تفسير الثعالبي - ج ٤

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي

تفسير الثعالبي - ج ٤

المؤلف:

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٥

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وصلّى الله على سيّدنا ومولانا محمّد وعلى آله

تفسير سورة فاطر

وهي مكيّة

(الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) (٤)

قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ / الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي) ٨٢ أ(أَجْنِحَةٍ ...) الآية (رُسُلاً) معناه : بالوحي وغير ذلك من أوامره سبحانه ، كجبريل وميكائيل وعزرائيل رسل ، والملائكة المتعاقبون رسل وغير ذلك ، و (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) ألفاظ معدولة عن اثنين اثنين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة ، عدلت في حالة التنكير فتعرّفت بالعدل فهي لا تنصرف للعدل والتعريف ، وقيل : للعدل والصفة ، وفائدة العدل الدّلالة على التكرار لأنّ مثنى بمنزلة قولك : اثنين اثنين.

قال قتادة : إنّ أنواع الملائكة هم هكذا منها ما له جناحان ؛ ومنها ما له ثلاثة ، ومنها ما له أربعة ، ويشذّ منها ما له أكثر من ذلك ، وروي (١) : أنّ لجبريل ـ عليه‌السلام ـ ستّ مائة جناح منها اثنان يبلغان من المشرق إلى المغرب.

وقوله تعالى : (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) تقرير لما يقع في النفوس من التعجّب عند الخبر بالملائكة أولي الأجنحة ، أي : ليس هذا ببدع في قدرة الله تعالى ، فإنّه يزيد في الخلق ما يشاء؟ وروي عن الحسن وابن شهاب أنّهما قالا : المزيد هو حسن الصوت (٢) ،

__________________

(١) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٣٩٣) برقم (٢٨٩٢٣) ، وذكره البغوي (٣ / ٥٦٤) ، وابن عطية (٤ / ٤٢٩) ، والسيوطي (٥ / ٤٥٨) ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم عن قتادة.

(٢) ذكره البغوي (٣ / ٥٦٤) ، وابن عطية (٤ / ٤٢٩) ، وابن كثير (٣ / ٥٤٦) ، والسيوطي (٥ / ٤٥٩) ، وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في «شعب الإيمان» عن الزهري.

٣٨١

قال الهيثم الفارسي : رأيت النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في النّوم فقال لي : أنت الهيثم الّذي تزيّن القرآن بصوتك جزاك الله خيرا.

وقيل من الأقوال في الزيادة غير هذا وذلك على جهة المثال لا أنّ المقصد هي فقط.

وقوله تعالى : (ما يَفْتَحِ اللهُ ما) شرط و (يَفْتَحِ) مجزوم بالشّرط.

وقوله : (مِنْ رَحْمَةٍ) عام في كلّ خير يعطيه الله تعالى لعباده.

وقوله : (مِنْ بَعْدِهِ) فيه حذف مضاف ، أي : من بعد إمساكه ومن هذه الآية سمّت الصوفيّة ما تعطاه من الأموال والمطاعم وغير ذلك «الفتوحات».

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٥) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (٦) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) (٧)

وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) خطاب لقريش وهو متوجّه لكلّ كافر.

وقوله سبحانه : (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا).

ت : هذه الآية معناها بيّن ، قال ابن عطاء الله : ينبغي للعبد أن يقلّل الدّخول في أسباب الدّنيا فقد قال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ قليل الدّنيا يلهي عن كثير الآخرة» وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما طلعت شمس إلّا وبجنبيها ملكان يناديان : يا أيّها النّاس ، هلمّوا إلى ربّكم ، فإنّ ما قلّ وكفى خير ممّا كثر وألهى» (١). انتهى من «لطائف المنن». وقرأ جمهور النّاس : «الغرور» ـ بفتح الغين ـ وهو الشيطان. قاله ابن عبّاس (٢).

وقوله : (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ) الآية : يقوّي قراءة الجمهور (فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا). أي : بالمباينة والمقاطعة والمخالفة باتّباع الشرع.

__________________

(١) أخرجه ابن حبان (٢٤٧٦ ـ موارد) ، وأحمد (٥ / ١٩٧) ، وفي «الزهد» (ص ١٩) ، وعبد بن حميد في «المنتخب» رقم (٢٠٧) ، وأبو نعيم في «الحلية» (٢ / ٢٣٣ ـ ٢٣٤). والقضاعي في «مسند الشهاب» (٢ / ٢٥) رقم (٨١٠) من حديث أبي الدرداء.

وذكره الهيثمي في «المجمع» (٣ / ١٢٢) وقال : رواه أحمد ، ورجاله رجال الصحيح.

