تفسير الثعالبي - ج ٤

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي

تفسير الثعالبي - ج ٤

المؤلف:

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٥

وقال الطبريّ (١) : يريد نفسه ، وموسى ، والأول أذهب مع مخرقة فرعون ، وباقي الآية بيّن ، ثم قال السحرة لفرعون : (لَنْ نُؤْثِرَكَ) أي : لن نفضلك ، ونفضّل السلامة منك على ما رأينا من حجّة الله تعالى ، وآياته ، وعلى الذي فطرنا ، هذا على قول جماعة : أنّ الواو في قوله (وَالَّذِي) : عاطفة.

وقالت فرقة : هي واو القسم ، و (فَطَرَنا) أي : خلقنا ، واخترعنا ، فافعل يا فرعون ما شئت ؛ وإنما قضاؤك في هذه الحياة الدنيا ، والآخرة من وراء ذلك لنا بالنعيم ، ولك بالعذاب الأليم.

وهؤلاء السحرة اختلف الناس : هل نفذ فيهم وعيد فرعون ، أم لا؟ والأمر في ذلك محتمل.

وقولهم : (وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى) ردّ لقول فرعون : (أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى).

(إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (٧٤) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (٧٥) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (٧٦) وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (٧٧) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (٧٨) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى) (٧٩)

وقوله عزوجل : (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى ...) الآية.

قالت فرقة : هذه الآية بجملتها من كلام السحرة لفرعون على جهة الموعظة له ، والبيان فيما فعلوه.

وقالت فرقة : بل هي من كلام الله عزوجل لنبيّنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم تنبيها على قبح ما فعل فرعون ، وحسن ما فعل السحرة ، وموعظة ، وتحذيرا قد تضمنت القصّة المذكورة مثاله.

وقوله : (لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) مختصّ بالكافر ؛ فإنه معذّب عذابا ينتهي به إلى الموت ، ثم لا يجهز عليه فيستريح ، بل يعاد جلده ، ويجدّد عذابه. وأما من يدخل النار من المؤمنين بالمعاصي ، فهم قبل أن تخرجهم الشفاعة في غمرة

__________________

(١) ينظر : «الطبريّ» (٨ / ٤٣٦)

٦١

قد قاربوا الموت ، إلا أنّهم لا يجهز عليهم ، ولا يجدد عذابهم ؛ فهذا فرق ما بينهم وبين الكفار ، وفي الحديث الصحيح : «أنّهم يماتون فيها إماتة» ، وهذا هو معناها ؛ لأنه لا موت في الآخرة : و (تَزَكَّى) معناه : أطاع الله ، وأخذ بأزكى الأمور.

وقوله سبحانه : (وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى) هذا استئناف إخبار عن شيء من أمر موسى ، وباقي الآية بيّن ، وقد تقدم ذكر ما يخصها من القصص.

وقوله تعالى : (لا تَخافُ دَرَكاً) أي : من فرعون ، وجنوده ، (وَلا تَخْشى) غرقا من البحر.

وقوله : (ما غَشِيَهُمْ) إبهام أهول من النصّ ؛ وهذا كقوله : (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى). [النجم : ١٦].

(وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ) يريد : من أول أمره إلى هذه النهاية ، (وَما هَدى) مقابل لقوله : (وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) [غافر : ٢٩].

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (٨٠) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (٨١) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى) (٨٢)

وقوله عزوجل : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ ...) الآية ، ظاهر هذه الآية : أنّ هذا القول قيل لبني إسرائيل حينئذ عند حلول النّعم التي عددها الله عليهم ، ويحتمل أن تكون هذه المقالة خوطب بها معاصرو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمعنى : هذا فعلنا بأسلافكم ؛ وتكون الآية على هذا اعتراضا في أثناء قصة موسى ، والقصد به توبيخ هؤلاء الحضور إذ لم يصبر سلفهم على أداء شكر نعم الله تعالى ، والمعنى الأول أظهر وأبين.

وقوله سبحانه : (وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ ...) الآية ، وقصص هذه الآية : أن الله تعالى لما أنجى بني إسرائيل ، وغرّق فرعون ، وعد بني إسرائيل أن يسيروا إلى جانب طور سيناء ؛ ليكلم فيه موسى ، ويناجيه بما فيه صلاحهم ، فلما أخذوا في السير ، تعجل موسى عليه‌السلام ؛ ابتغاء مرضاة ربّه ، حسبما يأتي بعد.

وقرأ جمهور الناس (١) : «فيحلّ» بكسر الحاء ، «ويحلل» بكسر اللام.

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ٥٦) ، و «البحر المحيط» (٦ / ٢٤٦) ، و «الدر المصون» (٥ / ٤٥) ، و «السبعة» (٤٢٢) ، و «الحجة» (٥ / ٢٤٢) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٤٨) ، و «معاني القراءات» (٢ / ١٥٦) ، و «شرح ـ

٦٢

وقرأ الكسائيّ وحده بضمهما ، ومعنى الأول : فيجب ، ويحقّ ، ومعنى الثاني : فيقع وينزل ، و (هَوى) معناه : سقط أي : هوى في جهنّم ، وفي سخط الله ـ عافانا الله من ذلك ـ ، ثم رجّى سبحانه عباده بقوله : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ ...) الآية ، والتوبة من ذنب تصحّ مع الإقامة على غيره ، وهي توبة مقيدة ، وإذا تاب العبد ، ثم عاود الذنب بعينه بعد مدّة ؛ فيحتمل عند حذّاق أهل السنة : ألّا يعيد الله تعالى عليه الذنب الأول ؛ لأن التوبة قد كانت محته ، ويحتمل : أن يعيده لأنها توبة لم يوف بها ، واضطرب الناس في قوله سبحانه : (ثُمَّ اهْتَدى) من حيث وجدوا الهدى ضمن الإيمان والعمل ؛ فقالت فرقة : ثم لزم الإسلام حتى يموت عليه.

وقيل : غير هذا ، والذي يقوي في معنى : (ثُمَّ اهْتَدى) أن يكون : ثم حفظ معتقداته من أن تخالف الحق في شيء من الأشياء ؛ فإن الاهتداء على هذا الوجه غير الإيمان ، وغير العمل ؛ وربّ مؤمن عمل صالحا قد أوبقه عدم الاهتداء ؛ كالقدرية والمرجئة ، وسائر أهل البدع ، فمعنى : (ثُمَّ اهْتَدى) : ثم مشى في عقائد الشرع على طريق قويم ـ جعلنا الله منهم بمنه ـ وفي حفظ المعتقدات ينحصر معظم أمر الشرع.

(وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (٨٣) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (٨٤) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (٨٥) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (٨٦) قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (٨٧) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (٨٨) أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (٨٩) وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (٩٠) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (٩١) قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (٩٣) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (٩٤) قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (٩٥) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (٩٦) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (٩٧) إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) (٩٨).

