مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٨

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٨

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٣
ISBN: 946-5665-07-8
الصفحات: ٣٩٧

ثمّ إنّ السيئات جمع السيئة ، وقد أطلقت في القرآن الكريم على معان ، منها كلّ ما يكرهه الإنسان ويسؤه ، قال تعالى : (وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) [سورة النساء ، الآية : ٧٩] ، وقال تعالى : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ) [سورة الرعد ، الآية : ٦].

ومنها : نتائج المعاصي والآثام ، سواء كانت دنيويّة أم اخرويّة ، قال تعالى : (فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا) [سورة النحل ، الآية : ٣٤] ، وقال تعالى : (سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) [سورة الزمر ، الآية : ٥١].

ويمكن إرجاع هذا المعنى إلى الأوّل أيضا ، فإنّ تلك الآثار قد جلبها الإنسان على نفسه بسبب ارتكابه المحرّمات والمعاصي ، وهي تسؤه في الدنيا أو الآخرة.

ومنها : مطلق المعصية ، قال تعالى : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ) [سورة الجاثية ، الآية : ٢١] ، والإطلاق فيه يشمل الكبائر والصغائر.

وأمّا السيئات في الآية الشريفة : (نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) ، فإن لوحظت مقابلتها للكبائر ، تنحصر لا محالة في الصغائر ، وإن لوحظت سعة رحمته جلّ شأنه وسعة تكفيره وغفرانه ، تعمّ الكبائر أيضا ، فيراد حينئذ بقوله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) ، صرف وجود الكبيرة ، وإنّما أتى عزوجل بالجمع باعتبار جميع أفراد الناس ، ومقتضى الجمود على ظاهر اللفظ هو الأوّل ، ولكن مقتضى ما ورد في سعة رحمته عزوجل غير المتناهية هو الثاني ، ويقتضيه ظاهر الامتنان في الآية المباركة ، خصوصا مع ما ذكره الفقهاء وعلماء الأخلاق من إنهاء الكبائر إلى سبع وسبعين ، التي لا يخلو عنها غالب الناس ، وما ورد عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من الجمعة كفّارة من الذنوب» ، وما ورد في غفران شهر رمضان ، وما ورد في الغفران في يوم عرفة ، قال عليه‌السلام : «ما وقف بهذه الجبال

١٢١

أحد إلا غفر الله تعالى له ، من مؤمن الناس وفاسقهم» ، وغير ذلك ممّا ذكرناه في مبحث التوبة.

وكيف كان ، فالآية الكريمة تدلّ على انقسام المعاصي إلى الكبائر والصغائر ، سواء أكان الانقسام بحسب ملاحظة نفس المعاصي بعضها مع بعض ، أم بحسب ملاحظة صدورها من الفاعل ، فربّما يكون بعض الصغائر بالنسبة إلى شخص كبيرة وبالنسبة إلى شخص آخر صغيرة ، كما ورد : «حسنات الأبرار سيئات المقرّبين».

قوله تعالى : (وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً).

المدخل ـ بضم الميم وفتح الخاء ـ والمعروف أنّه اسم مكان ، والمراد به في الآية الشريفة الجنّة ، فيكون منصوبا على الظرفيّة ، وقيل : إنّه مصدر منصوب ، فيكون مفعول (نُدْخِلْكُمْ) الجنّة إدخالا.

وقيل : إنّه منصوب بفعل مقدّر ، والأصحّ هو الوجه الأوّل.

وكيف كان ، فالمراد به الجنّة التي وعدها الله تعالى للصالحين.

والكريم : هو الحسن الطيب ، ومن أسمائه جلّ شأنه «الكريم» أي : الجواد المعطي الذي لا ينفد عطاؤه ، فهو الكريم المطلق ، والكريم الجامع لأنواع الخير والشرف والفضائل ، فلا حدّ لكرمه ولا يمكن عدّ نعمائه.

وقد وصف عزوجل ذلك المكان به أيضا ، قال تعالى : (وَمَقامٍ كَرِيمٍ) [سورة الدخان ، الآية : ٢٦] ، والمقام الكريم ذلك المقام الذي يسعد الداخل فيه بحسن الثناء وعظيم النعمة ، ويتّصف به الرزق أيضا ، قال تعالى : (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) [سورة الحج ، الآية : ٥٠] ، كما يتّصف به الرسول أيضا ، قال تعالى : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) [سورة الحاقة ، الآية : ٤٠] ، ويتّصف به غير ما ذكر كما ورد في الآيات الشريفة.

والمعنى : وندخلكم الجنّة في الآخرة التي يكرم بها من يدخلها فيسعد فيها ،

١٢٢

فإنّ الجنّة لا يدخلها أحد إلا بعد التطهير من الدنس ورذائل الصفات ، قال تعالى : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) [سورة الأعراف ، الآية : ٤٣].

وفي إضافة الإدخال إلى ذاته المقدّسة فيها غاية اللطف ونهاية العناية وكمال المحبّة ، حيث إنّه تعالى بعد المخالفة وكفران السيئات باجتناب الكبائر يدخل العبد مدخلا كريما.

بحوث المقام

بحث دلالي

تدلّ الآية الشريفة على امور :

الأوّل : أنّ الآية المباركة باسلوبها الجذّاب الدال على اللطف والحنان والمحبّة ، وسياقها الظاهر في الزجر عن ارتكاب المعاصي والمتضمّن للوعد للتائبين بعظيم الجزاء ـ تدلّ على أنّ المنهي في الشريعة منه ما هو كبير ومنه ما هو صغير ، والمستفاد منها أنّ المقياس في الكبائر والصغائر هو نسبة بعضها إلى بعض حيث جعل عزوجل الكبائر مقابل السيئات ، ولم يبيّن سبحانه وتعالى الوجه في تشخيص كون المعصية كبيرة أو صغيرة ، وقد تعرّضت السنّة الشريفة إلى بيان المقياس في ذلك ، وسيأتي في البحث الأخلاقي تفصيل ذلك.

