتضي نفي وقوع الظلم عنه ، لا لعدم قدرته ، فإنّها تعلّقت بجميع الأشياء ، فهو قادر على الظلم لكنه لا يفعله لمنافاته الحكمة ، وسيأتي تتمة الكلام في البحث الكلامي إن شاء الله تعالى.

الثاني : يدلّ قوله تعالى : (مِثْقالَ ذَرَّةٍ) على أنّ جميع الأشياء لها وزن معين معلوم ، فإنّ الذرّة التي هي متناهية في الصغر لها وزن معين معلوم عند الله تعالى ، وهو عزوجل لا يظلم زنة ذلك المقدار ، وقد أثبتت العلوم الطبيعيّة المعاصرة الوزن لجميع الأشياء حتّى الهواء ، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه النظرية قبل هذا بقرون كثيرة.

الثالث : يدلّ قوله تعالى : (وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) ، على أنّ الأجر لا بد أن يكون عن استحقاق وعلى موضوع قابل مستعد ، فإن ترتّب هذه الجملة على قوله تعالى : (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها) ، يدلّ على أنّ موضوع استحقاق الأجر هو الحسنة التي يفعلها الإنسان ، فالله تعالى يضاعفها ، فتكون الحسنات المضاعفة هي موضوع الأجر العظيم ، ومن ذلك يستفاد أنّ هذا الترتّب من قبيل ترتّب المعلول على العلّة التامّة.

الرابع : يستفاد من قوله تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) على المقام العظيم للشهداء في يوم القيامة ، وكمال هؤلاء الشهداء وعلو مقامهم وتنزيههم عن المآثم ، فإنّ الشهادة لا تكون إلا ممّن اجتمعت فيه شروط الشهادة ، التي منها الإحاطة العلميّة لجميع أفراد أممهم وخصوصيات أعمالهم ، ومنها عصمتهم ، وعدم صدور الذنب منهم ، فإنّ المذنب لا يكون شاهدا على مذنب

٢١٠

آخر ، ومنها غير ذلك ، وقد تقدّم أنّ الشهادة لا تكون إلا لمن اصطفاه الله تعالى لهذا المقام ، وهم الأنبياء والأوصياء.

الخامس : يستفاد من قوله تعالى : (وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) المنزلة المحمودة والمقام الكريم لسيد الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّ خاتم الأنبياء مضافا إلى كونه شاهدا على أمته ، فهو شاهد على جميع الأنبياء وأممهم ؛ لأنّ شريعته غاية التشريعات السماويّة ، ومكمل الأديان الإلهيّة ، فلا يليق هذا المقام إلا له وهو منحصر به.

السادس : يدلّ قوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ) على أنّ الإنسان إذا انقطعت عنه الحجّة وتوصدت عليه الأبواب ، يتمنّى أن يكون ترابا تطأه الأقدام فيغفل عنه الناس ويستولي عليه كلّ أحد ، ولا يكون مثارا للسؤال والجزاء المهين.

السابع : المراد من التسوية تسوية الكفّار الذين عصوا الرسول مع الأرض ، بقرينة الآية الشريفة : (وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) [سورة النبأ ، الآية : ٤٠] ، لا تسوية الأرض معهم ، فإنّ ذلك لا يناسب المعنى وبعيد عن الآية الشريفة بالمرّة.

الثامن : يمكن أن يستفاد من قوله تعالى : (لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ) ، أنّهم إنّما تمنّوا ذلك بأن تطمس نفوسهم ولا نقش فيها من العقائد الزائفة والرذائل الموبقة ، لتكون مستعدّة لفيض ذلك اليوم الذي يعمّ المؤمنين.

بحث روائي

في الدرّ المنثور عن ابن انس : «أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إنّ الله لا يظلم المؤمن حسنة يثاب عليها الرزق في الدنيا ، ويجزي بها في الآخرة ، وأمّا الكافر فيطعم بها في الدنيا ، فإذا كان يوم القيامة لم تكن له حسنة».