__________________

ـ الطيبة» (٥ / ٤٨) ، و «العنوان» (١٣٠) ، و «حجة القراءات» (٤٦٠) ، و «شرح شعلة» (٤٩٥) ، و «إتحاف» (٢ / ٢٥٣)

٦٣

وقوله سبحانه : / (وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى) الآية ، وقصص هذه الآية : أن موسى عليه‌السلام لمّا شرع في النهوض ببني إسرائيل إلى جانب الطور ؛ حيث كان الموعد أن يكلم الله موسى بما لهم فيه شرف العاجل والآجل ـ رأى موسى عليه‌السلام على جهة الاجتهاد أن يتقدم وحده مبادرا لأمر الله سبحانه ؛ طلبا لرضائه ، وحرصا على القرب منه ، وشوقا إلى مناجاته ، واستخلف عليهم هارون ، وقال لهم موسى : تسيرون إلى جانب الطور ، فلما انتهى موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وناجى ربّه ، زاده الله في الأجل عشرا ، وحينئذ وقفه على معنى استعجاله دون القوم ؛ ليخبره موسى أنهم على الأثر ، فيقع الإعلام له بما صنعوا ، وأعلمه موسى أنه إنما استعجل طلب الرضى ، فأعلمه الله سبحانه : أنه قد فتن بني إسرائيل ، أي : اختبرهم بما صنع السامريّ ، ويحتمل أن يريد : ألقيناهم في فتنة ، فلما أخبر الله تعالى موسى بما وقع ، رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا ، وباقي الآية بيّن ، وقد تقدّم قصصها مستوفى ؛ وسمّى العذاب غضبا من حيث هو عن الغضب.

وقرأ نافع (١) ، وعاصم : «بملكنا» بفتح الميم ، وقرأ حمزة ، والكسائيّ : «بملكنا» بضمة ، وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «بملكنا» بكسرة ؛ فأما فتح الميم ، فهو مصدر من ملك ، والمعنى : ما فعلنا ذلك بأنا ملكنا الصواب ، ولا وفّقنا له ، بل غلبتنا أنفسنا.

وأما كسر الميم ، فقد كثر استعماله فيما تحوزه اليد ، ولكنه يستعمل في الأمور الّتي يبرمها الإنسان ، ومعناها كمعنى التي قبلها ، والمصدر مضاف في الوجهين إلى الفاعل.

وقولهم : (وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً ...) الآية ؛ سموها أوزارا من حيث هي ثقيلة الأجرام ، أو من حيث تأثّموا في قذفها ، وقرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائيّ : «حملنا» بفتح (٢) الحاء ، والميم.

وقولهم : (فَكَذلِكَ) أي : فكما قذفنا نحن ، فكذلك أيضا ألقى السامري.

قال ع (٣) : وهذه الألفاظ تقتضي أنّ العجل لم يصغه السامريّ ، ثم أخبر (٤) تعالى

__________________

(١) ينظر : «السبعة» (٤٢٢ ، ٤٢٣) ، و «الحجة» (٥ / ٢٤٤) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٤٩) ، و «معاني القراءات» (٢ / ١٥٦) ، و «شرح الطيبة» (٥ / ٤٩) ، و «العنوان» (١٣٠) ، و «شرح شعلة» (٤٩٦) ، و «إتحاف» (٢ / ٢٥٤)

(٢) ينظر : «السبعة» (٤٢٣) ، و «الحجة» (٥ / ٢٤٦) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٥٠) ، و «معاني القراءات» (٢ / ١٥٧) ، و «شرح شعلة» (٤٩) ، و «العنوان» (١٣٠) ، و «شرح شعلة» (٤٩٦) ، و «إتحاف» (٢ / ٢٥٥)

(٣) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ٥٩)

(٤) في ج : أخبر الله.

٦٤

عن فعل السامري بقوله : (فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً) ومعنى قوله (جَسَداً) أي شخصا لا روح فيه ، وقيل : معناه جسدا لا يتغذى ، «والخوار» : صوت البقر.

قالت فرقة منهم ابن عباس : كان هذا العجل يخور ويمشي ، وقيل غير هذا (١).

وقوله سبحانه : (فَقالُوا) يعني : بني إسرائيل : (هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ) موسى إلهه ، وذهب يطلبه في غير موضعه ، ويحتمل أن يكون قوله (فَنَسِيَ) إخبارا من الله تعالى عن السّامريّ ؛ أي : فنسي السامري دينه ، وطريق الحق ، فالنّسيان في التأويل الأول بمعنى الذهول ، وفي الثّاني بمعنى الترك.

ت : وعلى التأويل الأول عوّل البخاري (٢) : وهو الظاهر.

ولقولهم أيضا قبل ذلك : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً) [الأعراف : ١٣٨].

وقول هارون : (فَاتَّبِعُونِي) أي : إلى الطور الّذي واعدكم الله تعالى إليه (وَأَطِيعُوا أَمْرِي) فيما ذكرته لكم ؛ فقال بنو إسرائيل حين وعظهم هارون ، وندبهم إلى الحق : (لَنْ نَبْرَحَ) عابدين لهذا الإله عاكفين عليه ، أي : ملازمين له.

ويحتمل قوله : (أَلَّا تَتَّبِعَنِ) أي : ببني إسرائيل نحو جبل الطور ، ويحتمل قوله : (أَلَّا تَتَّبِعَنِ) أي : ألّا تسير بسيري ، وعلى طريقتي في الإصلاح والتسديد.

وقوله : (يَا بْنَ أُمَ) قالت فرقة : إنّ هارون لم يكن أخا موسى إلا من أمه.

قال ع (٣) : وهذا ضعيف. وقالت فرقة : كان شقيقه ؛ وإنما دعاه بالأم استعطافا برحم الأم ، وقول موسى : (فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُ) هو كما تقول : ما شأنك ، وما أمرك ، لكن لفظة الخطب تقتضى انتهارا ؛ لأن الخطب مستعمل في المكاره ، و (بَصُرْتُ) بضم الصاد : من البصيرة ، وقرأت فرقة بكسرها (٤) ، فيحتمل أن يراد من البصيرة ، ويحتمل من البصر.

__________________

(١) ذكره ابن عطية (٤ / ٥٩)

(٢) ينظر : «البخاري» (٨ / ٢٨٥) كتاب التفسير : باب سورة طه.

(٣) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ٦٠)

(٤) قرأ بها أبو السمّال والأعمش مع فتح صاد «يبصروا».

كما في «مختصر الشواذ» ص ٩٢.

وينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ٦١) ، و «البحر المحيط» (٦ / ٢٥٤) ، و «الدر المصون» (٥ / ٤٩) ، و «التخريجات النحوية» ص ٢٩٢.

٦٥

وقرأ حمزة ، والكسائيّ (١) : «بما لم تبصروا» بالتاء من فوق ، يريد موسى مع بني إسرائيل ، والرسول هنا : هو جبريل عليه‌السلام والأثر : هو تراب تحت حافر فرسه.