(٢) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٣٩٥) (٢٨٩٢٧) ، وذكره ابن عطية (٤ / ٤٢٩) ، وابن كثير في «تفسيره» (٣ / ٥٤٧)

٣٨٢

(أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (٨) وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (٩) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ) (١٠)

وقوله تعالى : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) توقيف وجوابه محذوف يمكن أن يقدّر كمن اهتدى ونحو هذا من التقدير وأحسن التقدير ما دلّ اللّفظ بعد عليه (١) ؛ وقرأ الجمهور : (فَلا تَذْهَبْ) ـ بفتح التاء والهاء ـ : (نَفْسُكَ) ـ بالرّفع ـ ، وقرأ قتادة وغيره (٢) «تذهب» ـ بضمّ التاء وكسر الهاء ـ «نفسك» ـ بالنّصب ـ ورويت عن نافع (٣) ، والحسرة همّ النّفس على فوات أمر ، وهذه الآية تسلية للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن كفر قومه ، ووجب التسليم لله عزوجل في إضلال من شاء وهداية من شاء.

وقوله سبحانه : (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ) هذه آية احتجاج على الكفرة في إنكارهم البعث من القبور.

وقوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ) يحتمل أن يريد : من كان يريد العزّة بمغالبة فلله العزّة : أي : ليست لغيره ولا تتمّ إلّا به ، ونحا إليه مجاهد وقال : من كان يريد العزّة بعبادة الأوثان (٤).

قال ع (٥) : وهذا تمسّك بقوله تعالى : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا) [مريم : ٨١].

ويحتمل أن يريد : من كان يريد العزّة وطريقها القويم ويحبّ نيلها على وجهها فلله

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ٤٣٠) ، و «البحر المحيط» (٧ / ٢٨٨) ، و «الدر المصون» (٥ / ٤٦٠)

(٢) ينظر : «مختصر الشواذ» ص ١٢٤ ، و «المحرر الوجيز» (٤ / ٤٣٠) ، و «البحر المحيط» (٧ / ٢٨٨) ، وزاد نسبتها إلى أبي حيوة ، وشيبة ، وحميد ، والأعمش ، وابن محيصن.

وهي في «الدر» (٥ / ٤٦٠)

(٣) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ٤٣٠) ، و «البحر المحيط» (٧ / ٢٨٨)

(٤) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٣٩٨) (٢٨٩٣٥) ، وذكره ابن عطية (٤ / ٤٢٩) ، وابن كثير في «تفسيره» (٣ / ٥٤٩) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٤٦١) ، وعزاه للفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد رضي الله عنه.

(٥) ينظر : «المحرر» (٤ / ٤٣١)

٣٨٣

العزّة ، أي : به ، وعن أوامره ، لا تنال عزّته إلّا بطاعته ، ونحا إليه (١) قتادة.

وقوله تعالى : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) أي : التوحيد ، والتحميد ، وذكر الله ونحوه.

وقوله تعالى : (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) قيل : المعنى ؛ يرفعه الله ، وهذا أرجح الأقوال.

وقال ابن عباس (٢) وغيره : إن العمل الصالح هو الرافع للكلم ، وهذا التأويل إنما يستقيم بأن يتأوّل على معنى أنه يزيد في رفعه وحسن موقعه.

ت : وعن ابن مسعود ؛ قال : «إذا حدّثناكم بحديث أتيناكم بتصديق ذلك في كتاب الله سبحانه : «إن العبد إذا قال : «سبحان الله والحمد لله والله أكبر وتبارك الله» قبض عليهن ملك ؛ فضمّهن تحت جناحه ؛ وصعد بهن لا يمر بهن على جمع من الملائكة إلا استغفروا لقائلهن حتى يجاء بهن وجه الرحمن سبحانه. ثم تلا عبد الله بن مسعود : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)» (٣). رواه الحاكم في «المستدرك» وقال : صحيح الإسناد : انتهى من «السلاح». و (يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ) أي : المكرات السيئات. و (يَبُورُ) معناه : يفسد ويبقى لا نفع فيه.

(وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١١) وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (١٣) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا

__________________

(١) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٣٩٨) (٢٨٩٣٦) ، وذكره البغوي (٣ / ٥٦٦) ، وذكره ابن عطية (٤ / ٤٢٩) ، وابن كثير في «تفسيره» (٣ / ٥٤٩)

(٢) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٣٩٩) (٢٨٩٤٠) ، وذكره البغوي (٣ / ٥٦٦) ، وابن عطية (٤ / ٤٣١) ، وابن كثير في «تفسيره» (٣ / ٥٤٩) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٤٦٢) ، وعزاه لابن المبارك ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر عن الحسن رضي الله عنه.

(٣) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٣٩٨) (٢٨٩٣٧) ، وذكره البغوي (٤ / ٥٦٦) ، وابن كثير في «تفسيره» (٣ / ٥٤٩) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٤٦٢) ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في «الأسماء والصفات» عن ابن مسعود رضي الله عنه.

