تفسير الثعالبي - ج ٤

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي

تفسير الثعالبي - ج ٤

المؤلف:

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٥

و (كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى) : هم قوم من بني إسرائيل. قال ابن عباس وأبو هريرة وجماعة : الإشارة إلى ما تضمّنه حديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من أنّ بني إسرائيل كانوا يغتسلون عراة ، وكان موسى عليه‌السلام رجلا ستّيرا حييّا ، لا يكاد يرى من جسده شيء ؛ فقالوا : والله ، ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلّا أنّه آدر أو به برص ، فذهب يغتسل ؛ فوضع ثوبه على حجر ، ففرّ الحجر بثوبه ، فلجّ موسى في إثره يقول : ثوبي حجر ، ثوبي حجر ، فمرّ بهم فنظروا إليه ؛ فقالوا : والله ، ما بموسى من بأس». الحديث (١) خرّجه البخاريّ وغيره ، وقيل في إذايتهم غير هذا. (فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا) والوجيه : المكرّم الوجه ، والقول السديد : يعمّ جميع الخيرات. وقال عكرمة : أراد «لا إله إلا الله» (٢) وباقي الآية بيّن.

(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (٧٢) لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (٧٣)

وقوله سبحانه : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) الآية ، ذهب الجمهور : إلى أن الأمانة كلّ شيء يؤتمن الإنسان عليه من أمر ونهي وشأن دين ودنيا ؛ فالشرع كلّه أمانة ؛ ومعنى الآية : إنا عرضنا على هذه المخلوقات العظام أن تحمل الأوامر ٧٧ ب والنّواهي ولها الثواب إن أحسنت ، والعقاب إن أساءت ، فأبت هذه المخلوقات وأشفقت ، فيحتمل أن يكون هذا بإدراك يخلقه الله لها ، ويحتمل أن يكون هذا العرض على من فيها من الملائكة ، وحمل الإنسان الأمانة ، أي : التزم القيام بحقّها ، وهو في ذلك ظلوم لنفسه جهول بقدر ما دخل فيه ؛ وهذا هو تأويل ابن عباس وابن جبير. قال ابن عباس وأصحابه : و (الْإِنْسانُ) آدم تحمّل الأمانة ؛ فما تمّ له يوم حتّى وقع في أمر الشجرة (٣). وقال بعضهم : (الْإِنْسانُ) : النّوع كلّه ؛ فعلى تأويل الجمهور يكون قولهما في الآية الأخرى (أَتَيْنا طائِعِينَ) إجابة لأمر أمرت به وتكون هذه الآية إباية وإشفاقا من أمر عرض عليها وخيّرت فيه.

__________________

(١) تقدم.

(٢) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٣٣٨) (٢٨٦٨٠) ، وذكره البغوي (٣ / ٥٤٦) ، وذكره ابن عطية (٤ / ٤٠١) ، وابن كثير في «تفسيره» (٣ / ٥٢١) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٤٢١) ، وعزاه لابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن عكرمة رضي الله عنه.

(٣) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٣٣٩) (٢٨٦٨٣) ، وذكره ابن عطية (٤ / ٤٠٢) ، وابن كثير في «تفسيره» (٣ / ٥٢٢) والسيوطي في «الدر المنثور» وعزاه لسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن الأنباري عن ابن عباس.

٣٦١

وقوله تعالى : (لِيُعَذِّبَ) : اللام لام العاقبة ، وكذا قال أبو حيان : اللام في (لِيُعَذِّبَ) : للصّيرورة ؛ لأنّه لم يحمل الأمانة ليعذّب ، ولكن آل أمره إلى ذلك.

ص : أبو البقاء : اللام تتعلق ب : (حَمَلَهَا) وقرأ (١) الأعمش : «ويتوب» بالرفع على الاستئناف ، والله أعلم. انتهى. وباقي الآية بيّن.

__________________

(١) قال الزمخشري : وقرأ الأعمش «ويتوب» ؛ ليجعل العلة قاصرة على فعل الحامل ، ويبتدىء : ويتوب الله. ومعنى قراءة العامة : ليعذب الله حامل الأمانة ، ويتوب على غيره ممن لم يحملها ؛ لأنه إذا تيب على الوافي ، كان ذلك نوعا من عذاب الغادر. والله أعلم.

ينظر : «الكشاف» (٣ / ٥٦٥) ، و «مختصر الشواذ» ص (١٢١) ، و «البحر المحيط» (٧ / ٢٤٤) ، و «الدر المصون» (٥ / ٤٢٧)

٣٦٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تفسير «سورة سبإ»

وهي مكّيّة

واختلف في قوله تعالى : (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) الآية. فقيل : ذلك مكّيّ ، وقيل : مدنيّ.

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ) (٢)

قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) الألف واللام في (الْحَمْدُ) : لاستغراق جنس المحامد ، أي : الحمد على تنوّعه هو لله تعالى من جميع جهات الفكرة ، و (يَلِجُ) معناه : يدخل ، و (يَعْرُجُ) معناه : يصعد.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٣) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (٥) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٦) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧) أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (٨) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٩) وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (١١)

قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ) روي : أنّ قائل هذه المقالة هو أبو

٣٦٣

سفيان بن حرب (١) ، واللّام من قوله : (لِيَجْزِيَ) يصحّ أن تكون متعلقة بقوله : (لَتَأْتِيَنَّكُمْ) و (الَّذِينَ) معطوف على (الَّذِينَ) الأولى ، أي : وليجزي ليجزي الّذين سعوا و (مُعاجِزِينَ) معناه : محاولين تعجيز قدرة الله فيهم ، ثم أخبر تعالى بأنّ الذين أوتوا العلم يرون الوحي المنزّل على محمّد عليه‌السلام حقا ، و (الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) قيل : هم من أسلم من أهل الكتاب ، وقال قتادة : هم أمّة محمّد المؤمنون (٢) به ، ثمّ حكى الله تعالى عن الكفّار مقالتهم الّتي قالوها على جهة التعجّب والهزء واستبعاد البعث ، (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ) ؛ يعنون محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) بالبلى وتقطّع الأوصال في القبور وغيرها و (جَدِيدٍ) بمعنى مجدّد ، وقولهم : (أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) هو أيضا من قول بعضهم لبعض ، ثمّ أضرب عن قولهم ؛ فقال : (بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ) : يريد عذاب الآخرة ؛ لأنّهم صائرون إليه ، ويحتمل أن يريد عذاب الدنيا أيضا ، والضمير في قوله : (أَفَلَمْ يَرَوْا) لهؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة ؛ وقفهم الله على قدرته ، وخوّفهم من إحاطتها بهم ، والمعنى : أليس يرون أمامهم ووراءهم سمائي وأرضي ، وباقي الآية بيّن ، ثم ذكر الله تعالى نعمته على داود وسليمان / احتجاجا على ما منح محمّدا ، و (أَوِّبِي) معناه : رجّعي معه ، قال ابن عبّاس وغيره : معناه : يا جبال سبّحي معه ، أي : يسبّح هو وترجّع هي معه التسبيح ، أي : تردّده بالذكر (٣).

