مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٨

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٨

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٣
ISBN: 946-5665-07-8
الصفحات: ٣٩٧

ويمكن الاستدلال عليه بالدليل العقلي ، فإنّه ليس بأعظم من النّار شيئا ، فإذا كانت المعصية هي الموجبة لورودها ، فلا بد أن تكون كبيرة وعظيمة لعظم الغاية ، وتختصّ معرفة ذلك بما ورد في الكتاب والسنّة.

الثاني : الإصرار على الصغيرة ، إجماعا ونصوصا ، كما تقدمت جملة منها ، وقد ورد في تفسير قوله تعالى : (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) عن الإمام الباقر عليه‌السلام : «الإصرار أن يذنب الذنب فلا يستغفر ولا يحدّث نفسه بتوبة ، فذلك الإصرار ، وقد تقدّم في تفسير الآية الشريفة : (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٣٥] بعض الكلام فراجع.

الثالث : ثبوت الحدّ الشرعي في الدنيا على المعصية ، ذكره جمع من العلماء ، وهو صحيح في الجملة ، فإنّ ثبوت الحدّ يدلّ على كبر المنهي عنه في الشرع ، كالزنا والسرقة ونحوهما.

الرابع : استصغار الذنب ، فعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : «تصغروا ما ينفع يوم القيامة ، ولا تصغروا ما يضرّ يوم القيامة ، فكونوا في ما أخبركم الله كمن عاين» ، وهذا لا إشكال فيه ظاهرا واستصغار الذنب إما لأجل جعل التمكّن من ذلك نعمة منه عزوجل ، أو لأجل السرور بفعل المعصية الصغيرة ، وإما بالاغترار بستر الله تعالى وعدم المبالاة بفعل المعصية وغير ذلك ، ويجمعها غرور النفس والغفلة.

الخامس : أن يكون الفاعل ذا منزلة كبيرة اجتماعيّة ، بحيث يقتدي الناس بفعله ، فإنّ المعصية الصغيرة حينئذ تكون كبيرة إذا فعله بحضرة من الناس أو بحيث إذا اطلعوا عليه منه فعلوها اقتداء به.

السادس : أن يكون الأثر المترتّب عليه كبيرا جدا.

السابع : شدّة النهي عنها ، فإنّها تدلّ على كون المنهي عنه كبيرة.

ثم لا يخفى أنّ الكبائر في حدّ أنفسها تكون مختلفة ، فبعضها تكون أفظع

١٤١

وأعظم من الاخرى ، وفي بعض الأخبار كما مرّ : «أكبر الكبائر الشرك بالله العظيم».

موجبات محو الذنوب :

وهي كثيرة كما هي المستفادة من الكتاب والسنّة ، وقد ذكرنا جملة منها في بحث التوبة في سورة البقرة ، ونذكر المهمّ منها في المقام ، وهي :

الأوّل : التوبة على ما عرفت التفصيل فيها ، ويدلّ عليه الكتاب الكريم ، والسنّة الشريفة ، والإجماع المحقّق بين المسلمين ، فمن الكتاب آيات كثيرة ، قال تعالى : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) [سورة النساء ، الآية : ١٧] ، وقال تعالى : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى) [سورة طه ، الآية : ٨٢] ، وقال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) [سورة الشورى ، الآية : ٢٥] ، وقال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً) [سورة النساء ، الآية : ٤٨] ، وغير ذلك من الآيات المباركة ، وإطلاقها يشمل التوبة عن الذنوب الصغيرة والكبيرة.

ومن السنّة الشريفة ما تقدّم في بحث التوبة فراجع ، ويمكن إقامة الدليل العقليّ عليه على ما عرفت التفصيل.

الثاني : الطاعات ، فإنّها مكفّرة للسيئات ، بل تمحوا آثارها ، قال تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) [سورة هود ، الآية : ١١٤] ، وإطلاقه يشمل جميع السيئات ، الصغائر والكبائر ، وقال نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الصلوات الخمس مكفّرة لما بينها ، ما اجتنب الكبائر» ، وفي حديث آخر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الصلوات الخمس ، والجمعة الى الجمعة ، ورمضان الى رمضان ، مكفّرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر» ، ويقيّد إطلاق الآية الشريفة بمثل هذه الأخبار.

١٤٢

الثالث : اجتناب الكبائر كما تدلّ عليه الآية الشريفة المتقدّمة ، والمستفاد منها أنّ الاجتناب بنفسه مكفّر للسيئات كالتوبة والطاعة ، لا أنّ الاجتناب عن الكبائر يوجب التخلية بين الصغائر والطاعات الحسنة وهذه الأخيرة تكفّر السيئات ، فيدخل تحت قوله تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) ، بل للاجتناب دخل في التكفير ، وله خصوصية خاصّة.

بل يمكن إقامة الدليل العقليّ على المطلوب ، وهو : أنّ الأخذ بالصغائر بعد الاجتناب عن الكبائر ، مداقة منه عزوجل في الحساب ، ولا ينبغي ذلك بالنسبة إليه تعالى ، لأنّه الجواد المطلق والغفور الرحيم.

ثمّ إنّ إطلاق الآية الشريفة يشمل جميع الكبائر ، وهي تكفّر عن السيئات جميعا ، ما تقدّم منها وما تأخّر ، إلا أن تكون من حقوق الناس ، فإنّها لا تكفّر إلا بأدائها إلى أصحابها ، وقد ذكرنا شروط التكفير فيما تقدّم.