٣٨٤

يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) (١٤)

وقوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ) الآية. قيل : معنى الأزواج هنا : الأنواع ، وقيل : أراد تزويج الرجال النساء ، والضمير في (عُمُرِهِ) قال ابن عباس وغيره ، ما مقتضاه : أنه عائد على (مُعَمَّرٍ) الذي هو اسم جنس (١) ؛ والمراد غير الذي يعمر ، وقال ابن جبير وغيره : بل المراد شخص واحد وعليه يعود الضمير ، أي : ما يعمر إنسان ولا ينقص من عمره بأن يحصي ما مضى منه إذا مرّ حول كتب ما مضى منه ، فإذا مر حول آخر كتب ذلك ، ثم حول ، ثم حول ؛ فهذا هو النقص.

قال ابن جبير : فما مضى من عمره ؛ فهو النقص وما يستقبل ؛ فهو الذي يعمره (٢).

وقوله تعالى : (وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) تقدم تفسير نظير هذه الآية.

وقوله تعالى : (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) الآية : الأجل المسمّى هو قيام الساعة ، وقيل : آماد الليل ، وآماد النهار ، والقطمير : القشرة الرقيقة التي على نوى التمرة. وقال الضحاك وغيره : القطمير القمع الذي في رأس التمرة (٣) ، والأول أشهر وأصوب. ثم بيّن تعالى بطلان الأصنام بثلاثة أشياء : أوّلها : أنها لا تسمع إن دعيت ، والثاني : أنها لا تجيب إن لو سمعت ، وإنما جاء بهذه ؛ لأن القائل متعسف أن يقول : عساها تسمع ، والثالث : أنها تتبرّأ يوم القيامة من الكفرة.

وقوله تعالى : (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) قال المفسرون : الخبير هنا هو الله سبحانه فهو

__________________

(١) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٤٠٠) (٢٨٩٤٩) ، وذكره ابن كثير في «تفسيره» (٣ / ٥٥٠) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٤٦٣) ، وعزاه لابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما.

(٢) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٤٠١) (٢٨٩٥٢) ، وذكره البغوي (٤ / ٥٦٦) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٤٦٤) ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ في «العظمة» عن سعيد بن جبير.

(٣) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٤٠٣) (٢٨٩٦٦) ، عن جويبر عن بعض أصحابه. وذكره ابن عطية (٤ / ٤٣٤) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٤٦٦) ، وعزاه لابن جرير ، وابن المنذر عن الضحاك.

٣٨٥

الخبير الصادق الخبر ، ونبّأ بهذا ؛ فلا شك في وقوعه.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٦) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (١٧) وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) (١٨)

وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ) الآية : آية وعظ وتذكير ، والإنسان فقير إلى الله ـ تعالى ـ في دقائق الأمور وجلائلها ؛ لا يستغني عنه طرفة عين ؛ وهو به مستغن عن كل أحد ، (وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ / الْحَمِيدُ) أي : المحمود بالإطلاق.

وقوله : (بِعَزِيزٍ) أي : بممتنع و (تَزِرُ) تحمل ، وهذه الآية في الذنوب ، وأنثت (وازِرَةٌ) لأنه ذهب بها مذهب النفس وعلى ذلك أجريت (مُثْقَلَةٌ) ، واسم (كانَ) مضمر تقديره : ولو كان الداعي. ثم أخبر تعالى نبيه أنه إنما ينذر أهل الخشية. ثم حض على التزكي بأن رجّى عليه غاية الترجية. ثم توعد بعد ذلك بقوله : (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ).

قال ع (١) : وكلّ عبارة فهي مقصّرة عن تفسير هذه الآية ، وكذلك كتاب الله كلّه ، ولكن يظهر الأمر لنا نحن في مواضع أكثر منه في مواضع ؛ بحسب تقصيرنا.

(وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (١٩) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (٢٠) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (٢١) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٢٢) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (٢٣) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (٢٤) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (٢٥) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٢٦) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (٢٧) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) (٢٨)

وقوله سبحانه : (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) الآية : مضمّن هذه الآية الطعن على الكفرة وتمثيلهم بالعمي والظلمات ؛ وتمثيل المؤمنين بإزائهم بالبصراء والأنوار. و (الْحَرُورُ) : شدة الحر.

__________________

(١) ينظر : «المحرر» (٤ / ٤٣٥)

٣٨٦

قال الفراء وغيره : إن السموم يختص بالنّهار و (الْحَرُورُ) يقال في حرّ الليل وحرّ النهار. وتأوّل قوم الظلّ في هذه الآية الجنة والحرور جهنم ، وشبّه المؤمنين بالأحياء ، والكفرة بالأموات ؛ من حيث لا يفهمون الذكر ولا يقبلون عليه.

