مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٨

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ٨

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٣
ISBN: 946-5665-07-8
الصفحات: ٣٩٧

فإنّ الإرادة التكوينيّة تتعلّق بالفعل من دون تخلل اختيار آخر ، وفي التشريعيّة تتعلّق بالفعل مع اختيار آخر.

مضافا إلى ذلك أنّ إرادة الله التشريعيّة عين جعله التشريعي ، كما أنّ إرادته المقدّسة التكوينيّة عين فعله الخارجي ، فتتفق الإرادتان في عدم تخلّف المراد عن الإرادة ، فإرادته التشريعيّة عين التشريع وجعل القوانين الإلهية المبتنية على المصالح الواقعيّة ، وقد تحقّق فلا يمكن تخلّف المراد فيها أيضا ، كإرادته التكوينيّة ضرورة امتناع تخلّف المعلول عن علّته التامّة.

فما ذهب إليه جمع من إمكان تخلّف المراد في التشريعيّة ووقوعه في الآثام والفسوق والعصيان ، يمكن الخدشة فيه بأنّ وقوع المعصية من الغير لا يرتبط بتخلّف المراد ، وهو التشريع عن الإرادة التشريعيّة ، فإنّه مستحيل كما عرفت ، ولكن تعلّقت إرادته ـ عزوجل ـ التشريعيّة بفعل الغير مع اختياره ، لتصحيح قانون الجزاء والثواب والعقاب ، فتكون الإرادة مطلقا هي الفعل ، سواء كان تكوينيّا أو جعلا للقوانين التي هي لتكميل الإنسان وإيصاله إلى السعادة الدائمة.

وقد نسب ذلك إلى بعض قدماء الفلاسفة اليونانيين مثل فرفوريوس وأصحابه ، الذين قالوا باتحاد العاقل والمعقول ، والتفصيل يطلب من محلّه.

ومن ذلك يظهر بطلان القول باختلاف الطلب والإرادة في إيمان العباد ، وأنّ تخلّف المطلوب عن الطلب ممكن وواقع ، بخلاف تخلّف المراد عن الإرادة ، فإنّه مستحيل كما عرفت ؛ لأنّ تخلّف المراد عن الإرادة في كلتا الإرادتين مستحيل ، وإرادته عزوجل للإيمان والطاعة لا يستلزم أن لا يتحقّق كافر ولا فاسق ، فإنّه تبارك وتعالى أرادهما من العبد باختياره ، فيكون اختيار العبد فاصلا بين الإرادة والمراد ، وقد ذكرنا ما يرتبط بهذا البحث في كتابنا (تهذيب الأصول) أيضا.

١٠١

بحث عرفاني

للإرادة والمراد شأن عجيب في الدلالة على المريد وما له من الشؤون ، فتدلّان عليه دلالة المعلول على العلّة التامّة ، ويكشفان عنه كشف الأثر عن المؤثّر ، سواء كان المراد قولا أو فعلا أو كتابة أو غيرها.

ومن هذا الباب كشف جميع الآيات الكونيّة والآيات القرآنيّة ، عن وجود الله تعالى وصفاته العليا وأسمائه الحسنى ، وهي بمجموعها تدلّ على عظمة هذا الموجود الذي تاهت العقول في معرفته ، قال تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) [سورة فصلت ، الآية : ٥٣].

وكذلك تكشف تأليفات المؤلّفين وشعر الشعراء ، واختراعات العلماء عن مراتب كمال من تصدّى لها ، وقد ورد في الحديث : «يعرف قدر الرجل من رسوله وعبده». والعقلاء يدركون ذلك أيضا ، بل يمكن أن تصل النفس الإنسانيّة إلى مرتبة الخلاقية للمراد ، فتصل إلى غاية المال وتصير محلّ خوارق العادات وصدور الكرامات ، وذلك شيء يسير في مرتبة العبوديّة ، التي كنهها الربوبيّة ، كما في الحديث عن الصادق عليه‌السلام.

بحث قرآني

ذكرنا أنّ الآيات الثلاث المتقدّمة ـ التي تكرّر فيها كلمة «يريد» ، إنّما هو لكثرة أهمية الإرادة ـ من أهمّ الآيات التي اشتملت على الجوانب المادّية والمعنويّة للأحكام الشرعيّة التي شرّعها الله تعالى لتكميل الإنسان.

وذكر هذه الآيات الشريفة بعد سرد جملة كثيرة من الأحكام الاجتماعيّة ، ومنها محرّمات النكاح وما أحلّ من نكاح النساء ، لبيان أنّ جميع ما ذكر من

١٠٢

سنن الذين من قبلنا ، وأنّ هذه الأحكام سنّة الهيّة في شرع من قبلنا ، وهي غير قابلة للنسخ أصلا لما عرفت من أنّها امور فطريّة قرّرتها الشرائع السماويّة.

وإطلاق الآية المباركة يشمل جميع من قبلنا من الأنبياء والمرسلين من لدن آدم عليه‌السلام حتّى عصر نزول القرآن ، فنكاح الام حرام في جميع الشرائع الإلهيّة وكذا نكاح الاخت والجمع بين الأختين ، بلا فرق بين شريعة آدم عليه‌السلام وسنّة يعقوب وشريعة خاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لأنّها تشتمل على مصالح واقعيّة وحكم حقيقيّة ، لا تختصّ بشريعة دون اخرى ، وأنّ غير ذلك ممّا يريده من يتبع الشهوات ، الذين يسعون في صدّ المؤمنين عن الوصول إلى الكمال وإخراجهم عن الصراط المستقيم.