والآية المباركة ردّ على من زعم أنّ المعاصي كلّها كبائر ، حتّى قال بعضهم : إنّه لا يمكن أن يقال في معصية إنّها صغيرة إلا على معنى أنّها تصغر عند اجتناب الكبائر ، فالمعاصي كلّها كبائر ، وهذا اجتهاد منهم في مقابل النصّ ، إلا أن يراد أنّها كبيرة بالنسبة إلى أصل المخالفة وعصيان الله تعالى وعظمته عزوجل ، كما عرفت آنفا ، وأشار إلى ذلك بعضهم فقال : إنّهم كرهوا تسمية المعصية صغيرة ، نظرا إلى جلال الله تعالى وعظمته وشدّة عقابه ، فإنّ المعاصي إذا لوحظت بالنسبة إليه تعالى كبيرة.

١٢٣

وما ذكره مسلّم لا إشكال فيه ولم ينكره أحد ، إلا أنّ الكلام في مفاد الآية الشريفة بعد تقسيمها للمعاصي إلى الكبيرة والصغيرة.

الثاني : يستفاد من قوله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) شروط التكفير للسيئات والوصول إلى الرضوان وما وعد به الرحمن.

فمنها : أن يكون ترك الكبائر عن قدرة وإرادة ، وهي متوقّفة على معرفة الكبائر والصغائر والتمييز بينهما ، فإنّ المكلّف إذا عرف أنّها حرمات الله تعالى عزم همّه على تركها ، بل قيل بوجوب معرفتها مقدّمة للاجتناب عنها ، بل التهاون فيها كبيرة أيضا يجب الاجتناب عنه ، وإن لم يكن يجب اتقاء جميع المعاصي مخافة الوقوع في الكبائر والابتلاء بارتكابها ، على ما هو مفصّل في الفقه.

ومنها : أن يكون النهي الشرعيّ منجزا ، وإلا فلا يجب الاجتناب كما في مورد الجهل بالموضوع وعدم بلوغ الحكم ونحو ذلك ممّا هو مفصّل في اصول الفقه ، راجع كتابنا (تهذيب الأصول).

ومنها : أن يكون الاجتناب عن المعاصي الكبيرة عن إعراض النفس وعزوفها عن ارتكابها.

وبعبارة اخرى : أن يكون الاجتناب عن أثر في النفس ، لما تدلّ عليه كلمة الاجتناب الواردة في الآية المباركة. وقال تعالى : (وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) [سورة النازعات ، الآية : ٤٠ ـ ٤١].

الثالث : الآية الشريفة في مقام الامتنان على المؤمنين بأنّهم إذا اجتنبوا بعض المعاصي ، كفّر عنهم البعض الآخر.

الرابع : يدلّ قوله تعالى : (نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) على الذنب ، وأنّ التخلية مقدّمة على التحلية ، وأنّها لا تتحقّق إلا بعد التكفير والتزكية.

١٢٤

الخامس : إطلاق التكفير يشمل جميع الآثار الدنيويّة والاخرويّة ، ونسبة التكفير إلى نفسه الأقدس ، يدلّ على أهمية الموضوع وعظمته وكمال الاعتناء بشأن المؤمنين.

وقال بعضهم : إنّ ظاهر الآية الشريفة وجوب تكفير السيئات والصغائر عند اجتناب الكبائر ، وهذه من صغريات كبرى غفران الذنوب بعد التوبة ، وقد ذكرنا في مبحث التوبة في سورة البقرة ، قلنا : إنّه من قبيل ترتّب المعلول على العلّة مع تحقّق جميع الشرائط.

بحث روائي

الروايات الواردة عن الفريقين في تفسير هذه الآية الشريفة مع كثرتها هي على طوائف متعدّدة ، تبيّن كلّ منها جانبا من الجوانب التي تضمّنتها الآية المباركة ، ونذكر المهمّ منها :

ما ورد في تحديد الكبيرة :

في الكافي : بسنده عن الصادق عليه‌السلام في قول الله عزوجل : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) ، قال : «الكبائر التي أوجب الله عليها النّار».

أقول : ومثله ما عن علي بن جعفر ، عن أخيه موسى بن جعفر عليه‌السلام.

وفي الفقيه : عن عباد بن كثير النوا قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الكبائر ، فقال : كلّ ما أوعد الله عليه النّار».

أقول : ومثله ما عن تفسير العياشيّ ، ويستفاد من هذه الروايات تحديد شرعيّ للكبائر التي وردت في الكتاب والسنّة ، وإيجاب النّار أعمّ من أن يكون بالمطابقة أو بالملازمة ، سواء أكان في كتاب الله تعالى أم في حديث المعصوم ، وسواء رتّب الشارع عليها الحدّ في هذه الدنيا ـ كالزنا وشرب الخمر ـ أم لا. فما

١٢٥

عن بعض من حصر الكبيرة في كلّ ذنب رتّب عليه الشارع الحدّ في هذه الدنيا ـ كما يأتي في البحث الأخلاقي ـ مناف لما تقدّم من الروايات.

وفي معاني الأخبار بإسناده عن الحسن بن زياد العطّار ، عن الصادق عليه‌السلام قال : «قد سمّى الله المؤمنين بالعمل الصالح مؤمنين ، ولم يسمّ من ركب الكبائر وما وعد الله عزوجل عليه النّار مؤمنين في القرآن ، ولا نسمّيهم بالإيمان بعد ذلك الفعل».