والمستفاد من هذه الآية الشريفة ترتيب الثواب على اجتناب الكبائر والابتعاد عنها ؛ لقوله تعالى : (وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) ، مضافا إلى ما ورد في بعض الأخبار الوعد بالثواب.

بحث فقهي

تختصّ السيئات المكفّرة باجتناب الكبائر بحقوق الله تعالى ، وأمّا حقوق الناس فلا تشملها الآية الشريفة ، وتدلّ على ذلك الأخبار الكثيرة ، مثل قوله عليه‌السلام : «من ترك من أخيه حقّا يطلبه به يوم القيامة» ، مع أنّ جملة منها داخلة في الكبائر التي يكون اجتنابها شرطا للتكفير ، ويشهد لما ذكرناه ما دلّ على أنّ «أوّل قطرة من دم الشهيد في سبيل الله تعالى توجب غفران ذنوبه إلا ما كان من حقّ الناس».

١٤٣

بحث عرفاني

الآية الشريفة من الآيات الداعية إلى الاستكمال ، وهي تتضمّن دعوة من الكمال المطلق الحقيقي لتوجيه النفس إلى التربية والتهذيب والإصلاح بترك كلّ ما يوجب البعد عن معدن الرحمة والعظمة والجلال والكبرياء ، وتوجب القسوة وكدورة النفس ، وقد فتح الله تعالى على عباده بابا سماّه التوبة ودعاهم إلى السلوك فيه والدخول منه ، وهو حرم الله الأكبر الذي من دخله كان من الآمنين ، وجعل الطريق إليه اجتناب الكبائر والتكفير بالنسبة إلى علم الله تعالى الأزلي المحيط بحقائق الممكنات ـ كلّياتها وجزئياتها ـ فالبحث عن السبق واللحوق لا وجه له حينئذ.

وأما إذا لوحظ ذلك بالنسبة إلى المتدرجات الزمانيّة ، فهل يقتصر بالنسبة إلى الماضي أو المستقبل أيضا؟ مقتضى كمال رأفته وعنايته الأزلية بعباده هو الأخير ، ويمكن أن يستشهد له بما ورد في بعض الروايات من تأخير غفران الذنوب من عرفة إلى عرفة اخرى ، أو من شهر رمضان إلى شهر رمضان قابل.

١٤٤

(وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٣٢) وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٣٣) الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (٣٤) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (٣٥))

الآيات الشريفة تتضمّن أحكاما اجتماعيّة تتعلّق بأحكام المواريث والزواج ، تصلح أمر الاجتماع العامّ والعائلة ، وترشد الناس إلى الحياة السعيدة ، وتبيّن أنّ المناط في السعادة كسب الفضل والفضيلة والسؤال من الله تعالى التوفيق ، لا التمنّي فقط ، فإنّه لا يكون كافيا إذا لم يكن داعيا إلى العمل ، ثم يبيّن عزوجل بعض أحكام إرث الأرحام.

وذكر سبحانه وتعالى العلّة في تفضيل الرجال على النساء في بعض الأمور ، كما اهتمّ جلّ شأنه في إظهار فضل النساء أيضا.

وأخيرا ذكر حكما تربويا لإصلاح الخلل الذي يقع في الحياة الزوجيّة ، فالآيات الشريفة تشتمل على أحكام اجتماعيّة مهمّة ، وغير خفي ارتباطها بما سبق من الآيات المباركة التي اشتملت على جملة من الأحكام والمناهي.

١٤٥

التفسير

قوله تعالى : (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ)

التمنّي : هو تعلّق النفس بأمر متعذّر أو كالمتعذّر ، أو تشهي حصول الأمر المرغوب فيه ، والأغلب تحقّقه في قول الإنسان : ليت كذا كان كذا ، أي : حديث النفس بما يكون وما لا يكون ، قال تعالى : (يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ) [سورة القصص ، الآية : ٧٩] ، وقال تعالى : (وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) [سورة النبأ ، الآية : ٤٠].

وقال بعضهم : إنّ التمنّي نوع من الإرادة تتعلّق بالمستقبل ضد التلهّف الذي نوع منها تتعلّق بالماضي.

وهو مردود ؛ لأنّ التمنّي أعمّ من ذلك.

وكيف كان ، فالمعروف أنّه من الإنشائيات.

والتمنّي مذموم شرعا ؛ لأنّ فيه تعلّق البال وانشغاله عن إصلاح الإنسان نفسه ، وأنّه يوجب نسيان الأجل ، وهو مبدأ الحسد الذي هو من أهمّ الصفات الذميمة ، قال كعب :

فلا يغرّنك ما منّت وما وعدت

إن الأماني والأحلام تضليل

بخلاف الغبطة ، التي هي عبارة عن إرادة ما لصاحبه مع عدم التمنّي ؛ لزواله عنه ، وهي داعية إلى العمل والاستكمال ، بخلاف التمنّي ، وتقدّم في قوله تعالى : (قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [سورة البقرة ، الآية : ٩٤] ، بعض الكلام في أقسام التمنّي ، فراجع.

والآية الشريفة تبيّن قاعدة تكوينيّة لها ارتباط بالدنيا ـ قال تعالى : (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ

١٤٦

خَبِيرٌ بَصِيرٌ) [سورة الشورى ، الآية : ٢٧] ـ والآخرة لها دخل في نظام الأسباب والمسبّبات وظهور الاستعدادات وبروزها ، ولا يمكن التخلّف عنه.

والنهي عن التمنّي إنّما لأجل عدم إمكان تحقّق المسبّب بدون سببه ، فيكون النهي إرشاديا تكوينيّا لا نهيا مولويّا ، وهو يرشد الناس إلى حفظ القانون العامّ والنظام الشرعي والتكويني.

