مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٨

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٨

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٣
ISBN: 946-5665-07-8
الصفحات: ٣٩٧

وفي رواية عبيدة قال : «أتى عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام رجل وامرأة ، مع كلّ واحد منهما فئام من الناس ، فقال علي عليه‌السلام : فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ، ثم قال للحكمين : هل تدريان ما عليكما إن رأيتما أن تجمعا جمعتما ، وإن رأيتما أن تفرّقا فرّقتما ، فقالت المرأة : رضيت بكتاب الله ، وعليّ ولي الله. فقال الرجل : أما في الفرقة فلا. فقال علي عليه‌السلام : ما تبرح حتّى تقرّ بما أقرّت به».

أقول : الرواية تدلّ على ما تقدّم كما تدلّ على رجوع الحكمين إلى من وكلّ الزوج أو الزوجة في رفع الخصومة. وتقدّم التفصيل في كتاب النكاح من المهذب فراجع.

بحث عرفاني

المستفاد من قوله تعالى : (وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ) أنّ السؤال من الغني المطلق الذي لا حدّ لعظمته وغناه ، بل هو غير متناه أزلا وأبدا من جميع الجهات من الأسباب التي لها دخل في تفضيل بعض على بعض ، فإذا رغب الغني المطلق في السؤال عنه يكون في نفس ذلك الترغيب الرأفة والحنان ، ثم إذا لاحظ السائل أنّه من فضله غير المتناهي وأنّه ذو فضل عظيم ولا حدّ لفضله ، يصير ذلك أشدّ رأفة وحنانا ، إلا ما يرجع إلى قصور الاستعدادات في المفاض عليه.

ثم إنّ السؤال أعمّ من السؤال الفطري الاقتضائي الحاصل من كلّ ممكن محتاج ، وهو الذي يرجع إلى احتياج المعلول إلى العلّة ، والسؤال القصدي كما في قوله تعالى : (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) [سورة إبراهيم ، الآية : ٣٤] ، وقوله تعالى : (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) [سورة الرحمن ، الآية : ٢٩] ، فتكون جميع السنة الحال والمقال متوجّه إليه تعالى ، وملهجة في السؤال من فضله عزوجل في جميع الحوائج التكوينيّة وغيرها ، وهذا معنى القيوميّة المطلقة على جميع ما سواه.

١٨١

ثم إنّ الآية المباركة : (إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما) ، تدلّ على أنّ لإرادة الخير والصلاح والإصلاح تأثيرا كبيرا في النظام الأحسن ، سواء أكانت الإرادة نوعيّة كإرادة السلطان بالنسبة إلى الرعيّة ، والعالم العامل بعلمه ، ولعلّ قولهم عليهم‌السلام : «الناس على دين ملوكهم» ، وقولهم عليهم‌السلام : «إذا فسد العالم فسد العالم» ، يشير إلى ذلك ، أو كانت الإرادات الشخصيّة بالنسبة إلى الأمور الجزئية.

ومن المعلوم أنّ الإرادة الكليّة الإلهيّة تجري على ذلك أيضا ، فإنّ الخير يعمّ الجميع ، ولا يمكن أن يتحقّق خير إلا بإرادة الخير ونيّته.

كما أنّ هذه الآية الشريفة تدلّ على أنّ حسن المراد وفضله يرجع إلى حسن الإرادة وفضلها ؛ للملازمة بينهما ، كالملازمة بين المقتضي (بالكسر) والمقتضى (بالفتح) ، وتدلّ على ذلك بعض النصوص المنقولة عن المعصومين عليهم‌السلام ، ولا بد أن يكون كذلك ؛ لأنّ المقتضيات (بالفتح) تابع لخصوصيات المقتضي (بالكسر) ، والجميع تحت قهّاريته المطلقة بحسب التقدير والقضاء ، لا بد وأن ترجع إليه عزوجل ، قال تعالى : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) [سورة النساء ، الآية : ٧٨].

بحث فقهي

يستفاد من الآيات الشريفة المتقدّمة أحكام شرعيّة متعدّدة ، نذكر المهمّ منها في المقام.

منها : ذكر بعضهم أنّه يمكن أن يستفاد من قوله تعالى : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ) ، أنّ لكلّ منهما نصيبا من الميراث على ما قسّمه الله تعالى ، وقد ذكرنا أنّ الآية الشريفة أعمّ من ذلك ، كما عرفت.

ومنها : أنّه يدلّ قوله تعالى : (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) ، على أنّ لكلّ ميت وارثا معيّنا من الآباء والأقرباء ، يرثونه ممّا

١٨٢

ترك ، وأمر عزوجل بإعطاء كلّ منهم نصيبه بالكيفيّة المقرّرة في الآيات السابقة.

كما أنّ الآية الكريمة تدلّ على أنّ الأقرب أولى بالميراث من الأبعد ، فأولاهم بالميت أقربهم إليه في الرحم ، كما في آية اولوا الأرحام ، ومنها تستفاد قاعدة كليّة مذكورة في الإرث ، وهي : «إنّ الأقرب يمنع الأبعد» ، وتقتضيها كثير من الروايات ، وتعرّضنا لها في كتاب الإرث من (مهذب الأحكام).

وأما قول تعالى : (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ) ، فإنّه يدلّ على أنّ من يدخل في المولى بسبب المعاقدة والمعاهدة أيضا له نصيبه ، وقد اختلف المفسّرون والعلماء في المراد من هؤلاء ، حتّى قال بعضهم : إنّ الآية منسوخة.