وقال مؤرج : (أَوِّبِي) سبّحي بلغة الحبشة ، وقرأ (٤) عاصم : «والطير» ـ بالرفع ـ عطفا على لفظ قوله : «يا جبال» وقرأ نافع وابن كثير : «والطير» بالنّصب ـ.

__________________

(١) ذكره ابن عطية (٤ / ٤٠٥)

(٢) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٣٤٧) (٢٨٧١١) ، وذكره البغوي (٣ / ٥٤٩) ، وابن عطية (٤ / ٤٠٦) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٤٢٦) ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة.

(٣) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٣٥٠) (٢٨٧١٩) ، وذكره ابن عطية (٤ / ٤٠٧) ، وابن كثير في «تفسيره» (٣ / ٥٢٧) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٤٢٦) ، وعزاه لابن أبي شيبة في «المنصف» ، وابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما.

(٤) يعني قرأ عاصم في غير رواية حفص. وبها قرأ الأعرج وقرأ بها يعقوب كما ذكر الأزهري في «معاني القراءات» (٢ / ٢٩٠). وقرأ بقراءة الجمهور عاصم في رواية حفص ، والحسن ، وابن أبي إسحاق ، وأبو جعفر. وبالجملة فقد قال الأزهري (٢ / ٢٨٩) : واتفق القراء على نصب قوله : (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ).

وينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ٤٠٧) ، و «البحر المحيط» (٧ / ٢٥٣) ، و «الدر المصون» (٥ / ٤٣٤)

٣٦٤

قال سيبويه : عطف على موضع قوله : «يا جبال» لأنّ موضع المنادى المفرد نصب ، وقيل : نصبها بإضمار فعل تقديره : وسخّرنا الطير ، (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) معناه : جعلناه ليّنا ، وروى قتادة وغيره : أنّ الحديد كان له كالشّمع ؛ لا يحتاج في عمله إلى نار (١) ، و «السابغات» : الدّروع الكاسيات ذوات الفضول.

وقوله تعالى : (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) قال ابن زيد : الذي أمر به هو في قدر الحلقة ، أي : لا تعملها صغيرة فتضعف ؛ فلا يقوى الدّرع على الدّفاع ، ولا تعملها كبيرة ، فينال لابسها من خلالها (٢).

وقال ابن عباس : التقدير : الّذي أمر به هو في المسمار (٣) ، وذكر البخاريّ في «صحيحه» ذلك ؛ فقال : المعنى : لا تدقّ المسمار فيتسلّل ولا تغلظه فينقصم بالقاف ، وبالفاء أيضا رواية.

ت : قال الهرويّ : قوله تعالى : (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) «السرد» متابعة حلق الدّرع شيئا بعد شيء حتى يتناسق ، يقال : فلان يسرد الحديث سردا ، أي : يتابعه. انتهى.

(وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (١٢) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) (١٣)

وقوله تعالى : (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ) المعنى : ولسليمان سخّرنا الريح ، و (غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ).

قال قتادة : معناه : إنها كانت تقطع به في الغدوّ إلى قرب الزوال ؛ مسيرة شهر ،

__________________

(١) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٣٥١) (٢٨٧٣٠) بنحوه ، وذكره ابن عطية (٤ / ٤٠٧) ، وابن كثير في «تفسيره» (٣ / ٥٢٧) بنحوه ، والسيوطي في «الدر المنثور» ، وعزاه لعبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر عن قتادة بنحوه.

(٢) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٣٥١) (٢٨٧٣٤) بنحوه ، وذكره ابن عطية (٤ / ٤٠٨)

(٣) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٣٥٢) رقم (٢٨٧٣٥) بنحوه ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٠٨) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٤٢٧) بنحوه ، وعزاه لعبد الرزاق ، والحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما.

٣٦٥

وتقطع في الرواح من بعد الزوال إلى الغروب ، مسيرة شهر ، وكان سليمان إذا أراد قوما لم يشعروا حتّى يظلّهم في جوّ السماء (١). وقوله تعالى : (وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) :

قال ابن عباس ، وغيره : كانت تسيل له باليمن عين جارية من نحاس ؛ يصنع له منها جميع ما أحبّ ، و (الْقِطْرِ) : النّحاس (٢) ، و (يَزِغْ) : معناه : يمل ، أي : ينحرف عاصيا ، وقال : (عَنْ أَمْرِنا) ولم يقل : «إرادتنا» لأنّه لا يقع في العالم شيء يخالف إرادته سبحانه تعالى ويقع ما يخالف الأمر ، وقوله : (مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ) قيل : عذاب الآخرة.

وقيل : بل كان قد وكّل بهم ملك بيده سوط من نار السعير ؛ فمن عصى ضربة فأحرقه ، و «المحاريب» : الأبنية العالية الشريفة ، قال قتادة : القصور والمساجد والتماثيل (٣) ، قيل : كانت من زجاج ونحاس تماثيل أشياء ليست بحيوان ، «والجوابي» : جمع جابية وهي البركة التي يجبى إليها الماء و (راسِياتٍ) معناه : ثابتات لكبرها ، ليست ممّا ينقل أو يحمل ولا يستطيع على عمله إلّا الجنّ ؛ ثمّ أمروا مع هذه النعم بأن يعملوا بالطّاعات ، و (شُكْراً) يحتمل نصبه على الحال ، أو على جهة المفعول ، أي : اعملوا عملا هو الشكر كأنّ العبادات كلّها هي نفس الشكر ، وفي الحديث : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم صعد المنبر فتلا هذه الآية ، ثم قال : «ثلاث من أوتيهنّ فقد أوتي العمل شكرا : العدل في الرضا والغضب ، والقصد في الفقر والغنى ، وخشية الله في السرّ والعلانية» (٤) ، وهكذا نقل ابن

__________________

(١) أخرجه الطبريّ في «تفسيره» (١٠ / ٣٥٣) ، برقم (٢٨٧٤٠) بنحوه ، وذكره ابن عطية في «في تفسيره» (٤ / ٤٠٨) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٤٢٧) بنحوه ، وعزاه لعبد بن حميد عن قتادة.

(٢) أخرجه الطبريّ في «تفسيره» (١٠ / ٣٥٣) برقم (٢٨٧٤٥) عن قتادة ، ورقم (٢٨٧٤٦) عن ابن زيد ، ورقم (٢٨٧٤٨) عن ابن عباس ، وذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ٥٥١) ، وابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٠٩) ، وابن كثير في «تفسيره» (٣ / ٥٢٨) ، بنحوه ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٤٢٨) بنحوه ، وعزاه لابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس.

(٣) أخرجه الطبريّ في «تفسيره» (١٠ / ٣٥٤) رقم (٢٨٧٥١) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٠٩) ، وابن كثير في «تفسيره» (٣ / ٥٢٨) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٤٢٩) ، وعزاه لعبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر عن قتادة.