والآية المباركة تدلّ على بطلان مذهب البخت والاتّفاق ، لعدم إمكان تحقّق المسبّب بدون السبب ، فلا بد من العمل والسعي لنيل الفضل ، كما تدلّ عليه الأدلّة الكثيرة ، منها قوله تعالى : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) [سورة النجم ، الآية : ٣٩].

ومنها : قول علي عليه‌السلام : «ولا تكن ممّن ترجو الآخرة بلا عمل ، وترجو الحصاد بلا زرع» ، وقال عليه‌السلام أيضا : «الأماني بضائع النوكى» وغير ذلك ، فالفضل والأجر ليستا وقفا على طائفة معيّنة ونوع معيّن ، والأجر إنّما يكون على العمل والوفاء بالتكاليف ، فتكون الآية الشريفة نظير قوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [سورة الزلزلة ، الآية : ٧ ـ ٨] ، وقوله تعالى : (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) [سورة التوبة ، الآية : ١٠٥].

ولكن الآية الشريفة تدلّ على أنّ لكلّ جنس مهمّة معيّنة خلقه الله تعالى لها ليؤدّيها في الأرض ، وهيّأه لها ووهب له ما يمكن أن يقوم بالمهمة ، فكلّفه عزوجل بتكاليف توافقها ، وقد ذكرنا في أحد مباحثنا السابقة أن الرجل خلقه الله تعالى لأجل وظائف معيّنة في المجتمع ، كالجهاد والسعي للكسب والعيش ، كما خلق النساء لأداء وظائف اخرى ، كالحمل ورعاية البيت وتربية النشئ تربية صالحة شرعيّة ، وقد أعطى عزوجل لكلّ واحد منهما أجرا معيّنا لا يمكن نيله إلا بالعمل وأداء الوظيفة والوفاء بالتكاليف الإلهيّة ، فلا بد من المحافظة على ذلك

١٤٧

التنويع في الاختصاصات وعدم الإخلال بتلك المهمّات الأصليّة ، وخلاف ذلك إفساد للفطرة وابطال للنظام ، وبدون ذلك لا يستقيم المجتمع البشري ويضطرب أشدّ الاضطراب ، كما نراه في الجاهليّة المعاصرة عند ما خرج الناس عن الفطرة وطلبوا المساواة بين الجنسين ، ولهذا نرى أنّ النهي عن التمنّي إنّما هو لأجل إبطال الفوضى الذي يكون عند تحقّق ذلك التمنّي في الخارج ، فيكون النهي لقطع منابت الشرّ والفساد ، وما يوجب هلاك الحرث والنسل ، كلّ ذلك يظهر من قوله تعالى : (ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ) وهو على إيجازه البليغ وأسلوبه البديع تبيّن جهة الفضل والمزيّة التي اختصّ بها كلّ طائفة من الرجال والنساء ، ويدلّ على أنّ تلك الخصوصية فضل وزيادة في كلّ واحد من الجنسين على الآخر ، ولا معنى لتمنّي ذلك الفضل الذي يوافق خلقته.

ثمّ إنّ التمنّي تنقسم إلى أقسام أربعة ذكرناها في قوله تعالى : (قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) [سورة البقرة ، الآية : ٩٤ ـ ٩٥] ، وأنّ أصولها تكون في الغاية التي تكون فيها التنافس ، سواء أكان في امور الدنيا أم الآخرة ، وتقدّم أنّ نفس التمنّي مذموم ؛ لأنّه مخالف للحكمة المقدّرة والمصالح التي لم يطلع على سرّها إلا ربّ العالمين ، إلا إذا كان التمنّي متعلّقا بعالم الآخرة ونعيمها مع تهيئة الأسباب وتقديم الأعمال له ، فهو غاية دعوة الأنبياء ومن أهمّ مقاصد الكتب السماويّة ، فهو ممدوح عقلا وشرعا.

وأما الفضل الذي ميّز الله تعالى به كلّ فريق عن الآخر ، إما أن لا يتعلّق به الكسب والعمل ولا يمدح الفاضل فيه بالجدّ والتشمير ، كما لا يذمّ المفضول بالتقصير ، وفي مثل ذلك يذمّ التمنّي فيه كما عرفت آنفا.

وإما أن يكون ممّا ينال بالسعي والجهد والتشمير ، وفي مثل ذلك يمكن أن يتحقّق التمنّي فيه.

١٤٨

وهو تارة يكون من مجرّد أمنية شاغلة لباله موهنة لقواه ، ولا إشكال في حرمة هذا التمنّي ؛ لمنافاته للتوحيد والتوكّل على الله تعالى ، واشتماله على ذمائم الأخلاق ، كالحسد والبغضاء ونحوهما.

واخرى : يكون اغتباطا بالفضل الذي منحه الله تعالى لصاحبه ، والسؤال منه عزوجل ، وهذا ممدوح وموجب للإقدام على العمل أيضا.

وثالثة : يكون من مجرّد التصوّر الخيالي ، كأن يتوهّم بأنّه لو كان في مقام صاحب الفضل الكذائي مثلا كان له كذا وكذا ، لتسكين هيجان الهمّ والغمّ ، ولا إشكال فيه أيضا أن لم يستلزم البطالة والكسل ، وإلى ذلك يشير قول الشاعر :

أماني إن تحصل تكن غاية المنى

وإلا فقد عشنا بها زمنا رغدا

قوله تعالى : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ).