ولكن ذكرنا أنّ الآية المباركة مطلقة تدلّ على ثبوت التوارث بالمعاهدة والمعاقدة ، فتشمل إرث الزوجين وضمان الجريرة والإمام ، كما دلّت عليه السنّة الشريفة ، ففي الحديث عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أنا وارث من لا وارث له» ، وفي بعض الروايات عن الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام : أن إرث من لا وارث له من الأنفال المختصّة بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام عليه‌السلام. وعليه إجماع الإماميّة ، وبإزاء ذلك روايات اخرى أنّه لبيت المال ، ولكن لا منافاة بينهما ؛ لأنّهم عليهم‌السلام تنازلوا عن حقّهم لمصالح عامّة.

إلا أنّ لإرث هؤلاء شرائط وقيودا مذكورة في الفقه ، فراجع كتابنا (مهذب الأحكام). والآية الكريمة تدلّ على أنّ إرث الذين عقدت أيمانكم متأخّر في الرتبة على إرث اولي الأرحام والأقربين.

ومنها : أنّه يدلّ قوله تعالى : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) على أنّ القواميّة الثابتة للرجال وتسلّطهم على النساء ، هي قواميّة سياسة وتدبير ، كتسلّط الوالي على الرعيّة ، فلا بد أن يعطى زمام الأمور الكلّية والجهات العامّة الاجتماعيّة ـ كالقضاء والحرب ونحو ذلك ـ ممّا يمتاز بالتعقّل والقوّة إلى الرجال ، وقد دلّت على ذلك السنّة الشريفة ، وذكرها الفقهاء في مواضع متعدّدة من الفقه ،

١٨٣

وأما غير ذلك من شؤون الحياة ، كالتعليم والكسب ونحو ذلك ، فإنّ الرجال والنساء فيها ؛ سواء للقاعدة المعروفة عند الفقهاء ، وهي قاعدة : «اشتراك النساء مع الرجال في الشؤون والأحكام إلا ما خرج بالدليل».

ويستفاد من الآية المباركة أنّ على المرأة إطاعة الزوج ، فإنّ له عليها قيمومة الطاعة في الحضور ، والحفظ في الغيبة ، ففي الحديث عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «قال : جاءت امرأة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالت : يا رسول الله ، ما حقّ الزوج على المرأة؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : أن تطيعه ولا تعصيه ، ولا تتصدّق من بيته إلا بإذنه ، ولا تصوم تطوّعا إلا بإذنه ، ولا تمنعه نفسها وإن كانت على ظهر قتب ، ولا تخرج من بيتها إلا بإذنه ، وإن خرجت بغير إذنه لعنتها ملائكة السماء وملائكة الأرض وملائكة الغضب وملائكة الرحمة حتّى ترجع إلى بيتها ـ الحديث».

ومنها : أنّه إذا ظهرت أمارات النزاع والنشوز على المرأة وخرجت عن طاعة الزوج إما ظنا أو علما ، فلا بد من الوعظ بتذكيرها بما ورد من الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية ، وما ورد عن الأئمة الطاهرين المتضمّنة لحقوق الزوج.

ثم الهجر في المضجع بما يفيد إعراض الزوج عنها ، ومنه تحويل ظهره إليها في الفراش أو الاعتزال عنها فيه لو اقتضى الأمر كذلك.

ثم الضرب ، فليكن ضرب تأديب ، لا ضرب عصيان ، فيقتصر على ما تؤلم ويضمن ما يوجب الجناية.

وهذه الأمور الثلاثة ـ الوعظ والهجران ثم الضرب ـ مترتّبة من الأخف إلى الأشدّ ، والمعروف بين الفقهاء أنّ ترتّب الوعظ إنّما يكون على مجرّد ظهور أمارات النشوز والعصيان ، فإذا لم يفد الوعظ كان النشوز متحقّقا بالفعل ، فينتقل إلى الهجر ، وإن تحقّق الإصرار منهنّ فينتقل إلى الضرب ، كلّ ذلك مغيى بحصول الطاعة ورجوعها عن النشوز ، فإذا حصل فلا يتعرّض لهن بشيء. والأمر في المقام للإباحة ، ويمكن أن يكون للندب ؛ لأنّه من المعروف.

١٨٤

(وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (٣٦) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (٣٧) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (٣٨) وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً (٣٩))

الآيات الشريفة تتضمّن معارف الإلهيّة وأحكاما اجتماعيّة هي من معالي الأمور وعواليها ، وصدّرها بالعبادة التي هي أساس النجاة وروح الصلاح وجامعة الخيرات والهدى وأصل كلّ كمال معنوي وأساس الصراط المستقيم والدين القويم ، فأمر عباده بالتوحيد الخالص ونبذ الشرك ، ثم أمر بالإحسان ، وبدأ بالوالدين اهتماما بهما وتعظيما لشأنهما.

كما أمر بالإنفاق في سبيل الله تعالى ، وأهتمّ بمكارم الأخلاق وصالح الأعمال وحسن السلوك والقيام بحقوق النوع ، وكلّها من سبل سعادة الإنسان ، ووعد عليها وعدا جميلا ، وأرشد الناس إلى الإنفاق ممّا آتاهم الله تعالى من الفضل ، وعلى الوجه الصحيح الذي يرضاه عزوجل.

وذمّ البخل والإنفاق رئاء الناس ، وحذّرهم عمّا يوجب القرب إلى الشيطان ، وبيّن الجزاء الذي يترتّب على الإعراض عمّا أنزله الله تعالى وأوعدهم سوء العاقبة.