أقول : تقدّم أنّ للإيمان مراتب ، ومن ارتكب الكبيرة ولم يخرج عن الإسلام لم يكن من الكمل إلا إذا تاب. وإنّها كالروايات المتقدّمة في تحديد الكبيرة بالوعيد ، وسيأتي في البحث الأخلاقي ما يتعلّق بالمقام.

وفي ثواب الأعمال عن محمد بن الفضيل عن أبي الحسن عليه‌السلام في قول الله عزوجل : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) قال : «من اجتنب الكبائر ، وهي ما أوعد الله عليه النّار ، إذا كان مؤمنا كفّر الله عنه سيئاته».

أقول : ومثله ما في الكافي عن ابن محبوب. ويستفاد منها أنّ التكفير مشروط بالإيمان ، كما هو المنساق من الآية المباركة ، وأنّ الكافر لو اجتنب لا يوجب التكفير عنه.

نعم ، يمكن أن يكون له أثر في الدنيا أو في عالم البرزخ ، ولا تنافي بينها وبين ما ورد في الفقيه عن الصادق عليه‌السلام : «من اجتنب الكبائر كفّر الله جميع ذنوبه ، وذلك قول الله عزوجل» ، أي : مع الإيمان بالله تعالى.

وكيف كان ، فالمستفاد من هذه الروايات وغيرها ممّا ورد من طرق الجمهور عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله وسائر المعصومين عليهم‌السلام ، أنّ الكبيرة ما أوعد بالنّار ، والصغيرة هي الذنب الذي لم يوعد بالنار ، أو لم يماثل في الروايات بذنب أوعد فيه.

١٢٦

ما ورد في أعداد الكبائر :

الروايات في أعداد الكبائر مختلفة ، ففي جملة منها أنّها سبع ، وإن اختلفت هذه في المعدود منها وأبدال كبيرة بأخرى في الذكر ، كما يأتي.

وفي بعضها تسع ، وفي آخر ثمان. وفي بعضها ثلاث.

وعن ابن عباس في الدرّ المنثور عدّها ثمان عشرة ، وفي الكافي عن عبد العظيم الحسنيّ عن أبي جعفر الثاني عن الصادق عليهما‌السلام أنّها عشرون ـ كما يأتي ـ وعن ابن عباس انها اقرب إلى التسعين.

ولعلّ السرّ في اختلاف هذه الروايات أنّها في مقام بيان المهمّ من الكبائر بل أكبرها ، أو باعتبار اقتضاء المقام ، ونحن نذكر جملة منها على سبيل الاختصار وهي :

في التهذيب : بسنده عن معلى بن خنيس عن أبي الصامت عن الصادق عليه‌السلام : «أكبر الكبائر سبع : الشرك بالله العظيم ، وقتل النفس التي حرّم الله عزوجل إلا بالحقّ ، وأكل مال اليتيم ، وعقوق الوالدين ، وقذف المحصنات ، والفرار من الزحف ، وإنكار ما أنزل الله تعالى».

أقول : هذا الحصر إما بالنسبة إلى أكبر الكبائر ، كما قال عليه‌السلام في صدر الحديث ، أو إنّه إضافي ؛ لأنّها أكثر من السبع ، كما يأتي.

وفي الكافي : عن ابن محبوب قال : «كتب معي بعض أصحابنا إلى أبي الحسن عليه‌السلام يسأل عن الكبائر كم هي وما هي؟ فكتب : الكبائر من اجتنب ما وعد الله عليه النّار كفر عنه سيئآته إذا كان مؤمنا ، والسبع الموجبات : قتل النفس الحرام ، وعقوق الوالدين ، وأكل الربا ، والتعرّب بعد الهجرة ، وأكل مال اليتيم ظلما ، وقذف المحصنات ، والفرار من الزحف».

أقول : ومثله ما عن الصدوق في ثواب الأعمال. وهذا الحصر إضافي ، فلم يردّ فيها الشرك بالله تعالى ، وقد عدّ في الرواية السابقة من أكبرها ، ولكن قوله عليه‌السلام : «إذا كان مؤمنا» ، يدلّ على أنّه منها.

١٢٧

وفيه ـ أيضا ـ : عن عبيد بن زرارة قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الكبائر؟ فقال : هنّ في كتاب علي عليه‌السلام سبع : الكفر بالله ، وقتل النفس ، وعقوق الوالدين ، وأكل الربا بعد البيّنة ، وأكل مال اليتيم ظلما ، والفرار من الزحف ، والتعرّب بعد الهجرة. فقلت : هذا أكبر المعاصي؟! فقال : نعم. قلت : فأكل الدرهم من مال اليتيم ظلما أكبر أم ترك الصلاة؟ قال : ترك الصلاة. قلت : فما عدّدت ترك الصلاة في الكبائر؟ قال : أي شيء أوّل ما قلت لك؟ قلت : الكفر. قال : فإنّ تارك الصلاة كافر ، يعني : من غير علّة».

أقول : الحصر فيه إضافي أيضا ، وأما كون تارك الصلاة عن عمد واختيار كافرا ؛ لأنّه يرجع إلى إنكارها ، وتقدّم في الرواية السابقة أن إنكار ما أنزل الله تعالى من الكبائر.

وفي صحيح محمد بن مسلم عن الصادق عليه‌السلام قال : «الكبائر سبع : قتل المؤمن متعمّدا ، وقذف المحصنة ، والفرار من الزحف ، والتعرّب بعد الهجرة ، وأكل مال اليتيم ظلما ، وأكل الربا بعد البيّنة ، وكل ما أوجب الله النّار».