النصيب ، الحظ ممّا أعطاه الله تعالى من الخير والنعمة والفضل. ومن في (مِمَّا) بيانيّة للنصيب.

ومادة (كسب) تدلّ على العمل أو السعي الذي يجلب به النفع أو يدفع به الضرر ، وقد وردت هذه المادّة في القرآن الكريم في ما يقرب من سبعين موردا ، ويستعمل في الخير والشرّ ، قال تعالى : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٨٦] ، وقال تعالى : (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٢٥] ، وقال تعالى : (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) [سورة الروم ، الآية : ٤١] ، وفي الحديث عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أطيب ما يأكل الرجل من كسبه وولده من كسبه» ، وجعل الولد من كسبه لأنّ الأب سعى وطلب في تحصيله ، وأراد بالطيب هنا الحلال.

والاكتساب هو الكسب مع المبالغة والتكلّف ، وقيل : إنّ الاكتساب هو ما يستفيده الإنسان لنفسه ، والكسب أعمّ من أن يكون لنفسه أو لغيره.

١٤٩

فكلّ اكتساب كسب ، ولا عكس. وأكثر استعمال الاكتساب في القرآن الكريم في الإثم وما يكون ضررا على الإنسان ، قال تعالى : (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ) [سورة النور ، الآية : ١١] ، وقال تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) [سورة الأحزاب ، الآية : ٥٨]. ولعلّ وجه تخصيص الاكتساب في الشّر والكسب في الخير ؛ لأنّ الاكتساب فيه أعمال ومشقّة حاصلة من تحمّل الجزاء العظيم الشديد ، أو لأنّ النفس تعمل بجميع قواها في تحصيل الشرّ.

وكيف كان ، فقد استعمل الاكتساب في الخير أيضا ، كما في الآية الشريفة ، إذ التمنّي فيها لا يكون إلا في الخير والفضل.

وذكر بعض المفسّرين تبعا لبعض أهل اللغة أنّ الكسب والاكتساب يختصّان بما يحصل للإنسان بعمل اختياري ، كالطلب ونحوه ، وهو صحيح بحسب الغالب ، وإلا فقد يطلق الكسب على ما ليس كذلك ، كما يقال في كسب الأخلاق بالمعاشرة والصفات ، وذكر الفقهاء أنّ الكسب ما يحصل للإنسان بالملك والجدّة والاختصاص ولو بالإرث الذي هو غير اختياري ، فلا يختصّان بالعمل الاختياري فقط ، بل يشمل ما إذا لم يكن كذلك ، كما إذا كان صاحب الفضل ذا مزية تكوينيّة كالجمال ، وحسن الصوت والذكوريّة والانوثيّة التي تخصّص لأصحابها سهما معينا ونصيبا مفروضا.

فالآية الشريفة بمنزلة التعليل للنهي عن التمنّي في صدرها ، أي : لا تتمنّوا ذلك ، فإنّ الفضل قد اكتسبه صاحبه إما تكوينا أو اختيارا ، فالنصيب الذي أعطاهم الله تعالى هو ممّا اكتسبوه ، وقد خصّه الله تعالى لكلّ واحد من الجنسين وفضّل به بعضهم على بعض ؛ لأنّه ممّا أحرزه خلقا وتكوينا أو بتجارة وعمل ، وإنّما ينال ذلك بالاكتساب فقط لا بالتمنّي الذي يدعو إلى الشرّ واختلال النظام ، كما عرفت.

١٥٠

قوله تعالى : (وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ).

تعليم إلهي وتربية ربانيّة لأفراد الإنسان بالاعتناء والاهتمام بما ينفعهم ، وإرشاد إلى ما هو الإصلاح لهم في ترك ما يكون سببا في شقائهم وضررهم ، فإنّه لما نهاهم عزوجل عن تمنّي ما لا يمكن تحقّقه ، بل يأبى الله سبحانه وتعالى أن يحقّقه ، لاستلزامه الفوضى واختلال النظام ، أرشدهم الى ما ينبغي توجيه داعية الفطرة إلى ما هو الصحيح ، فأمرهم بصرف التمنّي الذي هو فطري للإنسان إلى وجهه الكريم ، ووجّههم إلى السؤال عن فضله العظيم ، فإنّ الفضل بيد الله تعالى ، ويقضي حوائجهم حين يسألونه من الوجه الصحيح ، ويفيض عليهم بحسب ما يشاء.

ومورد الفضل إما أن يكون مورد رحمته الواسعة التي وسعت كلّ شيء ، وبهذا المعنى جميع ما سواه فضل منه جلّ جلاله ، ولا استحقاق في البين ، فإنّ الممكن محتاج بذاته إلى فضله العظيم ، وإما أن يكون بالإنعام زائدا على أصل الخلقة ، وهو يختلف بحسب العوالم ، فإنّ منها ما يكفي في إحداثه صرف الأمر فقط ، كعالم المجرّدات بمراتبها وأنواعها ، ويعبّر عنه بعالم أشعة الجمال والجلال ، ولا وجه للتعبير بالفضل بالنسبة إلى هذا العالم. وإما أن يكون من عوالم المادّة التي لا بد من تخللها في جميع نشئاتها ، ويصحّ التعبير عنها بالفضل حينئذ.

والدنيا بأهلها المسجونين فيها دار فضل الله تعالى ، فاسالوه من فضله ، فإنّه يستجيب دعائكم حسب الاستعدادات والمقتضيات.

