تفسير الثعالبي - ج ٤

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي

تفسير الثعالبي - ج ٤

المؤلف:

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٥

وقوله تعالى : (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ).

قال سفيان بن عيينة : من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله تعالى ، ومن دعا لوالديه في إدبار الصلوات فقد شكرهما.

وقوله سبحانه : (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ...) الآية روي أنّ هاتين الآيتين نزلتا في شأن سعد بن أبي وقاص وأمه حمنة بنت أبي سفيان ، على ما تقدم بيانه ، وجملة هذا الباب ؛ أن طاعة الأبوين لا تراعى في ركوب كبيرة ، ولا في ترك فريضة على الأعيان ، وتلزم طاعتهما في المباحات وتستحسن في ترك الطاعات الندب.

وقوله سبحانه : (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَ) وصية لجميع العالم. وهذه سبيل الأنبياء والصالحين.

وقوله تعالى ـ حاكيا عن لقمان (يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ ...) الآية : ذكر كثير من المفسرين : إنه أراد مثقال حبة من أعمال المعاصي والطاعات ، وبهذا المعنى يتحصل في الموعظة ترجية وتخويف منضاف إلى تبيين قدرة الله تعالى.

وقوله : (وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ) يقتضي حضا على تغيير المنكر وإن نال ضررا ، فهو إشعار بأن المغيّر يؤذى أحيانا.

وقوله : (إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) يحتمل أن يريد مما عزمه الله وأمر به ، قاله ابن جريج (١) : ويحتمل أن يريد أنّ ذلك من مكارم الأخلاق ، وعزائم أهل الحزم السالكين طريق النجاة ؛ قاله جماعة. والصعر : الميل ، فمعنى الآية : ولا تمل خدّك للناس كبرا عليهم وإعجابا واحتقارا لهم ؛ قاله ابن عباس (٢) وجماعة. وعبارة البخاري : ولا تصاعر ، أي : لا تعرض ، والتصاعر : الإعراض بالوجه ؛ انتهى. والمرح : النّشاط ، والمشي مرحا : هو في غير شغل ، ولغير حاجة ، وأهل هذه الخلق ملازمون للفخر والخيلاء ، فالمرح مختال في مشيه ، وقد ورد من صحيح الأحاديث في جميع ذلك وعيد شديد يطول بنا سرده.

__________________

(١) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٢١٤) رقم (٢٨١٠٨) بنحوه ، وذكره ابن عطية (٤ / ٣٥١) ، والسيوطي (٥ / ٣٢٠) بنحوه ، وعزاه لابن جرير ، وابن المنذر عن ابن جريج.

(٢) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٢١٤ ـ ٢١٥) رقم (٢٨١٠٩) ، (٢٨١١٠) بنحوه ، وذكره البغوي (٣ / ٤٩٢) ، وابن عطية (٤ / ٣٥١) ، والسيوطي (٥ / ٣٢٠) بنحوه ، وعزاه لابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس.

٣٢١

قال عيّاض : كان أبو إسحاق الجبنياني قلّ ما يترك ثلاث كلمات ؛ وفيهن الخير كلّه : اتّبع ولا تبتدع ، اتّضع ولا ترتفع ، من ورع لا يتّسع ، انتهى. وغضّ الصوت أوقر للمتكلم وأبسط لنفس السامع وفهمه ، ثم عارض ممثلا بصوت الحمير على جهة التشبيه ، أي : تلك هي التي بعدت عن الغض فهي أنكر الأصوات ، فكذلك ما بعد عن الغضّ من أصوات البشر ؛ فهو في طريق تلك ، وفي الحديث : «إذا سمعتم نهيق الحمير ، فتعوّذوا بالله من الشيطان ؛ فإنّها رأت شيطانا».

وقال سفيان الثوري : صياح كل شيء تسبيح إلا صياح الحمير.