١٨٥

التفسير

قوله تعالى : (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً)

تلخيص لطيف للآيات السابقة ونتيجة هامّة لجميعها تجذب القلوب ، وهذا الأسلوب من الأساليب البديعيّة المعروفة في علم الفصاحة والبلاغة ، فيذكر في ابتداء الكلام جملة من الأمور حتّى تقع النتيجة المتصوّرة في محلّها ، وعلى ذلك شواهد كثيرة.

وكيف كان ، فقد أجمل عزوجل المعارف الإلهيّة في هذه الجملة المباركة ، التي هي أساس الصلاح والنجاح وأهمّ سبيل من سبل النجاة ، بل هي روح الشرائع الإلهيّة.

وبدأ بوحدة العبادة والمعبود ؛ لكونها أعظم الغايات المستكملة للنفوس الإنسانيّة ؛ لأنّ وحدة الذات والصفات والأفعال تتحقّق في وحدة العبادة لا محالة ، فأمر تعالى بعبادة الله الواحد الأحد إله العالمين ونهى عن الشرك في عبادته ؛ ليشمل جميع أنحاء الوحدة في الذات والصفات والفعل ، لما ثبت في العلوم الأدبيّة أنّ النكرة في سياق النفي تفيد العموم ، ففي المقام وردت لنفي الشرك في الاعتقاد والعمل والعبادة والقول ، فتكون هذه الآية الشريفة شارحة لقوله تعالى : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) [سورة يوسف ، الآية : ١٠٦].

وعبادة الله تعالى إنّما تحصل بالإذعان له وطاعته في تنفيذ أحكامه ، والايتمار بأوامره عزوجل والانتهاء عن نواهيه ، والعمل بالإخلاص له ، وابتغاء وجهه الكريم وطلب مرضاته ، فيكون النهي عن الشرك يعمّ مخالفة الله تعالى باتباع الهوى والانقياد للشيطان ، فإنّ ذلك يوجب نسيان يوم الجزاء والخلل في حقّ الخضوع لله عزوجل ، كما قال تعالى : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ* وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) [سورة يس ، الآية : ٦١].

١٨٦

ومن ذلك يعلم أنّ ذكر هذه الآية الشريفة بعد سرد تلك الأحكام من أوّل السورة للتحريض على العمل بها ، فإنّه من عبادة الله تعالى ، وأنّ الاستهانة بها والإعراض عنها يوجب الكفر والشرك به عزوجل ، وقد تقدّم في سورة الفاتحة معنى العبادة فراجع.

والآية الشريفة تبيّن أمرا مهمّا في الإسلام ؛ لأنّها نزلت بعد الأمر بالتقوى في أوّل هذه السورة ، قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [سورة النساء ، الآية ، ١] ، وبعد ذكر جملة من الأحكام التي تعالج امور المجتمع كما عرفت ، فتكون هذه الآية الشريفة من أهمّ الآيات التي تعالج أمر العقيدة وتبيّن أنّها هي الأساس الذي لا بد أن يقوم عليه المجتمع الإسلامي وحياة كلّ فرد مسلم ، وأنّ تلك الأحكام بدون هذه العقيدة لا يرجى منها الأثر المطلوب ، بل يؤدي إلى الاضطراب والخلل ، فإنّ الإسلام هو عقيدة وعمل ، وأنّه شريعة مركّبة منهما ، وليس كالنظريات الوضعيّة التي تهمل أحد الجانبين ، فتكون إما عقيدة بلا عمل أو عملا بلا عقيدة ؛ ولذا ترى عقمها وإن حقّقت بعض النفع في بعض الأحوال ، فمن مزايا الإسلام أنّه جميع بينهما ، واعتبر أنّ أحدهما بدون الآخر لغو ، ولأجل ذلك كان الإسلام خير دليل للإنسان نابعا من الضمير ، وأنّه آكد في حياة الإنسان من سائر النظم الوضعيّة ، فأمر عزوجل في صدر هذه الآية بعبادة الله وحده من دون شريك ، ثم رتّب عليها الأمر بالإحسان للوالدين ولذي القربى واليتامى ، لبيان ما ذكرناه والاهتمام بالجانبين النظري العقائدي وتطبيقه في العمل.

وإنّما ذكر عزوجل الإحسان إلى من ذكرهم في الآية المباركة ، للإشارة إلى الرابطة التي تربط المسلمين في المجتمع الإسلامي ، وهي رابطة العقيدة التي تتضمّن جميع الوشائج ، والروابط الاخرى من رابطة المحبّة والمودّة والاخوة ، فتكون رابطة العقيدة من أقوى الروابط وأجمعها وأشملها.

١٨٧

قوله تعالى : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) الجار متعلّق بفعل مقدّر ، و (إحسانا) نائب عنه في الدلالة على الأمر والتأكيد في الإغراء بالإحسان ، أي : أحسنوا إحسانا ، ويتعدّى الإحسان بالباء واللام وإلى ، يقال : أحسن إليه وأحسن به وله.

وقيل : إنّه إذا تعدّى بالباء تضمّن معنى العطف ، وقد تكرّر الأمر بالإحسان للوالدين في القرآن الكريم بهذه الجملة ، اهتماما بشأنهما وتعظيما لهما ، ولبيان عظيم حقّهما ، ولأنّهما أولى الناس بالإحسان.

وهذه الجملة تفيد دوام الإحسان وترك الإساءة ، وأنّ كلّ فعل يصدر من الإنسان بالنسبة إلى والديه ، لا بد أن يكون فعلا حسنا.

ولم يبيّن عزوجل وجه الإحسان وكيفيته ، إيكالا لوضوحه ، ولمعلوميّته لكلّ أحد ولاختلافه باختلاف الأعصار والأمصار وأحوال الناس وطبقاتهم.

قوله تعالى : (وَبِذِي الْقُرْبى).