(٤) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٤٣٠ ـ ٤٣١) ، وعزاه إلى ابن المنذر عن عطاء بن يسار مرسلا ، وإلى ابن مردويه عن حفصة مرفوعا.

والحكيم الترمذيّ عن أبي هريرة مرفوعا.

وابن النجار في «تاريخه» عن أبي ذر.

وذكره الهندي في «كنز العمال» (٤٣٢٢٤) ، وعزاه للحكيم الترمذيّ عن أبي هريرة.

٣٦٦

العربيّ هذا الحديث في «أحكامه» وعبارة الدّاووديّ : وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قرأ على المنبر : (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً) ، وقال : ثلاث من أوتيهنّ فقد أوتي مثل ما أوتي آل داود : العدل في الغضب والرضا ، والقصد في الفقر والغنى ، وذكر الله تعالى / في السرّ والعلانية» (١) قال القرطبيّ (٢) الشكر تقوى الله والعمل بطاعته. انتهى.

قال ثابت : روي أنّ داود كان قد جزّأ ساعات اللّيل والنّهار على أهله ؛ فلم تكن تأتي ساعة من ساعات اللّيل والنّهار ؛ إلّا وإنسان من آل داود قائم يصلّي ؛ يتناوبون دائما (٣) ، وكان سليمان ـ عليه‌السلام ـ فيما روي ـ يأكل الشعير ويطعم أهله الخشكار ، ويطعم المساكين الدّرمك (٤) ، وروي أنّه ما شبع قطّ ، فقيل له في ذلك ؛ فقال : أخاف إن شبعت أن أنسى الجياع.

وقوله تعالى : (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) يحتمل : أن تكون مخاطبة لآل داود ، ويحتمل : أن تكون مخاطبة لنبيّنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى كلّ وجه ؛ ففيها تحريض وتنبيه ، قال ابن عطاء الله في «الحكم» : من لم يشكر النعم فقد تعرّض لزوالها ؛ ومن شكرها فقد قيّدها بعقالها.

وقال صاحب «الكلم الفارقية» : لا تغفل عن شكر الصنائع ؛ وسرعة استرجاع الودائع ، وقال أيضا : يا ميّتا نشر من قبر العدم ، بحكم الجود والكرم ، لا تنس سوالف العهود والذّمم ، اذكر عهد الإيجاد ، وذمّة الإحسان والإرفاد ، وحال الإصدار والإيراد ، وفاتحة المبدإ وخاتمة المعاد ، وقال ـ رحمه‌الله ـ : يا دائم الغفلة عن عظمة ربّه ، أين النّظر في عجائب صنعه ، والتفكّر في غرائب حكمته ، أين شكر ما أفاض عليك من ملابس إحسانه ونعمه ، يا ذا الفطنة ، اغتنم نعمة المهلة ، وفرصة المكنة ، وخلسة السلامة ، قبل حلول الحسرة والنّدامة. انتهى.

(فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ

__________________

(١) ينظر : الحديث السابق.

(٢) ينظر : «القرطبي» (٤ / ١٧٧)

(٣) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ٥٥٢) ، وابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤١٠) ، وابن كثير في «تفسيره» (٣ / ٥٢٨) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٤٣٠) ، وعزاه لابن أبي شيبة ، وأحمد في «الزهد» ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في «شعب الإيمان» عن ثابت البناني.

(٤) الدّرمك : هو الدقيق الحوّاري.

ينظر : «النهاية» (٢ / ١١٤)

٣٦٧

تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ) (١٤)

وقوله تعالى : (فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ...) الآية. روي عن ابن عبّاس (١) وابن مسعود في قصص هذه الآية كلام طويل ، حاصله : أنّ سليمان عليه‌السلام لمّا أحسّ بقرب أجله ؛ اجتهد ـ عليه‌السلام ـ وجدّ في العبادة ؛ وجاءه ملك الموت ، وأخبره أنّه أمر بقبض روحه ، وأنّه لم يبق له إلّا مدّة يسيرة.

قال الثعلبيّ : وقال سليمان عند ذلك : اللهمّ ؛ عمّ على الجنّ موتى ؛ حتّى يعلم الإنس أنّ الجنّ لا يعلمون الغيب ، وكانت الجنّ تخبر الإنس أنّهم يعلمون من الغيب أشياء ، وأنّهم يعلمون ما في غد ، ولمّا أعلمه ملك الموت بقرب الأجل ؛ أمر حينئذ الجنّ ، فصنعت له قبّة من زجاج تشفّ ؛ ودخل فيها يتعبّد ؛ ولم يجعل لها بابا ، وتوكّأ على عصاه على وضع يتماسك معه وإن مات ، ثمّ توفّي ـ عليه‌السلام ـ على تلك الحالة ، فلمّا مضى لموته سنة ، خرّ عن عصاه ، والعصا قد أكلتها الأرضة ؛ وهي الدّودة الّتي تأكل العود ؛ فرأت الجنّ انخراره فتوهّمت موته ؛ «والمنسأة» : العصا ، وقرأ الجمهور : (تَبَيَّنَتِ الْجِنُ) بإسناد الفعل إليها ، أي : بان أمرها ، كأنّه قال : افتضحت الجنّ ، أي : للإنس ، هذا تأويل ، ويحتمل أن يكون قوله : (تَبَيَّنَتِ الْجِنُ) بمعنى : علمت الجنّ وتحقّقت ، ويريد بالجنّ : جمهورهم ، والخدمة منهم ، ويريد بالضّمير في (كانُوا) : رؤساءهم وكبارهم لأنّهم هم الذين يدّعون علم الغيب لأتباعهم من الجنّ والإنس.

وقرأ يعقوب : «تبينت الجن» على بناء الفعل للمفعول ، أي : تبيّنها الناس ، و (الْعَذابِ الْمُهِينِ) : ما هم فيه من الخدمة ، والتسخير وغير ذلك ، والمعنى : أنّ الجنّ لو كانت تعلم الغيب لما خفي عليها موت سليمان ؛ وقد ظهر أنّه خفي عليها بدوامها في الخدمة الصعبة ، وهو ميّت ف (الْمُهِينِ) المذلّ ، من الهوان ، وحكى الثعلبيّ : أنّ الشياطين قالت للأرضة : لو كنت تأكلين الطعام لأتيناك بأطيب الطعام والشراب ، ولكنّا سننقل إليك الماء والطين ؛ فهم ينقلون إليها ذلك حيث كانت شكرا لها ، انتهى.

(لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ

__________________

(١) أخرجه الطبريّ في «تفسيره» (١٠ / ٣٥٨) رقم (٢٨٧٧٧) ، ورقم (٢٨٧٧٨) بنحوه ، وذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ٥٥٢) ، وابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤١١) ، وابن كثير في «تفسيره» (٣ / ٥٢٩) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٤٣٢) ، وعزاه للبزار ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن السني في «الطب النبوي» ، وابن مردويه عن ابن عباس.