ت : ولفظ الحديث عن أبي هريرة قال : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا سمعتم صياح الدّيكة فاسألوا الله من فضله ، فإنّها رأت ملكا ، وإذا سمعتم نهيق الحمار ، فتعوّذوا بالله من الشيطان ؛ فإنّه رأى شيطانا» (١) ، رواه الجماعة إلا ابن ماجه. وفي لفظ النسائي : «إذا سمعتم الدّيكة تصيح باللّيل» ، وعن جابر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا سمعتم نباح الكلاب ونهيق الحمير من اللّيل ، فتعوّذوا بالله من الشيطان الرجيم ؛ فإنّها ترى ما لا ترون ، وأقلّوا الخروج إذا جدّت ؛ فإنّ الله يبثّ في ليله من خلقه ما يشاء» (٢). رواه أبو داود والنسائي والحاكم في «المستدرك». واللفظ له ، وقال : صحيح على شرط مسلم ؛ انتهى من «السلاح».

وقوله تعالى : (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً).

قال المحاسبيّ ـ رحمه‌الله ـ الظاهرة : نعم الدنيا ، والباطنة : نعم العقبى. والظاهر عندي التعميم. ثم وقف تعالى الكفرة على اتّباعهم دين آبائهم أيكون وهم بحال من يصير

__________________

(١) أخرجه البخاري (٦ / ٤٠٣) كتاب بدء الخلق : باب وبث فيها من كل دابة ، حديث (٣٣٠٣) ، ومسلم (٤ / ٢٠٩٢) كتاب الذكر والدعاء : باب استحباب الدعاء عند صياح الديك ، حديث (٨٢ / ٢٧٢٩) ، وأبو داود (٢ / ٧٤٨) كتاب الأدب : باب ما جاء في الديك والبهائم ، حديث (٥١٠٢) ، والترمذيّ (٥ / ٥٠٨) كتاب الدعوات : باب ما يقول إذا سمع نهيق الحمار ، حديث (٣٤٥٩) ، والنسائي في «عمل اليوم والليلة» رقم (٩٤٣ ، ٩٤٤) ، وأحمد (٢ / ٣٢١) ، وابن أبي شيبة (١٠ / ٤٢٠) ، وابن حبان (٣ / ٢٨٥ ـ ٢٨٦) رقم (١٠٠٥) ، والبغوي في «شرح السنة» (٣ / ١٢٦ ـ بتحقيقنا) كلهم من طريق الأعرج عن أبي هريرة به.

وقال الترمذيّ : هذا حديث حسن صحيح.

(٢) أخرجه أبو داود (٢ / ٧٤٨ ـ ٧٤٩) كتاب الأدب : باب نهيق الحمار ونباح الكلاب ، حديث (٥١٠٣) ، وأحمد (٣ / ٣٠٦) ، والحاكم (٤ / ٢٨٤) ، والبخاري في «الأدب المفرد» (١٢٣٤) ، وأبو يعلى (٤ / ١٥٥) رقم (٢٢٢١) ، وابن حبان (١٩٩٦ ـ موارد) ، وابن خزيمة (٢٥٥٩) من حديث جابر.

٣٢٢

إلى عذاب السعير ، فكأنّ القائل منهم يقول : هم يتبعون دين آبائهم ولو كان مصيرهم إلى السعير ، فدخلت ألف التوقيف على حرف العطف ؛ كما كان اتّساق الكلام فيه ؛ فتأمله.

(وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٢٢) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٣) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (٢٤) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٥) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (٢٦)

وقوله تعالى : (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ) معناه يخلص ويوجّه ويستسلم به ، والوجه هنا : الجارحة ، استعير للمقصد ؛ لأنّ القاصد إلى شيء فهو مستقبله بوجهه ، فاستعير ذلك للمعاني ، والمحسن : الذي جمع القول والعمل ، وهو الذي شرحه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين سأله جبريل ـ عليه‌السلام ـ عن الإحسان. والمتاع القليل هنا هو العمر في الدنيا. ـ وقوله : (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) أي : على ظهور الحجة.

(وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٧) ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٢٨) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٩) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٣٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) (٣١) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ) (٣٢)

وقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ ...) الآية. روي عن ابن عباس : أن سبب نزولها أن اليهود قالت : يا محمد ؛ كيف عنيتنا بهذا القول (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء : ٨٥] ونحن قد أوتينا التوراة تبيانا لكل شيء؟ فنزلت الآية (١) ، وقيل غير هذا.

قال ع (٢) : وهذه الآية بحر نظر وفكرة ، نوّر الله قلوبنا بهداه.

