مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٨

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٨

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٣
ISBN: 946-5665-07-8
الصفحات: ٣٩٧

والنعاس ونحو ذلك ، مع أن الهجران كذلك لا يكون عملية تربويّة إصلاحية ، فإنّ نظر الإسلام في هذا الحكم هو الإصلاح والتربية ، وليس مجرّد إظهار الرجل سلطنته واستعلاءه على المرأة.

ثمّ إنّ الهجر من الهجران ، وهو البعد ضدّ الوصل ، يقال : هجره ، أي : تباعد ونأى عنه ، وفي الحديث : «ومن الناس من لا يذكر الله إلا مهاجرا» ، أي : بعيدا عن الإخلاص ، كأنّ قلبه مهاجر للسانه ، وبينهما بعد وغير مواصل له.

والمضاجع جمع المضجع ، وهو محلّ المبيت والسكن والراحة ، والاضطجاع أي : النوم ، وفي الحديث : «كانت ضجعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أدما حشوها ليف» ، أي : كانت مخدته التي ينام عليها من جلد حشوها من ليف.

وإنّما جعل المضاجع محل الهجران ليعلم أنّه لا بد من حفظ المضاجعة ، فلا يتحقّق بهجر المضجع ، فإنّ الاجتماع فيه يثير الشعور ، والهجران فيه له الأثر البليغ.

وإتيان الجمع إما لأجل ملاحظة مجموع المضاجع التي يتّخذها الرجل للمبيت مع المرأة ، أو لأجل بيان حفظ المضاجعة في الهجران دون تركها ، كما ذكره جمع من المفسّرين واعتمدوا على ما ورد من ابن عباس ، قال : «لا تضاجعها في فراشك» ، فإنّه موهون بمعارضته مع غيره ، مع كونه خلاف ظاهر الآية الشريفة الدالّة على كون المضاجع ظرفا للهجران ، إلا أن يتكلّف في تأويل الآية المباركة.

قوله تعالى : (وَاضْرِبُوهُنَ).

عقاب بدني لمن لم تصلحها الموعظة ولا الهجر في المضاجع ، وإنّما تصل النوبة إليه عند بلوغ النشوز مرتبة لا يؤثّر فيها إلا تأديب يناسبها ، فإنّ من الناس من لا يفيده إلا هذا النوع من التأديب ، فلا بد فيه من إظهار أنّ الرجل له سلطة التأديب ، ولكن لم يطلق الإسلام العنان له ، فقيّده بأن لا يكون مبرّحا كما ورد في السنّة الشريفة.

١٦١

والمبرّح هو ما يوجب المشقّة والشدّة ، والسرّ واضح ، فإنّ الضرب والهجران في المضاجع والموعظة وسائل للزجر والتأديب ، وإنّما جعلها سبحانه وتعالى لأجل التوصّل إلى إصلاح المرأة وإرجاعها إلى الطاعة ، فلا بد من أن لا يؤتى منها خلاف المقصود ، فهي ليست وسيلة لإرضاء غرور الرجل ولا سببا لإذلال المرأة ومهانتها ، بل هي عملية إصلاحيّة تربويّة لا بد من ملاحظة التقوى فيها ، وقد اهتمّ سبحانه وتعالى بذلك ؛ لأنّ الاسرة بنية صغيرة من بنيان المجتمع الكبير ، الذي يتركّب منها ومن غيرها ويصلح بصلاحها ويسعد بسعادتها.

قوله تعالى : (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً)

بيان لغاية تلك الأحكام الإلهيّة المتقدّمة ، أي : أنّ الوسائل التي شرّعها عزوجل لإصلاح الزوجة بعد نشوزها ، إنّما هي لأجل رجوعها إلى الطاعة بترك النشوز ، فإذا تحقّق فلا يجوز التعدّي عليهن باتخاذ العلل في إيذائهن.

ومن ذلك يظهر أنّه إذا اكتفى بالأدنى من تلك المراتب الثلاثة في إرجاع المرأة إلى الطاعة والصلاح ، لا يجوز التعدّي إلى المرتبة العليا ، فإنّه من البغي عليهن ، فليس المقام مقام إظهار قوة الرجل وغروره واستكباره عليهن ، كما عرفت آنفا ، بل إنّما شرّعها عزوجل لأجل الإصلاح والإرجاع إلى الطاعة ، فالتعدّي عمّا شرّعه الله تعالى يكون بغيا وعدوانا وخروجا عن طاعة الله تعالى.

وإنّما ذكر عزوجل البغي دون غيره ، لبيان أنّ الخروج عمّا شرّعه سبحانه وتعالى ، هو بغي وتجاوز عن الحدّ وظلم عليهن.

والمستفاد من الآية الشريفة الاكتفاء بالظاهر من الإطاعة ولم يكلّف الرجل بما وراء ذلك ، فلا يجوز البحث عن السرائر ، فإنّ علمها عند الله تعالى.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً)

تهديد لمن يريد الخروج عن طاعة الله بالبغي على النساء والتعدّي عمّا شرّعه الله تعالى فيهن ، فإنّ الله جلّ شأنه عليّ في أحكامه وقدرته ، وسلطانه

١٦٢

فوق كلّ سلطان ، حكيم في أفعاله لم يشرّع من الأحكام إلا بما يرشد الناس إلى سعادتهم ، وهو كبير في جلاله وكبريائه ، فإذا دعتكم قدرتكم على ظلمهن فتذكروا قدرة الله تعالى.

قوله تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما)

الخطاب لمن تعنيه شؤون الزوجيّة بحكم الروابط العائليّة ، أو لأجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإصلاح بين الناس ، فإنّهم المكلّفون بتنفيذ الأحكام الإلهيّة عند ظهور المنافرة بين الزوجين وإخافتهم عاقبة ذلك.