٢١١

أقول : أمثال هذه الرواية التي تدلّ على شرف المؤمن على غيره كثيرة ، فإنّ آثار حسنات المؤمن تظهر في جميع العوالم ـ الدنيا وعالم البرزخ ويوم الجزاء ـ بل قد تؤثّر في الأعقاب أيضا لمكان إيمانه ، بخلاف الكافر ، فإنّ آثار حسناته إما تظهر في الدنيا فقط ، أو في عالم البرزخ ـ كما في بعض الروايات ـ وأما في عالم الآخرة فإنّ حسناته لا تمنعه عن الدخول في النّار ، لاختياره الكفر في هذه الدنيا ، والمراد من النفي الوارد فيها ذلك. وقد توجب التخفيف عن العذاب ، وهو في النّار ولا يخرج منه أبدا.

وفي الدرّ المنثور أيضا في تفسير الآية المباركة : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها) عن ابن مسعود قال : «يؤتى بالعبد يوم القيامة فينادي مناد على رؤوس الأوّلين والآخرين : هذا فلان بن فلان ، من كان له حقّ فليأت إلى حقّه ، فيفرح والله المرء أن يدور له الحقّ على والده أو ولده أو زوجته ، فيأخذه منه وإن كان صغيرا ، ومصداق ذلك في كتاب الله : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) ، فيقال له : ائت هؤلاء حقوقهم ، فيقول : أي ربّ ومن أين وقد ذهبت الدنيا؟ فيقول الله لملائكته : انظروا أعماله الصالحة وأعطوهم منها.

فإن بقي مثقال ذرّة من حسنة قالت الملائكة : يا ربّنا أعطينا كلّ ذي حقّ حقّه وبقي له مثقال ذرّة من حسنة ، فيقول للملائكة : ضعفوها لعبدي وأدخلوه بفضل رحمتي الجنّة ، ومصداق ذلك في كتاب الله : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) ، أي : الجنّة يعطيها. وإن فنيت حسناته وبقيت سيئاته قالت الملائكة : إلهنا فنيت حسناته وبقي طالبون كثيرون ، فيقول الله : ضعفوا عليه من أوزارهم واكتبوا له كتابا إلى النّار».

أقول : أمثال هذه الرواية كثيرة بين الفريقين ، وأنّها تدلّ على امور :

الأوّل : أنّ الحقّ المذكور فيها من الحقوق الخلقيّة ، سواء كان من قسم

٢١٢

المجاملي أو من غيره ، وأما الحقوق الإلهيّة ، فهي بينه سبحانه وتعالى وبين عبده ، ويكون العبد مسئولا عنه حسب القوانين والشرائع الإلهيّة المفصّلة في الفقه.

الثاني : لا بد وأن يكون الحقّ باقيا ؛ لأنّ الحقوق مطلقا ـ خصوصا الخلقيّة منها ـ لا تسقط إلا بالتهاتر أو بالإسقاط ، والأداء والتهاتر إما في هذه الدنيا أو في يوم الجزاء بأخذ الحسنة ممّن عليه الحقّ ، كما في هذه الرواية وغيرها.

الثالث : مناسبة الحقّ مع الحسنة ، فإنّ للحسنة مراتب كثيرة متفاوتة ، والحقّ أيضا له مراتب كذلك ، فلا بد وأن تكون الحسنة تناسب الحقّ ، وتكون مثله.

الرابع : يستفاد منها أنّ تخفيف الوزر وحطّه عن من له الحقّ ووضعه على من عليه الحقّ ، جزاء لعمله نحو حسنة تعود إلى من له الحقّ.

في الكافي بإسناده ، عن سماعة ، عن الصادق عليه‌السلام : في قول الله عزوجل : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) ، نزلت في امة محمد خاصّة في كلّ قرن منهم إمام منا شاهد عليهم ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله في كلّ قرن شاهد علينا».

أقول : اختصاص الآية المباركة بامة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لأنّها أشرف الأمم وأنّ الشهادة عليهم تستلزم الشهادة على غيرهم من الأمم السابقة.