ولكن هذه السنّة الإلهيّة قد تناولتها يد التحريف وزيغ المبطلين وشبهات الكاذبين المفترين ، شأنها شأن الفطرة المستقيمة التي لحقتها كثير من الشبهات والتأويلات ، حيث طمست نور الفطرة وبقيت هكذا ، حتّى ظهرت شريعة الحقّ وبيّنت الصحيح من تلك السنن وأمرت المؤمنين باتباعها ، ولكن بقي الصراع بينهم وبين من يريد اتباع الشهوات ، وأمرتنا تلك الآيات الشريفة بالابتعاد عن مكائدهم وخدعهم ، فإنّهم يتوسّلون بأشدّ الأشياء تأثيرا على الإنسان ، وهي الشهوات ، وقد منّ الله على المؤمنين أن وفقهم للتوبة والرجوع عن الباطل إلى الحقّ ، ولعلّ تذييل تلك الآيات الشريفة بقوله تعالى : (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) إشارة إلى ما ذكرناه.

وكيف كان ، فهذه الآيات المباركة ظاهرة في أن تلك الأحكام الاجتماعيّة كانت سنن الأنبياء والمرسلين ، ولا تختصّ بهذه الشريعة ، ولا نظر لها إلى سائر الأمور التي كانت في الشرائع الإلهيّة السابقة التي نسختها شريعة الإسلام.

فما قيل : إنّ ازدواج الإخوة بالأخوات كان سنّة آدم عليه‌السلام ، والجمع بين الأختين كان سنّة يعقوب عليه‌السلام.

باطل ؛ لأنّه ليس من السنن التي من قبلنا ، التي هدانا الله تعالى إليها.

١٠٣

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٢٩) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (٣٠))

بيان لحكم آخر من الأحكام الاجتماعيّة التي لها ارتباط وثيق في حفظ النظام وسعادة الإنسان ، فقد ذكر سبحانه وتعالى اصول الأحكام النظاميّة ، وهي ثلاثة : العرض ، وقد ذكر أحكامه في الآيات السابقة ، والأموال وقد نهى عن التصرّف فيه بالباطل ، والنفوس وبيّن أنّه لا يجوز قتل النفس المحترمة ظلما ، فالآيات الشريفة السابقة منضمّة إلى هذه الآية الكريمة ، قد جمعت الأصول النظاميّة الاجتماعيّة ، كما في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «المسلم على المسلم حرام ، ماله ودمه وعرضه» ، ومجمل أحكامها التي لها دخل في سعادة الإنسان ، كما ذكر عزوجل أنّ التعدّي عنها يوجب الشقاء ودخول النّار والعذاب الأبدي.

التفسير

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ).

الخطاب عامّ يشمل جميع الناس ـ المؤمن وغيره ـ فإنّ أحكام الآية الكريمة امور يحكم بصلاحها فطرة العقول ، وإنّما خصّ المؤمنين بالخطاب تشريفا لهم ؛ ولأنّهم أولى بالتنفيذ لأحكام الله تعالى.

والأكل معروف ، والمراد به في المقام مطلق التصرّف الحاصل من الاستيلاء والسلطنة ، وإنّما عبّر تعالى به لأنّه أعظم المنافع وأعمّها ، فإنّ العمدة من تصرّفات الإنسان في الأشياء هي التغذّي والأكل ؛ لأنّه يحتاج إليه في بقائه.

و (بَيْنَكُمْ) منصوب على الظرفيّة أو الحاليةّ من (أَمْوالَكُمْ) ، وفي تقييد الأكل به للدلالة على أنّ المراد التصرّفات الدائرة على التداول والتعامل ،

١٠٤

فتختصّ الآية الشريفة بالتصرّفات المعامليّة ، أي : لا يتصرّف بعضكم في أموال بعض بالمعاملات الباطلة.

والمال : من الميل ، والمراد به كلّ ما تميل إليه النفس ، سواء كان ملكا أم لا ، وسواء كان عينا خارجيّة أو منفعة أو انتفاعا ، وإنّما أضاف الأموال إلى الجميع لبيان أنّ كلّ ما يصدق عليه المال عند العرف هو مورد الحكم ، وأنّ ماليّة المال إنّما تكون بملاحظة رغبة الجميع ، فإنّه ممّا يقوم به نظام هذا العالم.

والباطل هو الذي لا واقع له ولا حقيقة ، وإن تخيّل الناس له واقعا يزعمهم ، فيكون المراد به في المقام هو كلّ ما لم يقرّره الشارع الذي هو رأس العقلاء ورئيسهم ، فينطبق على كلّ ما لم يكن فيه غرض عقلائي صحيح.

وإنّما عبّر عزوجل بالباطل ليشمل الحكم الوضعيّ والتكليفيّ إذا بنى المتعاملان ترتيب الأثر على المعاملة ، فالآية الشريفة تقرّر أهمّ قاعدة من القواعد النظاميّة العقلائيّة ، فكلّ نقل وانتقال ليس فيه غرض صحيح قرّره الشارع باطلان ، فتمشل جميع المعاملات المحرّمة ، سواء كانت الحرمة في أحد العوضين أو في كليهما ، كالخمر والخنزير والمغصوب ، أم أحد المتعاملين كبيع المجنون والسفيه ، أم في نفس النقل والانتقال ، كالربا والقمار ، والبيوع الغررية ، وبيع الحصاة والنواة ، أم كانت سفهيّة كبيع ما لا منفعة فيه.