أقول : عدّ الشرك منها إما لأجل المفروغيّة ، كما تقدّم في الروايات السابقة ، أو أنّه داخل في القاعدة الكليّة المذكورة في ذيل الرواية.

فهي تنطبق على كثير من المعاصي أيضا ، كالكذب والغيبة ، والرشوة ، وشرب الخمر ، والسرقة ، والزنا وغيرها.

وفي الكافي بسنده عن عبد الله بن سنان قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : إنّ من الكبائر عقوق الوالدين ، واليأس من روح الله ، والأمن من مكر الله».

أقول : لأنّ جميع ذلك ممّا أوعد الله عليه النّار ، أو من الخسران ، أو بمنزلة الكافر الذي أوعده الله النّار كما يأتي.

وفي تفسير العياشي : عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «كنت أنا وعلقمة الحضرمي وأبو حسان العجلي وعبد الله بن عجلان ننتظر أبا جعفر عليه‌السلام ، فخرج علينا فقال :

١٢٨

مرحبا وأهلا ، ولله إنّي أحبّ ريحكم وأرواحكم ، وإنّكم لعلى دين الله ، فقال : علقمة فمن كان على دين الله نشهد أنّه من أهل الجنّة؟ قال : فمكث هنيئة. قال : نوّروا أنفسكم ، فإن لم تكونوا اقترفتم الكبائر ، فأنا أشهد. قلنا : وما الكبائر؟ قال : هي في كتاب علي عليه‌السلام سبع. قلنا : فعدّها علينا جعلنا الله فداك. قال : الشرك بالله العظيم ، وأكل مال اليتيم ، وأكل الربا بعد البيّنة ، وعقوق الوالدين ، والفرار من الزحف ، وقتل المؤمن ، وقذف المحصنة. قلنا : ما منا أحد أصاب من هذه شيئا ، قال : فأنتم إذا».

أقول : تدلّ هذه الرواية على أن من اجتنب الكبائر يكون من أهل الجنّة بشهادة أبي جعفر الباقر عليه‌السلام.

وفي تفسير العياشي ـ أيضا ـ : عن معاذ بن كثير عن الصادق عليه‌السلام قال : «يا معاذ ، الكبائر سبع ، فينا أنزلت ومنا استحقّت ، وأكبر الكبائر الشرك بالله ، وقتل النفس التي حرّم الله ، وعقوق الوالدين وقذف المحصنات ، وأكل مال اليتيم ، والفرار من الزحف ، وإنكار حقّنا أهل البيت ـ الحديث ـ».

أقول : ما تضمّنته الرواية إضافي ، ويكون من باب ذكر بعض المصاديق.

وفيه ـ أيضا ـ : عن أبي خديجة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «الكذب على الله وعلى رسوله وعلى الأوصياء من الكبائر».

أقول : الرواية ليست في مقام الحصر حتّى الإضافي منه ، وإنّما هي في بيان ذكر بعض المصاديق ، وأمثال هذه الرواية كثيرة.

وفي الكافي : عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني قال : «حدثني أبو جعفر الثاني عليه‌السلام قال : سمعت أبي موسى بن جعفر عليهما‌السلام يقول : دخل عمرو بن عبيد على أبي عبد الله عليه‌السلام فلما سلّم وجلس تلا هذه الآية : (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ) ثمّ أمسك. فقال له الصادق عليه‌السلام : ما أسكتك؟ قال : أحبّ أن أعرف الكبائر من كتاب الله عزوجل ، فقال : نعم يا عمرو ، أكبر الكبائر : الإشراك

١٢٩

بالله ، يقول الله : (مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) ، وبعده اليأس من روح الله ؛ لأنّ الله عزوجل يقول : (لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ). ثم الأمن من مكر الله ؛ لأنّ الله عزوجل يقول : (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ). ومنها : عقوق الوالدين ؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى جعل العاق جبّارا شقيّا. وقتل النفس التي حرّم الله إلا بالحقّ ؛ لأنّ الله عزوجل يقول : (فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها). وقذف المحصنة ؛ لأنّ الله عزوجل يقول : (لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ). وأكل مال اليتيم ؛ لأنّ الله عزوجل يقول : (إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً). والفرار من الزحف ؛ لأنّ الله عزوجل يقول : (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ). وأكل الربا ؛ لأنّ الله عزوجل يقول : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ). والسحر ؛ لأنّ الله عزوجل يقول : (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ). والزنا ؛ لأنّ الله عزوجل يقول : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً* يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً). واليمين الغموس الفاجرة ؛ لأنّ الله عزوجل يقول : (الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ). والغلول ؛ لأنّ الله عزوجل يقول : (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ). ومنع الزكاة المفروضة ؛ لأنّ الله عزوجل يقول : (فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ). وشهادة الزور وكتمان الشهادة ؛ لأنّ الله عزوجل يقول : (وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ). وشرب الخمر ؛ لأنّ الله عزوجل نهى عنها كما نهى عن عبادة الأوثان ، وترك الصلاة متعمّدا أو شيئا ممّا فرض الله عزوجل ؛ لأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : من ترك الصلاة متعمّدا فقد برئ من ذمّة الله وذمّة رسوله. ونقض العهد وقطيعة الرحم ؛ لأنّ الله عزوجل يقول :

١٣٠

(لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ). قال : فخرج عمرو وله صراخ من بكائه ، وهو يقول : هلك من قال برأيه ، ونازعكم في الفضل والعلم».

أقول : هذه الرواية لا تنافي ما تقدّم من الروايات ، لما عرفت من أنّ الحصر فيها ليس حقيقيا ، وإنما كان إضافيا. وهذه الرواية تعدّ الكبائر المأخوذة من كتاب الله تعالى ، كما عرفت.