والشقاق الخلاف والبينونة مأخوذ من الشقّ الذي هو نصف الشيء ، وفي الحديث «اتقوا النار ولو بشقّ تمرة» أي : نصف تمرة. والمراد منه لا تستقلوا من الصدقة شيئا ولو يسيرا مثل نصف التمرة ، وقال تعالى : (لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) [سورة النحل ، الآية : ٧] ، كأنه ذهب نصف أنفسكم حتّى بلغتموه ، فالمراد منه كمال المشقّة ، فكأن استمرار الخلاف بين الزوجين أوجب انشقاق الائتلاف بينهما إلى شقّين متباينين في العداوة والبغضاء ، وتقدّم في قوله تعالى : (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ) [سورة البقرة ، الآية : ١٣٧] اشتقاق الكلمة فراجع.

وإضافة الشقاق إلى (بين) إما لإجراء الظرف مجرى المفعول أو الفاعل.

وقيل : إن (بين) اجري مجرى الأسماء وازيل عنه الظرفيّة.

قوله تعالى : (فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها)

الحكم ـ بالتحريك ـ هو من ينصّب للتحكيم ، والمراد بالبعث في المقام هو توجيه الحكمين إلى الزوجين لإصلاح ذات البين. وإنّما أمر عزوجل بنصب الحكمين ـ حكم من أهل الزوجة وحكم من أهل الزوج ـ ليكونا أبعد من الجور والتعسّف.

وإنّما ذكر الأهل لأنّهم أقرب إلى الاطلاع على الخفايا ومناهج الصلاح ،

١٦٣

ولا بد أن يكون الحكم صالحا للتحكيم وقادرا على حلّ النزاع ورفع الخلاف بحسن التدبير في حلّ جميع المنازعات ، ويعتبر الاطمئنان بأمانتهما ، فإن بها تتمّ الفائدة المرجوة من بعثهما.

وإطلاق الآية الشريفة ينفي كلّ قيد في المقام ، كما أنّ مقتضاه هو ثبوت حقّ التفريق لهما ، إلا أنّه استفاضت الروايات أنّ حكمها بالفراق موقوف على إذن الزوجين ، أو الشرط الضمني ، وبها يقيّد إطلاق الآية الشريفة ، وسيأتي نقل بعضها.

قوله تعالى : (إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما)

ظاهر السياق أنّ الضمير يرجع إلى الحكمين ، أي : إن أراد الحكمان إصلاح شأن الزوجين ، وكان من نيتهما الصلاح والإصلاح فقط ، دون ترجيح أحد الجانبين على الآخر عنادا ولجاجا أو رغبة لأحدهما دون الآخر ، فإن الله تعالى يوفّقهما للحقّ ويجمع رأيهما على الصواب ، لرجوع الأمور كلّها إليه عزوجل.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً)

أي : أنّ الله عليم بحقائق الأمور وأحوال العباد ومصالحهم ، خبير بنيّاتهم وما تطويه ضمائرهم.

بحوث المقام

بحث دلالي :

تدلّ الآيات الشريفة على امور :

الأوّل : يرشد قوله تعالى : (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ) إلى أهمّ حقيقة من الحقائق التي كشف عنها القرآن الكريم بأسلوب لطيف يجذب القلوب وتطمئن إليه النفوس ، يشعر المخاطب بأنّ ما قسمه الله تعالى

١٦٤

لعباده من فضله تعالى ، وأن ما يكسبه كلّ فرد من أفراد الإنسان إنّما هو نتيجة اختلاف القرائح والاستعدادات والتفاوت في سبل العيش ومزايا الحياة ، وهذه الآية الشريفة هي الحدّ الفاصل بين الخيال والحقيقة ، وأنّ الحياة لا تقوم على الأول منهما وأنّ التشكيك في تلك الحقيقة لا يزيد الإنسان إلا بعدا عن الواقع ، ولا يجتني منه إلا الفساد ، ولذا نهى عزوجل عن تمنّي ما هو خلاف ما فضّل الله تعالى ؛ لأنّه من موجبات الفوضى ، والله تعالى يأبى ذلك ، فأرشد عزوجل الإنسان إلى ما هو الأصلح له ، وهو التطلع إلى فضل الله تعالى وتمنّي ما يكون سببا في سعادته.

كما أنّ الآية الكريمة تدلّ على أنّ الحياة لا تقوم إلا بالجهد والعمل ، لكن مع طلب التأييد والتوفيق من الله عزوجل ، ولذا عقّب سبحانه وتعالى هذه الآية الشريفة بقوله : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ) ، تأكيدا لذلك ، ولدفع كلّ وهم ، فإنّها تدلّ على أنّ الطريق الصحيح هو العمل دون مجرّد التمنّي.

الثاني : يدلّ قوله تعالى : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ) على أنّ الحقيقة التي تبتني عليها الحياة هي العمل والجد والاجتهاد ، لا مجرّد التمنّي والوهم والخيال ، وأن التفاوت بين كلّ واحد من الصنفين إنّما يكون بالعمل ، والحياة ليست مجرّد صراع بينهما ، بل الله تعالى خلق الرجال لمهمة كما خلق النساء لمهمة اخرى ، وأنّ بهما تستقيم الحياة ، وقد خلق عزوجل الجنسين ليوجد بهما السكن والراحة والمودّة ، كما تقتضيه قانون الفطرة ، وكلّ ما هو خلاف ذلك لا يجدي إلا حسرة وندامة وفسادا.