وقد أبهم عزوجل الفضل في الآية الشريفة لتعليم الإنسان أن يسأل ربّه من فضله الكريم بحسب الواقع ، لا بحسب ما يتخيّله ، فإنّه جاهل بحقائق الأمور ، فقد يسأل ما يضرّه في الواقع وما يكون سببا في هلاكه ، وهو لا يعلم بذلك ، أو يسأل ما يكون خلاف الحكمة الإلهيّة ـ كما في تمنّيهم ـ وهو يلحّ في الدعاء والمسألة.

١٥١

كما يرشدهم إلى أن لا يسأل أحد ما في أيدي الناس ولا يكون همّه مجرّد الحيازة على ما تشتهيه النفس ، بل لا بد من إيكال الأمر إليه عزوجل ليرفع حاجته بما يعلمه خيرا عنده ، فيرجع الأمر إليه وإلى فضله العظيم ، بحسب حكمته المتعالية ، وايكاله الى علمه بحقائق الأمور.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً).

تعليل للنهي عن التمنّي بما لا يستقيم الحياة به ، وبيان لصدر الآية الكريمة أيضا ، فالله تعالى يعلم حقائق الأمور ، وهو يعلم أيضا حال الاجتماع واستقامته ـ عند ما يقوم كلّ جنس بوظيفته التكوينيّة ـ واضطرابه حين ما يختلّ ويأخذ كلّ جنس بوظيفة الجنس الآخر ، فلا تتمنّوا ما خصّ الله تعالى به كلّ فرد ، فإنّ الله تعالى يعلم مصلحة الكلّ ، ويعلم حال المجتمع وحقيقة الأمر ، ولا يخطأ في حكمه ، فاطلبوا ما يوجب سعادتكم.

قوله تعالى : (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ).

بيان لفرد من أفراد الحكمة الإلهيّة التي لها اتصال وثيق بالمجتمع الإنساني ، وهو رعاية الأطراف في الميراث ، إذ من المعلوم أنّ لكلّ فرد من أفراد الإنسان من الأقارب والأرحام وما يحيطون به كإحاطة الأكليل بالرأس ، كالآباء والأجداد ، والأولاد والإخوة والأخوات والأعمام والأخوال ، وأولادهم.

والآية الشريفة ترشد الناس إلى إعطاء كلّ ذي نصيب نصيبه ، فقد جعل الله تعالى لكلّ موالي الإنسان حقّا ونصيا ممّا تركه القريب ، فهذه الآية المباركة إجمال بعد تفصيل أحكام الميراث ، ووصية لتنفيذ تلك الشرائع التي شرّعها في الآيات السابقة حسب ما شرّعه وأبداه.

والموالي جمع مولى على وزن (مفعل) ، وهو إما أن يكون صفة فيكون مصدرا ميميا ، أو اسم مكان أريد به الشخص المتلبّس بالصفة ، لتمكّنها وقرارها في موصوفها ، ومثل ذلك شائع ، ويراد به الولي من ولي بالشيء يليه ولاية. وهو

١٥٢

الاتصال بالشيء من غير فاصل ، وبهذه العناية تستعمل في مصاديق متعدّدة ـ فلا يكون ـ من المشترك كما ادعاه جمع ـ كالسيد والمعتق ، والمعتق لقرب أحدهما من الآخر واتصاله به وولايته عليه ، والناصر لولايته على المنصور واتصاله به ، وابن العمّ لقربه واتصاله ببنت العمّ وغير ذلك ، وقد وردت هذه المادّة في القرآن الكريم في أكثر من مائة وخمسين موضعا.

والمراد به في المقام : الأولى بالميراث ، وهم الذين وردت أسماؤهم في ما بعد ؛ لأنّهم اولوا الأرحام الذين بعضهم أولى ببعض.

والتنوين في (الكلّ) عوض عن المضاف إليه ، والمعروف أنّ (كلّ) هي بمعنى الإحاطة والعموم ، ولا تأتي مفردة ، فإذا كانت كذلك فلا بد من التقدير ، وهو في المقام الصنفان المذكوران في صدر الآية المباركة ، وهما صنف الرجال وصنف النساء.

والمعنى : ولكلّ صنفي الرجال والنساء أولياء يرثونهم بمقتضى قانون الأقربيّة ، وأنّ أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض ، أو الولاء إن لم يكن هناك رحم ، فهم يرثونه ممّا تركه من الأموال.

و (من) في (مِمَّا تَرَكَ) للابتداء ـ أي من أجل ما ترك ـ متعلّق بالموالي ؛ لأنّه الوارث ، أو متعلّق بمحذوف ، أي : يرثون ممّا ترك ، وهم الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم.

فالآية الشريفة إجمال بعد تفصيل ذكره عزوجل في الآيات الكريمة السابقة ، وهم الآباء والأولاد والإخوة والأخوات والأزواج وغيرهم ، فيكون المراد بالموالي جميع من ذكره عزوجل في آيات الإرث السابقة.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ).

المشهور : «عقدت» مخففة القاف بغير الف ، وقرئ : (عاقدت) بالألف ، وقرأ بعضهم : (عقدت) بتشديد القاف على التكثير. والمفعول في جميع القراءات

١٥٣

محذوف ، وتقديره : عهودهم أو مولويتهم ونحو ذلك ، والعقد مقابل الحل ، والأيمان جمع اليمين ، وهي مقابل اليسار ، وتطلق على الحلف والقسم ؛ لأنّها هي التي تعطى عادة عند العهد ، فأطلق المحلّ على الحال.

والفاء في : (فَآتُوهُمْ) للتفريع أو لتضمّن المبتدأ معنى الشرط ، والنصيب هو الإرث من التركة.