وقوله : (فَنَبَذْتُها) أي : على الحلي ، فكان منها ما ترى ، (وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي) أي : وكما وقع وحدث قربت لي نفسي ، وجعلت (٢) لي سؤلا وإربا حتى فعلته ، وكان موسى عليه‌السلام لا يقتل بني إسرائيل إلّا في حدّ أو بوحي ، فعاقبه باجتهاد نفسه ؛ بأن أبعده ونحّاه عن الناس ، وأمر بني إسرائيل باجتنابه ، واجتناب قبيلته وألّا يؤاكلوا ولا يناكحوا ، ونحو هذا ، وجعل له أن يقول مدة حياته : لا مساس ، أي : لا مماسّة ، ولا إذاية.

وقرأ الجمهور (٣) : «لن تخلفه» بفتح اللام ، أي : لن يقع فيه خلف ، وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : «تخلفه» بكسر اللام ، على معنى لن تستطيع الروغان ، والحيدة عن موعد العذاب ، ثم وبّخه عليه‌السلام بقوله : (وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ ...) الآية ، و (ظَلْتَ) وظل معناه : أقام يفعل الشيء نهارا ، ولكنها قد تستعمل في الدائب ليلا ونهارا ، بمثابة طفق.

وقرأ ابن عباس (٤) وغيره : «لنحرقنّه» بضم الراء وفتح النون ؛ بمعنى لنبردنه بالمبرد ، وقرأ نافع وغيره : «لنحرّقنّه» وهي قراءة تحتمل الحرق بالنار ، وتحتمل بالمبرد. وفي مصحف ابن مسعود (٥) : «لنذبحنه ثم لنحرقنه ثم لننسفنه» وهذه القراءة هي مع رواية من روى أن العجل صار لحما ودما ، وعلى هذه الرواية يتركب أن يكون هناك حرق بنار ، وإلّا فإذا كان جمادا من ذهب ونحوه ، فإنما هو حرق بمبرد ، اللهم إلّا أن تكون إذابة ، ويكون النسف مستعارا ، لتفريقه في اليمّ مذابا.

__________________

(١) ينظر : «السبعة» (٤٢٤) ، و «الحجة» (٥ / ٢٤٩) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٥٢) ، و «معاني القراءات» (٢ / ١٥٨) ، و «شرح الطيبة» (٥ / ٥٠) ، و «العنوان» (١٣٠) ، و «إتحاف» (٢ / ٢٥٥)

(٢) في ج : جعلته.

(٣) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ٦٢) ، و «البحر المحيط» (٦ / ٢٥٦) ، و «الدر المصون» (٥ / ٥١) ، و «السبعة» (٤٢٤) ، و «الحجة» (٥ / ٢٤٩) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٥٣) ، و «معاني القراءات» (٢ / ١٥٨) ، و «شرح الطيبة» (٥ / ٥٠) ، و «العنوان» (١٣٠) ، و «شرح شعلة» (٤٩٦) ، و «إتحاف» (٢٥٦)

(٤) وقرأ بها علي وعمرو بن فائد.

ينظر : «المحتسب» (٢ / ٥٨) ، و «الكشاف» (٣ / ٨٥) ، و «المحرر الوجيز» (٤ / ٦٢) ، و «البحر المحيط» (٦ / ٢٥٧) ، وزاد نسبتها إلى حميد ، وأبي جعفر في رواية.

وهي في «الدر» (٥ / ٥٢)

(٥) وقرأ بها أبي.

ينظر : «الكشاف» (٣ / ٨٥) ، و «المحرر الوجيز» (٤ / ٦٢) ، و «البحر المحيط» (٦ / ٢٥٧)

٦٦

وقرأت فرقة : «لننسفنّه» بكسر السين (١) ، وقرأت فرقة بضمها ، والنّسف : تفريق الريح الغبار ، وكل ما هو مثله ؛ كتفريق الغربال ونحوه ، فهو نسف ، و (الْيَمِ) : غمر الماء من بحر أو نهر ، وكل ما غمر الإنسان من الماء فهو يمّ ، واللام في قوله (لَنُحَرِّقَنَّهُ) لام قسم ، وقال مكي (رحمه‌الله تعالى) : وأسند أن موسى عليه‌السلام كان مع السبعين في المناجاة ، وحينئذ وقع أمر العجل ، وأن الله تعالى أعلم موسى بذلك ، فكتمه موسى عنهم ، وجاء بهم حتى سمعوا لغط بني إسرائيل حول العجل ، فحينئذ أعلمهم.

قال ع (٢) : وهذه رواية ضعيفة ، والجمهور على خلافها ، وإنما تعجل موسى عليه‌السلام وحده فوقع أمر العجل ، ثم جاء موسى ، وصنع ما صنع بالعجل ، ثم خرج بعد ذلك بالسّبعين على معنى الشفاعة في ذنب بني إسرائيل ، وأن يطلعهم أيضا على أمر المناجاة ، فكان لموسى عليه‌السلام نهضتان ، والله أعلم.

(كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (٩٩) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (١٠٠) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (١٠١) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (١٠٢) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (١٠٣) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً) (١٠٤)

وقوله سبحانه : (كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ) مخاطبة / لنبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي كما قصصنا عليك نبأ بني إسرائيل ، كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق مدّتك ، والذّكر : القرآن.

وقوله : (مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ) يريد بالكفر به ، و (زُرْقاً) قالت فرقة معناه : يحشرون أول قيامهم سود الألوان ، زرق العيون ، فهو تشويه ، ثم يعمون بعد ذلك ، وهي مواطن.

وقالت فرقة : أراد زرق الألوان ، وهي غاية في التشويه ، لأنهم يجيئون كلون الرماد ، ومهيع في كلام العرب أن يسمى هذا اللون أزرق : (يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً) أي : يتخافت المجرمون بينهم ، أي : يتسارون ، والمعنى : أنهم لهول المطلع وشدّة ذهاب أذهانهم ، قد عزب عنهم قدر مدّة لبثهم.

واختلف الناس فيما ذا ، فقالت فرقة : في دار الدنيا ، ومدّة العمر ، وقالت فرقة : في الأرض مدة البرزخ.

__________________

(١) أما الكسر فهو قراءة السبعة. وأما ضم السين ، فقرأ بها عيسى بن عمر ، كما في «مختصر الشواذ» ص ٩٢. وينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ٦٢) ، و «البحر المحيط» (٦ / ٢٥٧) ، و «الدر المصون» (٥ / ٥٢)

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ٦٢)

٦٧

و (أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً) معناه : أثبتهم نفسا يقول : إن لبثتم إلّا يوما ، أي : فهم في هذه المقالة يظنون أن هذا قدر لبثهم.