والآية المباركة جامعة لجميع أبواب المعاملات المذكورة في الفقه الإسلامي وفروعها كثيرة مذكورة في الكتب الفقهيّة ، راجع كتابنا (مهذب الأحكام).

قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ).

التجارة إمّا مصدر اتّجر يتّجر فتشمل جميع العقود المعامليّة أو اسم للأعيان التي تقع عليها المعاملات الدائرة بين الناس ، وإلى ذلك يرجع ما ذكره الراغب : إن التجارة هي التصرّف في رأس المال طلبا للربح ، وقال : ليس في كلامهم تاء بعدها جيم غير هذا اللفظ ، أي : المصدر.

١٠٥

والتجارة إمّا على النصب على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه ، والتقدير إلا أن تكون الأموال تجارة.

وأشكل عليه بأنّه زيادة حذف وتقدير ؛ وأنّ الأموال ليست بتجارة ، بل هي ما يتاجر به. ولكن عرفت أنّ التجارة تطلق على الأموال التي تملك بعقود المعاوضات مع قصد الاكتساب.

أو التقدير إلا أن تكون التجارة تجارة ، فتكون الصفة (عَنْ تَراضٍ) توضيحيّة.

وإمّا أن تقرأ على الرفع على أن (كان) تامّة.

والرضا : هو طيب النفس ، كما يدلّ عليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه».

وإطلاقه يشمل ما إذا كان الرضا مقارنا مع العقد ، أو بعده كما في بيع المكره والفضولي.

واختلف العلماء في الاستثناء الواقع في الآية الشريفة.

فقيل : إنّه متصل ، ومعنى الآية الكريمة : لا تأكلوا أموالكم إلا أن يكون الأكل تجارة عن تراض منكم ، فإذا كان من غير طريق التجارة كان أكلا بالباطل ، فيكون الباطل قيدا توضيحيا جيء به لبيان حال المستثنى منه بعد خروج المستثنى وتعلّق النهي ، نظير قولهم : لا تضرب اليتيم إلا تأديبا.

وقيل : الآية الشريفة تنهى عن مطلق أكل مال الغير بغير عوض ، ولقد كان الرجل يتحرّج عن أن يأكل عند أحد من الناس بعد ما نزلت هذه الآية المباركة ، حتّى نسخ ذلك بقوله تعالى : (وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) ـ الآية [سورة النور ، الآية : ٦١]. ولكن الآية الكريمة أجنبيّة عمّا ذكروه.

وقيل : المراد من الآية الشريفة النهي عن صرف المال في ما لا يرضاه الله تعالى ، وبالتجارة صرفه في ما يرضاه عزوجل.

ويردّ عليه ما تقدّم.

١٠٦

وقيل : إن الاستثناء منقطع جيء به لدفع الدخل ، فإنّه لما نهى عن أكل المال بالباطل. وهو نوع المعاملات الدائرة في المجتمع الجاهلي التي بها يتحقّق النقل والانتقال ، كالمعاملات الربويّة والمبنيّة على الغرر والجهالة ، والقمار وأضرابها فإنّها باطلة في الشرع ، فإنّه من الجائز أن يتوهّم متوهّم أنّ ذلك يوجب انهدام النظام وفيه هلاك الناس ، فالآية الكريمة في مقام رفع هذا التوهّم بأنّ المعاملة التي يحتفظ بها النظام ، هي المعاملة التي تكون تجارة عن تراض ، نظير قوله تعالى : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ* إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [سورة الشعراء ، الآية : ٨٨ ـ ٨٩] ، فإنّه تبارك وتعالى لما نفى النفع عن المال والبنين يوم القيامة ، يمكن أن يتوهّم أن لا نجاح يومئذ ولا فلاح ، فإنّ معظم ما ينتفع به الإنسان إنّما هو المال والبنون ، فأجيب أنّ هناك أمرا آخر يكون فيه النفع وإن لم يكن من جنس المال والبنين ، وهو القلب السليم.

والحقّ أن يقال : إنّه يصحّ أن يكون الاستثناء متّصلا إذا كان الاستثناء عن عنوان الأكل ، وقد قلنا إنّ المراد منه مطلق التصرّف ، فيصير المعنى : لا تتصرّفوا في أموالكم إلا بالتجارة عن تراض بينكم ، فيجعل عنوان التجارة من طرق إحراز الرضا ، لا أن يكون فيها خصوصية بالخصوص ، فلا يصحّ التصرّف في الأموال مطلقا إلا بما احرز الرضا المقرّر شرعا.

كما يصحّ أن يكون الاستثناء منقطعا إذا لوحظ الأكل بعنوان القيد ، أي : القيد والمقيّد ، فيكون لا محالة التجارة عن تراض خارجا عن ذلك ، فيصير منقطعا.

ويمكن الجمع بين الأقوال بما ذكرنا فإنّه يصحّ باعتبار كلّ ذلك ، فالنتيجة واحدة حقيقة وإن كانت مختلفة سياقا ، ويصحّ تقطيع الكلام بما يناسب الافهام باعتبار القيد أو مع قطع النظر عن المقيّد.