ويمكن أن تشير الآية المباركة على العلّتين اللتين يقوم بهما النظام ، هما العلّة الفاعلة والعلّة المنفعلة ، وبهما ينتظم النظام الأحسن وتستقيم الأمور ، فلا بد من قيام كلّ واحدة من العلّتين إلى جانب الاخرى والعمل بوظيفتها فردا

١٦٥

واجتماعا ، ويشهد لما ذكرنا ذيل الآية الشريفة : (فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللهُ) ، فإنّ من شأن العلّة المنفعلة أن تحفظ ما عليها من العلّة الفاعلة ، وما أودعت فيها من الأسرار.

الثالث : يدلّ قوله تعالى : (ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ) أنّ المفضّل عليه من المفضّل ، لا أن يكون مباينا له ، وتشير الآية الكريمة أيضا إلى أنّه لا بد من التحلّي بصفة الخضوع والطاعة والإيمان بأمر الله تعالى ، وما قسمه عزوجل بين عباده.

الرابع : يدلّ قوله تعالى : (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) على لزوم رعاية العدل والحقوق ، بعد النهي عن سوء التمنّي الذي يجلب الفوضى ، فأمر عزوجل بإعطاء حقوق الأطراف من الأقارب في الميراث ، وهم الأجداد والأعمام والأخوال وأولادهم والإخوة والأخوات وأولادهم ، على ما فصّله عزوجل في الآيات السابقة.

الخامس : يدلّ قوله تعالى : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) على أنّ الرجولة من مقتضيات قوامية الرجال على النساء ، وأنّها من شؤون خلقهم وفطرتهم ، والمستفاد من سياق الآية الشريفة أنّ القواميّة هذه الثابتة للرجال ليست قوامية سلطة وابتزاز وجبروت ، بل هي قواميّة حفظ وعناية ورحمة لقيام الاسرة وحفظها عن الانهيار وعدم اضطراب أحوالها ، فهي ليست ثابتة للرجال نتيجة منافسة وتسابق بين الطرفين ، فاستحقّها الرجال لغلبتهم على النساء ، بل هي تكاليف خصّ الله تعالى بها الرجال لتعيش المرأة في كنفهم بمودّة ورحمة ، كما دلّت عليه آيات مباركة اخرى في مواضع متفرّقة من القرآن الكريم.

ومن هذه الآيات الشريفة نستفيد عناية الإسلام بالاسرة وتنظيمها تنظيما دقيقا في كلّ علاقاتها ، وملاحظة جميع جوانبها النفسيّة والتربويّة والأخلاقيّة ، ومراعاة تلك تؤدي الاسرة وظيفتها الحيويّة في المجتمع الكبير ، خلافا للجاهلية

١٦٦

المعاصرة ، فإنّها نزّلت الاسرة ـ ولا سيما المرأة ـ إلى أدنى مراتبها ، فحصل الشقاء والدمار.

السادس : يستفاد من تكرار قوله تعالى : (بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) أنّ التفضيل لطائفة على طائفة اخرى إنّما يكون من الله تعالى لمصالح واقعيّة ، حفظا للنظام العامّ ، وإيصالا لكلّ مخلوق إلى ما يستحقّه من الكمال ، وردّا للمزاعم التي تثبت التفضيل لطائفة على اخرى لاستحقاقها ، ولئلا يتّخذه أحدهم وسيلة لابتزاز حقوق الآخرين والظلم عليهم ، ولعلّ السرّ في التكرار أيضا لا لاعلام المفضّل بأنّ التفضيل من الله تعالى وانّه لا بد له من ملاحظة ذلك فهو منحة ربوبيّة.

السابع : يدلّ قوله تعالى : (فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللهُ) على أنّ القواميّة الثابتة للرجال لا توجب الحطّ من قدر النساء اللواتي خلقهن الله تعالى لمهمة اخرى ، فإنّ كرامتهن ومنزلتهن عند الله تعالى لا تقلّ درجة عن درجة الرجال ، فقد أودع عزوجل فيهن الأمانة التي يجب عليهن القيام بها وحفظها ، وشرّع لهنّ أحكاما خاصّة لتسهيل مهمّتهن ، وقد ذكر عزوجل في المقام صفات جليلة تدلّ على سمو منزلتهن ، كما عرفت في التفسير.

الثامن : يستفاد من تفريع قوله تعالى : (فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ) على قوله تعالى : (بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ) ، أن المطلوب من المرأة بعد أمر الله تعالى للرجل بالإنفاق عليها ، هو الصلاح والاستقامة في أخلاقها وأمورها داخل الاسرة ، ثم يبيّن عزوجل أنّ الصلاح منها في المقام هو القنوت والطاعة لله تعالى وللزوج ، وحفظ الغيب ، وهما صفتان تظهران المرأة بأحسن حال ، وتبرزان الزوجة الصالحة في خير الصفات ، فإنّ القنوت لله تعالى يوجب دخول السكينة في البيت والطمأنينة على قلوب أفرادها.

وبالقنوت تكون النفس راضية بما قسمه الله تعالى لها ، ومعرضة عمّا

١٦٧

يوجب النفرة والنزاع ، وبالحفظ تكتمل أركان السّلام في البيت ، فتكون الاسرة الجامعة لهذه الصفات كاملة سعيدة.