وفي الخصال : بإسناده عن الصادق عليه‌السلام قال : «وجدنا في كتاب علي عليه‌السلام الكبائر خمسة : الشرك ، وعقوق الوالدين وأكل الربا بعد البيّنة ، والفرار من الزحف ، والتعرّب بعد الهجرة».

أقول : لا تنافي بينه وبين ما تقدّم ، لما عرفت من أنّ الحصر في هذه الروايات إضافي وليس حقيقيّا.

وفي العلل بإسناده عن عبيد بن زرارة قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أخبرني عن الكبائر. فقال : هنّ خمس ، وهنّ ممّا أوجب الله عليهنّ النّار ، قال الله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) ، وقال : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) ، وقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ ...) إلى آخر الآية. وقال عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا). ورمي المحصنات المؤمنات ، وقتل مؤمن متعمّدا على دينه».

أقول : يستفاد من التعليل التعميم ؛ لأنّ العلّة قد تعمّم وقد تخصّص.

وفي رواية أبي خديجة عن الصادق عليه‌السلام : الكذب على الله وعلى رسوله وعلى الأوصياء من الكبائر.

وفي كنز الفوائد : عن الصادق عليه‌السلام : «الكبائر تسع ، أعظمهن : الإشراك بالله عزوجل ، وقتل النفس المؤمنة ، وأكل الربا وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنات ،

١٣١

والفرار من الزحف ، وعقوق الوالدين واستحلال البيت الحرام ، والسحر ، فمن لقى الله عزوجل وهو بريء منهن ، كان معي في جنّة مصاريعها الجنّة».

أقول : جميع هذه الروايات تدلّ على ما ذكرنا من أنّ الحصر إضافي وليس حقيقيّا.

وفي الخصال بإسناده عن الأعمش ، عن جعفر بن محمد عليهما‌السلام في حديث شرائع الدين قال : «والكبائر محرّمة ، وهي : الشرك بالله ، وقتل النفس التي حرّم الله ، وعقوق الوالدين ، والفرار من الزحف ، وأكل مال اليتيم ظلما ، وأكل الربا بعد البيّنة ، وقذف المحصنات».

وبعد ذلك الزنا واللواط والسرقة ، وأكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهلّ لغير الله به من غير ضرورة ، وأكل السحت ، والبخس في الميزان والمكيال ، والميسر ، وشهادة الزور ، واليأس من روح الله ، والأمن من مكر الله ، والقنوط من رحمة الله ، وترك معاونة المظلومين ، والركون إلى الظالمين ، واليمين الغموس ، وحبس الحقوق من غير عسر ، واستعمال التكبّر والتجبّر والكذب ، والإسراف ، والتبذير ، والخيانة ، والاستخفاف بالحجّ ، والمحاربة لأولياء الله ، والملاهي التي تصدّ عن ذكر الله عزوجل مكروهة ، كالغناء وضرب الأوتار ، والإصرار على صغائر الذنوب».

أقول : عدّ عليه‌السلام في هذه الرواية الغناء من الكبائر ، ولكن عبّر عنها في الحكم بالكراهة ، والمراد منها الحرمة كما في قوله تعالى : (كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً) [سورة الإسراء ، الآية : ٣٨].

وفي الدرّ المنثور : أخرج جماعة عن ابن عباس أنّه سئل عن الكبائر : «أسبع هي؟ قال : هي إلى السبعين أقرب».

وفيه ـ أيضا ـ : عن ابن جبير عن ابن عباس : «هي إلى السبعمائة أقرب إلى سبع ، غير أنّه لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار».

أقول : لا شكّ أنّ أكبر الكبائر الشرك بالله العظيم حتّى ولو كان خفيا ، وما

١٣٢

سواه كبير باختلاف المراتب ، فلا تنافي بين الروايات الدالّة على السبع أو الخمس أو التسع أو السبعين أو أقلّ أو أكثر كما عرفت.

ما ورد في شمول الشفاعة لأهل الكبائر :

كما أنّ التوبة تمحو الكبيرة وآثارها ، كذلك الشفاعة تمحو الكبيرة وآثارها ، وتدلّ على ذلك روايات كثيرة.

منها ما في التوحيد عن ابن أبي عمير ، قال : «سمعت موسى بن جعفر عليهما‌السلام يقول : من اجتنب الكبائر من المؤمنين لم يسأل عن الصغائر ، قال الله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) ، قلت : فالشفاعة لمن تجب؟ فقال : حدثني أبي ، عن آبائه ، عن علي عليهم‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّما شفاعتي لأهل الكبائر من امتي ، فأمّا المحسنون فما عليهم من سبيل. قال ابن أبي عمير فقلت له : يا ابن رسول الله ، فكيف تكون الشفاعة لأهل الكبائر والله تعالى يقول : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) ، ومن يرتكب الكبائر لا يكون مرتضى ، فقال : يا أبا أحمد ، ما من مؤمن يذنب ذنبا إلا ساءه ذلك وندم عليه ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : كفى بالندم توبة. وقال : من سرّته حسنته وسائته سيئته فهو مؤمن ، فمن لم يندم على ذنب يرتكبه فليس بمؤمن ، ولم تجب له الشفاعة ـ إلى أن قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : لا كبيرة مع الاستغفار ، ولا صغيرة مع الإصرار».