١٠٧

قوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ).

الأصل الثالث من الأصول الكلّية النظاميّة الثلاثة التي يقوم بها نظام الاجتماع الإنساني ، وهي : حفظ الأعراض ، وحفظ الأموال ، وحفظ الأنفس.

وظاهر الجملة أنّها تدلّ على النهي عن قتل النفس المحترمة ، سواء كان قتل نفسه أم قتل غيره ، كما نهى عن أكل الأموال بالباطل مطلقا ، سواء أكان مال نفسه كالإسراف وصرفه في المحرّمات ، أم مال غيره.

وإنّما عبّر عزوجل بذلك للدلالة على وحدة المجتمع ، وأن أنفسهم كنفس واحدة ، وزيادة في الزجر ، فإن من قتل غيره فقد قتل نفسه ، وبهذه العناية يشمل قتل الإنسان نفسه ، أي : الانتحار أيضا.

يضاف إلى ذلك أنّ النواهي والمحرّمات في نظام الإسلام قد لوحظ فيها ارتداع مجموع الامة وحفظ الأصول الثلاثة ، التي يجب حفظها بتكافلهم وتعاضدهم في ترك ما يوجب الإخلال بها.

ومن ذلك يعلم أنّه لا وجه لارتكاب الجمع بين الحقيقة والمجاز في كلام واحد ، كما قاله بعض.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً).

تعليل لما ورد في الآية الشريفة من الأحكام أي : أنّ الله تعالى إنّما شرّع لكم من الأحكام ما يصون به عرضكم ويحفظ به أموالكم وأنفسكم ، فنهاكم عن السفاح وأكل الأموال بالباطل وقتل الأنفس ظلما ، لأنّه رحيم بكم ، فأمركم بما يصلحكم ونهاكم عمّا يضرّكم.

ومن ذلك يظهر أنّه لا وجه لإرجاع هذا التعليل العامّ إلى خصوص بعض صغريات الحكم الأخير ، وهو الانتحار ، باعتبار أنّ قتل النفس بإلقائها في مخاطرة القتل والتسبيب إلى هلاك نفسه المؤدّي إلى قتلها ، فإنّ الآية الكريمة أوسع وأعمّ.

١٠٨

قوله تعالى : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً).

العدوان : هو التجاوز عن الحدّ ، سواء أكان بالقصد أم بالقول أم بالفعل ، وسواء أكان جائزا ممدوحا كالقصاص ، أم محظورا مذموما كقتل النفس المحترمة ابتداء ، وقد وردت هذه المادّة في القرآن الكريم في ثمانية مواضع قال تعالى : (تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) [سورة البقرة ، الآية : ٨٥] ، وقال تعالى : (أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَ) [سورة القصص ، الآية : ٢٨] ، وقال تعالى : (فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) [سورة البقرة ، الآية : ١٩٣] ، وقال تعالى : (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) [سورة المائدة ، الآية : ٢].

والمراد به في المقام بقرينة مقارنته للظلم هو التعدّي على حدود الله تعالى ، فيكون الظلم هو الفعل المتعدّى به عن الحقّ.

والآية الشريفة تسدّ جميع أبواب التعدّي ، سواء في القصد أم في القول أم في الفعل.

و (ذلِكَ) إشارة إلى مجموع ما تقدّم من الأحكام في الآيات السابقة ، كأكل الأموال بالباطل ، وقتل النفس المحرّمة ، والتزويج بالمحرّمات ، وتحليل ما حرّمه الله تعالى وتحريم ما أحلّه عزوجل.

وفي الآية المباركة التفات عن خطاب المؤمنين إيماء إلى أنّ من فعل ذلك منهم فليس من المؤمنين ، فلا يخاطب المؤمنون بفعله ، وهم كنفس واحدة ، وإنّما يخاطب الرسول الذي هو وليّ المؤمنين والمأمور فيهم بإجراء أحكام الله تعالى ، وعلى ذلك ينزل عموم الخطاب.

قوله تعالى : (فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً).

الاصلاء بالنار : الإحراق بها ، وتقدّم ما يرتبط بهذه المادّة في قوله تعالى : (وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) [سورة النساء ، الآية : ١٠]. والجملة جواب الشرط ،

١٠٩

وترتّبها على السابق ترتّب المعلول على العلّة التامّة ، والصلي بالنار إنّما يكون في الآخرة ، لأنّها دار جزاء الأعمال.

قوله تعالى : (وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً).

أي : جزاء مخالفة ما ذكر من الأحكام ـ في الآيات سواء كانت بالنسبة إلى النفوس أم الأموال أم الأعراض ـ يسير على الله تعالى ، فإنّه قادر على كلّ شيء. وأمّا قول من قال بأنّ التعليل والتهديد راجع إلى خصوص القتل فلا تعميم فيه ، فهو مخالف لسياق الآية الشريفة ودأب القرآن الكريم في سائر الموارد التي يذكر فيها عزوجل أمورا كثيرة ثم يأتي بتعليل واحد يعمّ الجميع ويشمله.