وقوله سبحانه : (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) تمثيل بما يحسّه البشر ويعهده جميعا من أن الميت الشخص الذي في القبر لا يسمع ، وأما الأرواح فلا نقول إنها في القبر ، بل تتضمّن الأحاديث أن أرواح المؤمنين ؛ في شجر عند العرش ، وفي قناديل وغير ذلك ، وأن أرواح الكفرة في سجين ، ويجوز في بعض الأحيان أن تكون الأرواح عند القبور ؛ فربما سمعت ، وكذلك أهل قليب بدر إنما سمعت أرواحهم ؛ فلا تعارض بين الآية وحديث القليب.

وقوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) معناه : أن دعوة الله تعالى قد عمّت جميع الخلق ، وإن كان فيهم من لم تباشره النّذارة ؛ فهو ممن بلغته ؛ لأن آدم بعث إلى بنيه ، ثم لم تنقطع النذارة إلى زمن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، و (بِالْبَيِّناتِ) و (بِالزُّبُرِ) و (بِالْكِتابِ الْمُنِيرِ) : شيء واحد ؛ لكنه أكد أوصاف بعضها ببعض.

وقوله تعالى : (وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ ...) الآية : جمع «جدّة» وهي : الطريقة تكون من الأرض والجبل كالقطعة العظيمة المتصلة طولا ، وحكى أبو عبيدة في بعض كتبه : أنه يقال : جدد في جمع «جديد» ، ولا معنى لمدخل الجديد في هذه الآية ، وقال الثعلبي : وقيل الجدد القطع ؛ جددت الشيء ؛ إذا قطعته ، انتهى.

وقوله : (وَغَرابِيبُ سُودٌ) لفظان لمعنى واحد ، وقدّم الوصف الأبلغ ، وكان حقّه أن يتأخر ، وكذلك هو في المعنى ؛ لكنّ كلام العرب الفصيح يأتي كثيرا على هذا النحو ، والمعنى : ومنها ، أي : من الجبال ؛ سود غرابيب ، وروي عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إنّ الله يبغض الشيخ الغربيب» (١) ؛ يعني : الذي يخضب بالسّواد. (وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ) ، أي : خلق مختلف ألوانه.

وقوله تعالى : (كَذلِكَ) يحتمل أن يكون من الكلام الأول فيجيء الوقف عليه حسنا ، وإلى هذا ذهب كثير من المفسرين. ويحتمل أن يكون من الكلام الثّاني ؛ خرج مخرج السبب كأنّه قال : كما جاءت القدرة في هذا كلّه كذلك (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الجامع الكبير» (٥١٧٨) ، وعزاه للديلمي في «مسند الفردوس» عن أبي هريرة.

٣٨٧

الْعُلَماءُ) ، أي : المحصلون لهذه العبر ، الناظرون فيها ، / وفي الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (١) «أعلمكم بالله أشدّكم له خشية» ؛ وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «رأس الحكمة مخافة الله» (٢).

وقال الربيع بن أنس : من لم يخش الله فليس بعالم (٣) ، وقال ابن عباس في تفسير هذه الآية : كفى بالزهد علما (٤) ، ويقال : إن فاتحة الزبور : «رأس الحكمة خشية الله» وقال ابن مسعود (٥) : كفى بخشية الله علما ، وبالاغترار به جهلا.

وقال مجاهد والشعبي (٦) : إنما العالم من يخشى الله. و (إِنَّما) في هذه الآية تحضيض للعلماء ؛ لا للحصر. قال ابن عطاء الله في «الحكم» : العلم النافع هو الذي ينبسط في الصدر شعاعه ، ويكشف به عن القلب قناعه ، خير العلم ما كانت الخشية معه ؛ والعلم إن قارنته الخشية فلك ؛ وإلا ؛ فعليك.

وقال في «التنوير» : أعلم أن العلم ؛ حيث ما تكرّر في الكتاب العزيز أو في السنة ؛ فإنما المراد به العلم النافع الذي تقارنه الخشية وتكتنفه المخافة : قال تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) فبيّن سبحانه أنّ الخشية تلازم العلم ، وفهم من هذا أن العلماء إنما هم أهل الخشية. انتهى.

قال ابن عباد في «شرح الحكم» : واعلم أن العلم النافع المتفق عليه فيما سلف وخلف ؛ إنما هو العلم الذي يؤدي صاحبه إلى الخوف ، والخشية ، وملازمة التواضع ، والذّلّة ، والتخلّق بأخلاق الإيمان ، إلى ما يتبع ذلك من بغض الدنيا ، والزهادة فيها ، وإيثار الآخرة عليها ، ولزوم الأدب بين يدي الله تعالى ، إلى غير ذلك من الصفات العليّة والمناحي السنيّة. انتهى. وهذه المعاني كلها محصّلة في كتب الغزالي وغيره ؛ رضي الله عن جميعهم ، ونفعنا ببركاتهم.