أقول : الروايات الدالّة على أنّ شفاعته صلى‌الله‌عليه‌وآله مدّخرة لأهل الكبائر من أمته مستفيضة بين الفريقين ، وأنّها تغفر بالشفاعة ، وأنّ المؤمن لا يخلّد في النّار ، فإنّ التخليد فيه مختصّ بأهل الكفر والجحود ، وأهل الضلال وأهل الشرك ، كما في الرواية.

ومنها في الدرّ المنثور : أخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن أنس قال : «سمعت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : ألا إنّ شفاعتي لأهل الكبائر من امتي ، ثم تلا هذه

١٣٣

الآية : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) ـ الآية».

أقول : ومثلهما غيرهما من الروايات ومقتضاها أنّ الشفاعة تختصّ بأهل الكبائر التي لا يخرج مرتكبيها عن الإيمان ، كالشرك بالله العظيم ، كما تقدّم في الروايات السابقة ، فالمؤمن على قسمين :

الأوّل : ما إذا اجتنب الكبائر ، فيدخل الجنّة إن شاء الله تعالى بمقتضى الآية الشريفة والرواية المتقدّمة.

الثاني : ما إذا ارتكب الكبائر وكان مؤمنا ، فهو أيضا من أهل الجنّة بالشفاعة.

ما ورد في تحريم الإصرار على الصغيرة :

الإصرار على الذنب هو : أن لا يتخلّل الاستغفار ، ولا يحدّث نفسه بالتوبة ، كما يأتي في الرواية عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام ، وأنّ الإصرار على الصغيرة كبيرة من الكبائر ، كما تقدّم في الروايات السابقة ، ففي الكافي : بسنده عن السكوني عن الصادق عليه‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من علامات الشقاء جمود العين ، وقسوة القلب ، وشدّة الحرص في طلب الدنيا ، والإصرار على الذنب».

أقول : المراد من الشقاء هو الشقاء في الآخرة ، والمراد من جمود العين هو قسوة القلب ، فيكون العطف بيانيّا ، فللقسوة مظهر خارجي ، وهو جمود العين ، ومنشأ واقعي وهو قسوة القلب.

وفي الكافي ـ أيضا ـ : بسنده عن أبي بصير قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : لا والله ، لا يقبل الله شيئا من طاعته على الإصرار على شيء من معاصيه».

أقول : للقبول مراتب متفاوتة جدا ، فلا ينافي أن يكون الإصرار على الذنب حراما ، ومعه لا يحصل المرتبة الكاملة من القبول ، وسيأتي في البحث الأخلاقي ما يرتبط بالمقام.

١٣٤

وفي الروضة بإسناده عن الصادق عليه‌السلام في رسالته إلى أصحابه قال : «وإياكم أن تشره أنفسكم إلى شيء حرّم الله عليكم ، فإنّ من انتهك ما حرّم الله عليه هاهنا في الدنيا ، حال الله بينه وبين الجنّة ونعيمها ولذتها وكرامتها القائمة الدائمة لأهل الجنّة أبد الآبدين ـ الى أن قال ـ : وإيّاكم والإصرار على شيء ممّا حرّم الله في القرآن ظهره وبطنه ، وقد قال : (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ)».

أقول : شره كفرح ، وهو الطلب مع الحرص أو بدونه ، والمراد من الرواية ما حرّمه القرآن بظاهره ـ كما تقدّم ـ أو بباطنه ، أي : بواسطة السنّة الشريفة.

بحث أخلاقي

ذكرنا أنّ الآية الشريفة تدلّ على تقسيم المعاصي إلى كبائر وصغائر ، ويدلّ عليه قوله تعالى أيضا في آية اخرى : (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) [سورة النجم ، الآية : ٣٢] ، وتدلّ عليه السنّة الشريفة ، كما تقدّم في البحث الروائي.

والكبيرة والصغيرة من الأمور الإضافيّة النسبيّة ، وهما يختلفان شدّة وضعفا ، فما من ذنب إلا وهو كبير بالإضافة إلى ما دونه ، وصغير بالنسبة إلى ما فوقه ، والجميع كبائر بالنسبة إلى مخالفة مولى الموالي ، وهتك حجاب العبودية والتعدّي في سلطانه عزوجل. وقد اختلف العلماء في تعريف الكبيرة اختلافا عظيما.

فقيل : إنّ كلّ ما نهى عنه عزوجل فهو كبيرة ، وينسب هذا القول إلى ابن عباس ، ولكن ذكرنا آنفا أن كون الذنوب كلّها كبائر بما هو القياس إلى حال الإنسان مع خالقه ومولاه الذي يجب إطاعته في جميع الحالات ، لا بلحاظ بعضها الى بعض.

١٣٥

وقيل : إنّ الكبيرة كلّ ما يشعر بالاستهانة بالدين وعدم الاكتراث به.

ويردّ عليه : أنّه أخصّ من المدّعى ، فإنّ بعض الذنوب ينطبق عليها الكبيرة وإن لم تكن بهذا العنوان ، مضافا إلى أن كلّ اقتراف للذنب والآثام مع التعمّد ينطبق عليه عنوان الطغيان والاعتداء ، الذي هو من إحدى الكبائر أيضا.

وقيل : إنّ الكبيرة ما حرمت لنفسها ، لا لعارض.

وفيه : أنّ بعض الذنوب يطرأ عليها عنوان الطغيان ، فتصير كبيرة.

وقيل : إنّ الكبيرة كلّ ما أوعد الله تعالى عليه بالنّار في القرآن الكريم أو السنّة الشريفة ، أو ما مثله بالذنب الذي أوعد عليه النّار ، وهذا هو المشهور.

وفيه : أنّه وإن كان صحيحا في الجملة ، لكن لا كلّية له في انعكاسه ، فليس كلّ ما لم يعد عليه الله تعالى بالنّار صغيرة.