التاسع : يبيّن قوله تعالى : (وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَ) ، صورتين من الصور التي تعترض على الاسرة حينما يختلّ فيها بعض مقومات سكنها وهدوئها ، فقد ذكر عزوجل صورة نشوز المرأة وصورة الشقاق بينها وبين الرجل ، وسيذكر سبحانه وتعالى صورة نشوز الرجل في آخر هذه السورة أيضا ، وفي جميع هذه الصور لا تؤدّي الاسرة وظيفتها الحيويّة ، ولا تتّصف بالسكن والطمأنينة ، ولا يتهيأ لها الظروف الطبيعيّة لتربية النشء السليم ، ثم بيّن عزوجل أمورا لا بد من إجرائها لإصلاح الخلل الواقع فيهما ، كما عرفت في التفسير.

العاشر : يدلّ قوله تعالى : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ) على أنّ للرجال قيام الولاية على النساء ، وعلّل ذلك بأمرين :

أحدهما : أمر طبيعي موهوب من الله تعالى ، وهو ما ذكرناه في خلقة الرجال ، مثل كمال العقل وحسن التدبير ، ومزيد القوة في الأعمال والطاعات ، بما يهيئهم للتصدّي بأمور خاصّة لا يمكن للنساء التصدّي لها ، كالنبوّة والإمامة والولاية ، وإقامة الشعائر ، والجهاد ونحو ذلك ، ويشير إلى هذه العلّة قوله تعالى : (بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ).

الثاني : كسبي ، وهو الإنفاق على النساء ، وقد أشار إليه بقوله تعالى : (وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ) كما عرفت في التفسير.

وإنّما أتى بضمير الجمع في الآية المباركة للدلالة على أنّ مجموع الرجال من حيث المجموع لهم التفضيل على مجموع النساء كذلك ، لا أنّ كلّ واحد من الرجال له التفضيل على كلّ واحدة من النساء ، فإنّه ربّ امرأة أفضل وأفقه من رجل ، بل من كثير من الرجال.

١٦٨

وبعبارة اخرى : أنّ المراد إثبات تفضيل الصنف على الصنف ، لا تفضيل الشخص على الشخص.

الحادي عشر : يمكن أن يراد من الرجال في قوله تعالى : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) ، الذين صدقوا ما عاهد الله عليه ، الذين وهبهم الله تعالى كمال الانقطاع إليه عزوجل وأفاض عليهم العقول الكاملة ، وأن يكون المراد بالنساء مطلق من لم يصل إلى تلك المرتبة من الرجال ، فتكون القوامية هي قوام التنظيم ، وهو من أهمّ إفاضات الباري عزوجل على أوليائه ؛ لأنّهم جعلوا الدنيا تحت أقدامهم ، فجعل الله تعالى جزاء ذلك أمر العالم تحت اختيارهم ، ويدلّ على ما ذكرناه جملة من الأخبار.

الثاني عشر : تصوّر الآية الشريفة : (حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللهُ) الزوجة التي هي ربّة البيت وسيدة المجتمع التي تربّت بالتربية الإلهيّة الكاملة. وترشد الآية المباركة إلى أنّ التحفّظ على الغيب لا بد أن يكون على نحو ما علّمها الله تعالى ، ولعلّ ما ورد عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «جهاد المرأة حسن التبعّل» ،وكذا ما ورد عن أوصيائه الكرام التي جمعها الفقهاء والمحدّثون وعلماء الأخلاق ، مأخوذ من الآية الكريمة ، فتصحّ المعاشرة ويصلح الأولاد وتترتّب عليها الآثار المطلوبة ، فإنّ صلاح البيت بصلاح ربّتها ، كما أنّ صلاح المملكة بصلاح رئيسها ، ولأجل أهميّة الموضوع فقد تصدّى سبحانه وتعالى لرعاية هذا الإصلاح والصلاح ، فقال تعالى : (بِما حَفِظَ اللهُ) ، فالرجال قوّامون خارج البيت ، والمرأة الصالحة ربّة البيت والقيمة عليها ، وليس المراد من القواميّة للرجال قوام الجبروت والاستيلاء ، بل المراد القواميّة في الحوائج الشرعيّة المتعارفة وتنظيم الاسرة الكاملة ، كما عرفت.

١٦٩

بحث روائي

في الكافي : بإسناده عن إبراهيم بن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «ليس من نفس إلا وقد فرض الله له رزقها ، حلالها يأتيها في عافية ، وعرض لها بالحرام من وجه آخر ، فإن هي تناولت شيئا من الحرام فأصابها به من الحلال الذي فرض لها وعند الله سواهما فضل كثير ، وهو قول الله عزوجل : (وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ).

أقول : يظهر من هذه الرواية ما ذهب إليه جمع من المتكلّمين من أن الرزق يكون من الحلال لا من الحرام ، فلا بد من أن يحمل على ما يرزقه الله تعالى لعباده ، لا على ما يختاره العباد بأنفسهم لأنفسهم.

ويمكن الجمع بذلك بين القولين ، فإنّه من عمّ الرزق إلى الحرام ، أي : الأعمّ ممّا يختاره الإنسان لنفسه ، ومن خصّه بالحلال ، أي : خصوص ما يرزق الله به عباده.

وأما فضله ، فهو لا يختصّ بالرزق ، بل هو زائد على الرزق المقسوم ، وهو غير متناه.

وفي تفسير العياشي : عن عبد الرحمن بن أبي نجران : قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله تعالى : (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ)؟ قال : لا يتمنّى الرجل امرأة الرجل ولا ابنته ، ولكن يتمنّى مثلهما».

أقول : هذا تفسير لبعض المصاديق ، وقد تقدّم الفرق بين التمنّي والغبطة.

وعن إسماعيل بن كثير رفع الحديث إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «لما نزلت هذه الآية : (وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ) ، فقال أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما هذا الفضل؟ أيكم يسأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ فقال علي بن أبي طالب : أنا أسأله عن ذلك ، فسأله عن ذلك الفضل ما هو؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الله خلق خلقه وقسّم لهم أرزاقهم من حلّها بالحرام ، فمن انتهك حراما نقص له من الحلال بقدر ما انتهك من الحرام وحوسب به».