وقد اختلفت المفسّرون والعلماء في المراد بهم ، فقيل : إنّهم الحلفاء ، فقد كان الرجل يعاقد الرجل في الجاهلية ، ليس بينهما نسب ، فيقول : «دمك دمي ، وهدمي هدمك ، وسلمك سلمي ، وترثني وأرثك ، وتطلب بي واطلب بك» ، فيكون للحليف السدس من مال الحليف ، فيكون معنى الآية الشريفة : والحلفاء آتوهم سدسهم ، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) [سورة الأحزاب ، الآية : ٦] ، فتكون الجملة حينئذ مقطوعة عمّا قبلها.

وقيل : إنّ المراد بهم الذين آخى بينهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في المدينة ، فكانوا يتوارثون بينهم من دون رحميّة ، ثمّ نسختها آية المواريث ، ثم أمرهم بإيتاء نصيبهم من النصرة والنصيحة والرفادة والوصية.

وقيل : إنّ المراد بهم الأدعياء الذين كانوا يتبنّونهم في الجاهلية ، فأمروا بإيتاء نصيبهم في الإسلام من الوصية.

وقيل غير ذلك.

وقد استدلّوا بجملة من الروايات التي دلّت عليها ، ولكنّها متعارضة فيما بينها.

فالصحيح أن يقال : إنّ الحكم في الجملة مطلق يشمل إرث الزوجين وضمان الجريرة ، والإمام عليه‌السلام الذي يبتني إرثهم على المعاقدة والمعاهدة ، وإن كان توريث كلّ واحد منهم يحتاج إلى شروط ومخصّصات ، لكنّها يعلم من موضع آخر في الكتاب أو السنّة أو إجماع الأصحاب.

١٥٤

وعلى ذلك لا تكون الآية الكريمة منسوخة ، إلا أنّ الأمر الذي يستفاد من هذه الجملة أنّ ميراث الذين عقدت أيمانهم وولاؤهم متأخّر رتبة عن ولاء اولي الأرحام والأقربين.

وأما إرث الإمام عليه‌السلام ، فهو متأخّر عن الجميع بمقتضى الآية الكريمة والروايات الواردة في السنّة.

ويدلّ على ما ذكرنا من شمول الآية الشريفة للزوج والزوجة وضمان الجريرة ، وولاء الإمام ، فإن الثلاثة مسبّبة عن المعاقدة والمعاهدة التي تقع بين الأطراف ، وقد أمر الله تعالى بالوفاء بها ، قال عزوجل : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) [سورة المائدة ، الآية : ١] ، لا سيما بعد تفسيره بالعهود وأطلق عقدة النكاح على الزواج الذي هو مسبّب عن عقد النكاح ، قال تعالى : (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٣٥] ، وما ورد في تفسير الآية الشريفة عن الرضا عليه‌السلام : «إنّما عنى بذلك الأئمة عليهم‌السلام بهم عقد الله عزوجل أيمانكم». فإنّ يمين الولاء بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة عليهم‌السلام قد أخذها الله تعالى على عباده ، وأمر عزوجل بالوفاء بعهدها الذي من مصاديقه إعطاء الإرث لمستحقّه ، وسيأتي نقل بعض الروايات في ذلك إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً).

الشهيد : الرقيب الذي يعلم خفايا الأمور ، والمطّلع على جميع الخصوصيات ، أي : أنّ الله تعالى عالم بجميع الأشياء ، حاضر لا يغيب عنه شيء ، فهو مطّلع على الإيتاء والخيانة ، فاحذروا منه عزوجل ، فلا تخونوهم نصيبهم الذي كتبه الله عزوجل لهم.

والآية المباركة تأكيد لحكمه السابق ، وفيها وعد ووعيد.

قوله تعالى : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ)

بيان لأهمّ حكم نظامي ، وقد صار مثلا قرآنيّا يتضمّن حكما تربويّا

١٥٥

إرشاديا إلى النظام الأحسن ـ ومنه نظام العائلة والاسرة ـ الذي نظّم في الإسلام تنظيما دقيقا ، وهذّبت علاقاتها حتّى تؤدّي وظيفتها بأكمل وجه في المجتمع الإنساني ، وقد ذكر عزوجل في هذه الآية الشريفة قوامة الاسرة والعائلة ، التي هي عمودها المقوّم لها ، وبدونها تنهدم وينفرط عقدها وتسيء أحوالها وتتخلّى عن وظيفتها التي قرّرت لها ، وذكر عزوجل أنّ هذه القوامة تتضمّن من الأحكام والتبعات التي لا بد من أن يكلف بها الأصلح من أفراد المجتمع ، وليست هي قضية منافسة بين الرجل والمرأة وجدال وصراع بينهما ، كما تراه الجاهلية المعاصرة ، فإنّ الإسلام إنّما بنى العلاقات الاجتماعيّة على المودّة والرحمة لا على الشقاق والجدال.

والآية الشريفة الكريمة تبيّن أنّ الأصلح لهذه المهمّة هو الرجل ، لمّا فضّله الله تعالى بأمور تجعله صالحا لهذه المهمّة ، وهي على ما يستفاد من الآيات الشريفة المتقدّمة ومن هذه الآية المباركة ، القوّة وشدّة البأس ، وزيادة التعقّل ، بخلاف المرأة التي لم يهمل الإسلام شأنها في المجتمع ، فإنّ حياتها تبتني على حياة إحساسيّة عاطفيّة ، وهذه الجهة تستدعي حياة الدعة والرفق ، ولا يمكنها النهوض لتحصيل الرزق الذي يستدعي القوة ورباطة الجأش ، وهذا هو مقتضى قانون الفطرة ، والإسلام لم يخرج عنه ، فإنّه دين الفطرة ، قال تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [سورة الروم ، الآية : ٣٠].