__________________

(١) قال الزيلعي في «تخريج أحاديث الكشاف» (٣ / ١٥٢) : غريب ، وذكره الثعلبي هكذا.

(٢) أخرجه القضاعي في «مسند الشهاب» (١١٦) عن عقبة بن عامر ، وأخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (١ / ٤٧٠ ـ ٤٧١) رقم (٧٤٤) من حديث ابن مسعود ، وضعفه البيهقي.

(٣) ذكره ابن عطية (٤ / ٤٣٧)

(٤) ذكره ابن عطية (٤ / ٤٣٧)

(٥) ذكره ابن عطية (٤ / ٤٣٧) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٤٧٠) ، وعزاه لابن أبي شيبة ، وأحمد في «الزهد» ، وعبد بن حميد ، والطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه.

(٦) ذكره البغوي (٣ / ٥٧٠) ، وابن عطية (٤ / ٤٣٧) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٤٧٠) ، وعزاه لابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد عن مجاهد.

٣٨٨

قال صاحب : «الكلم الفارقية والحكم الحقيقة» : العلم النافع ما زهّدك في دنياك ، ورغّبك في أخراك ، وزاد في خوفك وتقواك ، وبعثك على طاعة مولاك ، وصفّاك من كدر هواك. وقال ـ رحمه‌الله ـ : العلوم النافعة ما كانت للهمم رافعة ، وللأهواء قامعة ، وللشكوك صارفة دافعة. انتهى.

(إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (٢٩) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (٣٠) وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ) (٣١)

وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ ...) الآية ، قال مطرف بن عبد الله بن الشخير : هذه آية (١) القرّاء.

قال ع (٢) : وهذا على أن (يَتْلُونَ) بمعنى : يقرؤون ، وإن جعلناه بمعنى : يتبعون ، صحّ معنى الآية ؛ وكانت في القرّاء وغيرهم ممن اتصف بأوصاف الآية ، وكتاب الله هو القرآن ، وإقامة الصلاة ، أي : بجميع شروطها ، والنفقة هي في الصدقات ووجوه البرّ و (لَنْ تَبُورَ) معناه : لن تكسد. و (يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) قالت فرقة : هو تضعيف الحسنات ، وقالت فرقة : هو إما النظر إلى وجه الله عزوجل ، وإما أن يجعلهم شافعين في غيرهم ؛ كما قال : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس : ٢٦].

ت : وقد خرّج أبو نعيم بإسناده عن الثوري عن شقيق عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) قال : أجورهم : يدخلهم الجنة ، ويزيدهم من فضله : الشفاعة لمن وجبت له النار ممن صنع إليه المعروف في الدنيا. وخرّج ابن ماجه في «سننه» عن أنس بن مالك / ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يصفّ النّاس ٨٤ أصفوفا». وقال ابن نمير : أهل الجنّة ـ فيمرّ الرجل من أهل النّار على الرجل من أهل الجنّة ، فيقول : يا فلان ، أما تذكر يوم استسقيتني ، فسقيتك شربة؟ قال : فيشفع له. ويمرّ

__________________

(١) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٤١٠) (٢٨٩٨٨) ، وذكره ابن عطية (٤ / ٤٣٨) ، وابن كثير في «تفسيره» (٣ / ٥٥٤) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٤٧١) ، وعزاه لابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، ومحمد بن نصر ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة رضي الله عنه.

(٢) ينظر : «المحرر» (٤ / ٤٣٨)

٣٨٩

الرجل على الرجل فيقول : أما تذكر يوم ناولتك طهورا؟ فيشفع له» ، قال ابن نمير : «ويقول : يا فلان ؛ أما تذكر يوم بعثتني لحاجة كذا وكذا ، فذهبت لك؟ فيشفع له» (١). وخرجه الطحاوي وابن وضاح بمعناه ، انتهى من «التذكرة».

(ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٣٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (٣٤) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ) (٣٥)

وقوله تعالى : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا ...) الآية : (أَوْرَثْنَا) معناه : أعطيناه فرقة بعد موت فرقة ، و (الْكِتابَ) هنا يريد به : معاني الكتاب ، وعلمه ، وأحكامه ، وعقائده ، فكأن الله تعالى لمّا أعطى أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم القرآن ؛ وهو قد تضمّن معاني الكتب المنزّلة قبله ؛ فكأنه ورّث أمّة محمد الكتاب الذي كان في الأمم قبلها. قال ابن عطاء الله في «التنوير» : قال الشيخ أبو الحسن الشاذليّ ـ رحمه‌الله تعالى ـ : أكرم المؤمنين ؛ وإن كانوا عصاة فاسقين ، وأمرهم بالمعروف ، وانههم عن المنكر ، واهجرهم رحمة بهم ؛ لا تعزّزا عليهم ، فلو كشف عن نور المؤمن العاصي ، لطبّق السماء والأرض ، فما ظنّك بنور المؤمن المطيع ، ويكفيك في تعظيم المؤمنين ـ وإن كانوا عن الله غافلين ـ قول ربّ العالمين : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ) فانظر كيف أثبت لهم الاصطفاء مع وجود ظلمهم ، واعلم أنّه لا بد في مملكته من عباد هم نصيب الحلم ، ومحلّ ظهور الرحمة والمغفرة ، ووقوع الشفاعة ، انتهى. و (الَّذِينَ اصْطَفَيْنا) يريد بهم أمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قاله ابن عباس وغيره (٢). و (اصْطَفَيْنا) معناه : اخترنا وفضّلنا ، والعباد عامّ في جميع العالم ، واختلف في عود الضمير من قوله : (فَمِنْهُمْ) فقال ابن عباس وغيره ؛ ما مقتضاه : إن الضمير عائد على

__________________

(١) أخرجه ابن ماجه (٢ / ١٢١٥) كتاب الأدب : باب فضل صدقة الماء ، حديث (٣٦٨٥) من طريق يزيد الرقاشي عن أنس.

وقال البوصيري في «الزوائد» : في إسناده يزيد بن أبان الرقاشي ، وهو ضعيف.

(٢) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٤١١) (٢٨٩٩٣) ، وذكره البغوي (٣ / ٥٧٠ ، ٥٧١) ، وذكره ابن عطية (٤ / ٤٣٨) ، وذكره ابن كثير (٣ / ٥٥٥) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٤٧٢) ، وعزاه لابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي عن ابن عباس بنحوه.

٣٩٠

(الَّذِينَ اصْطَفَيْنا) وإن الأصناف الثلاثة هي كلّها في أمة نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) ، فالظالم لنفسه : العاصي المسرف ، والمقتصد : متقي الكبائر ، وهم جمهور الأمّة ، والسابق : المتقي على الإطلاق ، وقالت هذه الفرقة : الأصناف الثلاثة في الجنة ، وقاله أبو سعيد الخدري (٢) ، والضمير في (يَدْخُلُونَها) عائد على الأصناف الثلاثة ، قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ وكعب ـ رضي الله عنه ـ : دخولها كلّهم وربّ الكعبة (٣) ، وقال أبو إسحاق السبيعي : أما الذي سمعت منذ ستين سنة فكلّهم (٤) ناج.

وقال ابن مسعود : هذه الأمة يوم القيامة أثلاث : ثلث : يدخلون الجنة بغير حساب ، وثلث : يحاسبون حسابا يسيرا ؛ ثم يدخلون الجنة ، وثلث : يجيئون بذنوب عظام ؛ فيقول الله ـ عزوجل ـ : ما هؤلاء؟ ـ وهو أعلم بهم ـ فتقول الملائكة : هم مذنبون إلا أنهم لم يشركوا ؛ فيقول ـ عزوجل ـ أدخلوهم في سعة رحمتي (٥). وروى أسامة بن زيد أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ هذه الآية وقال : «كلّهم في الجنّة» وقرأ عمر هذه الآية ، ثم قال / : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سابقنا سابق ، ومقتصدنا ناج ، وظالمنا مغفور له» (٦) ؛ وقال عكرمة والحسن وقتادة (٧) ؛ ما مقتضاه : أن الضمير في (مِنْهُمْ) عائد على العباد ، فالظّالم لنفسه : الكافر ، والمقتصد : المؤمن العاصي ، والسابق : التقي على الإطلاق (٨). وقالوا هذه الآية نظير قوله

__________________

(١) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٤١١) (٢٨٩٩٣) بنحوه ، وذكره البغوي (٣ / ٥٧١) وذكره ابن عطية (٤ / ٤٣٩) ، وذكره ابن كثير (٣ / ٥٥٥)

(٢) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٤١٤) ، رقم (٢٩٠١٢) بنحوه ، وذكره ابن عطية (٤ / ٤٣٩) ، وذكره ابن كثير (٣ / ٥٥٥) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٤٧٢) ، وعزاه للطيالسي ، وأحمد ، وعبد بن حميد ، والترمذي ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه والبيهقي عن أبي سعيد الخدري.