بحوث المقام

بحث دلالي :

تدلّ الآيات الشريفة على امور :

الأول : يدلّ قوله تعالى : (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) على حرمة أكل الأموال بالباطل والتصرّف فيها بما نهى عنه الشارع ، ويستتبع هذا الحكم التكليفي حكما وضعيّا آخر ، وهو بطلان المعاملات المشتملة على الباطل وفسادها واشتغال الذمة بما تصرّف فيها.

الثاني : إطلاق الباطل في الآية الشريفة يشمل الباطل الشرعيّ بلا إشكال ، وكذا الباطل العرفي ، أي : ما ليس فيه غرض صحيح عقلائيّ ، فكلّ مورد إذا حكم العرف بأنّه باطل تشمله الآية المباركة ولا يجوز التعامل فيه ، كما تشمل الآية جميع المناهي الشرعيّة والأفعال المحرّمة إذا وقعت موردا للمعاوضة.

الثالث : الآية الكريمة : (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ) ، تدلّ على إباحة التجارة ومشروعيتها ، وعمومها يشمل جميع أنواع التجارات كالبيع والإجارة

١١٠

والمزارعة والمساقاة والمضاربة والقراض ، وغيرها ولا بد أن تكون التجارة مستجمعة لجميع شرائط الصحّة.

الرابع : يدلّ قوله تعالى : (عَنْ تَراضٍ) على كفاية الرضا مطلقا ، سواء كان حين العقد والعطاء أم بعد كلّ منهما ، فيصحّ بيع الفضولي وبيع المكره إذا لحقهما الرضا والإجازة.

كما يدلّ الإطلاق على كفايته في التملّك من غير توقّف على العقد ، إلا إذا دلّ دليل على اعتباره ، ومن هنا اتّفق الكلّ على صحّة المعاطاة في التجارات.

الخامس : تدلّ الآية المباركة على لزوم المعاملات المشتملة على الرضا إلا إذا دلّ دليل على الجواز. ومن هنا قال الفقهاء : الأصل في كلّ معاملة اللزوم إلا ما خرج بالدليل.

السادس : ذكر بعض المفسّرين أنّ الوجه في الاستثناء المنقطع في الآية الشريفة الإشارة إلى أنّ جميع ما في الدنيا من التجارة ونحوها من قبيل الباطل ؛ لأنّه لا ثبات له ولا بقاء ، فينبغي أن لا يشتغل به العاقل عن الاستعداد للآخرة التي هي خير وأبقى.

أقول : إنّ ما ذكره وإن كان حقّا كما تدلّ عليه آيات كثيرة ، ولكن الآية المباركة لا ظهور لها فيه ، مضافا إلى أنّه لا يرتبط بكون الاستثناء متصلا أو منقطعا.

السابع : يدلّ قوله تعالى : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً) على النهي عن كلّ ما يوجب هتك حرمات الله تعالى ، سواء كان بالتشريع أم بالقصد أم بالقول أم بالفعل. والآية الكريمة تدلّ على بعد من يفعل ذلك عن رحمة الله تعالى.

الثامن : يدلّ التعليل الوارد في الآية الشريفة : (إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) أنّ الأحكام الإلهيّة والتشريعات السماويّة من مظاهر رحمته تبارك وتعالى بعباده ، وأنّها غاية النظام التكويني.

١١١

بحث روائي

في المجمع : في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ) في الباطل قولان : «أحدهما أنّه الربا والقمار والبخس والظلم ، قال : وهو المرويّ عن الباقر عليه‌السلام».

أقول : ذكر ذلك من باب المثال والمصداق لكلّ محرّم ، لا التخصيص بما ذكر.

وممّا ذكرنا يظهر ما رواه في نهج البيان عن الصادقين عليهما‌السلام من أنّه : القمار والسحت والربا والأيمان ، وفي رواية اخرى عن الصادق عليه‌السلام التخصيص بالقمار فقط.

وفي التهذيب : عن ابن محبوب عن سلمة قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الرجل منّا يكون عنده الشيء يتبلّغ به وعليه دين ، أيطعمه عياله حتّى يأتيه الله عزوجل بميسرة فيقضي دينه ، أو يستقرض على ظهره في خبث الزمان وشدّة المكاسب ، أو يقبل الصدقة؟ قال : يقضي بما عنده دينه ، ولا يأكل من أموال الناس إلّا وعنده ما يؤدّي إليهم حقوقهم ، إن الله يقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) ، ولا يستقرض على ظهره إلا وعنده وفاء ، ولو طاف على أبواب الناس فردّوه باللقمة أو اللقمتين والتمرة والتمرتين ، إلا أن يكون له وليّ يقضي دينه من بعده ، ليس منا من ميت يموت إلا وجعل الله عزوجل له وليّا حتّى يقوم في عدّته ودينه ، فيقضي عدّته ودينه».

أقول : الرواية موافقة للقواعد الفقهيّة ، فإنّ من ليس عنده شيء وليس له استعداد طلب المال ولا قوة الاكتساب ، وليس له من يعينه على ذلك ، وليس له رجاء الصلاحية ، لا يعتبر الناس له ذمّة حتّى يستدين على الذمّة.

١١٢

وفي تفسير العياشي عن أسباط بن سالم قال : «كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام فجاءه رجل فقال له : اخبرني عن قول الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) ، قال : عنى بذلك القمار ، وأمّا قوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) عنى بذلك الرجل من المسلمين يشدّ عن المشركين وحده ، يجيء في منازلهم فيقتل ، فنهاهم الله عن ذلك».