وأما شهادته صلى‌الله‌عليه‌وآله على الشهداء من الأئمة عليهم‌السلام في كلّ قرن وزمان إنّما هو من باب ذكر أحد المصاديق ، وإنّ ذلك لا ينافي كونه صلى‌الله‌عليه‌وآله شاهدا على الأنبياء السابقين أيضا.

وفي الاحتجاج : عن علي عليه‌السلام في حديث يذكر فيه أحوال أهل الموقف : «فيقام الرسل فيسألون عن تأدية الرسالات التي حملوها إلى أممهم ، فأخبروا أنّهم قد أدّوا ذلك إلى أممهم ، وتسأل الأمم فيجحدون ، كما قال الله : (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) ، فيقولون : ما جاءنا بشير ولا نذير ،

٢١٣

فيستشهد الرسل رسول الله ، فيشهد بصدق الرسل ويكذب من جحدهم من الأمم ، فيقول لكلّ امة منهم : (فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، أي : مقتدر على شهادة جوارحكم عليكم بتبليغ الرسل إليكم رسالاتهم ، ولذلك قال الله تعالى لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) ، فلا يستطيعون ردّ شهادته ، خوفا من أن يختم الله على أفواههم وأن يشهد عليهم جوارحهم بما كانوا يعملون ، ويشهد على منافقي قومه وأمته وكفّارهم ، بالحادهم وعنادهم ونقضهم عهده وتغييرهم سنته واعتدائهم على أهل بيته وانقلابهم على أعقابهم وارتدادهم على أدبارهم واحتذائهم في ذلك سنّة من تقدمهم من الأمم الظالمة الخائنة لأنبيائها ، فيقولون بأجمعهم : (رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ)».

أقول : يستفاد من هذه الرواية امور :

الأول : أنّ جحود الأمم للأنبياء في يوم الجزاء قبل نطق جوارحهم ، كما يدلّ عليه الآية الشريفة : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) [سورة النور ، الآية : ٢٤] ، وقبل شهادة الأنبياء ، لأنّ ليوم الجزاء مواقف متعدّدة ومراحل كثيرة.

الثاني : أنّ جحود الأمم للأنبياء في يوم الجزاء إنّما يكون منشأه كفرهم بالله العظيم في هذه الدنيا ورسوخ الملكات السيئة في نفوسهم الحاصلة من عنادهم ولجاجهم مع الأنبياء في الدنيا ، ويدلّ على ذلك آيات شريفة وآيات كثيرة ، يأتي التعرّض لها في محلّها إن شاء الله تعالى.

الثالث : استشهاد الأنبياء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لأنّه أشرفهم ومكمّل رسالاتهم ، وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله يعلم بما جرى في الأمم السالفة بوحي من الله عزوجل ، فيشهد بصدق الرسل وتأدية الرسالات ، ويكذب من جحدها.

الرابع : يستفاد منها مقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عند الله تعالى ، فإنّه له عند الله

٢١٤

المنزلة الرفيعة والمقام المحمود والشأن الكبير ، ولا يستطيع أحد ردّ شهادته خوفا من الفضيحة والعذاب ، فيعترفون بالضلالة بعد شهادته صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وفي الدرّ المنثور عن البخاري وغيره ، وعن البيهقي في الدلائل عن ابن مسعود قال : «قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : اقرأ عليّ ، قلت : يا رسول الله ، أقرأ عليك وعليك انزل؟! قال نعم ، إنّي أحبّ أن أسمعه من غيري ، فقرأت سورة النساء حتّى أتيت على هذه الآية : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) ، فقال : حسبك الآن ، فإذا عينان تذرفان».

أقول : وقريب منه غيره ، ولعلّ بكائه صلى‌الله‌عليه‌وآله لأنّه شاهد على جميع الخلق ، متّصف بمقام الشهادة ، فهو المسؤول عنهم ، فمقام مثل هذه الشهادة مقام خطير جدا وعظيم.