__________________

(١) ذكره ابن عطية (٤ / ٣٥٣ ـ ٣٥٤) ، وابن كثير (٣ / ٤٥١) ، والسيوطي (٥ / ٣٢٢) ، وعزاه لابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس.

(٢) ينظر : «المحرر» (٤ / ٣٥٤)

٣٢٣

وقوله تعالى : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) أي : لأنه كله ب «كن فيكون» ، قاله مجاهد (١).

وقوله تعالى : (كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) يريد : القيامة.

وقوله : (بِنِعْمَتِ اللهِ) يحتمل أن يريد ما تحمله السفن من الطعام والأرزاق والتجارات ، فالباء : للإلزاق ، ويحتمل أن يريد بالريح وتسخير الله البحر ونحو هذا ، فالباء باء السبب. وذكر تعالى من صفات المؤمن الصبّار والشكور ؛ لأنهما عظم أخلاقه ، الصبر على الطاعات وعلى النوائب ، وعن الشهوات ، والشكر على الضراء والسراء. وقال الشعبي : الصبر نصف الإيمان ؛ والشكر نصفه الآخر ، واليقين الإيمان (٢) كله. و «غشي» غطّى أو قارب ، والظلل : السحاب.

وقوله تعالى : (فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ).

قال الحسن : منهم مؤمن (٣) يعرف حق الله في هذه النعم ، والختّار القبيح (٤) الغدر ، وذلك أن منن الله على العباد كأنها عهود ومنن يلزم عنها أداء شكرها ، والعبادة لمسديها ، فمن كفر ذلك وجحد به ، فكأنه ختر وخان ، قال الحسن : الختار هو الغدار (٥). و (كَفُورٍ) : بناء مبالغة.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٣٣) إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (٣٤)

وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ ...) الآية يجزي معناه يقضي ، والمعنى : لا ينفعه بشيء ، وقرأ الجمهور : «الغرور» (٦) : ـ بفتح

__________________

(١) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٢٢٢) رقم (٢٨١٥١) ، وذكره السيوطي (٥ / ٣٢٤) ، وعزاه لابن أبي شيبة ، وابن جرير وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد.

(٢) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٢٢٣) رقم (٢٨١٥٧) بنحوه ، وذكره ابن عطية (٤ / ٣٥٥)

(٣) في ج : من.

(٤) ذكره ابن عطية (٤ / ٣٥٥)

(٥) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٢٢٤ ـ ٢٢٥) رقم (٢٨١٦٢) ، وذكره ابن عطية (٤ / ٣٥٦)

(٦) ينظر : «البحر المحيط» (٧ / ١٨٩) ، و «الدر المصون» (٥ / ٣٩٢)

٣٢٤

الغين ـ وهو الشيطان ؛ قاله مجاهد (١) وغيره ، واعلم أيها الأخ أنّ من فهم كلام ربّه ورزق التوفيق لم ينخدع بغرور الدنيا وزخرفها الفاني ؛ بل يصرف همّته بالكلّيّة إلى التزود لآخرته ؛ ساعيا في مرضاة ربه ، وأنّ من أيقن أنّ الله يطلبه صدق الطلب إليه ، كما قاله الإمام العارف بالله ابن عطاء الله. وإنه لا بد لبناء هذا الوجود أن تنهدم دعائمه وأن تسلب كرائمه ، فالعاقل ؛ من كان بما هو أبقى أفرح منه بما هو يفنى ، قد أشرق نوره وظهرت تباشيره ، فصدف عن هذه الدار مغضيا ، وأعرض عنها موليا ، فلم يتخذها وطنا ، ولا جعلها أسكنا ؛ بل أنهض الهمّة فيها إلى الله تعالى وصار فيها مستعينا به في القدوم عليه ، فما زالت مطية عزمه لا يقرّ قرارها. دائما تسيارها ، إلى أن أناخت بحضرة القدس ، وبساط الأنس ، انتهى.