أقول : تقدّم ما يرتبط بصدر الحديث ، وهو يدلّ على العموم.

وأمّا ذيل الحديث ، فيدلّ عليه قوله تعالى أيضا : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) ، وكلّ قتال مع المشركين لا بد وأن يكون بشرائط مذكورة في كتاب الجهاد.

وفي الدرّ المنثور : أخرج ابن ماجة وغيره عن ابن سعيد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّما البيع عن تراض».

أقول : ذكر البيع في كلامه صلى‌الله‌عليه‌وآله من باب ذكر أهمّ الأفراد وأغلبها ، وإلا فكلّ تجارة وعقد لا بد أن تكون عن تراض.

وفي تفسير العياشي عنه عليه‌السلام قال : «كان الرجل يحمل على المشركين وحده حتّى يقتل أو يقتل ، فأنزل الله تعالى هذه الآية : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً)».

أقول : لعلّ ذلك من أحد مناشئ النزول وأسبابه.

وفي تفسير العياشي ـ أيضا ـ : عن إسحاق بن عبد الله بن محمد بن علي بن الحسين ، قال : حدّثنى الحسن بن زيد ، عن أبيه ، عن علي بن أبي طالب قال : «سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الجبائر يكون على الكسير ، كيف يتوضّى صاحبها؟ وكيف يغتسل إذا أجنب؟ قال : يجزيه المسح بالماء عليها في الجنابة والوضوء ، قلت : فإن كان في برد يخاف على نفسه إذا أفرغ الماء على جسده ، فقرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً)».

١١٣

أقول : ذكرنا في التفسير أنّ الآية الشريفة تشمل قتل الغير وقتل النفس ، أي : الانتحار ، ولهذا مصاديق كثيرة ، والحديث يدلّ على نفي كلّ حرج.

وعن ابن المغازلي في كتابه عن ابن عباس في قوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) ، قال : لا تقتلوا أهل بيت نبيّكم ، إنّ الله يقول في كتابه : (فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ) ، قال : كان أبناء هذه الامة الحسن والحسين عليهما‌السلام ، وكان نساؤهم فاطمة عليها‌السلام ، وأنفسهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وعليّ عليه‌السلام.

أقول : يمكن أن يقال : إن المنصرف من الأنفس هي الأنفس التي لها موقعيّة عند الله تبارك وتعالى ، وهي منحصرة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام ، الذين هم حملة القرآن وشرّاحه ، ويمكن أن يستشهد لذلك ببعض الآيات والأخبار. وأمّا إضافتها إليهم ، فلبيان أنّهم منهم ظاهرا ، وإن لم يكن منهم واقعا ، فلا ينبغي أن يقتل الإنسان مثله ومن كان هو نظيره في الظاهر.

في الفقيه : قال الصادق عليه‌السلام : «من قتل نفسه متعمّدا فهو في نار جهنّم خالدا فيها ، قال الله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٢٩) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً).

أقول : تقدّم أنّ الآية المباركة عامّة تشمل قتل النفس وقتل الغير ، والرواية تدلّ على ذلك أيضا.

وفي الدرّ المنثور : عن ابن عباس : «أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله باع رجلا ثم قال له : اختر ، فقال : قد اخترت ، فقال : هكذا البيع».

وفيه أيضا أخرج البخاريّ ، والترمذيّ والنسائيّ عن ابن عمر قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : البيّعان بالخيار ما لم يتفرّقا ، أو يقول أحدهما للآخر : اختر».

أقول : ذكرنا ما يتعلّق بهذه الأحاديث في أحكام الخيارات من كتابنا (مهذب الأحكام) ، وجميع هذه الروايات تدلّ على اعتبار التراضي في المعاوضات.

١١٤

بحث عرفاني

المراد من قوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) هو القتل بغير الحقّ ، وأمّا إذا كان بحقّ فهو محبوب ، وهو يتحقّق في موارد :

منها : القتل قصاصا ، قال تعالى : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً) [سورة الاسراء ، الآية : ٣٣].

ويمكن إدخال هذا الموارد في منطوق الآية الشريفة أيضا بأن يقال : لا تقتلوا الغير فتعرّضوا أنفسكم إلى القتل ولو كان قصاصا ، فتدلّ الآية المباركة على النهي عن تعريض النفس للقتل والهلاك.

ومنها : القتل في سبيل الله وجهاد الحقّ مع الباطل ، قال تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ* فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٦٩ ـ ١٧٠] ، وقال تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [سورة التوبة ، الآية : ٥].

ومنها : القتل الذي هو قرّة عين الأولياء المتّقين والعرفاء الشامخين ، وهو قتل النفس الأمّارة بالسوء والشهوات الحيوانيّة ، وهو الذي أشار إليه سيد الأنبياء بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «موتوا قبل أن تموتوا» ، وقد حثّت عليه السنّة الشريفة بألسنة شتى ، ففي الحديث : «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا» ، لكن يجب أن يكون بالشروط المعتبرة المذكورة في علم الأخلاق ، بل لم يوضع هذا العلم إلا لأجل ذلك ، وله طرق متعدّدة ، ومن أهمّها حقيقة الإيمان بالله تعالى ورسوله ، قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ) [سورة النساء ، الآية ١٣٦] ، وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [سورة الحديد ، الآية : ٢٨] ،

١١٥

وليس المراد بهذا النور الأنوار الظاهريّة الجسمانيّة ، بل هي أنوار معنويّة لا حدّ لها ولا نهاية لعظمتها.