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (١٠٥) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (١٠٦) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (١٠٧) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (١٠٨) يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (١٠٩) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) (١١٠)

وقوله سبحانه : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ ...) الآية ، السائل : قيل : رجل من ثقيف ، وقيل : السائل : جماعة من المؤمنين ، وروي : أن الله تعالى يرسل على الجبال ريحا ، فتدكدكها حتى تكون كالعهن المنفوش ، ثم تتوالى عليها حتى تعيدها كالهباء المنبثّ ، فذلك هو النسف.

والقاع : هو المستوي من الأرض ، والصفصف : نحوه في المعنى. والأمت : ما يعتري الأرض من ارتفاع وانخفاض.

وقوله : (لا عِوَجَ لَهُ) يحتمل : أن يريد الإخبار به ، أي : لا شكّ فيه ، ولا يخالف وجوده خبره ، ويحتمل : أن يريد لا محيد لأحد عن اتّباع الدّاعي ، والمشي نحو صوته ، والخشوع : التطامن ، والتواضع ، وهو في الأصوات استعارة بمعنى الخفاء.

والهمس : الصوت الخفيّ الخافت ، وهو تخافتهم بينهم ، وكلامهم السر ، ويحتمل أن يريد صوت الأقدام ؛ وفي «البخاري» (١) : (هَمْساً) : صوت الأقدام ، انتهى. ومن في قوله (إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) يحتمل أن تكون للشافع ، ويحتمل أن تكون للمشفوع فيه.

(وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) (١١١)

وقوله تعالى : (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ) معناه : ذلّت ، وخضعت ، والعاني : الأسير ؛ ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أمر النساء : «هن عوان عندكم» وهذه حالة النّاس يوم القيامة.

قال ص : وعنت : من عنا يعنو : ذلّ ، وخضع ؛ قال أميّة بن أبي الصلت : [الطويل]

__________________

(١) ينظر «صحيح البخاري» (٨ / ٢٨٥) كتاب التفسير : باب سورة طه.

٦٨

مليك على عرش السماء مهيمن

لعزّته تعنو الوجوه وتسجد (١)

انتهى.

ت : وأحاديث الشفاعة قد استفاضت ، وبلغت حدّ التواتر ، ومن أعظمها شفاعة أرحم الراحمين سبحانه وتعالى ففي «صحيح مسلم» ، من حديث أبي سعيد الخدريّ قال : فيقول الله عزوجل : «شفعت الملائكة ، وشفع النّبيّون ، وشفع المؤمنون ، ولم يبق إلّا أرحم الراحمين ، فيقبض قبضة من النّار ، فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قطّ ، قد عادوا حمما ، فيلقيهم في نهر في أفواه الجنّة» وفيه : «فيخرجون كاللّؤلؤ ، في رقابهم الخواتم ، يعرفهم أهل الجنّة هؤلاء عتقاء الله الّذين أدخلهم الجنّة بغير عمل عملوه ، ولا خير قدّموه ...» (٢) / الحديث ، وخرج أبو القاسم إسحاق بن إبراهيم الختلي بسنده عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا فرغ الله تعالى من القضاء بين خلقه ، أخرج كتابا من تحت العرش ؛ أنّ رحمتي سبقت غضبي ، وأنا أرحم الراحمين ، قال : فيخرج من النّار مثل أهل الجنّة ، أو قال : مثلي أهل الجنّة ، قال : وأكبر ظنّي أنّه قال : مثلي أهل الجنّة ، مكتوب بين أعينهم : عتقاء الله». (٣) انتهى من «التذكرة».

(وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) ، معنى خاب : لم ينجح ، ولا ظفر بمطلوبه ، والظلم يعمّ الشرك والمعاصي ، وخيبة كلّ حامل بقدر ما حمل من الظلم.

(وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً) (١١٢)

وقوله سبحانه : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ) معادل لقوله : (مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) والظلم والهضم : هما متقاربان في المعنى ، ولكن من حيث تناسقا في هذه الآية ؛ ذهب قوم إلى تخصيص كل واحد منهما بمعنى ، فقالوا : الظلم : أن تعظم عليه سيّئاته ، وتكثر أكثر مما يجب.

والهضم : أن ينقص من حسناته ، ويبخسها.

وكلهم قرأ : «فلا يخاف» على (٤) الخبر غير ابن كثير ؛ فإنه قرأ : «فلا يخف» على النهي.

__________________

(١) ينظر : «ديوانه» (٢٩) ، وهو من شواهد «البحر» (٣ / ٥٠١) ، و «الدر المصون» (٢ / ٥٣٧) ، (٥ / ٥٧)

(٢) تقدم تخريج هذا الحديث.

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٦) ، وعزاه لابن مردويه عن ابن عباس.

(٤) ينظر : «السبعة» (٤٢٤) ، و «الحجة» (٥ / ٢٥١) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٥٧) ، ولكنه أثبتها بالتاء الفوقية ، و «معاني القراءات» (٢ / ١٥٩) ، و «شرح الطيبة» (٥ / ٥٢) ، و «العنوان» (١٣٠) ، و «شرح شعلة» (٤٩٦) ، و «إتحاف فضلاء البشر» (٢ / ٢٥٧).

٦٩

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً(١١٣) فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) (١١٤)

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ) بحسب توقع البشر ، وترجيهم (يَتَّقُونَ) الله ، ويخشون عقابه ؛ فيؤمنون ويتذكّرون نعمه عندهم ، وما حذّرهم من أليم عقابه هذا تأويل فرقة في قوله : (أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً).

وقالت فرقة : معناه أو يكسبهم شرفا ، ويبقى عليهم إيمانهم ذكرا صالحا في الغابرين.

وقوله تعالى : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ ...) الآية ، قالت فرقة : سببها : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يخاف وقت تكليم جبريل له أن ينسى أول القرآن ، فكان يقرأ قبل أن يستتم جبريل عليه‌السلام الوحي ؛ فنزلت في ذلك ، وهي على هذا في معنى قوله : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) [القيامة : ١٦]. وقيل غير هذا.

(وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (١١٥) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (١١٦) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى) (١١٧)

وقوله عزوجل : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ ...) الآية ، العهد هنا بمعنى الوصيّة ، والشيء الّذي عهد إلى آدم عليه‌السلام هو ألّا يقرب الشجرة.

ت : قال عياض : وأما قوله تعالى : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) [طه : ١٢١] أي : جهل ، فإنّ الله تعالى أخبر بعذره بقوله : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) قيل : نسي ، ولم ينو المخالفة ؛ فلذلك قال تعالى : (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) ، أي : قصدا للمخالفة.

ت : وقيل : غير هذا مما لا أرى ذكره هنا ، ولله درّ ابن العربيّ حيث قال (١) : يجب تنزيه الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ عما نسب إليهم الجهال. ولكن الباري سبحانه بحكمه النافذ ، وقضائه السابق أسلم آدم إلى الأكل من الشجرة متعمّدا للأكل ، ناسيا للعهد ، فقال في تعمده : (وَعَصى آدَمُ) وقال في بيان عذره : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ) فمتعلّق العهد غير متعلّق النسيان ، وجاز للمولى أن يقول في عبده لحقه : عصى تثريبا ،

__________________

(١) ينظر : «أحكام القرآن» (٣ / ١٢٦١)

٧٠

ويعود عليه بفضله فيقول : نسي تقريبا ، ولا يجوز لأحد منّا أن يطلق ذلك على آدم ، أو يذكره إلّا في تلاوة القرآن أو قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. انتهى من «الأحكام».

(إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (١١٨) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى) (١١٩)

وقوله سبحانه : (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى) المعنى : إنّ لك يا آدم في الجنة نعمة تامة ، لا يصيبك جوع ، ولا عري ، ولا ظمأ / ، ولا بروز للشمس يؤذيك ، وهو الضحاء.

(فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (١٢٠) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (١٢١) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (١٢٢) قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (١٢٣) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (١٢٤) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (١٢٥) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (١٢٦) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى) (١٢٧)

وقوله : (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ) ص : عدّي هنا ب «إلى» على معنى أنهى الوسوسة إليه ، وفي «الأعراف» باللام ، فقال أبو البقاء : لأنه بمعنى ذكر لهما. انتهى.

ثم أعلمهم سبحانه : أن من اتّبع هداه فلا يضلّ في الدنيا ، ولا يشقى في الآخرة ، وأنّ من أعرض عن ذكر الله ، وكفر به ؛ فإنّ له معيشة ضنكا ، و «الضنك» : النكد الشاقّ من العيش والمنازل ، ونحو ذلك.

وهل هذه المعيشة الضنك تكون في الدنيا ، أو في البرزخ ، أو في الآخرة؟ أقوال.

ت : ويحتمل في الجميع ، قال القرطبي : قال أبو سعيد الخدريّ ، وابن مسعود : ضنكا : عذاب القبر (١) ، وروى أبو هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أتدرون فيمن نزلت هذه الآية : (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى)» أتدرون ما المعيشة الضنك؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : عذاب الكافر في القبر ؛ والّذي نفسي بيده ، إنّه ليسلّط عليه تسعة وتسعون تنّينا ـ وهي الحيّات ـ لكلّ حيّة تسعة رؤوس ، ينفخن في جسمه ، ويلسعنه

__________________

(١) أخرجه الطبريّ (٨ / ٤٧٢) رقم (٢٤٤٢٤) ، وذكره البغوي (٣ / ٢٣٥) ، والسيوطي (٤ / ٥٥٧) ، وعزاه لابن أبي شيبة ، والبيهقي عن ابن مسعود.

٧١

ويخدشنه إلى يوم القيامة ، ويحشر من قبره إلى موقفه أعمى» (١). انتهى من «التذكرة» فإن صحّ هذا الحديث ، فلا نظر لأحد معه ، وإن لم يصحّ ، فالصواب حمل الآية على عمومها ؛ والله أعلم.

قال الثعلبيّ : قال ابن عباس : (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى) قال : أجار الله تعالى تابع القرآن من أن يضل في الدنيا ، أو يشقى في الآخرة (٢). وفي لفظ آخر : «ضمن الله تعالى لمن قرأ القرآن ...» الحديث ، وعنه : من قرأ القرآن واتّبع ما فيه ، هداه الله تعالى من الضلالة ووقاه الله تعالى يوم القيامة سوء الحساب. انتهى.

وقوله سبحانه : «ونحشره يوم القيامة أعمى» قالت فرقة : وهو عمى البصر ، وهذا هو الأوجه ، وأما عمى البصيرة ، فهو حاصل للكافر.

وقوله سبحانه : (كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها) النسيان هنا : هو الترك ، ولا مدخل للذهول في هذا الموضع ، و (تُنْسى) أيضا بمعنى : تترك في العذاب.

(أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (١٢٨) وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (١٢٩) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (١٣٠) وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٣١) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (١٣٢) وَقالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى) (١٣٣)

وقوله سبحانه : (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ) المعنى : أفلم (٣) يبين لهم.

__________________

(١) أخرجه أبو يعلى (١١ / ٥٢١ ـ ٥٢٢) رقم (٦٦٤٤) ، وابن حبان (٨٧٢ ـ موارد) ، والطبريّ في «تفسيره» (١٦ / ٢٢٨) من حديث أبي هريرة.

وقال الهيثمي في «المجمع» (٣ / ٥٨) : رواه أبو يعلى ، وفيه دراج ، وحديثه حسن ، واختلف فيه.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٥٥٧) ، وزاد نسبته إلى ابن أبي الدنيا في «ذكر الموت» ، والحكيم الترمذي ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه.

(٢) أخرجه الطبريّ (٨ / ٤٦٩) برقم (٢٤٤٠٠) بنحوه ، وذكره البغوي (٣ / ٢٣٥) ، وابن كثير (٣ / ١٦٨) ، والسيوطي (٤ / ٥٥٦) ، وعزاه للفريابي ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، ومحمد بن نصر ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في «شعب الإيمان» من طريق عن ابن عباس.

(٣) في ج : أو لم.

٧٢

وقرأت (١) فرقة : «نهد» بالنون ، والمراد بالقرون المهلكين : عاد ، وثمود ، والطوائف التي كانت قريش تجوز على بلادهم في المرور إلى الشام وغيره ، ثم أعلم سبحانه نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن العذاب كان يصير لهم لزاما لو لا كلمة سبقت من الله تعالى في تأخيره عنهم إلى أجل مسمّى عنده ، فتقدير الكلام. ولو لا كلمة سبقت في التأخير ، وأجل مسمى ، لكان العذاب لزاما ؛ كما تقول لكان حتما ، أو واقعا ، لكنّه قدم وأخّر ؛ لتشابه رؤوس الآي.

واختلف في الأجل المسمى : هل هو يوم القيامة ، أو موت كل واحد منهم ، أو يوم بدر؟ وفي «صحيح البخاري» : (٢) أن يوم بدر هو : اللزام ، وهو : البطشة الكبرى ، يعني : وقع في البخاري من تفسير ابن مسعود ، وليس هو من تفسير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال ص : و (لِزاماً) : إمّا مصدر ، وإمّا بمعنى ملزم ، وأجاز أبو البقاء : أن يكون جمع لازم ، كقائم وقيام. انتهى.

ثم أمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصّبر على أقوالهم : إنه ساحر ، إنه كاهن ، إنه كاذب (٣) إلى غير ذلك.

وقوله سبحانه : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ...) الآية ، قال أكثر المفسرين : هذه إشارة إلى الصلوات الخمس ؛ فقبل طلوع الشمس صلاة الصبح ، وقبل غروبها صلاة العصر ، ومن آناء الليل العشاء ، وأطراف النهار المغرب والظهر.

[قال ابن العربي (٤) : والصحيح أنّ المغرب من طرف الليل ، لا من طرف النّهار. انتهى من «الأحكام»] (٥).