وروينا في «جامع الترمذيّ» عن أبي أمامة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ أغبط أوليائي عندي المؤمن خفيف الحاذ ذو حظّ من الصلاة ، أحسن عبادة ربّه ، وأطاعه في السرّ ، وكان غامضا في النّاس ؛ لا يشار إليه بالأصابع ، وكان رزقه كفافا ؛ فصبر على ذلك ، ثمّ نفض بيده فقال : عجّلت منيّته ، قلت نوائحه ؛ قلّ تراثه» ، قال أبو عيسى : وبهذا الإسناد عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «عرض عليّ ربّي ليجعل لي بطحاء (٢) مكّة ذهبا ، قلت : لا ، يا ربّ ، ولكن أشبع يوما وأجوع يوما ، أو قال : ثلاثا أو نحو هذا ، فإذا جعت ، تضرّعت إليك ، وإذا شبعت شكرتك وحمدتك» (٣). قال أبو عيسى : هذا حديث حسن ، وفي الباب عن فضالة بن عبيد ، انتهى. والغرور : التطميع بما لا يحصل. وقال ابن جبير : معنى الآية : أن تعمل المعصية وتتمنّى المغفرة (٤) ، وفي الحديث الصحيح : عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «خمس من الغيب لا يعلمهنّ إلّا الله تعالى ؛ وتلا الآية : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ ...) إلى آخرها» (٥). قال أبو حيّان : (بِأَيِّ أَرْضٍ) : ـ الباء ظرفية والجملة في موضع نصب ـ ب (تَدْرِي). انتهى.

__________________

(١) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٢٢٥) رقم (٢٨١٦٩) ، وذكره ابن عطية (٤ / ٣٥٦) ، وابن كثير (٣ / ٤٥٣)

(٢) هو مسيل واديها. ينظر : «النهاية» (١ / ١٣٤)

(٣) أخرجه الترمذيّ (٤ / ٥٧٥) كتاب الزهد : باب ما جاء في الكفاف والصبر عليه.

وقال الترمذيّ : هذا حديث حسن.

(٤) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٢٢٦) رقم (٢٨١٧٢) ، وذكره البغوي (٣ / ٤٩٦) ، وابن عطية (٤ / ٣٥٦) ، والسيوطي (٥ / ٣٢٥) ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن جرير عن سعيد بن جبير.

(٥) تقدم تخريجه.

٣٢٥

بسم الله الرحمن الرحيم

صلّى الله على سيّدنا ومولانا محمّد وعلى آله

تفسير «سورة السجدة»

وهي مكّيّة غير ثلاث آيات نزلت بالمدينة

وهي قوله تعالى : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً) إلى تمام ثلاث آيات.

(الم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣) اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) (٤)

قال جابر : ما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينام حتى يقرأ : (الم) السجدة ، و (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ). و (تَنْزِيلُ) يصح أن يرتفع بالابتداء ، والخبر : (لا رَيْبَ) ، ويصحّ أن يرتفع على أنه خبر مبتدإ محذوف ، أي : ذلك تنزيل ، والريب : الشك ، وكذلك هو في كل القرآن إلا قوله (رَيْبَ الْمَنُونِ) [الطور : ٣٠].

وقوله : (أَمْ يَقُولُونَ) إضراب ؛ كأنّه قال : بل أيقولون : ثم ردّ على مقالتهم وأخبر أنّه الحقّ من عند الله.

وقوله سبحانه : (ما أَتاهُمْ) أي : لم يباشرهم ولا رأوه هم ولا آباؤهم العرب.

وقوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) [فاطر : ٢٤] يعم من بوشر من النذر ومن سمع به ، فالعرب من الأمم التي خلت فيها النذر على هذا الوجه ، لأنها علمت بإبراهيم وبنيه ، وبدعوتهم ، ولم يأتهم نذير مباشر لهم سوى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال ابن عباس ومقاتل (١) : المعنى : لم يأتهم نذير في الفترة بين عيسى ونبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) ذكره البغوي (٣ / ٤٩٧) ، وابن عطية (٤ / ٣٥٧)

٣٢٦

(يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٥) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (٧) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٨) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) (٩)

وقوله تعالى : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ...) الآية ، الأمر اسم جنس لجميع الأمور ، والمعنى ينفّذ سبحانه قضاءه بجميع ما يشاءه ، ثم يعرج إليه خبر ذلك في يوم من أيام الدنيا ؛ مقداره أن لو سير فيه السير المعروف من البشر ألف سنة ، أي : نزولا وعروجا لأن ما بين السماء والأرض خمس مائة سنة ، هذا قول ابن عباس (١) ومجاهد (٢) وغير هما.