٣٦٨

بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (١٥) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ) (١٧)

وقوله تعالى : (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ...) الآية ، هذا مثل لقريش بقوم أنعم الله عليهم فلم يشكروا ؛ فانتقم منهم ، أي : فأنتم أيّها القوم مثلهم ، وسبأ هنا يراد به القبيل ، واختلف : لم سمّي القبيل بذلك؟ فقالت فرقة : هو اسم امرأة.

وقيل : اسم موضع سمّي به القبيل ، وقال الجمهور : هو اسم رجل ، هو أبو القبيل كلّه ، وفيه حديث فروة بن مسيك المتقدّم في «سورة النّمل» ؛ خرّجه الترمذيّ (١) ، و (آيَةٌ) : معناه : عبرة وعلامة على فضل الله وقدرته ، و (جَنَّتانِ) : مبتدأ وخبره : (عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ) ، أو خبر مبتدإ محذوف تقديره : هي جنتان ، وقيل : (جَنَّتانِ) بدل من (آيَةٌ) وضعّف ، وروي في قصصهم أنّه كان في ناحية اليمن واد عظيم بين جبلين ، وكانت جنبتا الوادي فواكه وزروعا ، وكان قد بني في رأس الوادي عند أوّل الجبلين ؛ جسر عظيم من حجارة من الجبل إلى الجبل ، فاحتبس الماء فيه ، وصار بحيرة عظيمة ، وأخذ الماء من جنبتيها فمشى مرتفعا يسقي جنّات كثيرة جنبتي الوادي ، قيل : بنته بلقيس ، وقيل بناه حمير أبو القبائل اليمانيّة كلّها ، وكانوا بهذه الحال في أرغد عيش ، وكانت لهم بعد ذلك قرى ظاهرة متّصلة من اليمن إلى الشام ، وكانوا أرباب تلك البلاد في ذلك الزمان.

ت : وقول ع (٢) : «وكان قد بني في رأس الوادي عند أوّل الجبلين» صوابه : وكان قد بني في أسفل الوادي عند آخر الجبلين ، و (كُلُوا) : فيه حذف معناه : قيل لهم : كلوا ، و (طَيِّبَةٌ) معناه : كريمة التربة حسنة الهواء ، وروي أنّ هذه المقالة ؛ من الأمر بالأكل والشكر والتوقيف على طيب البلدة وغفران الربّ مع الإيمان به ؛ هي من قول الأنبياء لهم ، وبعث إليهم فيما روي ثلاثة عشر نبيّا فكفروا بهم وأعرضوا ؛ فبعث الله على ذلك السدّ جرذا أعمى ؛ توالد فيه ؛ وخرقه شيئا بعد شيء ؛ فانخرق السدّ وفاض الماء على أموالهم وجنّاتهم فغرّقها ؛ وأهلك كثيرا من النّاس ممّن لم يمكنه الفرار ؛ واختلف في (الْعَرِمِ). فقال المغيرة بن حكيم وأبو ميسرة : هو كلّ ما بني أو سنّم ليمسك (٣) الماء ، وقال ابن

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) ينظر : «المحرر» (٤ / ٤١٣)

(٣) أخرجه الطبريّ في «تفسيره» (١٠ / ٣٦٢) رقم (٢٨٧٨٩) عن المغيرة بن حكيم ، ورقم (٢٨٧٩٠) عن أبي ميسرة ، كلاهما بنحوه ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤١٤) عنهما.

٣٦٩

عبّاس وغيره : (الْعَرِمِ) : اسم وادي ذلك الماء بعينه الّذي كان السدّ بني (١) له» ، وقال ابن عبّاس أيضا : (الْعَرِمِ) الشديد (٢).

قال ع (٣) : فكأنّه صفة للسّيل من العرامة ، والإضافة إلى الصفة مبالغة ؛ وهي كثيرة في كلام العرب ، وقيل : (الْعَرِمِ) : صفة للمطر الشديد الذي كان عنه ذلك السيل.

وقوله تعالى : (وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ) فيه تجوّز واستعارة ، وذلك أنّ البدل ـ من الخمط والأثل ـ لم يكن جنّات ؛ لكنّ هذا كما تقول لمن جرّد ثوبا جيّدا وضرب ظهره : هذا الضرب ثوب صالح لك ؛ ونحو هذا ، و «الخمط» : شجر الأراك ، قاله ابن عبّاس وغيره (٤) ، وقيل : «الخمط» : كلّ شجر له شوك وثمرته كريهة الطعم بمرارة أو حموضة أو نحوه ، ومنه تخمّط اللّبن إذا تغيّر طعمه و «الأثل» : ضرب من الطرفاء ، هذا هو الصحيح ، و «السدر» : معروف وهو له نبق شبه العنّاب لكنّه دونه في الطعم بكثير ، وللخمط ثمر غثّ هو البرير ، وللأثل ثمر قليل الغناء غير حسن الطعم ، وقرأ نافع (٥) وابن كثير : «أكل» : ـ بضمّ الهمزة وسكون الكاف ـ ، والباقون : ـ بضمّهما ـ وهما بمعنى الجنى والثمرة ، ومنه : (تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ) [سورة إبراهيم : ٢٥]. أي : جناها ، وقرأ (٦) أبو عمرو : «أكل خمط» بإضافة «أكل» إلى «خمط».

__________________

(١) أخرجه الطبريّ في «تفسيره» (١٠ / ٣٦٢) رقم (٢٨٧٩٢) عن ابن عباس ، ورقم (٢٨٧٩٣) عن قتادة ، ورقم (٢٨٧٩٤) عن الضحاك ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤١٤) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٤٣٧). وعزاه لابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنه.

ولابن جرير عن الضحاك.

ولعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة.

(٢) أخرجه الطبريّ في «تفسيره» (١٠ / ٣٦٣) رقم (٢٨٧٩٥) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤١٤)

(٣) ينظر : «المحرر» (٤ / ٤١٤)

(٤) أخرجه الطبريّ في «تفسيره» (١٠ / ٣٦٤) ، رقم (٢٨٨٠١) عن ابن عباس ، ورقم (٢٨٨٠٢) عن الحسن ، (٢٨٨٠٣) عن مجاهد ، (٢٨٨٠٥) عن قتادة ، وذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ٥٥٤) ، وابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤١٤) ، وابن كثير في «تفسيره» (٣ / ٥٣٣) والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٤٣٧).

وعزاه للفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد ، ولابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس ، ولابن أبي حاتم عن السدي ، ولعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة.

(٥) ينظر : «السبعة» (٥٢٨) ، و «الحجة» (٦ / ١٤) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٢١٧) ، و «معاني القراءات» (٢ / ٢٩٢) ، و «العنوان» (١٥٦) ، و «إتحاف» (٢ / ٣٨٥)

(٦) ينظر : مصادر القراءة السابقة ، و «حجة القراءات» (٥٨٧) ، و «شرح الطيبة» (٥ / ١٥٥) ، و «شرح شعلة» (٥٥٣)

٣٧٠

وقوله تعالى : (ذلِكَ) إشارة إلى ما أجراه عليهم.