١٧٠

أقول : تقدّم ما يتعلّق بمثل هذه الرواية.

وعن أبي الهذيل عن الصادق عليه‌السلام قال : «إنّ الله قسّم الأرزاق بين عباده وأفضل فضلا كثيرا لم يقسمه بين أحد ، قال الله : (وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ)».

أقول : هذه الرواية ظاهرة في الفرق بين رزق الله تعالى وفضله ، فإنّ رزقه مقسوم محدود ، بخلاف فضله فإنّه لا حدّ له.

وعن علي بن إبراهيم في تفسيره بإسناده عن أبي جعفر عليه‌السلام ، أنّه قال : «ليس من نفس إلا وقد فرض الله لها رزقها حلالا يأتيها في عافية ، وعرض لها بالحرام في وجه آخر ، فإن وجه آخر ، فإن هي تناولت من الحرام شيئا قاصها به من الحلال الذي فرض الله لها ، وعند الله سواهما فضل كثير».

أقول : المراد من العرض بالحرام ليس أنّ الله تعالى عرض له بالحرام ، بل جعل فيه قدرة واختيارا ، هو يختار الحرام بعمده واختياره.

وفيه ـ أيضا ـ : عن الحسين بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «قلت له : جعلت فداك ، إنّهم يقولون إنّ النوم بعد الفجر مكروه ؛ لأنّ الأرزاق تقسّم في ذلك الوقت ، فقال : الأرزاق موظوفة مقسومة ، ولله فضل يقسّمه ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، وذلك قوله تعالى : (وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ) ، ثم قال : وذكر الله بعد طلوع الفجر أبلغ في طلب الرزق من الضرب في الأرض».

أقول : الروايات في سياق ذلك كثيرة ، وللفضل والرزق أسباب عديدة ، منها ذكر الله تعالى بعد صلاة الفجر ، وهو أفضلها وأبلغها في الوصول إليه.

وعن الطبرسي في مجمع البيان في قوله تعالى : (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ) ، أي : لا يقل أحدكم : ليت ما اعطي فلان من النعمة والمرأة الحسناء كان لي ، فإنّ ذلك يكون حسدا ، ولكن يجوز أن يقول : اللهم اعطني مثله ، وهو المروي عن الصادق عليه‌السلام.

أقول : الرواية تبيّن الفرق بين التمنّي والغبطة ، والأوّل مذموم دون الثاني ، كما مرّ في التفسير.

١٧١

وفي أسباب النزول بإسناده عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ، قالت أم سلمة : «يا رسول الله ، يغزو الرجال ولا نغزو ، وإنّما لنا نصف الميراث ، فأنزل الله تعالى : (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ).

وفي الدرّ المنثور بإسناده عن عكرمة : «أنّ النساء سألن الجهاد فقلن وددنا أنّ الله جعل لنا الغزو ، فنصيب من الأجر ما يصيب الرجال ، فأنزل الله تعالى : (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ)».

أقول : أمثال هذه الروايات كثيرة ، ولا تختصّ الآية الكريمة بما ورد فيها ، وإنّما يكون من أسباب التطبيق وذكر أحد المصاديق ، كما تقدّم مكرّرا.

وفي أسباب النزول عن السدّي قال : «لما نزل قوله تعالى : (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) ، قال الرجال : إنا لنرجو أن نفضّل على النساء بحسناتنا في الآخرة ، كما فضّلنا عليهن في الميراث ، فيكون أجرنا على الضعف من أجر النساء ، وقالت النساء : إنا لنرجو أن يكون الوزر علينا نصف ما على الرجال في الآخرة ، كما لنا الميراث على النصف من نصيبهم في الدنيا ، فأنزل الله تعالى : (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ)».

أقول : إنّ الثواب والأجر في الآخرة يدوران مدار العمل والسعي مع الإخلاص ، سواء كان العامل رجلا أو امرأة ، فالتفضيل في الثواب يدور مدار التقرّب والإخلاص ، وتطبيق الآية الشريفة في المقام من باب التطبيق على الفرد.

علي بن إبراهيم في تفسيره قال : «لا يجوز للرجل أن يتمنّى امرأة مسلم أو ماله ، ولكن يسأله من فضله (إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً)».

أقول : تطبيق الآية الشريفة على المورد من باب أنّه جلّت عظمته عالم بالمصالح والمفاسد ، يفيض على عباده من فضله حسب المصلحة والقابلية ، ولذا لا يجوز التمنّي ويجوز السؤال من فضله ، بل أنّه عبادة لو كان فيه الإخلاص.

وفي الدرّ المنثور : عن حكيم بن جبير قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «سلوا

١٧٢

الله من فضله ، فإنّ الله يحبّ أن يسأل ، وإنّ من فضل العبادة انتظار الفرج».

أقول : ومثله ما عن صحيح الترمذي ، وفي سياقه روايات كثيرة وردت عن أئمتنا عليهم‌السلام ، والمراد من الانتظار هو التهيؤ لقبول الحقّ إذا ظهر ، وأن يعمل بظاهر الشريعة ما لم يظهر الحقّ.

والمراد بالفرج هو الحقّ الذي سيظهر بين الناس جميعهم ويدعوهم إلى الوحدة ونبذ التفرقة ، ويبسط العدل بينهم.

ابن شهر آشوب عن الباقر والصادق عليهما‌السلام في قوله تعالى : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) ، وفي قوله تعالى : (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ) ، أنّهما نزلتا في عليّ عليه‌السلام.