ومن تلك الطرق جملة العبادات الشرعيّة المبنيّة على الخلوص والإخلاص ، والخضوع والخشوع والتضرّع عند ربّ الأرباب ، ولعلّ ذيل الآية الشريفة : (إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) ، إشارة إلى بعض ما تضمّنه الصدر.

ويمكن أن يراد بالقتل في قوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) ، مطلق الأذيّة بغير حقّ ، وهو شائع في العرف يقال : «قتلني بلسانه ومن اذيته» ، فتختصّ حينئذ بأولياء الله الذين هم العلّة الغائيّة لخلق العالم بروحانيّاته وجسمانيّاته ، وقد ورد في الحديث : «من آذى لي وليّا فقد بارزني بالمحاربة» ، و «من آذاهم فقد آذى الله» ، فلا بد من الاحتفاظ على العلّة الغائيّة ، فإنّها العلّة واقعا.

وأمّا قوله تعالى : (وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) ، فقد ورد في عدّة مواضع من القرآن الكريم ، ولا ريب في أن الممكن من حيث هو ممكن إذا لوحظ بالنسبة إلى الواجب بالذات ، تكون النسبة نسبة العدم إلى الوجود ، لما ثبت في الحكمة المتعالية حتّى جعله العلماء من القواعد الفلسفية : «ان الممكن من ذاته ليس ، ومن علّته أيس».

هذا إذا لوحظ بالنسبة إلى ذات الواجب من حيث هو.

وأمّا إذا لوحظ بالنسبة إلى القيوميّة المطلقة ، والقدرة غير المتناهيّة ، والإحاطة العلميّة فوق ما نتعقّله من معنى الإحاطة ، فجميع العوالم الإمكانية كالذرّة تحت يدي جبّار قهّار ، وحينئذ يكون التعبير ب : (يسيرا) تعبيرا مجازيا ، إذ ليس شيء في مقابل ذلك الجبروت المهيمن حتّى يكون يسيرا ، هذا كلّه بالنسبة إلى عذابه.

وأمّا بالنسبة إلى رحمته ، فالأمر أيسر ، لأنّ رحمته سبقت غضبه ، وأنّ رحمته وسعت كلّ شيء.

١١٦

(إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (٣١))

الآية الشريفة على إيجازها البليغ واسلوبها البديع تشتمل على الترغيب والترهيب والوعد والوعيد والأمل والرجاء بالسعادة ، فهي تدلّ على وجوب الاجتناب عن المناهي ، التي يوجب ارتكابها الشقاوة والعذاب العظيم.

كما أنّها تدلّ على أنّ الارتداع عن الكبائر المنهيّة يوجب الدخول في النعيم الأبدي ، ويستلزم السعادة الحقيقيّة ، ولا يخفى ارتباطها بما قبلها من الآيات التي تضمّنت جملة من الأحكام الشرعيّة والمناهي الإلهيّة التي شرّعها الله تعالى لأجل مصالح الإنسان.

التفسير

قوله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ).

الاجتناب أبلغ من الترك ؛ لأنّه ملحوظ فيه النفور والاشمئزاز ، وهو مأخوذ من الجنب الذي هو الجارحة. وإنّما بني عنه الفعل على سبيل الاستعارة ، فإنّ الإنسان إذا أعرض عن شيء تركه جانبا ، والاجتناب هو الابتعاد عن الشيء وملازمة تركه ، وقد وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم في أربعة عشر موضعا كلّها تدلّ على أهمية المنهي عنه كالطاغوت ، قال تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) [سورة النحل ، الآية : ٣٦].

والرجس ، قال تعالى : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ) [سورة الحج ، الآية ٣٠].

وقول الزور ، قال تعالى : (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) [سورة الحجر ، الآية : ٣٠].

١١٧

وعبادة الأصنام ، قال تعالى : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) [سورة إبراهيم ، الآية : ٣٥].

والنّار ، قال تعالى : (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى) [سورة الليل ، الآية : ١٧].

وسوء الظنّ ، قال تعالى : (اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِ) [سورة الحجرات ، الآية : ١٢].

والتجنّب تارة يحصل بالنسبة إلى الشيء قصدا وفعلا دائما من أوّل التمييز إلى حين الموت.

واخرى : بالنسبة إلى القصد فقط دون العمل ، بأن يقصد الاجتناب عن الكبائر مطلقا ، ولكن يتفق صدور بعضها عنه غفلة.

وثالثة : يكون اجتنابا عرفيّا ، بحيث يصدق على الشخص أنّه مجتنب عرفا ، فيكون له وللارتكاب مراتب متفاوتة.

ومقتضى القواعد الشرعيّة ـ وهو الموافق لسعة رحمته تبارك وتعالى ـ اعتبار الأخير ، ولكن مقتضى الجمود على ظاهر اللفظ هو الثاني.

والكبائر : جمع كبيرة ، وهي والصغيرة من الأمور الإضافيّة. والآية الشريفة تدلّ على أنّ المعاصي قسمان كبيرة وصغيرة ، والاولى هي الفعلة القبيحة من الذنوب المنهي عنها شرعا ، العظيم أمرها كالقتل ، والزنا ، والفرار من الزحف ونظائرها.