أي : صاحب القرابة ، وهو يشمل كلّ رحم من الولد والأخ والعمّ والخال وغيرهم وأولادهم ، وإنّما أعاد الباء هنا للتوصية والاعتناء بشأنهم. وذكرهم بعد الإحسان بالوالدين ؛ لأنّ الاسرة تتكوّن منهم ، فإذا صلحت عقيدة الرجل وقام بحقوق الوالدين والأقارب ، صلح حاله وصلحت أسرته.

قوله تعالى : (وَالْيَتامى).

لأنّهم أكثر احتياجا إلى الرحمة والرأفة والإحسان بهم.

قوله تعالى : (وَالْمَساكِينِ).

وهم الفقراء الذين اشتدّ بهم الفقر والضعف ، بحيث يرثى لحالهم. وإنّما خصّ عزوجل هؤلاء وسابقهم بالذكر ، لما في الإحسان بهم من الأهميّة ؛ ولأنّه يتحلّى فيه مكارم الأخلاق والرحمة ، وبالإحسان إلى هذين الصنفين يتحقّق التكافل الاجتماعي الذي أمر به الإسلام.

١٨٨

قوله تعالى : (وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى).

الجار من الجوار بالمكان والمسكن ، وهو ضرب من ضروب القرابة ، فإن الإنسان قد يمت بالجوار بوثائق وشيجة ما لا تكون في غيره من القرابة. والمراد بذي القربى ـ بقرينة المقابلة لما يأتي من الوصف ـ هو الجار القريب دارا ، وإنّما قدّمه تعالى على ما يأتي ؛ لأنّ فيه الجوار والقرب.

وقيل : المراد به القريب نسبا ، على ما سيأتي.

قوله تعالى : (وَالْجارِ الْجُنُبِ).

الجنب بضم الجيم والنون من الجنابة ، ضدّ القرابة ، أي : الأجنبي ، وهو الجار البعيد دارا ، وذكر بعض المفسّرين أنّ المراد بالأولى الجار ذي القربى ، يعني : الذي بينك وبينه قرابة ، والجار الجنب ، يعني : الذي ليس بينك وبينه قرابة ، ويكون التكرار لذي القربى باعتبار امتيازه بحقّ الجوار أيضا.

ولكن ظاهر الآية المباركة يدفع ذلك كما عرفت ، ويشهد لما ذكرناه ما روي عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله في تحديد الجوار بأربعين ذراعا أو أربعين دارا ، ويمكن أن يكون الاختلاف للإشارة إلى الجار القريب والجار الجنب ، وإن كان تحديدا للجوار ، إلا أنّه يرجع فيه إلى العرف.

والآية الشريفة تؤكّد رعاية حقّ الجوار في جميع حالاته ، وقد ورد عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «ما زال جبرئيل يوصيني بالجار حتّى ظننت أنّه سيورّثه».

قوله تعالى : (وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ).

بفتح الجيم وسكون النون ، وهو شقّ الإنسان وغيره ، والمراد به المصاحب الملازم لجنبك ، وعمومه يشمل الصاحب في السفر والصاحب في الحضر والمنزل وغيرهم ، وذكر بعض المفسّرين أنّه مختصّ بالمصاحب في السفر والرفيق فيه.

١٨٩

وقيل : إنّه المنقطع إليك ، يرجو نفعك ورفدك ، وروي عن علي عليه‌السلام : «أنّه مرآة الرجل التي تكون بجنبه» ، وظاهر الآية المباركة شمولها للجميع.

قوله تعالى : (وَابْنِ السَّبِيلِ)

وهو المسافر المنقطع عن أهله وبيته ، فليس له مدد وقوة إلا السبيل الذي صار ابنا له ، وقد ذكر الفقهاء أنّه يشمل ابن الطريق الذي يستعين بك في طريقه ، والذي لا يعرف حاله ، والغني في وطنه الذي انقطع في السفر عن الوصول إلى أمواله والاستعانة بالدين.

قوله تعالى : (وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ)

وهم العبيد والإماء الذين ورد ذكرهم في مواضع اخرى ، والإحسان إليهم يشمل جميع أنحائه ووجوهه.

وفي التعبير بما ملكت الأيمان ما لا يخفى من التحريض بالرفق بهم وعدم الاستعلاء عليهم ، فإن الإنسان إنّما ملكهم بأيمان وعهود لا بد من مراعاتها والوفاء بها ، وهو يستدعى الإحسان إليهم.

وقد جمع سبحانه وتعالى في هؤلاء الأصناف جميع الحقوق التي يجب مراعاتها ، وهي حقّ الله تعالى ، وحقّ الوالدين ، وحقّ القرابة ، وحقّ الأيمان الذي يستتبع حقوقا كثيرة.

وعظّم سبحانه وتعالى شأن الإحسان بهؤلاء المذكورين ، إذ قرن وصيته به بالوصية بعبادته ونبذ الشرك. وأحكام هذه الآية الشريفة ممّا تنادى بها الفطرة وتبعث عليها الأخلاق الفاضلة والعاطفة النبيلة ، ويشهد بها الوجدان ، وتدلّ عليها الحجّة القاطعة ، فلا يحقّ لأحد التمادي عنها وتركها ، إلا من أعجبته نفسه الأمّارة بالسوء ، والمستكبر على الحقّ ، فيكون مختالا بغروره فخورا بنفسه وباعجابه بها ، قد ركبت عليه الغفلة ، فأنساه الشيطان ذكر ربّه وأغمض عن الحقّ ؛ ولذا عقّب سبحانه بعد هذه الآيات المباركة ذكر المختال الفخور ، مشعرا بأنّ من لم يراع حقوق هذه الموارد ، يكون من المختال الفخور.