وقوله : وهل يجازى ، أي : يناقش ويقارض بمثل فعله قدرا بقدر ، لأنّ جزاء المؤمن إنّما هو بتفضّل وتضعيف ثواب ، وأمّا الّذي لا يزاد ولا ينقص فهو الكافر ، وقرأ (١) حمزة والكسائيّ : «وهل نجازي» ـ بالنون وكسر الزاي «الكفور» ـ بالنصب ـ.

(وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (١٨) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) (١٩)

وقوله تعالى : (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى ...) الآية ، هذه الآية وما بعدها وصف حالهم قبل مجيء السيل ، وهي أنّ الله تعالى مع ما كان منحهم من الجنّتين والنّعمة الخاصّة بهم ؛ كان قد أصلح لهم البلاد المتّصلة ؛ وعمّرها وجعلهم أربابها ؛ وقدّر السير بأن قرّب القرى بعضها من بعض ؛ حتّى كان المسافر من مأرب إلى الشام يبيت في قرية ويقيل في قرية فلا يحتاج إلى حمل زاد ، و (الْقُرَى) : المدن ، والقرى التي بورك فيها : هي بلاد الشام بإجماع المفسّرين ، والقرى الظاهرة : هي الّتي بين الشام ومأرب وهي اسم بلدهم.

قال ابن عباس (٢) وغيره : هي قرى عربيّة بين المدينة والشام. واختلف في معنى (ظاهِرَةً) فقالت فرقة : معناه : مستعلية مرتفعة في الآكام وهي أشرف القرى ، وقالت فرقة : معناه : يظهر بعضها من بعض ؛ فهي أبدا في قبضة عين المسافر ؛ لا يخلو عن رؤية شيء منها.

قال ع (٣) : والذي يظهر لي أنّ معنى (ظاهِرَةً) خارجة عن المدن فهي عبارة عن القرى الصغار الّتي هي في ظواهر المدن ؛ والله أعلم ؛ و (آمِنِينَ) ، أي : من الخوف والجوع والعطش وآفات السفر ، ثم حكى ـ سبحانه ـ عنهم مقالة قالوها على جهة البطر والأشر ؛ وهي طلب البعد بين الأسفار كأنّهم ملّوا النّعمة في القرب وطلبوا استبدال الّذي

__________________

(١) قرأ الأخوان وحفص «نجازي» بنون العظمة وكسر الزاي أي نحن «إلّا الكفور» مفعول به. والباقون بضم الياء وفتح الزاي مبنيا للمفعول «إلّا الكفور» رفع على ما لم يسمّ فاعله ، ومسلم بن جندب «يجزي» مبنيا للمفعول «إلّا الكفور» رفعا وقرىء «يجزي» مبنيا للفاعل وهو الله تعالى. «الكفور» نصبا على المفعول به. ينظر : «حجة القراءات» ص ٥٨٧ ، و «الدر المصون» (٥ / ٤٤١)

(٢) أخرجه الطبريّ في «تفسيره» (١٠ / ٣٦٧) رقم (٢٨٨١٨) عن ابن عباس ، ورقم (٢٨٨٢٠) عن الضحاك ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤١٥) عنهما ، وابن كثير في «تفسيره» (٣ / ٥٣٣)

(٣) ينظر : «المحرر» (٤ / ٤١٦)

٣٧١

هو أدنى بالّذي هو خير ، وظلموا أنفسهم ففرّق الله شملهم وخرّب بلادهم وجعلهم أحاديث ؛ ومنه المثل السائر «تفرّقوا أيادي سبا وأيدي سبا» يقال المثل بالوجهين ؛ وهذا هو تمزيقهم كلّ ممزّق ؛ فتيامن منهم ستّة قبائل ؛ وتشاءمت منهم أربعة حسبما في الحديث ، ثمّ أخبر تعالى محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمّته على جهة التنبيه ؛ بأنّ هذا القصص فيه آيات وعبر لكلّ مؤمن متّصف بالصّبر والشكر.

(وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٢١) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (٢٢) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٢٣) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٢٤)

وقوله تعالى : (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ ...) الآية ، قرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر : «ولقد صدق» بتخفيف الدّال ، وقرأ حمزة والكسائيّ (١) : «صدّق» بتشديدها ؛ فالظّن على هذه القراءة مفعول «بصدّق» ومعنى / الآية : أنّ إبليس ظنّ فيهم ظنّا حيث قال : (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) [الأعراف : ١٧]. وغير ذلك فصدّق ظنّه فيهم ؛ وأخبر تعالى أنّهم اتّبعوه وهو اتّباع في كفر لأنّه في قصّة قوم كفّار.

وقوله : (مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍ) يدلّ على ذلك و «من» في قوله : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) لبيان الجنس لا للتّبعيض.

وقوله : (وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ) أي : من حجّة ، قال الحسن : والله ما كان له سيف ولا سوط ولكنّه استمالهم فمالوا بتزيينه (٢).

__________________

(١) وقرأ عاصم بتثقيلها ـ كما قرأ الأخوان.

ينظر : «السبعة» (٥٢٧) ، و «الحجة» (٦ / ٢٠) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٢١٩) ، و «معاني القراءات» (٢ / ٢٩٤) ، و «شرح الطيبة» (٥ / ١٥٦) ، و «العنوان» (١٥٦) ، و «حجة القراءات» (٥٨٨) ، و «شرح شعلة» (٥٥٤) ، و «إتحاف» (٢ / ٣٨٦)

(٢) أخرجه الطبريّ في «تفسيره» (١٠ / ٣٧١) رقم (٢٨٨٣٥) بنحوه ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤١٧) بلفظه ، وذكره ابن كثير في «تفسيره» (٣ / ٥٣٥) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٤٤٠) كلاهما بنحوه.

وعزاه السيوطي لعبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن الحسن.

٣٧٢

وقوله تعالى : (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) يريد : الأصنام والملائكة ؛ وذلك أنّ منهم من كان يعبد الملائكة ؛ وهذه آية تعجيز وإقامة حجّة ؛ ويروى أنّ الآية نزلت عند الجوع الّذي أصاب قريشا ، ثمّ جاء بصفة هؤلاء الذين يدعونهم آلهة أنّهم لا يملكون ملك اختراع مثقال ذرّة في السماوات ولا في الأرض ؛ وأنّهم لا شرك لهم فيهما ، وهذان نوعا الملك : إمّا استبداد وإمّا مشاركة ؛ فنفى عنهم جميع ذلك ونفى أن يكون منهم لله تعالى معين في شيء ، و «الظهير» : المعين ، ثمّ قرّر في الآية بعد أنّ الّذين يظنّون أنّهم يشعفون لهم عند الله ؛ لا تصحّ منهم شفاعة لهم إذ هؤلاء كفرة ولا يأذن الله في الشفاعة في كافر ، وقرأ حمزة والكسائيّ وأبو عمرو «أذن» ـ بضمّ الهمزة ـ (١).