وقالت فرقة : آناء الليل : المغرب والعشاء ، وأطراف النهار : الظهر وحدها ، ويحتمل اللفظ أن يراد به قول : سبحان الله وبحمده.

__________________

(١) وهي قراءة ابن عباس والسلمي.

كما في «الجامع لأحكام القرآن» (١١ / ١٧٢).

ينظر : «الكشاف» (٣ / ٩٦) ، و «المحرر الوجيز» (٤ / ٦٩) ، و «البحر المحيط» (٦ / ٢٦٧) ، و «الدر المصون» (٥ / ٦٣)

(٢) ينظر «صحيح البخاري» (٨ / ٣٥٥) كتاب التفسير : باب (فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً) رقم (٤٧٦٧)

(٣) في ج : كذاب.

(٤) ينظر : «أحكام القرآن» (٣ / ١٢٦٣)

(٥) سقط في ج.

٧٣

وقالت فرقة : في الآية : إشارة إلى نوافل ، فمنها آناء الليل ، ومنها قبل طلوع الشمس ركعتا الفجر.

ت : ويتعذر على هذا التأويل قوله : (وَقَبْلَ غُرُوبِها) ؛ إذ ليس ذلك الوقت وقت نفل (١) ، على ما علم إلّا أنّ يتأول ما قبل الغروب بما قبل صلاة العصر وفيه بعد.

قال ص : (بِحَمْدِ رَبِّكَ) في موضع الحال ، أي : وأنت حامد. انتهى.

وقرأ الجمهور (٢) : (لَعَلَّكَ تَرْضى) بفتح التاء ، أي : لعلك تثاب على هذه الأعمال بما ترضى به.

قال ابن العربي في «أحكامه» (٣) : وهذه الآية تماثل قوله تعالى : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) [الضحى : ٥].

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إنّكم ترون ربّكم كما ترون القمر ليلة البدر ؛ فإن استطعتم ألّا تغلبوا (٤) على صلاة قبل طلوع الشمس يعني : الصبح ، وقبل غروبها ؛ فافعلوا» (٥).

وفي الحديث الصحيح أيضا : «من صلّى البردين ، دخل الجنّة» (٦). انتهى.

وقرأ الكسائيّ ، وأبو بكر عن عاصم (٧) : «ترضى» أي : لعلك تعطى ما يرضيك ، ثم أمر سبحانه نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بالاحتقار لشأن الكفرة ، والإعراض عن أموالهم ، وما في أيديهم من الدنيا ؛ إذ ذلك منحسر عنهم صائر إلى خزي ، والأزواج : الأنواع ، فكأنه قال : إلى ما متعنا به أقواما منهم ، وأصنافا.

__________________

(١) سقط في ج.

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ٧٠) ، و «البحر المحيط» (٦ / ٢٦٩)

(٣) ينظر : «أحكام القرآن» (٣ / ١٢٦٣)

(٤) في ج : لا تغموا.

(٥) تقدم تخريجه.

(٦) أخرجه البخاري (٢ / ٥٢) كتاب مواقيت الصلاة : باب فضل صلاة الفجر ، حديث (٥٧٤) ومسلم (١ / ٤٤٠) كتاب المساجد : باب فضل صلاة الصبح والعصر ، حديث (٢١٥ / ٦٣٥) ، وأحمد (٤ / ٨٠) ، والدارمي (١ / ٣٣١ ، ٣٣٢) ، وابن حبان (١٧٣٩) ، والبيهقي (١ / ٤٦٦) ، والبغوي في «شرح السنة» (٢ / ٣٩ ـ بتحقيقنا).

(٧) ينظر : «السبعة» (٤٢٥) ، و «الحجة» (٥ / ٢٥٢) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٥٧) ، و «معاني القراءات» (٢ / ١٦٠) ، و «شرح الطيبة» (٥ / ٥٣) ، و «العنوان» (١٣٠) ، و «شرح شعلة» (٤٩٧) ، و «إتحاف» (٢ / ٢٥٩)

٧٤

وقوله : (زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) شبّه سبحانه نعم هؤلاء الكفار بالزهر ، وهو ما اصفرّ من النّور ، وقيل : الزهر : النور جملة ؛ لأن الزهر له منظر ، ثم يضمحل عن قرب ، فكذلك مآل هؤلاء ، ثم أخبر سبحانه نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أن ذلك إنما هو ليختبرهم به ، ويجعله فتنة لهم وأمرا يجازون عليه أسوأ الجزاء ؛ لفساد تقلبهم فيه.

ص : و (زَهْرَةَ) : منصوب على الذمّ ، أو مفعول ثان ل : (مَتَّعْنا) مضمن معنى أعطينا. ا ه.

ورزق الله تعالى الذي أحله للمتقين من عباده ، خير وأبقى ، أي : رزق الدنيا خير ورزق الآخرة أبقى ، وبين أنه خير من رزق الدنيا ، ثم أمره سبحانه وتعالى بأن يأمر أهله بالصلاة ، ويمتثلها معهم ويصطبر عليها ويلازمها ، وتكفّل هو تعالى برزقه لا إله إلّا هو ، وأخبره أن العاقبة للمتقين بنصره في الدنيا ، ورحمته في الآخرة ، وهذا الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويدخل في عمومه : جميع أمته.

وروي : أنّ عروة بن الزبير رضي الله عنه كان إذا رأى شيئا من أخبار السلاطين وأحوالهم ، بادر إلى منزله ، فدخله وهو يقول : (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ...) الآية إلى قوله (وَأَبْقى) ثم ينادي : الصلاة الصلاة رحمكم الله ، ويصلي (١).

وكان عمر بن الخطّاب رضي الله عنه يوقظ أهل داره لصلاة اللّيل ويصلّي هو ويتمثّل بالآية (٢).

قال الداوديّ : وعن عبد الله بن سلام ، قال : «كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا نزل بأهله ضيق أو شدّة أمرهم بالصّلاة ، ثم قرأ : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ) إلى قوله (لِلتَّقْوى) (٣). انتهى.

قال ابن عطاء الله في «التنوير» : وأعلم أنّ هذه الآية علمت أهل الفهم عن الله تعالى كيف يطلبون / رزقهم ، فإذا توقفت عليهم أسباب المعيشة ، أكثروا من الخدمة والموافقة ، وقرعوا باب الرزق بمعاملة الرزّاق ـ جل وعلا ـ ثم قال : وسمعت شيخنا أبا العبّاس

__________________

(١) أخرجه الطبريّ (٨ / ٤٨٠) رقم (٢٤٤٥٩) ، وذكره ابن عطية (٤ / ٧١) ، وابن كثير (٣ / ١٧١)

(٢) ذكره ابن عطية (٤ / ٧١) ، وابن كثير (٣ / ١٧١) نحوه ، والسيوطي (٤ / ٥٦١) ، وعزاه لمالك ، والبيهقي عن أسلم عن عمر.