والقوامة ـ هذه التي جعلها الله تعالى للرجل أو يتطلبها ناموس الفطرة ـ لم تختصّ بجهة معينة ، فإنّها مطلقة بما فضّل الله تعالى الرجل على المرأة ، فالرجال قوامون على النساء في الحياة المعيشيّة ، كطلب الرزق وحفظ شؤون المجتمع ، كالقضاء والحرب ونحو ذلك ، وليس معنى ذلك أنّ المرأة تحرم من الملك والشؤون الاجتماعيّة لكي تخضع للرجل ، كما كانت عليه في غابر العصور ، فليس الإسلام

١٥٦

دين سلب ـ للحقوق ـ وابتزاز ، وهو لم يحرم أحدا ممّا خلقه الله تعالى ، لأجله بل الإسلام لم يكلّفها بأمور هي من شأن الرجل بمقتضى خلقته. ولذا نرى أنّ المرأة حينما تحرّرت ـ على ما تدّعيه الجاهلية المعاصرة ـ وصارت تنفق وتشارك الرجل في جميع ما خصّه الله تعالى به ورفضت قوامة الرجل عليها ، حلّ بالمجتمع أنحاء الشقاء وجلب التعب للإنسان وحرمه من السعادة المرجوة.

ولقد حفظ الإسلام حقوق المرأة بما تتطلبها خلقتها الأصليّة ، فذكرها عزوجل بأبلغ وجه وأحسن مدح ، قال تعالى : (فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللهُ) ، الذي يتضمّن الجانب الآخر من الحياة الاسريّة ، وهو حفظ العهود والقيام بشؤون الاسرة وتربية الأولاد بأمانة وصلاح.

ثم إنّ (قوامون) جمع قوّام فعّال مبالغة من القيام على الشيء ، أي : تدبيره والنظر فيه وإصلاح شؤونه وحفظه بالاجتهاد ، ومنه القيّم على الأيتام ، والمراد من المبالغة في المقام ، دوام قيام الرجال على النساء في إصلاح شؤونهن وتثقيفهن وتأديبهن ، وذكرنا أنّ هذه القواميّة من شؤون الفطرة ، وقرّرتها الشريعة ، فيثبت لهم ذلك بالاستحقاق بما اقتضته الحكمة الإلهيّة في الخلق وحسن النظام. وإطلاق الآية المباركة يشمل جميع أنحاء القيام الشرعي ، كما عرفت آنفا.

قوله تعالى : (بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ).

الباء للسببيّة متعلّقة ب : (قوامون) ، وعموم العلّة يقتضي عدم اختصاص الحكم بالأزواج وإن كانت الاسرة والزوجية من أظهر أفراد ظهور الحكم فيها ، ويدلّ عليه أخذ كلمتي (الرجال والنساء) في الحكم دون الأزواج ، فهو مجعول لجنس الرجال الذين فضّلهم الله تعالى في خلقتهم على النساء اللواتي خلقهن الله عزوجل لأمور اخرى ، وكلّ ذلك حسب ما اقتضته الحكمة الإلهيّة من خلق الصنفين من الإنسان بما زوّده من الفضل ؛ ليستقيم أمر الاجتماع وتستحكم الروابط ويشتدّ الارتباط وتنتظم الاسرة ويحسن النسل ، وقد كان فضل ذي فضل نعمة على المفضول.

١٥٧

قوله تعالى : (وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ).

بيان لأحد مصاديق الحكم السابق ، وقد كلّف الله تعالى الرجال بالإنفاق على النساء ، لما خلقهم الله تعالى من القدرة فيهم على طلب الرزق ، وأعفى المرأة عن البحث عن الرزق ، ولم يضع عليها شيئا من التكاليف الماليّة على الرجال ؛ لأنّ الله تعالى خلقهنّ لأمر يخصّهن ، وهو تربية الأولاد والقيام بشؤون الاسرة ، ولم يسلب الإسلام الملكية عنهن كما يدّعيه بعض المعاندين ، فلم يحرمهن من التملّك ولا التصرّف في ما تملك ، بل لم يكلّفهن بالإنفاق من أموالهن إلا في موارد خاصّة.

وإنّما خصّ الإنفاق بالذكر ؛ لأنّه من أهمّ مصاديق القواميّة ، وتمهيدا لذكر أحكام الاسرة والزوجيّة.

قوله تعالى : (فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللهُ).

بيان لحالة الاسرة الصالحة والعائلة السعيدة ضمن المجتمع الإنساني الكبير ، تطبيقا لذلك الحكم الكلّي المبتني على الفطرة المستقيمة.

وقد صوّر عزوجل لنا الحياة داخل الاسرة التي تكون المرأة تحت رئاسة الرجل وقيمومته ، فذكر أمورا ثلاثة لسعادة هذه الحياة ، وهي : الصلاح والقنوت وحفظ الغيب.

ويراد من الأوّل الاستقامة ولياقة النفس ورضاها بما تمليه الفطرة السويّة.

والقنوت : هو دوام الطاعة والخضوع لله تعالى وامتثال أحكامه المقدّسة ، وفي الحديث «تفكّر ساعة خير من قنوت ليلة».