١٩٠

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً)

تعليل لما ورد من الوصايا والأحكام في ما سبق من الآيات ، فإنّ الإعراض عنها مع العلم بأنّها ممّا تنادي بها الفطرة ، ويحكم بحسنها العقول ، لا يكون إلا ممّن أعجبته نفسه ، فيكون مختالا مغرورا فخورا ، محبّا لذاته ، قد غفل عمّا أعد الله تعالى له من السعادة والكمال ، وغفل عن أنّه عبد مربوب ليس له من عند نفسه شيء إلا ما يمنحه الربّ العظيم من النعم ، وما يفيض عليه ما يوجب خروجه من حضيض النفس إلى أوج الكمال والسعادة.

والمختال : ذو الخيلاء ، وهو التائه المتبختر المسخر لخياله ، وهو أخسّ من المستكبر ، لأنّ المختال من تمكنت فى نفسه ملكة التكبّر ، وسببه الإعجاب بالنفس والجهل المركب ، ومنه الخيل لاختيالها وإعجابها بنفسها مرحا. والفخور كثير الفخر.

وهما ـ أي صفتا الاختيال وكثرة الفخر ـ ترجعان إلى أمر واحد وهو الكبر والاعجاب بالنفس ، الذي يكون منشأه الجهل المركّب ، وزعمه كماله وهما من رذائل الأخلاق ، بل يعدان أصلان من اصول المساوئ والرذائل ، لتعلّق قلب صاحبهما إلى غير الله تعالى ، واحتقار جميع الحقوق ، والغفلة عن عظمة الله عزوجل وكبريائه ، فلا يقوم بوظائف العبوديّة ، لأنّ الاختيال والمفاخرة يرجعان إلى حبّ الذات وصفاتها وعوارضها ، من المال والجاه وتعلّق القلب بهما ، ويستتبع ذلك جملة من الصفات الذميمة ، أهمّها البخل ؛ ولذا عقّب عزوجل هذه الآية الشريفة بالنهي عن البخل ، وذمّ الذين يبخلون ، ولا يختصّ البخل بالمال والجاه ، بل يعمّ كتمان الحقّ وكلّ جهة كماليّة كما ستعرف.

وقد ذمّ الله تعالى المختال الفخور ، وكفى بهما مقتا أن الله تعالى لا يحبّهما ، ومعنى عدم محبّته لهما ، تركه لهما وعدم تعرّضهما لتوفيقاته الخاصّة وبركاته ، وهو العذاب الأليم بالنسبة إلى أهله.

١٩١

وإنّما خصّ عزوجل هاتين الصفتين بالذكر ؛ لأنّه تعالى قد أوصى بالإحسان إلى من ذكرهم في الآية الشريفة ، وختمها بابن السبيل وما ملكت أيمانكم. ووجود هؤلاء عرضة لإثارة الخيلاء والكبر وإثارة الاستعلاء في نفوس ذوي المال والجاه ، فيسيئون بالنسبة إلى من أمر الله تعالى بالإحسان إليهم ، ويحجبون عن تنفيذ وصايا ربّهم ، فأتى التوجيه الربوبيّ بالتنفير من هذا الخلق الذميم والنهي عن الاتصاف به ، وشدّد النكير عليه وأظهر عظيم الجزاء بأن أخبرهم أنّ الله لا يحبّ من كان مختالا فخورا ، والمؤمن الذي يعبد الله ولا يشرك به لا بد أن يبتعد عن الأمر الذي لا يرضى الله تعالى به ، فيحسن إلى الناس ويقوم بوظائف العبودية بغير كبر وخيلاء ، فلا بد من الابتعاد عنهما ليجلب رضاء الله تعالى ، فإنّه من أعظم الكمالات ، بل هو السعادة الحقيقيّة.

وقد وردت هذه الجملة : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ) في القرآن الكريم في أكثر من عشرين موضعا ، وجميعها تدلّ على بعد متعلّقها عن مرضاة الله تعالى ، وأنّه من رذائل الصفات وذمائم الأخلاق وخبث الباطن ، وإنّما خصّ هذا بالذكر لأهميته ، فإنّ كتمان ما آتاهم من الفضل في العلم بنبوّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وصفاته ودينه الحقّ ، أمر عظيم لا يدانيه أمر آخر.

ويحتمل أن يكون اللفظ عامّا : فيشمل جميع أفراد الفضل ، من المال والغنى والجاه والعلم. ومنه العلم بنبوّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكتمان ذلك إنّما يكون بتظاهرهم بمظهر الفاقد المعدم ، والجاهل الذي ليس له علم ، لئلا يرجع إليهم سائر الناس للسؤال عن أموالهم ، وللحفاظ على مقامهم وجاههم ، فإنّه لو أظهروا الحقّ وبيّنوا للناس لفقدوا ذلك.

قوله تعالى : (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ)

بيان لبعض مظاهر الاختيال والفخر ، فإنّه بعد ما تحدّث سبحانه وتعالى عن الوصايا التي توجّه النفوس إلى الكمال ، وتحرّضهم على البذل والعطاء

١٩٢

والإحسان بمن ورد ذكرهم في الآية المباركة السابقة ، وكان ذلك من طاعة الله عزوجل وعبادته ، وأنّ الإعراض عنها يكون من الإشراك به.

ثم تحدّث عن الفئتين اللتين امتنعتا عن تنفيذ أحكام الله تعالى والعمل بوصاياه ، عتوّا واستكبارا ، وهما المختالون الفخورون اللذين احتقروا خلق الله تعالى واتخذوا البخل شعارا لهم ، فضيّعوا تلك الحقوق المؤكّدة.