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٥٦١) ، وعزاه إلى أبي عبيد ، وسعيد بن منصور ، وابن المنذر ، والطبراني في «الأوسط» ، وأبي نعيم في «الحلية» ، والبيهقي في «شعب الإيمان» عن عبد الله بن سلام.

٧٥

المرسي رضي الله عنه يقول : والله ما رأيت العزّ إلّا في رفع الهمّة عن الخلق ، واذكر رحمك الله هنا : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) [المنافقون : ٨].

ففي العز الذي أعزّ الله به المؤمن رفع همته إلى مولاه ، وثقته به دون من سواه ، واستحي من الله بعد أن كساك حلّة الإيمان ، وزينك بزينة العرفان ؛ أن تستولي عليك الغفلة والنسيان ؛ حتى تميل إلى الأكوان (١) ، أو تطلب من غيره تعالى وجود إحسان ، ثم قال : ورفع الهمّة عن الخلق : هو ميزان ذوي الكمال ومسبار الرجال ، كما توزن الذّوات كذلك توزن الأحوال والصفات. انتهى.

ومن كتاب «صفوة التصوف» لأبي الفضل محمد بن طاهر المقدسي الحافظ حديث (٢) بسنده عن ابن عمر قال : أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجل ، فقال : يا رسول الله ، حدّثني حديثا ، واجعله موجزا ، فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صلّ صلاة مودّع ، كأنك تراه ، فإن كنت لا تراه ، فإنّه يراك ، وايأس ممّا في أيدي النّاس ، تعش غنيّا ، وإيّاك وما يعتذر منه» ورواه أبو أيوب الأنصاري بمثله عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣) انتهى.

(وَقالُوا لَوْ لا يَأْتِينا) محمد (بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ) ، أي : بعلامة مما اقترحناها عليه ، ثم وبخهم سبحانه بقوله : (أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى) أي : [ما في] (٤) التوراة ، وغيرها ، ففيها أعظم شاهد ، وأكبر آية له سبحانه.

(وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (١٣٤) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى) (١٣٥)

وقوله سبحانه : (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ) أي : من قبل إرسالنا إليهم محمدا ، (لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً ...) الآية ، وروى أبو سعيد الخدري ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يحتجّ على الله تعالى يوم القيامة ثلاثة : الهالك في الفترة ، والمغلوب

__________________

(١) في ج : الأخوان.

(٢) في ج : حدث.

(٣) أخرجه البيهقي في «الزهد» (٥٢٨) ، والقضاعي في «مسند الشهاب» رقم (٩٥٢) ، وابن النجار في «ذيل تاريخ بغداد» (١ / ١٠٨) من حديث ابن عمر.

وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١٠ / ٢٣٢) ، وقال : رواه الطبراني في «الأوسط» ، وفيه من لم أعرفهم.

(٤) سقط في ج.

٧٦

على عقله ، والصبيّ الصغير. فيقول المغلوب على عقله : ربّ ، لم تجعل لي عقلا ، ويقول الصبيّ نحوه ، ويقول الهالك في الفترة. ربّ ، لم يرسل إليّ رسولا ، ولو جاءني ، لكنت أطوع خلقك لك ، قال : فترتفع لهم نار ، ويقال لهم : ردوها ، فيردها من كان في علم الله أنّه سعيد ويكع عنها الشقيّ ، فيقول الله تعالى : إيّاي عصيتم فكيف برسلي لو أتتكم» (١).

قال (ع) (٢) : أما الصبيّ ، والمغلوب على عقله ، فبيّن أمرهما ، وأما صاحب الفترة ، فليس ككفّار قريش قبل بعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأن كفار قريش ، وغيرهم ممّن علم وسمع نبوّة ورسالة في أقطار الأرض ، ليس بصاحب فترة ، وقد قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لرجل : «أبي وأبوك في النّار» ورأى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، عمرو بن لحيّ في النار (٣) وإلى غير هذا ممّا يطول ذكره ، وإنما صاحب الفترة يفرض أنه آدميّ لم يطرأ إليه أن الله تعالى بعث رسولا ، ولا دعا إلى دين ، وهذا قليل الوجود إلّا أن يشذ في أطراف الأرض ، والمواضع المنقطعة عن العمران.

ت : والصحيح في هذا الباب : «أنّ أولاد المشركين في الجنّة ، وأمّا أولاد المسلمين ففي الجنّة من غير شكّ» متفق عليه.

وقد أسند أبو عمر في «التمهيد» (٤) من طريق أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «سألت ربّي في اللّاهين من ذرّيّة البشر ألّا يعذّبهم فأعطانيهم» (٥). قال أبو عمر : إنّما قيل للأطفال :

__________________

(١) أخرجه الطبريّ في «تفسيره» (٨ / ٤٨١) رقم (٢٤٤٦٦) من حديث أبي سعيد الخدري.

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ٧١ ـ ٧٢)

(٣) أخرجه ابن إسحاق (١ / ٧٨ ـ ٧٩) «تهذيب سيرة ابن هشام» ، ومن طريقه الطبريّ (٥ / ٨٩) (١٢٨٣١) عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التميمي ، أن أبا صالح السمان حدثه ، أنه سمع أبا هريرة يقول ... فذكره ، وأخرجه الحاكم (٤ / ٦٠٥) عن محمد بن عمر وعن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعا به وصححه ، ووافقه الذهبي.

وله شاهد من حديث أبي بن كعب ، رواه أحمد (٥ / ١٣٨) ، والحاكم (٤ / ٦٠٥) وصححه ، ووافقه الذهبي.

وأخرجه أحمد (٣ / ٣٥٢ ـ ٣٥٣) عن جابر.

وقال الهيثمي في «المجمع» (٢ / ٩١) : رواه أحمد ، وروى عن أبي بن كعب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمثله. وفي الإسنادين عبد الله بن محمد بن عقيل ، وفيه ضعف ، وقد وثق.

(٤) ينظر : «التمهيد» (١٨ / ١١٧) ، وينظر : «الاستذكار له» (٨ / ٤٠١ ـ ٤٠٢)

(٥) أخرجه أبو يعلى (٦ / ٢٦٧) رقم (٣٥٧٠).

وقال الهيثمي في «المجمع» (٧ / ٢٢٢) : رواه أبو يعلى من طرق ، ورجال أحدها رجال الصحيح غير عبد الرحمن بن المتوكل ، وهو ثقة.

٧٧

الّلاهون (١) ؛ لأن أعمالهم كاللهو ، واللعب من غير عقد ، ولا عزم ، ثم أسند أبو عمر ، عن أنس ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أولاد المشركين خدم أهل الجنّة» (٢).

قال أبو عمر (٣) ، وروى شعبة ، وسعيد بن أبي عروبة ، وأبو عوانة ، عن قتادة ، عن أبي سراية العجلي ، عن سلمان قال : أطفال المشركين خدم أهل الجنّة».