والغيب ـ والغياب والغيبة مصدر غاب ـ خلاف الشهود ، ولما كان للغيب حرمه ، فلا بد من حفظه ، وما في (بِما حَفِظَ اللهُ) مصدريّة والباء للآلة ، أي : بحفظ الله لهنّ ، أو تكون الباء للمقابلة ، اي : يحفظن الحقوق مقابل حفظ الله تعالى لحقوقهن وحرمتهن. ويصحّ أن يكون (ما) موصولة ، والعائد في (حفظ) ضمير

١٥٨

نصب محذوف. والحفظ هذا يشمل حفظ العرض والمال وأسرار الزوجيّة ، وحفظ العهود التي عاهدت الزوجة مع الزوج بأن لا تخونه في غيبته.

والآية المباركة تبرز الصفات الحسنة التي ينبغي للنساء أن يتّخذنها لأنفسهن وتتحلّى بها الزوجة الصالحة ، فإنّ عليها تقوم الاسرة المؤمنة التي أراد الإسلام لها السعادة في الدارين ، فبالصلاح تطمئن النفس وتقبل ما فرض الله تعالى عليها وتستريح إلى وضع الفطرة ، وترفض العصيان والفجور.

والقنوت هو الباب الذي تدخل فيه السكينة والرحمة ، والنفس القانتة هي المستقيمة المسألة التي تحبّ الهدوء والدعة ، وتكره المشاكل والمتاعب ، وإنّ المرأة القانتة تعمل وتجدّ وهي مطيعة لله تعالى خاضعة له عزوجل.

والحفظ للغيب هو الجزء المكمّل للإيمان ، وبه يدخل السلام والاطمئنان في البيت ، وبه يتمّ الهدوء في الحياة الزوجيّة ، وهذه الأوصاف تصوّر لنا الاسرة السعيدة الهنيئة ، التي هي بنية المجتمع كلّه ، الذي يتكوّن من أسر مترابطة متكافلة.

والمستفاد من الآية الكريمة أنّ صلاح المرأة إنّما يكون في القنوت وحفظ الغيب ، فيكون القيدان تفسيرا للصلاح في المقام ، ولا صلاح لها في غيرهما ، فالآية الشريفة ردّ لمزاعم من يقول بأنّ الصلاح في المرأة غير ذلك ، كما عليه الجاهلية المعاصرة.

قوله تعالى : (وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَ).

بيان لصورة اخرى من الحياة الزوجيّة ، التي قد تخلّف فيها بعض تلك القيود الموجبة لصلاحها ، فتكون للزوجة حالتان ، حالة الصلاح التي بيّنها عزوجل في صدر الآية المباركة ، وحالة النشوز التي تخرج المرأة عن الصلاح ، فتصير غير مستقيمة في أخلاقها ومعاشرتها مع زوجها ، فلها وضع آخر غير ما كانت عليه عند الطاعة والقنوت ، فالآية الكريمة تبيّن حكمين مختلفين لحالتي المرأة ، ولا ثالث لهما.

١٥٩

ومادة نشز تدلّ على الارتفاع ، ومنه قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا) [سورة المجادلة ، الآية ١١] ، أي : ارتفعوا وانهضوا إلى الجهاد والحرب ، أو أمر من أمور الدين ، وقد وردت هذه المادّة في القرآن الكريم في أربعة موارد ، وفي وصف خاتم النبوّة : «بضعة ناشزة» ، أي : قطعة لحم مرتفعة عن الجسم ، وفي حديث نشر الحرمة بالرضاع : «لا رضاع إلا ما نشز العظم» ، أي : رفعه وأعلاه.

والمراد به في المقام ارتفاع الزوجة بخروجها عن طاعة زوجها طغيانا ، وعصيانها عليه وتباعدها عنه تمرّدا. ولا إشكال في أنّ ذلك لا يتحقّق دفعة واحدة ، بل بالتدرج ابتداء من القول والفعل والأخلاق حتّى تصل إلى مرتبة شديدة منذرة بالنشوز الوخيم والطغيان في الخروج عن الاستقامة والموافقة ، فيكون ابتداء ذلك هو مقام الخوف الذي هو ظهور علامات النشوز ، وقد شرّع الله تعالى في الاستصلاح أحكاما خاصّة تتناسب مع تلك الدرجات ، فابتدأ بالموعظة ، وهي اولى درجات الإصلاح ، وهي واضحة لا تحتاج إلى بيان ، فتشمل كلّ ما يرجى تأثيره فيها ، ولذا أطلق عزوجل كلّ ما له قابلية التأثير من أنحاء المواعظ ، كالترغيب في الثواب والترهيب عمّا يترتّب على المخالفة ، وبيان وبال النشوز وسوء عاقبة المخالفة ، ولا يختصّ الوعظ بلفظ معين ، وما ورد في بعض الروايات إنّما هو من باب ذكر أحد المصاديق.

قوله تعالى : (وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ)

ضرب آخر من ضروب التأديب ، بعد تحقّق مرتبة اخرى ، من مراتب النشوز غير المرتبة الاولى التي لم تؤثّر فيها الموعظة ، فلا بد من إجراء فعل آخر أبلغ في التأثير من الأول ، وهو الهجران في المضاجع مع حفظ المضاجعة بما يؤثّر في دلالها وتعلم بأنّ الأمر جدّ ، فلا فاعليّة لما تفعله من أسباب النشوز ، وللهجران في المضاجع مراتب أيضا ، ولا يتحقّق الهجران كذلك في ترك الكلام مع إقباله عليها بمقاديم بدنه ، فإنّ ترك الكلام قد يتحقّق لأجل الكسل والفكر

١٦٠