في تفسير العياشي عن أبي بصير : قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن قول الله تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً)؟ قال : يأتي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم القيامة من كلّ امة بشهيد يوصي نبيّها ، واوتي بك يا عليّ شهيدا على امتي يوم القيامة».

أقول : لا تنافي بين هذه الرواية وبين ما تقدّمت من الروايات ، لما عرفت من أنّ الرسل وأوصيائهم يستشهدون برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهو شهيد على جميع الخلائق بواسطة الرسل والأوصياء.

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام في صفة يوم القيامة : «تجمعون في موطن يستنطق فيه جميع الخلق ، فلا يتكلم أحد (إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) ، فيقام الرسل فيسأله ، فذلك قوله لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) ، وهو الشهيد على الشهداء ، والشهداء هم الرسل».

٢١٥

أقول : يستفاد من هذه الرواية تعدّد المنازل والمواطن في يوم القيامة ، وأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله شهيد على جميع الرسل والشهداء ، كما تقدّم.

وفي تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) ، قال : «يتمنّى الذين غصبوا أمير المؤمنين عليه‌السلام أن تكون الأرض ابتلعتهم في اليوم الذي اجتمعوا فيه على غصبه ، وأن لم يكتموا ما قاله رسول الله فيه».

أقول : هذا من باب التطبيق ، فإنّ غصبه عليه‌السلام وعصيانه يكون من عصيان الرسول والخروج عن طاعته.

وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه‌السلام عن جدّه أمير المؤمنين عليه‌السلام في خطبة يصف فيها هول يوم القيامة : «ختم على الأفواه فلا تكلّم ، وتكلّمت الأيدي وشهدت الأرجل وأنطقت الجلود بما عملوا ، فلا يكتمون الله حديثا».

أقول : معنى الرواية أنّ الخلائق يوم القيامة لا يكتمون الله حديثا تكوينا ، أي : بجوارحهم ، فإنّها تشهد عليهم ، كما يأتي في الآيات الدالّة على ذلك.

وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم عن حذيفة قال : «أتي بعبد آتاه الله مالا فقال له : ماذا عملت في الدنيا ـ ولا يكتمون الله حديثا ـ فقال : ما عملت من شيء يا رب إلا أنّك آتيتني مالا فكنت أبايع الناس ، وكان من خلقي أن أنظر المعسر ، قال الله : أنا أحقّ بذلك منك ، تجاوزوا عن عبدي ، فقال أبو مسعود الأنصاري : هكذا سمعت من في رسول الله».

أقول : هذا من باب ذكر أحد المصاديق للآية الشريفة ، وأنّ الروايات في فضل وثواب إنظار المعسر كثيرة ، وأنّ الجوارح كما تشهد بما صدر عنها من الأفعال السيئة ، كذلك تشهد بالأفعال الحسنة الصادرة عنها ، فإنّ شهادتها تعمّ.

٢١٦

بحث كلامي

تقدّم في احد مباحثنا السابقة أنّ صفات الله جلّ شأنه تنقسم إلى أقسام عديدة حسب اختلاف الوجوه والاعتبارات :

فتارة : تنقسم إلى صفات الذات وصفات الفعل.

واخرى : إلى الصفات العامّة كالخالقيّة ، والخاصّة كالفيوضات الخاصّة على أنواعها وأقسامها.

وثالثة : تنقسم إلى الصفات الثبوتيّة والصفات السلبيّة ، وفي هذا البحث يقع الكلام في القسم الأخير ، أي الصفات الثبوتيّة والصفات السلبيّة ، والمراد بالأولى تلك الصفات التي تكون كمالا للمتّصف بها ، ولا يستلزم من نسبتها إليه عزوجل نقص ، فيجب حينئذ الاتّصاف بها ، وهي كثيرة ، كالعلم والحياة والقدرة ونحو ذلك ، وتسمّى بالصفات الجماليّة أو الكماليّة.