وقوله تعالى : (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ ...) الآية. الضمير في (قُلُوبِهِمْ) عائد على الملائكة الّذين دعوهم آلهة.

قال ع (٢) : وتظاهرت الأحاديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّ هذه الآية ـ أعني قوله : (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ ...) ـ إنّما هي في الملائكة ؛ إذا سمعت الوحي إلى جبريل ، أو الأمر يأمر الله به ، سمعت كجرّ سلسلة الحديد على الصفوان ، فتفزع عند ذلك تعظيما وهيبة لله تبارك وتعالى وقيل : خوفا أن تقوم الساعة ؛ فإذا فرغ ذلك ، فزّع عن قلوبهم ، أي : أطير الفزع عنها وكشف ، فيقول بعضهم لبعض ولجبريل : ماذا قال ربّكم؟ فيقول المسؤلون : قال الحقّ ، وهو العليّ الكبير.

ت : ولفظ الحديث من طريق أبي هريرة ؛ أنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا قضى الله أمرا في السماء ، ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله ، كأنّه سلسلة على صفوان ، فإذا فزّع عن قلوبهم ، قالوا : ماذا قال ربّكم؟ قالوا الحقّ ، وهو العليّ الكبير» (٣) انتهى.

__________________

(١) وحجة الباقين في فتح الهمزة قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) [النبأ : ٣٨] ، وقوله : (إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) [النجم : ٢٦] فردوا ما اختلفوا فيه إلى ما أجمعوا عليه.

ينظر : «حجة القراءات» (٥٨٩) ، و «السبعة» (٥٢٩ ـ ٥٣٠) ، و «الحجة» (٦ / ٢١) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٢٢٠) ، و «معاني القراءات» (٢ / ٢٩٥) ، و «شرح الطيبة» (٥ / ١٥٧) ، و «العنوان» (١٥٧) ، و «شرح شعلة» (٥٥٤) ، و «إتحاف» (٢ / ٣٨٦)

(٢) ينظر : «المحرر» (٤ / ٤١٨)

(٣) أخرجه البخاري (٨ / ٣٩٨) كتاب التفسير : باب (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) حديث (٤٨٠٠) ، والترمذيّ (٥ / ٣٦٢) كتاب التفسير : باب ومن سورة سبأ ، حديث (٣٢٢٣) ، وابن ماجه (١ / ٦٩ ـ ٧٠) المقدمة : باب فيما أنكرت الجهمية ، حديث (١٩٤) ، والطبريّ في «تفسيره» (١٠ / ٣٧٣) رقم (٢٨٨٤٧) من حديث أبي هريرة مرفوعا. ـ

٣٧٣

وقرأ الجمهور «فزع» ـ بضمّ الفاء ـ ومعناه أطير الفزع عنهم وقولهم : (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) تمجيد وتحميد ، ثمّ أمر الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على جهة الاحتجاج وإقامة الدّليل على الرازق لهم من السموات والأرض من هو ، ثمّ أمره أن يقتضب الاحتجاج بأن يأتي بجواب السؤال ؛ إذ هم في بهتة ووجمة من السؤال ؛ وإذ لا جواب لهم إلّا أن يقولوا : هو الله ، وهذه السبيل في كلّ سؤال جوابه في غاية الوضوح ؛ لأنّ المحتجّ يريد أن يقتضب ويتجاوز إلى حجّة أخرى يوردها ، ونظائرها في القرآن كثير.

وقوله تعالى : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ) تلطف في الدّعوة والمحاورة والمعنى : كما تقول لمن خالفك في مسألة : أحدنا مخطئ تثبّت وتنبّه ؛ والمفهوم من كلامك أنّ مخالفك هو المخطئ فكذلك هذا ، معناه : وإنا لعلى هدى أو في ضلال مبين ؛ وإنّكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ؛ فتنبّهوا ، والمقصد أنّ الضلال في حيّزهم ؛ وحذف أحد الخبرين لدلالة الباقي عليه.

(قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٢٥) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (٢٦) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٨) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٩) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ) (٣٠)

وقوله : (قُلْ لا تُسْئَلُونَ) الآية مهادنة ومتاركة منسوخة.

وقوله تعالى : (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا) إخبار بالبعث و (يَفْتَحُ) معناه : يحكم : والفتّاح : القاضي ، وهو مشهور في لغة اليمن و (أَرُونِيَ) : هي رؤية قلب ، وهذا هو الصحيح ، أي : أروني بالحجّة والدّليل.

وقوله : (كَلَّا) ردّ لما تقرّر من مذهبهم في الإشراك.

وقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ ...) الآية : إعلام من الله تعالى بأنّه بعث محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى جميع العالم وهي إحدى خصائصه الّتي خصّ بها من بين سائر الأنبياء وباقي الآية بيّن.

__________________

ـ وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٤٤٢) ، وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في «الأسماء والصفات».

٣٧٤

قال أبو عبيدة : الوعد والوعيد والميعاد : بمعنى ؛ وخولف في هذا ، والذي عليه الناس أنّ الوعد إذا أطلق ففي الخير ؛ والوعيد في المكروه ؛ والميعاد يقع لهذا ولهذا.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (٣١) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (٣٢) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٣٣)

وقوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) هذه المقالة قالها بعض قريش وهي أنّهم لا يؤمنون بالقرآن ولا بالّذي بين يديه من التوراة والإنجيل والزبور ، فكأنّهم كذّبوا بجميع كتب الله ـ عزوجل ـ وإنّما فعلوا هذا لمّا وقع الاحتجاج عليهم بما في التوراة من أمر محمّد ـ عليه‌السلام ـ.

قال الواحديّ : قوله تعالى : (يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ) ، أي : في التلاؤم ، انتهى. وباقي الآية بيّن. وقولهم : (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) ، المعنى : بل كفرنا بمكركم بنا في الليل والنهار ؛ وأضاف المكر إلى الليل والنهار من حيث هو فيهما ، ولتدلّ هذه الإضافة على الدّؤوب والدّوام ، والضمير في (أَسَرُّوا) عامّ لجميعهم من المستضعفين والمستكبرين.

(وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٣٤) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٥) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٦) وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ) (٣٧)

وقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) هذه الآية تسلية للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن فعل قريش وقولها ، أي : هذه يا محمّد سيرة الأمم ، فلا يهمّنّك أمر قومك ، والقرية : المدينة ، والمترف : الغنيّ المنعم ، القليل تعب النّفس والبدن ، فعادتهم المبادرة بالتّكذيب.

وقوله : (وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً ...) الآية : يحتمل أن يعود الضمير في (قالُوا) على المترفين ؛ ويحتمل أن يكون لقريش ، ويكون كلام المترفين قد تمّ قبله ، وفي «صحيح مسلم» عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : «إنّ الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ، ولكن ينظر إلى

٣٧٥

قلوبكم وأعمالكم» (١). انتهى.