وإن كانت المعاصي كلّها تشترك في أصل المخالفة والعصيان على الله تعالى فهي كبيرة من هذه الجهة ، فإنّ ذلك مقياس الذنب بين الإنسان المربوب المخلوق الضعيف ، وبين الله تعالى الذي لا منتهى لعظمته وسلطانه ، فلا فرق في أفراد المعاصي حينئذ.

وهنا لا ينافي كونها تتصف بالكبيرة والصغيرة إذا لوحظت فيما بينها كما

١١٨

هو الشأن في الأمور الإضافيّة ، فإنّ كبر المعصية يدلّ على أهميّة النهي عنها وعظم المخالفة ، إذا قيس بالنسبة إلى النهي عن الآخر.

فهما وصفان للمعاصي والآثام والذنوب ، وفي المقام حذف الموصوف وأقيم الوصف مقامه ، وإن الصغر والكبر من المبينات العرفيّة ، وبهذا المعنى العرفي وقع في الكتاب والسنّة واصطلاح العلماء في علمي الفقه والأخلاق ، فالنظر إلى الأجنبيّة مثلا صغيرة إذا قيس إلى سائر الاستمتاعات بها ، والمخالفة في الثاني أعظم وأكبر من المخالفة في الأوّل ، ويدلّ على ذلك قوله تعالى : (ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) ، فإنّ المستفاد منه اختلاف المناهي في العظمة والأهميّة ، ولا بد من استفادة الأهميّة من الشرع أيضا.

وقد ذكر العلماء (قدس الله اسرارهم) طرقا كثيرة ، وأهمّها ما ذكر في الفقه وهو : أنّ كلّ ذنب أوعد عليه بالنّار ، أو تعدّد الخطاب فيه ، والنهي عن الإصرار والتكرار.

وهذا هو المقياس في تحديد الكبائر في الإسلام ، وربّما تكشف النصوص بعض الكبائر وتنصّ عليها بأنّها كبيرة ، فتكون غيرها بالنسبة إليها صغيرة. وقد ذكر العلماء في تعريف الكبائر والصغائر وتمييز كلّ واحدة منها عن الاخرى وجوها ، سيأتي في البحث الأخلاقي ما يتعلّق بذلك.

وربّما يتوهّم أنّ الإضافة في قوله تعالى : (كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) بيانيّة ، فتدلّ الآية الكريمة على اجتناب جميع المعاصي ، وتكون معنى الآية المباركة حينئذ : إن تجتنبوا المعاصي جميعا نكفّر عنكم سيئاتكم ، ولا سيئة مع اجتناب المعاصي ، فتكون من قبيل السالبة المنتفية بانتفاء الموضوع.

ويردّ عليه أنّه خلاف ظاهر الآية الشريفة ، إلا أن يقال : إنّه يرجع إلى تكفير سيئات المؤمنين قبل نزول الآية المباركة.

١١٩

وفيه : أنّه يلزم تخصيص الآية الشريفة بمن حضر عند النزول ، وهو خلاف ظاهر الآية الكريمة أيضا.

قوله تعالى : (نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ).

مادة (كفر) تدلّ على الستر ، وكفّر الشيء إذا غطاه ، ويقال للفلاح : كافر ، لأنّه يكفر البذر ، أي : يستره ، قال تعالى : (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ) [سورة الحديد ، الآية : ٢٠] ، ومنه كفر النعمة والإحسان إذا غطّاها بترك الحمد والشكر عليها أو جحدها ، وفي الحديث : «رأيت أكثر أهل النّار النساء لكفرهن ، قيل : أيكفرن بالله؟ قال : لا ، ولكن يكفرن الإحسان ويكفرن العشير» ، أي : يجحدن إحسان أزواجهن ويسترنه ، ومنه سمّي الكافر أيضا ؛ لأنّه كفر بالصانع والمبدأ ، وكفّر الله عنه الذنب ، إذا ستره ومحاه عن العبد.

وقد وردت هذه المادّة في القرآن الكريم في ما يزيد عن خمسمائة مورد ، أغلبها استعملت في مورد الكفر بالله والأنبياء واليوم الآخر.

ولكن ذكر التكفير عن السيئات في القرآن الكريم ورد في نحو ثلاثة عشر موردا متعديا بكلمة (عن).

والمستفاد من موارد استعماله في القرآن الكريم أنّ المراد منه العفو عن السيئات وحطّ وزرها عن المسيء ، والإحباط نقيضه التكفير ، وإنّما يتحقّق بفعل الطاعات وترك الكبائر ، فيكون تكفير السيئات حينئذ من الله جلّت عظمته محو الذنب وإسقاطه بالمرّة ، فلا يضرّ فعله بالعدالة إلا بالإصرار على الصغائر ، فيكون من الكبائر ، فلا يتحقّق حينئذ شرط التكفير وهو الاجتناب عن الكبائر ، وهذا من أحسن التدبيرات الإلهيّة في عباده ، حيث لا يبعدهم عن رحمته الواسعة بمجرّد ارتكاب المخالفة.

نعم ، الإصرار إنّما يتحقّق بعدم تخلّل التوبة بين ارتكاب صغيرة وصغيرة اخرى ، وإما مع تخللها ، فلا موضوع حينئذ للإصرار.

١٢٠