والمراد بالثانية هي تلك الأمور التي يمتنع ثبوتها لذاته المقدّسة ، وتسمّى بالصفات الجلاليّة ، أي : يجلّ وينزّه تعالى عنها ، وهي النواقص ولواحق الإمكان وكلّ صفة إذا استلزمت النسبة إليه عزوجل نقصا ، وهي كثيرة وقد ورد جملة منها في القرآن الكريم والسنّة الشريفة ، مثل أنّه تعالى ليس بجسم ، ولا بمكاني ولا زماني ، ولا كيف له ، وأنّه ليس بمتحرّك ، ولا سكون له ، ولا يرى ، أي : لا تدركه الأبصار وغير ذلك ، كما سيأتي في الموضع المناسب شرح ذلك كلّه. إلا أنّ البحث في المقام يقع في نفي الظلم عنه عزوجل ، كما دلّت عليه الآية التي تقدّم تفسيرها.

وقبل أن نتعرّض لذلك لا بد أن نشير إلى الصفات التنزيهيّة التي تجلّ ذاته الأقدس عن الاتصاف بها ؛ للزوم النقص ، هي غير البحث الذي أشار إليه الأئمة المعصومون عليهم‌السلام ، وهو أنّ الصفات الكماليّة التي يتّصف بها عزوجل لا يمكن

٢١٧

دركها بحقيقتها وكنهها ، ولا يمكن أن يصل إليها عقول البشر ، فالله تعالى عالم ، أي : ليس بجاهل ، لأنّ حقيقة علمه عزوجل لا يمكن دركها ولا تصل إليها فهم الإنسان ، فإنّ ذلك في الصفات الكماليّة التي يجب أن يتصف بها الذات المقدّسة ، وإلا استلزم النقص بالنسبة إليها ، لا الصفات السلبيّة التي يجلّ أن يتصف بها.

ثم إنّه جلّت عظمته منزّه عن الظلم ، كما دلّت عليه الأدلّة الكثيرة ، فمن الكتاب آيات عديدة ، منها قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [سورة يونس ، الآية : ٤٤] ، وقوله تعالى : (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) [سورة الكهف ، الآية : ٤٩].

ومنها : الآية التي تقدّم تفسيرها : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها) ، والمستفاد من هذه الآية الشريفة امور :

الأوّل : أنّ عدم وقوع الظلم منه لا عن نقص في القدرة الأزليّة ، بل لأجل أن حكمته اقتضت أن لا يظلم أحدا ، وهذا هو معنى العبارة المعروفة : «إنّ الله لا يظلم لحكمة ، لا لقدرة» كما تقدّم ، فإنّ قدرته تامّة كاملة قد تعلّقت بجميع الأشياء حتّى الممتنعات ، ولكن الحكمة الإلهيّة اقتضيت أن لا يفعل ذلك ، وهو لا يفعل شيئا خلاف الحكمة ، فإنّ الذي يقدر على مضاعفة الحسنات لقادر على سلبها عن صاحبها ، ولكنّه لا يظلم أحدا.

الثاني : أنّ وقوع الظلم منه يستلزم الجهل ، وهو منزّه عنه تعالى ، فيرجع نفي الظلم عنه إلى علمه الأتم بحقائق الأشياء ، والظالم يجهلها فيظلم.

الثالث : استغناؤه عن الظلم ، فلا غرض له يتعلّق به ، وهو منزّه عنه ؛ لأنّ الله تعالى يضاعف الحسنات ويعطي الأجر العظيم لمن استحقّه ، فهو أجلّ من أن يسلبه عنه.

ثم إنّ نفي الظالم عنه تعالى لا يثبت العدل له جلّت عظمته ، بخلاف العكس كما هو واضح.