أقول : ذكر بعض المصاديق لا يدلّ على الاختصاص ، فيؤخذ بعموم اللفظ ، ولكن أجلّه وأفضله هو الولاية.

في الكافي : بسنده عن الحسن بن محبوب قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن قول الله عزوجل : (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ)؟ قال : إنّما عنى الله بذلك الأئمة عليهم‌السلام ، بهم عقد الله عزوجل أيمانكم».

أقول : ومثله ما عن الرضا عليه‌السلام ، والعقد يشمل كلّ عقد ، خالقيا كان أو خلقيا ، وأكمله وأجلّه عقد الموالاة مع أولياء الله تعالى والعمل بطريقتهم.

في التهذيب بسنده عن الحسن بن محبوب قال : أخبرني ابن بكير عن زرارة قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «(وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) ، قال : عنى بذلك أولي الأرحام في المواريث ، ولم يعن أولياء النعمة ، فأولاهم بالميت أقربهم إليه ، التي تجرّه إليها».

أقول : هذه الرواية تدلّ على قاعدة ذكرناها في كتاب الإرث من (مهذب الأحكام) ، وهي قاعدة : «الأقرب يمنع الأبعد» ، ولا تنافي بينها وبين ما تقدّم من الروايات ؛ لعموم اللفظ الشامل لجميع المصاديق.

١٧٣

وفي أسباب النزول للواحدي بإسناده عن سعيد بن المسيب قال : «نزلت هذه الآية : (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) في الذين كانوا يتبنّون رجالا غير أبنائهم ويورّثونهم ، فأنزل الله تعالى فيهم أن يجعل لهم نصيب في الوصية ، وردّ الله تعالى الميراث إلى الموالي من ذوي الرحم والعصبة ، وأبى أن يجعل للمدّعين ميراثا ممّن ادّعاهم وتبنّاهم ، ولكن جعل لهم نصيبا في الوصية».

أقول : لا بد وأن تكون الوصية لا تزيد على الثلث ، وإلا يتوقّف على رضاء الورثة كما ذكرنا في كتاب الوصية من (مهذب الأحكام) ، وأنّ الإرث على حسب المراتب ، فما دام من المرتبة الاولى موجودا ، لا تصل النوبة إلى غيرها ، عصبة كانت أو غيرها ، والآية الشريفة لا تختصّ بالمورد ، وإنّما هو من باب التطبيق.

وعن الشيخ في التهذيب بإسناده عن إبراهيم بن محرز قال : «سأل أبا جعفر عليه‌السلام رجل وأنا عنده ، قال : قال رجل لامرأته : أمرك بيدك؟ فقال : أنّى يكون هذا والله يقول : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) ، ليس هذا بشيء».

أقول : ذكرنا في كتاب الطلاق من (مهذب الأحكام) أنّ الطلاق بيد من أخذ بالساق ، كما عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والإمام عليه‌السلام في هذه الرواية استدلّ بالآية الشريفة على أنّ الطلاق بيد الزوج لا بيدها.

وعن ابن بابويه بإسناده عن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهما‌السلام قال : «جاء نفر من اليهود إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فسأله أعلمهم من مسائل ، فكان فيما سأله قال له : ما فضل الرجال على النساء؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : كفضل السماء على الأرض ، فالماء يحيي الأرض ، لو لا الرجال ما خلق الله النساء ، يقول الله عزوجل : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ) ، قال اليهودي : لأي شيء كان هكذا؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : خلق الله عزوجل آدم من طين ، ومن فضلته وبقيته خلقت حواء ، وأوّل من أطاع

١٧٤

النساء آدم ، فأنزله الله عزوجل من الجنّة ، وقد بيّن فضل الرجال على النساء في الدنيا ، ألا ترى أنّ النساء كيف يحضن ولا يمكنهن العبادة من القذارة ، والرجال لا يصيبهم شيء من الطمث ، قال اليهودي : صدقت يا محمد».

أقول : في سياق ذلك روايات كثيرة ، وإنّ الشيطان لما حصل له اليأس من ارتكاب آدم عليه‌السلام من أكل تلك الشجرة جاء إلى حواء فأغواها وهي أوقعت آدم في الخطيئة ، فصار سبب خروج آدم من الجنّة حواء ، كما في الروايات.

وعن ابن بابويه بإسناده عن محمد بن سنان قال : «إنّ أبا الحسن الرضا كتب فيما كتب إليه في جواب مسائله إليه علّة إعطاء النساء نصف ما يعطى الرجال من الميراث ؛ لأنّ المرأة إذا تزوّجت أخذت ، والرجل يعطي ، فلذلك وفّر على الرجال ، وعلّة اخرى في إعطاء الذكر مثلي ما تعطي الأنثى ؛ لأنّ الأنثى من عيال الذكر إن احتاجت ، وعليه أن يعولها ، وعليه نفقتها ، وليس على المرأة أن تعول الرجل ولا تؤخذ بنفقته إن احتاج ، فوفّر على الرجال لذلك ، وذلك قول الله عزوجل : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللهُ)».

أقول : تقدّم ما يتعلّق بأمثال هذه الرواية في التفسير وفي النفقة من كتاب النكاح ، فراجع (مهذب الأحكام).

وفي تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى : (حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ) ، يعني : «تحفظ نفسها إذا غاب زوجها عنها».

أقول : هذا تفسير بالمصداق ، والآية الشريفة عامّة.

في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه‌السلام في قوله تعالى : (قانِتاتٌ) مطيعات.

أقول : تقدّم معنى القنوت في التفسير.