واعلم أنّ المال الزائد على قدر الحاجة قلّ أن يسلم صاحبه من الآفات إلّا من عصمه الله تعالى ، (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) [الشورى : ٢٧].

وقد جاء في «صحيح البخاريّ» وغيره من رواية أبي ذرّ عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : «الأكثرون مالا هم الأقلّون يوم القيامة إلّا من قال بالمال هكذا وهكذا» (٢) ـ وأشار ابن شهاب بين يديه وعن يمينه وعن شماله ـ وقليل ما هم» ا ه. وروى ابن المبارك في «رقائقه» قال : أخبرنا حيوة بن شريح عن عقيل بن خالد عن سلمة بن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الشيطان قال : لن ينجو منّي الغنيّ من إحدى ثلاث : إمّا أن أزيّن ماله في عينيه فيمنعه من حقّه ؛ وإمّا أن أسهّل له سبيله فينفقه في غير حقّه ؛ وإمّا أن أحبّبه فيكسبه بغير حقّه» (٣) ؛ انتهى. و «الزلفى» : مصدر بمعنى القرب.

وقوله : (إِلَّا مَنْ آمَنَ) استثناء منقطع ، وقرأ الجمهور : «جزاء (٤) الضعف» ، بالإضافة و (الضِّعْفِ) : هنا اسم جنس ، أي : بالتّضعيف ، إذ بعضهم يجازى إلى عشرة ، وبعضهم أكثر صاعدا إلى سبع مائة بحسب الأعمال ومشيئة الله فيها.

(وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (٣٨) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٣٩) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (٤١) فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (٤٢) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا

__________________

(١) أخرجه مسلم (٤ / ١٩٨٧) كتاب البر والصلة : باب تحريم ظلم المسلم ، حديث (٣٤ / ٢٥٦٤) ، وابن ماجه (٢ / ١٣٨٨) كتاب الزهد : باب القناعة ، حديث (٤١٤٣) ، وأحمد (٢ / ٥٣٩) ، وفي «الزهد» (ص ٥٩) ، وابن حبان (٣٩٤) ، وأبو نعيم في «الحلية» (٤ / ٩٨ ، ٧ / ١٢٤) ، والبغوي في «شرح السنة» (٧ / ٣٥٤ ـ بتحقيقنا) من حديث أبي هريرة.

(٢) أخرجه البخاري (١١ / ٥٣٣) كتاب الأيمان والنذور : باب كيف كانت يمين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حديث (٦٦٣٨)

(٣) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (ص ١٩٢ ـ ١٩٣) رقم (٥٤٧) ، والطبراني في «الكبير» كما في «المجمع» (١٠ / ٢٤٨) ، وقال الهيثمي : إسناده حسن.

(٤) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ٤٢٢) ، و «البحر المحيط» (٧ / ٢٧٣) ، و «الدر المصون» (٥ / ٤٥٠)

٣٧٦

إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ) (٤٣)

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ) تقدّم تفسيره و (مُحْضَرُونَ) من الإحضار والإعداد ، ثمّ كرّر القول ببسط الرزق لا على المعنى الأوّل ؛ بل هذا هنا على جهة الوعظ ، والتزهيد في الدّنيا ، والحضّ على النّفقة في الطاعات ، ثمّ وعد بالخلف في ذلك. إمّا في الدنيا ، وإمّا في الآخرة ، وفي «البخاري» أنّ ملكا ينادي كلّ يوم : اللهمّ ، أعط منفقا خلفا ، ويقول ملك آخر : اللهمّ ، أعط ممسكا تلفا (١). وروى الترمذيّ عن أبي كبشة الأنصاري : أنّه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ثلاث أقسم عليهنّ وأحدّثكم حديثا فاحفظوه ، قال : ما نقص مال عبد من صدقة ، ولا ظلم عبد مظلمة صبر عليها إلّا زاده الله عزّا ، ولا فتح عبد باب مسألة إلّا فتح الله عليه باب فقر ، أو كلمة نحوها» (٢) الحديث ، قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح ، انتهى. وقوله تعالى : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ ...) الآية : تقدّم تفسير نظيرها مكرّرا ؛ وفي القرآن آيات يظهر منها أنّ الجنّ عبدت في سورة الأنعام وغيرها ؛ ثمّ قال تعالى : (فَالْيَوْمَ) أي : يقال لمن عبد ومن عبد : «اليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرّا».

(وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (٤٤) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٥) قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) (٤٦)

وقوله تعالى : (وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها ...) الآية المعنى : أنّ هؤلاء الكفرة يقولون بآرائهم في كتاب الله ، فيقول بعضهم : سحر ، وبعضهم : افتراء ، وذلك منهم تسوّر لا يستندون فيه إلى أثارة علم ؛ فإنّا ما آتيناهم من كتب يدرسونها ؛ وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير يباشرهم ويشافههم فيمكنهم أن يسندوا دعواهم إليه.

وقوله تعالى : (وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ) الضمير في : (بَلَغُوا) يعود على قريش ، وفي آتيناهم على الأمم الّذين من قبلهم ، والمعنى : من القوّة والنّعم والظهور في

__________________

(١) أخرجه البخاري (٣ / ٣٥٧) كتاب الزكاة : باب قول الله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى ...) حديث (١٤٤٢) ، ومسلم (٢ / ٧٠٠) كتاب الزكاة : باب في المنفق ، حديث (٥٧ / ١٠١٠)

(٢) أخرجه الترمذيّ (٤ / ٥٦٢ ـ ٥٦٣) كتاب الزهد : باب ما جاء مثل الدنيا مثل أربعة نفر ، حديث (٢٣٢٥). وقال الترمذيّ : هذا حديث حسن صحيح.

٣٧٧

الدّنيا ؛ قاله ابن عبّاس وقتادة وابن زيد (١) : والمعشار : العشر ولم يأت هذا البناء إلّا في العشرة والأربعة ، فقالوا : مرباع ومعشار ؛ و «النّكير» مصدر كالإنكار في المعنى ، وكالعذير في الوزن ، و (فَكَيْفَ) : تعظيم للأمر وليست استفهاما مجرّدا ؛ وفي هذا تهديد لقريش ، أي : أنهم متعرّضون لنكير مثله ، ثمّ أمر ـ تعالى ـ نبيّه عليه‌السلام أن يدعوهم إلى عبادة الله ـ تعالى ـ والنّظر في حقيقة نبوّته هو ، ويعظهم بأمر مقرّب للأفهام ، فقوله : (بِواحِدَةٍ) معناه : بقضيّة واحدة إيجازا لكم وتقريبا عليكم وهو أن تقوموا لله ، أي : لأجل الله أو لوجه الله مثنى أي : اثنين اثنين متناظرين وفرادى ، أي : واحدا واحدا ، ثمّ تتفكّروا ، هل ٨١ ب بصاحبكم جنّة ، أو هو بريء من ذلك ، والوقف عند أبي حاتم (تَتَفَكَّرُوا) / فيجيء : (ما بِصاحِبِكُمْ) نفيا مستأنفا ، وهو عند سيبويه جواب ما تنزل منزلة القسم ؛ وقيل في الآية غير هذا ممّا هو بعيد من ألفاظها فتعيّن تركه.

(قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٤٧) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٤٨) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (٤٩) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) (٥٠)

وقوله تعالى : (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ) معنى الآية بيّن واضح لا يفتقر إلى بيان.

وقوله : (يَقْذِفُ بِالْحَقِ) يريد بالوحي وآيات القرآن واستعار له القذف من حيث كان الكفّار يرمون بآياته وحكمه.

وقوله سبحانه : (قُلْ جاءَ الْحَقُ) يريد الشرع بجملته ، (وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ) قالت فرقة : الباطل غير الحقّ من الكذب والكفر ونحوه ، استعار له الإبداء والإعادة ونفاهما عنه ، كأنّه قال : وما يصنع الباطل شيئا.

وقوله : (فَبِما يُوحِي) يحتمل أن تكون «ما» بمعنى الّذي أو مصدريّة.

(وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٥١) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ

__________________

(١) أخرجه الطبريّ في «تفسيره» (١٠ / ٣٨٤) رقم (٢٨٨٧٧) عن ابن عباس بنحوه ، ورقم (٢٨٨٧٩) عن قتادة ، (٢٨٨٨٠) عن ابن زيد ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٢٤) ، وابن كثير في «تفسيره» (٣ / ٥٤٢) بنحوه ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٤٥٠).

وعزاه لابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس ، ولابن المنذر عن ابن جريج ، ولعبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم عن قتادة.

٣٧٨

التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٢) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ) (٥٤)

وقوله ـ تعالى ـ : (وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا ...) الآية. قال الحسن بن أبي الحسن : ذلك في الكفّار عند خروجهم من القبور في القيامة (١).

قال ع (٢) : وهو أرجح الأقوال هنا ، وأمّا معنى الآية فهو التعجّب من حالهم إذا فزعوا من أخذ الله إيّاهم ولم يتمكّن لهم أن يفوت منهم أحد (وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) ، أي : أنّ الأخذ يجيئهم من قرب في طمأنينتهم وبعقبها ، بينما الكافر يؤمّل ويترجّى إذ غشيه الأخذ ، ومن غشيه أخذ من قريب ؛ فلا حيلة له ولا رويّة ، و (قالُوا آمَنَّا بِهِ) الضمير في (بِهِ) عائد على الله ـ تعالى ـ ، وقيل : على محمد وشرعه والقرآن ، وقرأ نافع وعامّة القرّاء : «التناوش» دون همز ومعناه التناول ، من قولهم ناش ينوش إذا تناول ، وعبارة الواحديّ (وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ) أي : كيف يتناولون التوبة وقد بعدت عنهم. انتهى.

وقرأ أبو عمرو وحمزة (٣) والكسائيّ : «التناؤش» بالهمز فيحتمل أن يكون تفسيره كالقراءة الأولى ، ويحتمل أن يكون من الطلب ؛ تقول : انتأشت الخير إذا طلبته من بعد.

ت : وقال البخاريّ : التناوش الردّ من الآخرة إلى الدّنيا ، انتهى.

(وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ) أي : يرجمون بظنونهم ويرمون بها الرسول وكتاب الله ، وذلك غيب عنهم في قولهم سحر وافتراء وغير ذلك ، قاله مجاهد (٤) ، وقال قتادة : قذفهم بالغيب هو قولهم : لا بعث ولا جنّة ولا نار (٥).

__________________

(١) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٣٨٨) رقم (٢٨٨٩٤) ، وذكره ابن عطية (٤ / ٤٢٦) ، وابن كثير (٣ / ٥٤٤) ، والسيوطي (٥ / ٤٥١) ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن الحسن.

(٢) ينظر : «المحرر» (٤ / ٤٢٦)

(٣) ينظر : «السبعة» (٥٣٠) ، و «الحجة» (٦ / ٢٣) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٢٢١) ، و «معاني القراءات» (٢ / ٢٩٧) ، و «شرح الطيبة» (٥ / ١٥٨) ، و «العنوان» (١٥٧) ، و «حجة القراءات» (٥٩٠) ، و «شرح شعلة» (٥٥٥) ، و «إتحاف» (٢ / ٣٨٩)

(٤) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٣٩٠) رقم (٢٨٩١٠) ، وذكره ابن عطية (٤ / ٤٢٧) ، وابن كثير (٣ / ٥٤٥) ، والسيوطي (٥ / ٤٥٤) ، وعزاه لابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد.

(٥) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٣٩١) رقم (٢٨٩١١) ، وذكره ابن عطية (٤ / ٤٢٧) ، وابن كثير (٣ / ٥٤٥) ، والسيوطي (٥ / ٤٥٤) ، وعزاه لابن أبي حاتم عن قتادة.

٣٧٩

وقوله سبحانه : (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ).

قال الحسن : معناه من الإيمان والتوبة والرجوع إلى الإنابة والعمل الصالح (١) ، وذلك أنّهم اشتهوه في وقت لا تنفع فيه التوبة. وقاله أيضا قتادة (٢) ؛ وقال مجاهد : معناه : وحيل بينهم وبين نعيم الدّنيا (٣).

وقيل : معناه حيل بينهم وبين الجنّة ونعيمها كما فعل بأشياعهم من قبل ، والأشياع الفرق المتشابهة ، فأشياع هؤلاء هم الكفرة من كلّ أمّة.

ص : قال أبو حيّان (٤) : و (مُرِيبٍ) اسم فاعل من أراب ، أي : أتى بريبة وأربته أوقعته في ريبة ، ونسبة الإرابة إلى الشكّ مجاز.

قال ع (٥) : والشكّ المريب أقوى ما يكون من الشكّ وأشدّه إظلاما ، انتهى.

__________________

(١) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٣٩١) رقم (٢٨٩١٣ ، ٢٨٩١٤ ، ٨٩١٥) وذكره ابن عطية (٤ / ٤٢٧) ، وابن كثير (٣ / ٥٤٥) ، والسيوطي (٥ / ٤٥٤) ، وعزاه لابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن الحسن.

(٢) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٣٩١) رقم (٢٨٩١٧) بنحوه ، وذكره ابن عطية (٤ / ٤٢٧)

(٣) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٣٩١) رقم (٢٨٩١٦) ، وذكره ابن عطية (٤ / ٤٢٧) ، وابن كثير (٣ / ٥٤٥) ، والسيوطي (٥ / ٤٥٤) ، وعزاه للفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد نحوه.

(٤) ينظر : «البحر المحيط» (٧ / ٢٨١)

(٥) ينظر : «المحرر» (٤ / ٤٢٧)

٣٨٠