٢١٨

بحث عرفاني

تقدّم في احد مباحثنا السابقة أنّ مقام الشهادة من أجلّ المقامات وأرفعها ، ولذا اختصّ به الأنبياء العظام وأوصياؤهم ، وهي تختلف حسب اختلاف الأمم ، وحسب المشهود عليهم ، وأفضلها شهادة نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهو الشهيد على جميع الخلق في أعمالهم ومعتقداتهم ، ويدلّ عليه قوله تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) ، وإنّما يكون شهيدا إذا حضر عنده الخلق ؛ لأنّ الشهود من الحضور فلا بد وأن تكون الحقائق حاضرة عند الشاهد ويكون مطلعا عليها مراقبا لأوضاعها وحالاتها ، ولا يصل الشاهد إلى هذه المرتبة إلا إذا كان مراقبا لنفسه ومطّلعا على أحوالها يجاهد على إصلاحها ، ويطلب بذلك مرضاة الله تعالى ومحبّته ، ولا يرى شيئا إلا ويرى الله حاضرا عنده ، كما عن سيد العارفين أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فيصل الشاهد إلى مرتبة يحضر لديه كلّ أحد ويظهر له معتقده ويكشف عن حاله ، ولا ينال هذه المرتبة إلا المخلصون من عباده تعالى ، الذين استثناهم إبليس من غوايته ، فتختصّ بالأنبياء والأولياء عليهم‌السلام ومن حذى حذوهم من الأبرار والصلحاء.

وأما شهود الحضرة المحمديّة على الخلق جميعا ، فلأنّه خاتم الأنبياء الشاهدين على أممهم ، بل هو العلّة الغائيّة للعالم ، وأنّه الواصل إلى مرتبة حبيب الله والفناء فيه عزوجل ، فلا بد أن يحضر الخلق لديه وتظهر معتقداتهم عنده.

والظاهر أنّ الاستفهام في الآية الشريفة لأجل استبعادهم أن يكون صلى‌الله‌عليه‌وآله شهيدا يشهد على أعمالهم وسرائرهم ، وهو من أفراد الإنسان ، ويكون مطّلعا على جميع حالاتهم ، وقد تفانوا في طلب الدنيا وجبلت قلوبهم على حبّها واستحكمت الملكات الرذيلة في قلوبهم ، والآية المباركة تخبرهم على تحقّق الشهادة ، وأنّها واقعة لا محيص عنها ولا شكّ فيها.

٢١٩

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (٤٣))

الآية الشريفة تذكر أهمّ شعيرة من شعائر الإسلام ، وهي الصلاة وما يتعلّق بها من الغسل والتيمم ، وتتجلّى أهميّة هذه الشعيرة ذكرها في المقام بين جملة من الآيات التي أمرت بعبادة الإله الواحد الأحد ، والإنفاق في سبيله ، والتنديد بأعداء لا إله إلا الله من اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين ، حيث صوّرت حالهم في الدنيا وخسرانهم في الآخرة ، ثم يذكر عزوجل في الآيات اللاحقة أحوال اليهود وطباعهم ، فتتجلّى أهمية هذه الآية المباركة من بين هذه الآيات المترابطة المتّحدة في السياق.

ومن دأب القرآن الكريم أنّه إذا كان أمر بمكان من أهمية أن يذكره في ضمن آيات مترابطة المضمون ومتّحدة في السياق ، ويدسّه فيه ليتوجّه ذهن السامع إليه ويجلب مشاعره ، ومثل ذلك كثير.

على أنّ القرآن إنّما نزل لتكميل الإنسان وهدايته إلى الطريق المستقيم ، وقد ذكر عزوجل جملة من الأمور التي لها ارتباط بذلك.

وفي هذه الآية الشريفة ذكر أمرا آخرا منها ، وعقّب بالأمر بعبادة الله الواحد ونبذ الشرك بهذه الآية ، لبيان أنّ هذه العبادة إنّما تتحقّق في هذه الشعيرة وما يشرّعه عزوجل ، لا ما يصنعه الإنسان من عند نفسه.

وقد تضمّنت الآية المباركة أحكام الجنابة والغسل ورخصة التيمم للمريض وفي السفر ، وفي حالة عدم وجدان الماء ، وهي بجملتها لها ارتباط

٢٢٠