وفي الدرّ المنثور : أخرج البيهقي عن أسماء بنت يزيد الأنصاريّة أنّها أتت

١٧٥

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو بين أصحابه فقالت : «بأبي أنت وامي ، إنّي وافدة النساء واعلم ـ نفسي لك الفداء ـ أنّه ما من امرأة كائنة في شرق ولا غرب سمعت بمخرجي هذا إلا وهي على مثل رأيي. إن الله بعثك بالحقّ إلى الرجال والنساء ، فآمنا بك وبإلهك الذي أرسلك ، وإنّا معشر النساء محصورات مقسورات ، قواعد بيوتكم ومقضيّ شهواتكم ، وحاملات أولادكم ، وأنّكم معاشر الرجال فضّلتم علينا بالجمعة والجماعات ، وعيادة المرضى ، وشهود الجنائز ، والحجّ بعد الحجّ ، وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله ، وأنّ الرجل منكم إذا خرج حاجّا أو معتمرا أو مرابطا حفظنا لكم أموالكم ، ونزلنا لكم أثوابكم وربّينا لكم أولادكم ، فما نشارككم في الأجر يا رسول الله؟ فالتفت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أصحابه بوجهه كلّه ثمّ قال : هل سمعتم مقالة امرأة قط أحسن من مساءلتها في أمر دينها من هذه؟ فقالوا : يا رسول الله ، ما ظننّا أنّ امرأة تتهدى إلى مثل هذا ، فالتفت النبي إليها ثمّ قال لها : انصرفي أيتها المرأة واعلمي من خلفك من النساء أن حسن تبعّل إحداكن لزوجها وطلبها مرضاته واتباعها موافقته يعدل ذلك كلّه ، فأدبرت المرأة وهي تهلل وتكبّر استبشارا».

أقول : وردت روايات كثيرة من طرق الجمهور والخاصّة في مضمون هذه الرواية.

وكيف كان ، يستفاد منها امور :

الأوّل : رفع شأن المرأة الصالحة ، وأنّها عند الله كالمؤمن الصالح الذي يكون أعماله وأفعاله موافقة لنظام الشريعة ؛ لأنّها الموجبة لسكون النفس وارتياح البال ، فهي تدبّر وتربّي وتصلح شؤون الرجل وتستقيمه وتهيء له ما يقوم به الرجل من الواجبات والوظائف ، فيكون أجرها عند الله كأجر الرجل ، ولم يهمل الله أجرها كما صرّح به صلى‌الله‌عليه‌وآله.

الثاني : يستفاد منها أنّه يجوز للمرأة أن تبدي رأيها وتكشف ما في

١٧٦

ضميرها عند ولي أمر المسلمين ، سواء كان في أمر الدين أو غيره ، ما لم يستلزم التنافي للشرع ، ولولي الأمر الاعتناء برأيها وحلّ ما عندها من الشبهات.

الثالث : يستفاد منها أنّه يجوز للمرأة أن تنوب وتمثل عن مثلها أو عن الرجال ، ما لم يكن منافيا للشرع.

الرابع : يستفاد منها جواز دخول النساء على الرجال وتكلّمهن معهم في امور دينهن ، بل ومعاشهن ، ما لم يكن منافيا للشرع.

وفي الكافي بإسناده عن موسى بن جعفر عليهما‌السلام قال : «جهاد المرأة حسن التبعّل».

أقول : الروايات في مضمون ذلك كثيرة ، ويستفاد منها امور :

الأوّل : التنزيل في الثواب والأجر ، كما مرّ.

الثاني : تحمل الأذى ، فإنّ الجهاد متقوّم بتحمّل الأذى ، والمرأة لا بد لها من الصبر ، وتحمّل الأذى إن حصل من زوجها أو من غيره ، كما في بعض الروايات.

الثالث : جواز المدافعة في غير ما يجب عليها ؛ لأنّ الجهاد متقوّم بالمدافعة ، كما أنّه لو أساء الأدب الزوج قولا أو فعلا في غير الاستمتاعات ، يجوز لها المدافعة عن ذلك ؛ لأنّ الزوج تعدّى كما هو مقرّر له شرعا.

وفي أسباب النزول للواقدي عن مقاتل : «نزلت هذه الآية : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) في سعد بن الربيع ، وكان من النقباء وامرأته حبيبة بنت زيد ابن أبي زهير ، وهما من الأنصار ، وذلك أنّها نشزت عليه فلطمها ، فانطلق أبوها معها إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : فرشته كريمتي فلطمها! فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : لتقتصّ من زوجها. وانصرفت مع أبيها لتقتصّ منه ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : ارجعوا هذا جبريل عليه‌السلام أتاني وأنزل الله تعالى هذه الآية ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أردنا أمرا وأراد الله أمرا ، والذي أراد الله خير ، ورفع القصاص».

وفيه ـ أيضا ـ بإسناده عن الحسن : «أنّ رجلا لطم امرأته فخاصمته الى

١٧٧

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فجاء معها أهلها فقالوا : يا رسول الله ، إنّ فلانا لطم صاحبتنا ، فجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : القصاص القصاص ، ولا يقضى قضاء ، فنزلت هذه الآية : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) ، فقال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : أردنا أمرا وأراد الله غيره» ، ومثلها غيرها.