وقيل : إنّ الكبائر ما ورد في سورة النساء من أوّلها إلى الآية التي تقدّم تفسيرها.

وفيه : أنّه تقييد لإطلاق الآية الشريفة ، فكأنّ القائل يريد أنّ قوله تعالى : (كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) إشارة إلى تلك المحرّمات التي ذكرها الله تعالى في الآيات السابقة ، وهو تخصيص بلا دليل.

وقيل : إنّ الكبيرة ما يكبر عقابه عن ثوابه والصغيرة ما نقص عقابه عن ثواب صاحبه. ونسب هذا القول إلى بعض المعتزلة.

وفيه : أنّه لا دليل عليه من عقل أو نقل.

وقيل : إنّ الكبيرة كلّ ما أوعد الله عليه في الآخرة عقابا ووضع له في الدنيا حدّا.

وفيه : أنّ الأمر ليس كذلك ، فإنّ بعض الكبائر لم يوضع لها حدّ ، مثل الغيبة والإصرار على الصغائر ، وأكل مال اليتيم ، والفرار من الزحف ، وأكل الربا وغيرها.

١٣٦

ونسب إلى الغزالي في كتاب الاحياء جامعا بين الأقوال وخلاصته : أنّ مقياس الكبائر والصغائر على نحوين ، إما بقياس بعضها إلى بعض ، أو بملاحظة الأثر المترتّب على المعصية ، فقال : «أما الأوّل ، فإنّها بملاحظة بعضها إلى بعض تكون كبيرة وصغيرة ، وإن كانت بعض المعاصي تكبر بانطباق العناوين المهلكة الموبقة عليه ، كالإصرار على الصغائر ، فتصير المعصية كبيرة بعد ما لم تكن منها. ثمّ هي مع ذلك تنقسم إلى قسمين بالنظر إلى أثر الذنب ووباله وأثر الطاعة ، فتكون لهما حالات ثلاثة ، فأمّا أن يحبط أثر الذنب الثواب بغلبته عليه أو نقصه عنه إذا لم يغلبه ، فيزول بزوال مقدار ما يعادله من الثواب ، فإنّ لكلّ طاعة تأثيرا حسنا في النفس ، يوجب رفعة مقامها وتخلّصها من قذارة البعد وظلمة الجهل ، كما أنّ لكلّ معصية تأثيرا سيئا فيها ـ على خلاف أثر الطاعة ـ فيوجب انحطاط محلّها وسقوطها في هاوية البعد وظلمة الجهل. وأما أن يتصادم الأثران ويتحقّق التحابط في ما إذا فعل الطاعة والمعصية ، فيتصادم أثر الاولى مع أثر الثانية ، فإن غلبت ظلمة المعصية نور الطاعة وظهرت عليه أحبطته ، وهذه هي المعصية الكبيرة ، وإن غلبت الطاعة بما لها من النور والصفاء ، أزالت ظلمة الجهل ، وبوار الذنب ببطلان مقدار منها يعادل نور الطاعة ، فيبقى منه شيء تصفوا به النفس ، وهذا هو التحابط بمعنى غفران الذنوب الصغيرة وتكفير السيئات. وهذا النوع من المعاصي هي المعاصي الصغيرة. وإما أن تتكافأ السيئة والحسنة بما لهما من العقاب والثواب ، فهو وإن كان ممّا يحتمّله العقل بدوا ولازمه صحّة فرض إنسان أعزل لا طاعة له ولا معصية ، ولا نور لنفسه ولا ظلمة ، لكن يبطله قوله تعالى : (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ).

وردّ الفخر الرازي في تفسيره بأنّه يبتني على اصول المعتزلة الباطلة عندنا.

وشدّد النكير على الرازيّ بعض المفسّرين وقال : إنّ إنكار الأشاعرة لانقسام المعاصي إلى الصغيرة والكبيرة ، أرادوا به مخالفة المعتزلة ولو بتأويل ، كما

١٣٧

يعلم من كلام ابن فورك ، فإنّه صحّح كلام الأشعرية وقال : معاصي الله كلّها كبائر. وإنّما يقال لبعضها صغيرة وكبيرة لا بإضافة ، بل بحسب القصود ، وقالت المعتزلة : الذنوب على ضربين ، صغائر وكبائر ، وهذا ليس بصحيح.

أقول : هذا الموضوع واحد من تلك الموضوعات التي كثر الجدال فيها بين المعتزلة والأشاعرة ، وتعصّب كلّ فريق لمذهبه ، واستدلّ عليه بأمور عقليّة ونقليّة حتّى حدى ببعضهم إلى تأويل الآيات الكريمة والروايات لنصرة رأيه ، ولو كان لأجل مخالفة المذهب الآخر ، وقد شغل هذا النحو من الجدال مصنّفات الأعلام ، وغلب على أفكارهم ، فصرفوا جلّ اهتمامهم إلى ذلك ، فحرموا غيرهم ، بل حتّى أنفسهم من قريحتهم الفذة ، فصاروا وكتبهم فتنة افتتن بهما من بعدهم ، وأصبحت وسيلة لطمس الحقّ وأهله.