وذكر البخاري حديث الرؤيا الطويل ، وفيه : «وأمّا الرجل الطويل الّذي في الروضة ، فإنّه إبراهيم عليه‌السلام وأمّا الولدان حوله ، فكلّ مولود يولد على الفطرة ، قال : فقيل : يا رسول الله ، وأولاد المشركين؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وأولاد المشركين» ، وفي رواية : «والصبيان حوله أولاد النّاس» وظاهره العموم في جميع أولاد الناس. انتهى [من التمهيد] (٤) والذّلّ ، والخزي مقترنان بعذاب الآخرة.

وقوله : (قُلْ كُلٌ) أي : منّا ومنكم (مُتَرَبِّصٌ) والتربص : التأنّي ، والصراط : الطريق ، وهذا وعيد بيّن ؛ والله الموفّق ، والهادي إلى الرشاد بفضله.

__________________

(١) في ج : اللاهين.

(٢) أخرجه الطيالسي (٢ / ٢٣٥ ـ منحة) رقم (٢٨٢٢) ، وأبو يعلى (٧ / ١٣١) رقم (٤٠٩٠) ، وأبو نعيم في «الحلية» (٦ / ٣٠٨) ، وقال الهيثمي في «المجمع» (٧ / ٢٢٢) : رواه أبو يعلى ، والبزار ، والطبراني في «الأوسط» إلا أنهما قالا : أطفال المشركين ، وفي إسناد أبي يعلى يزيد الرقاشي ، وهو ضعيف ، وقال فيه ابن معين : رجل صدق. ووثقه ابن عدي ، وبقية رجالهما رجال الصحيح.

والحديث ذكره العجلوني في «كشف الخفاء» (١ / ١٥١) ، وعزاه للطبراني عن أنس ، وسعيد بن منصور عن سلمان موقوفا ، وللبخاري في «تاريخه الأوسط» عن سمرة مرفوعا.

(٣) ينظر «التمهيد» (١٨ / ١١٦ ـ ١١٨) و «الاستذكار» (٨ / ٤٠٢)

(٤) سقط في ج.

٧٨

سورة الأنبياء

مكية بإجماع

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما

(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) (١)

قوله عزوجل : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ ...) الآية : روي أن رجلا من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان يبني جدارا ، فمر به آخر يوم نزول هذه السورة ، فقال الذي كان يبني الجدار : ماذا نزل اليوم من القرآن؟ فقال الآخر : نزل اليوم (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) فنفض يديه من البنيان ، وقال : والله لا بنيت. قال أبو بكر بن العربي : قال لي شيخي : في العبادة لا يذهب لك الزمان ؛ في مصاولة الأقران ؛ ومواصلة الإخوان ، ولم أر للخلاص شيئا أقرب من طريقين : إمّا أن يغلق الإنسان على نفسه بابه ، وإما أن يخرج إلى موضع لا يعرف فيه ، فإن اضطرّ إلى مخالطة الناس ، فليكن معهم ببدنه ، ويفارقهم بقلبه ولسانه ، فإن لم يستطع ، فبقلبه ، ولا يفارق السكوت. قال القرطبيّ : ولأبي سليمان الخطّابيّ في هذا المعنى : [الوافر]

أنست بوحدتي ولزمت بيتي

فدام الأنس لي ونما السرور

وأدّبني الزمان فلا أبالي

بأنّي لا أزار ولا أزور

ولست بسائل ما دمت حيّا

أسار الجيش أم ركب الأمير

انتهى من «التذكرة».

وقوله : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ) عام في جميع الناس ، وإن كان المشار إليه في ذلك الوقت كفار قريش ؛ ويدل على ذلك ما يأتي بعد من الآيات.

قال ص : اقترب : بمعنى الفعل المجرّد وهو قرب ، وقيل : اقترب أبلغ للزيادة (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ) الواو للحال ، انتهى.

وقوله : (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) يريد : الكفار ، ويأخذ عصاة المؤمنين من هذه الألفاظ قسطهم.

٧٩

ت : أيّها الأخ أشعر قلبك مهابة ربّك ، فإليه مآلك ؛ وتأهب للقدوم عليه ؛ فقد آن ارتحالك ؛ أنت في سكرة لذّاتك ؛ وغشية شهواتك ؛ وإغماء غفلاتك ؛ ومقراض / الفناء يعمل في ثوب حياتك ؛ ويفصل أجزاء عمرك جزءا جزءا في سائر ساعاتك ؛ كل نفس من أنفاسك جزء منفصل من جملة ذاتك وبذهاب الأجزاء تذهب الجمل ، أنت جملة تؤخذ ، آحادها وأبعاضها ، إلى أن تستوفي سائرها عساكر الأقضية ، والأقدار محدقة بأسوار الأعمار ؛ تهدمها بمعاول الليل والنهار ؛ فلو أضاء لنا مصباح الاعتبار ؛ لم يبق لنا في جميع أوقاتنا سكون ولا قرار. انتهى من «الكلم الفارقية والحكم الحقيقة».

(ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤) بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) (٥)

وقوله : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ) وما بعده مختص بالكفّار ، والذكر : القرآن ، ومعناه محدث نزوله ، لا هو في نفسه.

وقوله : (وَهُمْ يَلْعَبُونَ) جملة في موضع الحال ، أي : استماعهم في حال لعب ؛ فهو غير نافع ، ولا واصل إلى النفس.

وقوله (لاهِيَةً) حال بعد حال ، واختلف النحاة في إعراب قوله : (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) فمذهب سيبويه (١) (رحمه‌الله تعالى) : أن الضمير في (أَسَرُّوا) : فاعل ، وأن (الَّذِينَ) بدل منه ، وقال : ليس في القرآن لغة من قال : أكلوني البراغيث (٢) ، ومعنى : (أَسَرُّوا النَّجْوَى) تكلّموا بينهم في السرّ ، ومناجات بعضهم لبعض.

__________________

(١) ينظر «الكتاب» (٢ / ٤١)

(٢) الواو علامة جمع الفاعل ، كما يلحق الفعل تاء التأنيث ليدلّ على تأنيث الفاعل ، ك «قامت هند» ، وهذه اللغة جارية في المثنى وجمع الإناث أيضا فيقال : قاما أخواك ، وقمن أخواتك» كقوله :

 ..........

وقد أسلماه مبعد وحميم

وقوله :

ولكن ديافيّ أبوه وأمّه

بحوران يعصرن السليط أقاربه

واستدلّ بعضهم بقوله عليه‌السلام : «يتعاقبون فيكم ملائكة» ، ويعبّر النحاة عن هذه اللغة بلغة «أكلوني البراغيث» ، ولكنّ الأفصح ألّا تلحق الفعل علامة ، وفرّق النحويون بين لحاقه علامة التأنيث وعلامة التثنية والجمع بأنّ علامة التأنيث ألزم ؛ لأن التأنيث في ذات الفاعل بخلاف التثنية والجمع فإنه غير لازم. ينظر : «الدر المصون» (٢ / ٥٨٠ ـ ٥٨١)

٨٠