وفي هذه الآية الشريفة يبيّن عزوجل حال تلك الطائفة المختالة المتكبّرة ، وقد ذكر لهم ستّة أوصاف تدلّ على بعدهم عن الكمال والأوصاف الحميدة ، وشدّة غيهم وضلالهم ، واستكبارهم على الله تعالى وجرأتهم عليه ، وإعراضهم عنه عزوجل ، وقربهم من الشيطان ، واستحقاقهم الجزاء الذي يوافق اعتقادهم وملكاتهم الرذيلة.

والبخل : هو الامتناع عن أداء ما فرضه الله تعالى على الإنسان ، وهو يرجع إلى لؤم النفس وشقائها ، والسبب في ذلك هو الاستكبار والعجب بالنفس ، فكانت النتيجة أنّهم بخلوا بما آتاهم الله من الفضل ولم يبذلوه في الموارد التي قرّرها الله عزوجل وأوصى العباد بالإنفاق فيها واكتساب الفضل منها ، وقد ذكر العلماء في إعراب هذه الجملة وجوها كما سيأتي.

وأما أمرهم بالبخل ، فلسوء سريرتهم وخبث باطنهم وشدّة طمعهم وحبّهم للدنيا ، ولقطع آمال الناس فيهم ، والأمر منهم يتحقّق بالقول وبالفعل أيضا ؛ لأنّهم أصحاب ثروة ومال وجاه ، يقصدهم الناس ويطمعون في أموالهم ، فيؤثّر فيهم فعلهم كقولهم.

قوله تعالى : (وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ)

مظهر آخر من مظاهر البخل وسوء السريرة.

وإنّما ذكر سبحانه وتعالى هذه الطائفة وذمّهم ؛ لأنّهم مع الطائفة الاولى على طرفي الإفراط والتفريط ، فإنّ البخل والسرف ـ الذي هو الإنفاق لا على ما

١٩٣

ينبغي ـ سواء في الذمّ والشناعة. والإسلام دين الوسط والفطرة السويّة.

قوله تعالى : (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً)

الاعتداد : الجزاء بما يناسب الذنب من العقاب. وإنّما وضع الظاهر (الكافرين) موضع المضمر ، اشعارا بأنّ من كتم فضل الله تعالى وبخل منه ، فهو كافر به وبنعمه سبحانه وتعالى ؛ ولذا سمّى الكافر كافرا ؛ لأنّه ستر الحقّ ونعم الربّ بإنكاره ، ومن كان كافرا فله عذاب يهينه ، وإنّما كان العذاب كذلك لأنّه أهان النعم بالبخل ، والكتمان لقانون توافق الجزاء مع الذنب.

وإنّما أضاف الاعتداد لضمير التعظيم (نا) للتهويل ، وللإشعار بأنّ عذاب العظيم عظيم ، وقد ذكرنا أنّ كلّ مورد في القرآن الكريم يكون من مظاهر عظمة الله تعالى وكبريائه عزوجل يؤتى بضمير العظمة ، وكلّ مورد يكون من موارد فضله ورحمته ، يؤتى بضمير المفرد.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ)

بيان لأعمال الطائفة الثانية ، وهم الفخورون الذين لا يعملون إلا لأجل الفخر والمباهاة والأغراض الوهميّة ، ولا يكترثون بالله تعالى ودينه الحقّ والفضل والفضيلة.

ورئاء إما مصدر منصوب على الحال من ضمير (ينفقون) وإضافته إلى الناس من قبيل إضافة المصدر لمفعوله ، أو منصوب على أنّه مفعول للغلبة. والرئاء والرياء والمراءاة مأخوذة من الرؤية ، وهو أن يعمل الإنسان عملا لا لحسنه ولا لوجه الله تعالى ، بل لأجل أغراض وهمية دنيويّة وأن يراه الناس ، وتقدّم في سورة البقرة (الآية ٢٦٤) ، بعض الكلام.

قوله تعالى : (وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ)

بيان لكون المرائي كافرا ، لأنّ الرياء يكشف عن عدم الإيمان بالله تعالى ، القادر على الجزاء ثوابا وعقابا ، وعدم الإيمان بيوم المعاد الذي هو يوم الجزاء

١٩٤

على الطاعات والمعاصي ؛ لأنّه يريد نتاج إنفاقه في الدنيا ، وهو مدح الناس واستحسانهم ، وإنّما بذل للفخار لا لوجهه الكريم المتعال ، فيكون الرياء شركا في العمل أيضا.

قوله تعالى : (وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً)

القرين الصاحب والخليل ، والمراد بالشيطان إبليس وأعوانه الداخلية ، كالنفس الأمّارة وهو النفس ، والخارجيّة وهم شياطين الإنس والجنّ.

وإنّما كان الشيطان للمرائي مصاحبا وخليلا ، لأنّه أسلس قياده لهواه واتبع الشيطان الذي لا ينفكّ عن الغواية ، ومن كان الشيطان له قرينا فقد ضل وغوى ، لأنّه بئس القرين المشؤوم المهلك.

وفي الآية المباركة دلالة واضحة على أنّ الرياء شرك بالله تعالى ، وقد دلّت على ذلك روايات كثيرة وردت عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله وعن الأئمة الهداة عليهم‌السلام أيضا.

قوله تعالى : (وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)

الاستفهام للتحسّر والتأسّف أو للتعجّب. أي : وما الذي عليهم من الوبال والخسران والضرر وسوء العاقبة ، فإنّهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر لآمنوا من سوء العاقبة وتخلّصوا من الهلكة ، فإنّ الإيمان بالله واليوم الآخر جنّة واقية ، تدفع المؤمن عن المهالك ، وأنّ الإيمان بالله واليوم الآخر يدعوان إلى الإنفاق ابتغاء وجه الله تعالى.