أما مقالة الغزالي ، فهي وإن كانت حسنة ثبوتا ، ولكن لا دليل عليها في مقام الإثبات ، بل هي تطويل ـ للمعاصي الكبيرة والصغيرة بما بيّنها الله تعالى في كتابه الكريم والسنّة المقدّسة ـ بلا طائل تحته ، كما فصّله الفيض قدس سرّه في إحياء الأحياء ، والنراقي قدس سرّه في جامع السعادات ، وكلمات الغزالي مشحونة من مثل هذه التشقيقات ، كما لا يخفى على من راجعها ، وسيأتي الكلام في الإحباط والتحابط بالنسبة إلى الثواب والعقاب ، ولا ربط لهما بالكبيرة والصغيرة ، مع أنّ ظواهر الآيات الشريفة والروايات تقسّم الذنب إلى الكبيرة والصغيرة بالنسبة إلى حيثيّة الصدور ، لا حيثيّة الأثر ، فخلط بين الحيثيتين ، وكم له من هذه المغالطات. وهناك وجوه اخرى لا يخفى فسادها على من راجعها.

والحقّ أن يقال : إن اختلاف العلماء في تعريف الكبائر وتعيينها لا يرجى زواله ، ولعلّ الحكمة في عدم تعيين الشرع لها ، هي الإبقاء على إبهامها وإجمالها ، ليكون العباد على وجل منها ، فلا تهتك حرمات الله تعالى فيها ، فلا يتجرّؤوا على ارتكابها اعتمادا على التكفير ، بل يعزموا على ترك المعاصي كلّها ، لاحتمال وجود

١٣٨

الكبار فيها ، كما أبهم عزوجل بعض الأمور أيضا ، مثل الاسم الأعظم ، ليواظبوا على جميع الأسماء الحسنى ، وليلة القدر ليعظم جدّ الناس واجتهادهم في المواظبة على الطاعة في جملة من الليالي. ووليّ الله تعالى بين الناس ليحترموا جميع الأفراد ، فلا يسيئوا الظنّ بأحد منهم ، وساعة الاستجابة في الأيام وغير ذلك.

مع أنّ لنا نقول : إنّ الكبائر قد بيّنها القرآن الكريم والسنّة المقدّسة في الجملة ، فإنّ من المعاصي ما قد جعل لها الإسلام حدّا معلوما في الدنيا ، كالزنا واللواط والسرقة والقذف ونحو ذلك من موجبات الحدود المعروفة في الفقه ، وهذه لا إشكال عند أحد في كونها كبيرة ، وكذا تكون المعصية كبيرة إذا كانت العقوبة عليها النّار ، بنصّ من الشرع المبين كتابا وسنّة ، فتكون كبيرة لكون العقاب عظيما.

وأما غير ذلك ، فإنّه يحتمل أن تكون كبيرة وقد أبهم الأمر فيها عزوجل ، ليكون الناس على حذر منها.

ثم إن الذنوب والمعاصي لها إضافات متعدّدة :

الاولى : الإضافة إلى الله عزوجل ، وبحسب هذه الإضافة تكون كبيرة ، فإن ارتكابها جرأة على الله تعالى ، وعلى هذا يحمل ما ورد في بعض الأخبار من أنّ الذنوب كلّها كبيرة ، كما عرفت آنفا.

الثانية : الإضافة إلى الفاعل العاصي.

الثالثة : إضافة بعضها إلى بعض ، وبحسب هاتين الإضافتين تتحقّق الكبيرة والصغيرة في الذنوب ، وحينئذ فإمّا أن تكون كبيرة مطلقا ولا صغيرة فيها ، كالكذب والغيبة والبهتان وإيذاء المؤمن ، وأكل مال الناس ونحو ذلك. وإمّا أن تكون صغيرة ولا كبيرة فيها إلا مع الإصرار ، كوضع اليد على مال الغير بدون إذنه ، والنظر إلى الأجنبيّة. وإمّا أن تكون فيه الكبيرة والصغيرة ، كالظلم والشتم بغير حقّ ، والضرب والقتل كذلك ، فبعض مراتب الأوّل صغيرة والاخرى كبيرة.

١٣٩

موجبات الكبائر :

تقدّم في أحد مباحثنا السابقة أنّ إتيان المعاصي ـ صغيرة كانت أو كبيرة ـ وصدورها ، يكون باختيار العبد وجرأته ، ولكن ذكر علماء الأخلاق أنّ أسباب الكبائر مندرجة في امور ثلاثة :

الأوّل : اتباع الهوى ، والهوى : ميلان النفس إلى ما يستلذّ به ، فيقع الإنسان في جملة من الكبائر ، كالزنا واللواط وقطع الرحم وقذف المحصنات أو كترك الصلاة وترك الطاعات وغيرها.

الثاني : حبّ الدنيا ، فإنّه السبب للوقوع في كثير من الكبائر ، كالقتل والظلم والغصب ، وأكل مال اليتيم ، وشهادة الزور والحيف في الوصية وغيرها ، قال نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أتاني جبرئيل وقال : إنّ الله تعالى قال وعزّتي وجلالي ، إنّه ليس من الكبائر كبيرة هي أعظم عندي من حبّ الدنيا» ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة».

الثالث : رؤية الغير ، فإنّها منشأ للرياء (الشرك الخفي) ، والنفاق والعجب بالنفس والشرك بالله العظيم ، قال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «اليسير من الرياء شرك».

طرق تمييز الكبيرة :

ذكرنا أنّه لم يرد في القرآن الكريم تحديد الكبيرة وبيان خصوصياتها ، وإنّما أبهم عزوجل الأمر فيها لطفا بعباده ، ولأنّه من إحدى طرق التهذيب والإصلاح ، لئلّا يجترئ الإنسان المغرور على ارتكاب غيرها اتكالا على التكفير ، غفلة منه كما عرفت ولكن ذكر العلماء لتمييز الكبيرة عن الصغيرة أمورا :

الأوّل : التوعيد بالنار ، وقد دلّت عليه نصوص كثير متواترة بين الفريقين ، وتقدّم في البحث الروائي نقل جملة منها ، وهو مورد إجماع المسلمين أيضا.

١٤٠