أقول : على فرض صحّة هذه الروايات ، لا بد من حملها على أنّ ضرب المرأة لم يكن لوجه شرعي من تأديب وغيره ، أو كان الضرب للنشوز ، ولكن حصل تعدّ في الضرب عن الحدّ المقرّر شرعا ، فحكم صلى‌الله‌عليه‌وآله بالقصاص ، ثمّ نزلت الآية المباركة فأصلح صلى‌الله‌عليه‌وآله بينهما بترك القصاص برضائهما به ، فصارت الآية الشريفة منشأ لطلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من المرأة الرضا بما فعله الزوج ، فرضيت هي بذلك إلا أنّ الآية المباركة : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) ، لا تدلّ على ترك القصاص الثابت شرعا ، أو الحدود كذلك.

وفي تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى : (وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً) ، ذلك إن نشزت المرأة عن فراش زوجها ، قال زوجها : اتقي الله وارجعي إلى فراشك ، فهذه الموعظة ، فإن أطاعته فسبيل له ذلك ، وإلا سبّها وهو الهجرة ، فإن رجعت إلى فراشها فذلك ، وإلا ضربها ضربا غير مبرح ، فإن أطاعته وضاجعته يقول الله : (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً) يقول : لا تكلفوهن من الحبّ ، فإنّما جعل الموعظة والسبّ والضرب لهن في المضجع إنّ الله كان عليّا كبيرا».

أقول : تقدّم ما يتعلّق بهذه الرواية في التفسير ، وفي كتاب النكاح في أحكام النفقة من (مهذب الأحكام).

وفي تفسير العياشي : عن ابن مسلم ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «قضى أمير المؤمنين عليه‌السلام في امرأة تزوّجها رجل شرط عليها وعلى أهلها إن تزوّج عليها

١٧٨

امرأة وهجرها ، أو أتى عليها سرية ، فإنّها طالق ، فقال : شرط الله قبل شرطكم ، إن شاء وفى بشرطه ، وإن شاء أمسك امرأته ونكح عليها وتسرّى عليها وهجرها ان أنت سبيل ذلك ، قال الله في كتابه : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) ، وقال : (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) ، وقال : (وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً)».

أقول : تقدّم في كتاب النكاح من (مهذب الأحكام) ما يتعلّق بالشروط المذكورة في عقد النكاح ، وقلنا إنّه لو شرط ما يخالف الشرع بطل الشرط وصحّ العقد والمهر ، حتّى لو قلنا إنّ الشرط الفاسد يفسد العقد في سائر العقود ـ وإن لم نقل بذلك ـ ولكن في خصوص عقد النكاح إن الشرط الفاسد لا يفسده.

الطبرسي في مجمع البيان عن أبي جعفر عليه‌السلام قال في معنى الهجر عنها : «يحول ظهره إليها».

وروى عن أبي جعفر عليه‌السلام أيضا في معنى الضرب : «إنّه الضرب بالسواك».

أقول : يختلف ذلك باختلاف الخصوصيات والأزمنة والأمكنة والعادات والشؤون ، بل الأشخاص أيضا.

في الكافي : عن محمد بن يعقوب بإسناده عن علي بن أبي حمزة ، قال : «سألت العبد الصالح عليه‌السلام في قول الله عزوجل : (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها)؟ قال : يشترط الحكمان إن شاءا فرّقا وإن شاءا جمعا ، ففرّقا أو جمعا جاز».

أقول : المراد من الجواز النفوذ ولا بد لهما في الفراق والصلاح من الاستيمار والتوكيل من الزوج أو الزوجة ، كما يدلّ عليه الروايات الآتية والقواعد الفقهيّة.

وفي الكافي بإسناده عن الحلبيّ عن الصادق عليه‌السلام قال : «سألته عن قول الله عزوجل : (فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها) قال : ليس للحكمين أن

١٧٩

يفرّقا حتّى يستأمرا من الرجل والمرأة ، ويشترطا عليهما إن شئنا جمعنا ، وإن شئنا فرّقنا فجائز ، وإن جمعنا فجائز».

أقول : تقدّم ما يتعلّق بأمثال هذه الرواية في قسم النشوز من كتاب النكاح من (مهذب الأحكام).

وفي الكافي أيضا بإسناده عن سماعة قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عزوجل : (فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها) ، أرأيت إن استأذن الحكمان فقالا للرجل والمرأة : أليس قد جعلتما أمركما إلينا في الإصلاح والتفريق؟ فقال الرجل والمرأه : نعم ، وأشهدا بذلك شهودا عليهما ، أيجوز تفريقهما؟ قال : نعم ، ولكن لا يكون إلا على طهر من المرأة من غير جماع من الزوج ، قيل له : أرأيت إن قال أحد الحكمين : قد فرّقت بينهما ، وقال الآخر : لم افرّق بينهما ، فقال : لا يكون تفريق حتّى يجتمعا جميعا على التفريق ، فإذا جمعا على التفريق جاز تفريقهما».

أقول : هذه الرواية تدلّ على أنّ رأيهما معا له أثر في التفريق ، كما يستفاد ذلك من الآية الشريفة أيضا ، فلا يكون لكلّ رأي أثر ، وأنّ الحكم من باب التوكيل والاستنابة في الرأي وفصل الخصومة ، فليس لها الاختيار إلا بعد الإذن.

وفيه أيضا بإسناده عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «إذا نشزت المرأة على الرجل فهي الخلعة ، فليأخذ منها ما قدر عليه ، وإذا نشز الرجل مع نشوز المرأة فهي الشقاق».

أقول : الرواية محمولة على أنّه لو أرادت المرأة الطلاق الخلعي.

وفيه ـ أيضا ـ عن الصادق عليه‌السلام في رواية فضالة : «فإن رضيا وقلّداهما الفرقة ففرّقا ، فهو جائز».

أقول : الرواية مثل ما مضت من الروايات ، تدلّ على أنّ الفرقة لا يكون إلا برضاهما.

١٨٠