قوله تعالى : (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ)

يعني : فلو أنّهم أنفقوا ممّا رزقهم الله من النعم والأموال في سبيله عزوجل كما أمرهم سبحانه ، لوجدوا الجزاء العظيم المعدّ لهم.

وإنّما نسب الرزق إلى الله تعالى ، اشعارا بأنّ ما يملكونه إنّما هو من رزق الله تعالى ومن خزائن رحمته ، فلا تنقص بالإنفاق ، مع أنّه قادر على قطعه عنهم ، فإنّه القادر على كلّ شيء.

١٩٥

قوله تعالى : (وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً)

تهديد لمن أعرض عن أوامر الله تعالى وأحجم عن الإنفاق في سبيله ، فإنّ الله تعالى عليم بنياتهم وبإنفاقهم ، لا تخفى عليه خافية ، فهو يجزيهم جزاءهم ، فيجزى المطيع على طاعته ، ويعاقب المسيء ومن أنفق على غير وجهه أو استنكف عن الإنفاق في ما أمره عزوجل. والآية الشريفة تمهيد لما سيأتي من نفي الظلم عنه عزوجل.

بحوث المقام

بحث أدبي

التنوين في قوله تعالى : (وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) للتعميم ، أي : لا تشركوا به شيئا من الأشياء ـ صنما كان أم غيره ـ وقيل : للتحقير ، أي : أنّ كلّ شيء تشركون به فهو حقير في جنب كبريائه وعظمته ، بل لا نسبة بينهما أصلا ، فيتضمّن التوبيخ العظيم.

وفي قوله تعالى : (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) ، أوجه من الإعراب ، فقيل : إنّ (الذين) بدل من (من) في قوله تعالى : (مَنْ كانَ مُخْتالاً) ، بدل الكلّ من الكلّ.

وقيل : إنّه صفة لها ، وهذا يصحّ عند من يقول بجواز وقوع الموصول موصوفا.

وقيل : إنّه منصوب على الذمّ. وعن بعض أنّه مرفوع على الذمّ.

وقيل : إنّه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هم الذين. وعن بعض أنّه مبتدأ خبره محذوف ، أي : مبغوضون ، ونحو ذلك ممّا يقتضيه السياق ، وإنّما حذف ليذهب نفس المخاطب كلّ مذهب.

١٩٦

وقيل : إنّه مبتدأ ، و (الذين) الآتي في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ) معطوف عليه ، والخبر قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ) ، وهذا أبعد الوجوه ، وأصحّها الوجه الأوّل ، والبقية تحتاج إلى شواهد وهي مفقودة.

وفي البخل في الآية الشريفة أربع لغات ، فتح الباء والخاء ، وضمّهما ، وفتح الباء وسكون الخاء ، وضمّ الباء وسكون الخاء ، وكلّ واحدة قرئ ، ولكن الأخيرة هي قراءة الجمهور.

و (ساء) في قوله تعالى : (فَساءَ قَرِيناً) منقولة إلى باب نعم وبئس ، فهي ملحقة بالجامدة ، ولذا اقترنت بالفاء. ويحتمل أن يكون الاقتران لأجل تقدير (قد) وهو كثير ، كقوله تعالى : (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) [سورة النمل ، الآية : ٩٠].

و (لو) في قوله تعالى : (لَوْ آمَنُوا) ، إما هي على بابها ، وحينئذ فالكلام محمول على المعنى ، أي : لو أنّهم آمنوا لم يضرّهم. أم تكون بمعنى (أن) المصدريّة ، وعلى الوجهين فلا استيناف.

وقيل : إنّ الجملة على الاستيناف ، وجوابها أي : حصلت لهم السعادة ونحو ذلك.

بحث دلالي

تذلّ الآيات الشريفة على امور :

الأول : يدلّ قوله تعالى : (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) على أنّ عبادة الله تعالى لا تتحقّق إلا بعبادة الواحد الأحد ونبذ الأنداد والشرك به عزوجل ، وسياق الآية الشريفة يدلّ على لزوم نفي جميع أنحاء الشرك بالله عزوجل ، سواء في الذات والفعل والعبادة ، ولأجل ذلك تكرّرت هذه الجملة المباركة في مواضع متعدّدة من القرآن الكريم ، الذي من أهمّ مقاصده الدعوة إلى عبادة الواحد الأحد ونبذ الشرك والأنداد.

١٩٧

الثاني : يستفاد من اقتران الإحسان بمن ورد ذكرهم في الآية الشريفة بالعبادة أنّ الأوّل من طرق عبادة الله تعالى ، وأهمّ سبل التقرّب إليه عزوجل إذا استجمع الإحسان الشروط المطلوبة التي ذكرها عزوجل في القرآن الكريم وبيّنته السنّة الشريفة ، وأهمّها الخلوص بالاجتناب عن الشرك والرياء وما يوجب مقته عزوجل.

الثالث : إنّما ذكر عزوجل المختال الفخور في ذيل الآية الشريفة ؛ لأنّ الإحسان من مظان الخيلاء والفخر ، لا سيما إذا اجتمع الناس إليه طالبين منه الإحسان والإنفاق من ما أنعم الله عليه من الأموال والجاه والرفعة ، فدفعا لما قد يتصوّره المنفق في هذه الحالة ، ولئلّا يقع في هذه الرذيلة ذكر عزوجل إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا وكفى خزيا ومقتا عدم محبّة الله جلّت عظمته له.