(٣) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٤١١) رقم (٢٨٩٩٦ ، ٢٨٩٩٨) عن كعب ، وذكره البغوي (٣ / ٥٧١) عن عائشة ، وذكره ابن عطية (٤ / ٤٣٩) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٤٧٢ ، ٤٧٣) ، وعزاه للطيالسي ، وعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم ، وابن مردويه ، عن عقبة بن صهبان عن عائشة ، وعزاه أيضا لسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد وابن المنذر ، والبيهقي عن كعب الأحبار بنحوه.

(٤) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٤١٢) رقم (٢٩٠٠٠) بنحوه ، وذكره ابن عطية (٤ / ٤٣٩)

(٥) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٤١١) رقم (٢٨٩٩٤٦) بنحوه ، وذكره ابن عطية (٤ / ٤٣٩) ، وذكره ابن كثير (٣ / ٥٥٥) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٤٧٣) ، وعزاه لابن جرير عن ابن مسعود بنحوه.

(٦) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٤٧٦) ، وعزاه إلى الطبراني ، والبيهقي في «البعث».

(٧) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٤٧٧) ، وعزاه إلى سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، والبيهقي في «البعث».

(٨) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٤١٢ ، ٤١٣) رقم (٢٩٠٠٧ ، ٢٩٠٠٨) عن الحسن وقتادة ، وذكره البغوي (٣ / ٥٧١) ، وابن عطية (٤ / ٤٣٩) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٤٧٤) ، وعزاه لعبد بن حميد عن قتادة ، وله وللبيهقي عن الحسن بنحوه.

٣٩١

تعالى : (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً) [الواقعة : ٧] الآية.

والضمير في (يَدْخُلُونَها) على هذا التأويل خاصّ بالمقتصد والسابق ، وباقي الآية بيّن ، و (الْحَزَنَ) في هذه الآية عامّ في جميع أنواع الأحزان ، وقولهم : (إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ) وصفوه سبحانه بأنه يغفر الذنوب ، ويجازي على القليل من الأعمال بالكثير من الثواب ، وهذا هو شكره ، لا ربّ سواه ، و (دارَ الْمُقامَةِ) : الجنة ، و (الْمُقامَةِ) : الإقامة و «النّصب» : تعب البدن و «اللغوب» : تعب النّفس اللازم عن تعب البدن.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٣٧) إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٣٨) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (٣٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (٤٠) إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) (٤١)

وقوله سبحانه : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ) هذه الآية تؤيد التأويل الأوّل من أنّ الثلاثة الأصناف هي كلها في الجنة ، لأن ذكر الكافرين أفرد هاهنا.

وقوله : (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ) أي لا يجهز عليهم.

وقولهم : (رَبَّنا أَخْرِجْنا) أي : يقولون هذه المقالة فيقال لهم على جهة التوبيخ : (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ) الآية. واختلف في المدة التي هي حدّ للتذكر ، فقال الحسن بن أبي الحسن : البلوغ ، يريد أنه أول حال التذكر (١). وقال ابن عباس أربعون سنة ؛ وهذا قول حسن (٢) ؛ ورويت فيه آثار. وروي أن العبد إذا بلغ أربعين سنة ولم يتب ؛ مسح الشيطان على وجهه ، وقال : بأبي وجه لا يفلح ، وقيل : الستين وفيه حديث.

ت : وفي «البخاري» : من بلغ ستين سنة فقد أعذر الله إليه ؛ لقوله : (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ) يعني : الشيب. ثم أسند عن أبي هريرة عن

__________________

(١) ذكره ابن عطية (٤ / ٤٤١)

(٢) ذكره ابن عطية (٤ / ٤٤١) ، وابن كثير (٣ / ٥٥٨) بنحوه.

٣٩٢

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أعذر الله امرأ أخّر أجله حتّى بلغ ستّين سنة» (١). انتهى. و (النَّذِيرُ) في قول الجمهور : الأنبياء. قال الطبريّ (٢) : وقيل : النذير : الشيب ، وهذا أيضا قول حسن.

وقوله : (فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) أي وبال كفره و «المقت» : احتقارك الإنسان من أجل معصيته ، والخسار : مصدر خسر يخسر ، و (أَرَأَيْتُمْ) ، تتنزل عند سيبويه منزلة أخبروني ، ولذلك لا تحتاج إلى مفعولين ، والرؤية في قوله (أَرُونِي) رؤية بصر.

ت : قال ابن هشام : قوله : (مِنَ الْأَرْضِ) ، «من» : مرادفة «في». ثم قال : والظاهر أنّها لبيان الجنس ، مثلها : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ ...) [البقرة ١٠٦] الآية. انتهى. ثم أضرب سبحانه عنهم بقوله : (بَلْ إِنْ يَعِدُ) أي : بل إنما يعدون أنفسهم غرورا.