الرابع : الآية الشريفة بايجازها قد اشتملت على أقسام الحقوق المعروفة في الإسلام ، وهي حقّ الله تعالى ، وحقّ الناس ، وهو على أنواع حقّ القرابة ، وحقّ الجار ، وحقّ الإسلام ، وربّما تجتمع في مورد واحد.

الخامس : يدلّ قوله تعالى : (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) ، على أنّ الملكات النفسانيّة إنّما تظهر في الأقوال والأفعال ، فإن كانت تلك الملكات من الصفات الحسنة ومكارم الأخلاق ، كانت الأفعال والأقوال حسنة ، وأنّها تصدر عن طبع متخلّق بخلق كريم ، وإن كانت من الرذائل تكون الأفعال والأقوال قبيحة ، فمن اتخذ البخل شعارا له وصار من صفاته وملكاته ، كانت أقواله وأفعاله داعية إلى البخل ، فهو يأمر به لسيرته الفاسدة.

ومن هنا أمر الإسلام بتخلية النفس عن تلك الرذائل ، حتّى تستعد لقبول الفضائل ، فإنّها لا يمكن أن تحلّ في موضع هو متلبّس بالضدّ.

السادس : يدلّ قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ) ، على أنّ الرياء إثم عظيم وشرك بالله العزيز ، كاشف عن عدم الإيمان به عزوجل ،

١٩٨

لاعتماد المرائي على الناس دون الخالق ، وأنّ الشرك الحاصل من الرياء قد يكون في العمل ، وهو الشائع وقد يكون في الذات والعمل كليهما.

السابع : يدلّ قوله تعالى : (وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا) ، على أنّ الاحجام عن الإنفاق في سبيل الله تعالى ، إنّما يكون عن عدم الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر وعدم الاعتقاد بهما ، وإن تلبّس بهما ظاهرا ، وعلاج ذلك إنّما يكون بالرجوع إلى الطاعة والإيمان بالله تعالى وباليوم الآخر ، فهذه الآية المباركة تضمّنت الداء والعلاج ، ولذا قدّم الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر فيها وأخّره في الآية السابقة ؛ لأنّ السابقة تضمّنت الإنفاق على غير وجه الله تعالى ، فبيّن عزوجل أنّه إسراف وبذله إنّما يكون شركا بالله تعالى لأنّه بذله رياء ، وأما في هذه الآية المباركة قد امتنع عن الإنفاق لعدم الاعتقاد بالله واليوم الآخر ، فهو لم يؤمن بالجزاء فبخل عن أمواله ، فحكم بالإيمان أوّلا لرفع الداء وعلاجه.

بحث روائي

في تفسير العياشي عن أبي بصير عن الصادق عليه‌السلام قال : «إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أحد الوالدين وعليّ عليه‌السلام الآخر. فقلت : أين موضع ذلك في كتاب الله؟ قال : قرأ أبو عبد الله عليه‌السلام : (وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً)» ، وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أنا وعلي أبوا هذه الامة» ، وقريب منهما غيرهما من الروايات الكثيرة.

أقول : يستفاد من هذه الروايات امور :

الأوّل : إطلاق الأب أو الوالد على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى من يتلو تلوه من النفوس المقدّسة ، التي هي العلّة الغائيّة لخلق هذا العالم ، فكما أنّ الأب الجسماني هو مبدأ تكوين الولد ولا شأن له إلا ذلك ، كذلك النفوس المقدّسة المرتبطة بعالم الغيب مبادئ نشو تربية الامة وتزكيتها ورقيها وهدايتها إلى السعادة والكمال

١٩٩

وتنوير النفوس بالمعاد والإلهة ، بل أنّ الأب الواقعي للامة هي تلك النفوس المقدّسة ، وأشرفها نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله وسيد العرفاء عليّ عليه‌السلام.

والآيات الشريفة التي توصي الأولاد بإحسان الوالدين ، تشمل الأب الروحي والجسماني ، بل الإحسان للأب الروحي آكد ، لأنّه الجامع للكمالات والصفات الحميدة.

الثاني : يستفاد من الروايات أنّه لا يليق لهذا المقام إلا من كان له أهليّة ذلك بأن يكون أكمل أفراد الامة وأشرفها ، وجامعا للصفات الحميدة التي يمكن بها هداية الامة إلى السعادة الأبدية ، وأن يكون من نفس الامة وأنّ ذلك منحصر برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلي عليه‌السلام والأئمة الطاهرين.

الثالث : أنّ المراد من الوالدين فيها تثنية الوالد من لا الأب والام ، كما هو المصطلح. ويمكن أن يكون بمعناهما المصطلح ، أي : العلّة الفاعليّة لهذه الامة والعلّة المنفعلة لها.

وفي المناقب لابن شهر آشوب عن الصادق عليه‌السلام في قوله تعالى : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) قال : «الوالدان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلي عليه‌السلام».

أقول : الرواية من باب التطبيق لأكمل الأفراد وأشرفهما لا التخصيص ، كما تقدّم.

وفي كتاب المناقب عن جرير أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لعليّ عليه‌السلام : «اخرج فناد : ألا من ظلم أجيرا أجرته فعليه لعنة الله ، ألا من تولّى غير مواليه ، فعليه لعنة الله ، ألا من سبّ أبويه ، فعليه لعنة الله ـ الحديث».

أقول : الرواية طويلة وإنّ المراد من الأبوين الأعمّ من الجسماني والروحاني ، لما مرّ.

وفي تفسير العياشي في قوله عزوجل : (وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ) ، قال : «الذي ليس بينك وبينه قرابة. والصاحب بالجنب ، قال : الصاحب في السفر».

٢٠٠