وقوله : (أَنْ تَزُولا) أي : لئلا تزولا ، ومعنى الزوال هنا : التنقل من مكانها ، والسقوط من علوّها. وعن ابن مسعود أن السماء لا تدور وإنما تجري فيها الكواكب (٣).

وقوله تعالى : (وَلَئِنْ زالَتا) قيل : أراد يوم القيامة. وقوله تعالى : (إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) أي : من بعد تركه الإمساك.

قال ص : (إِنْ أَمْسَكَهُما) : إن : نافية بمعنى ، ما ، وأمسك : جواب القسم المقدّر قبل اللام الموطئة في (لَئِنْ) ، وهو بمعنى : يمسك ؛ لدخول إن الشرطية ؛ كقوله تعالى : (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) [البقرة : ١٤٥] أي : ما يتبعون وكقوله : (وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً) الآية إلى قوله : (لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ) [الروم : ٥١] أي : ليظلون ، وحذف جواب إن في هذه المواضع لدلالة جواب القسم عليه.

وقوله : (مِنْ أَحَدٍ مِنْ) : زائدة لتأكيد الاستغراق انتهى.

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤٢) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً (٤٣) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (٤٤) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما

__________________

(١) أخرجه البخاري (١١ / ٢٤٣) كتاب الرقاق : باب من بلغ ستين سنة فقد أعذر ، حديث (٦٤١٩)

(٢) ينظر : «الطبريّ» (١٠ / ٤١٩)

(٣) ذكره ابن عطية (٤ / ٤٤٢)

٣٩٣

تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً) (٤٥)

وقوله تعالى : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ) يعني : قريشا (لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) الآية : وذلك أنه روي : أن كفّار قريش كانت قبل الإسلام تنكر على اليهود والنصارى ، وتأخذ عليهم في تكذيب بعضهم بعضا وتقول : لو جاءنا نحن رسول لكنا أهدى من هؤلاء ، و (إِحْدَى الْأُمَمِ) : يريدون : اليهود والنصارى ، (فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ) وهو : محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً) وقرأ ابن مسعود (١) : و «مكرا سيئا» ، و (يَحِيقُ) : معناه : يحيط ويحل وينزل ، ولا يستعمل إلا في المكروه و (يَنْظُرُونَ) معناه : ينتظرون والسنة : الطريقة والعادة. وقوله : (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً) أي : لتعذيبه الكفرة المكذبين ، وفي هذا وعيد بيّن.

وقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) لمّا توعدهم سبحانه بسنة الأولين وقفهم في هذه الآية على رؤيتهم لما رأوا من ذلك في طريق الشام وغيره ؛ كديار ثمود ونحوها ، و «يعجزه» : معناه : يفوته ويفلته.

وقوله تعالى : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) الآية : قوله : (مِنْ دَابَّةٍ) : مبالغة ، والمراد : بنو آدم ؛ لأنهم المجاوزن ، وقيل : المراد الإنس والجن ، وقيل : المراد : كل ما دبّ من الحيوان وأكثره إنما هو لمنفعة ابن آدم ، وبسببه ، والضمير في : (ظَهْرِها) عائد على الأرض ، والأجل المسمى : القيامة.

وقوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً) : وعيد ، وفيه للمتقين وعد ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما والحمد لله على ما أنعم به.

__________________

(١) قال أبو الفتح : يشهد لتنكيره تنكير ما قبله من قول الله سبحانه : «استكبارا في الأرض». وقراءة العامة أقوى معنى ؛ وذلك أن «المكر» فيها معرفة لإضافته إلى المعرفة ، أعني السيّء» ، فكأنه قال : والمكر السيّء الذي هو عال مستكره مستنكر في النفوس.

ينظر : «المحتسب» (٢ / ٢٠٢) ، و «الكشاف» (٣ / ٦١٩) ، و «المحرر الوجيز» (٤ / ٤٤٣) ، و «البحر المحيط» (٧ / ٣٠٥) ، و «الدر المصون» (٥ / ٤٧٣)

٣٩٤

محتوى الجزء الرابع من تفسير «الثعالبي»

مريم............................................................................ ٥

طه........................................................................... ٤٣

الأنبياء........................................................................ ٧٩

الحج........................................................................ ١٠٦

المؤمنون...................................................................... ١٤١

النور........................................................................ ١٦٧

الفرقان...................................................................... ٢٠٢

الشعراء...................................................................... ٢٢٤

النمل....................................................................... ٢٤٢

القصص..................................................................... ٢٦٣

العنكبوت.................................................................... ٢٨٨

الروم........................................................................ ٣٠٥

لقمان....................................................................... ٣١٨

السجدة..................................................................... ٣٢٦

الأحزاب..................................................................... ٣٣٤

سبأ......................................................................... ٣٦٣

فاطر........................................................................ ٣٨١

٣٩٥