وقيل : المعنى : يدبر الأمر من السماء إلى الأرض في مدة الدنيا ، ثم يعرج إليه يوم القيامة ، ويوم القيامة مقداره ألف سنة من عدّنا ، وهو على الكفار قدر خمسين ألف سنة. وقيل : غير هذا ، وقرأ الجمهور / : «الذي أحسن كل شيء خلقه» : ـ بفتح اللام ـ على أنه فعل ماض ، ومعنى : «أحسن» : أتقن وأحكم فهو حسن من جهة ما هو لمقاصده التي أريد لها ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر : «خلقه» (٣) : ـ بسكون اللام ـ وذهب بعض الناس على هذه القراءة إلى أن : «أحسن» هنا معناه : ألهم ، وأن هذه الآية بمعنى قوله تعالى : (أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) [طه : الآية ٥٠]. أي : ألهم. والإنسان هنا آدم ـ عليه‌السلام ـ ، والمهين : الضعيف ، (وَنَفَخَ) : عبارة عن إفاضة الروح في جسد آدم عليه‌السلام والضمير في (رُوحِهِ) لله تعالى ، وهي إضافة ملك إلى مالك وخلق إلى خالق ، ويحتمل أن يكون الإنسان في هذه الآية اسم جنس و (قَلِيلاً) صفة لمصدر محذوف.

(وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (١٠) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١١) وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا

__________________

(١) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٢٣١) رقم (٢٨١٩١) ، وذكره ابن عطية (٤ / ٣٥٨) ، والسيوطي (٥ / ٣٣١) ، بنحوه وعزاه لابن جرير عن ابن عباس.

(٢) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٣٣٠) رقم (٢٨١٨٧) ، وذكره البغوي (٣ / ٤٩٧ ـ ٤٩٨) بنحوه ، وابن عطية (٤ / ٣٥٨) ، وابن كثير (٣ / ٤٥٧) ، والسيوطي (٥ / ٣٣١) ، وعزاه لابن جرير عن مجاهد.

(٣) ينظر : «السبعة» (٥١٦) ، و «الحجة» (٥ / ٤٦٠) ، و «معاني القراءات» (٢ / ٢٧٣) ، و «شرح الطيبة» (٥ / ١٤٠) ، و «العنوان» (١٥٣) ، و «شرح شعلة» (٥٤٣) ، و «إتحاف» (٢ / ٣٦٦) ، و «حجة القراءات» (٥٦٧).

٣٢٧

رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (١٢) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٣) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٤) إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) (١٥)

وقوله تعالى : (وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ) أي : تلفنا وتقطّعت أوصالنا ، فذهبنا في التراب حتّى لم نوجد ؛ (إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) أي : أنخلق بعد ذلك خلقا جديدا ؛ إنكارا منهم للبعث واستبعادا له ، و (يَتَوَفَّاكُمْ) معناه يستوفيكم ؛ روي عن مجاهد : أن الدنيا بين يدي ملك الموت كالطّست بين يدي الإنسان يأخذ من حيث أمر (١).

وقوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ) الآية تعجيب لمحمّد عليه‌السلام وأمته من حال الكفرة ، وما حلّ بهم ، وجواب (لَوْ) محذوف ؛ لأنّ حذفه أهول في النفوس ، وتنكيس رؤوسهم هو من الذل واليأس والهمّ بحلول العذاب. وقولهم (أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا) أي : ما كنا نخبر به في الدنيا ، ثم طلبوا الرجعة حين لا ينفع ذلك. ثمّ أخبر تعالى عن نفسه أنّه لو شاء لهدى الناس أجمعين ؛ بأن يلطف بهم لطفا يؤمنون به ، ويخترع الإيمان في نفوسهم ، هذا مذهب أهل السنّة ، و (الْجِنَّةِ) : الشياطين ، و (نَسِيتُمْ) معناه : تركتم ؛ قاله ابن عباس (٢) وغيره.

وقوله : (إِنَّا نَسِيناكُمْ) سمّى العقوبة باسم الذنب. ثم أثنى سبحانه على القوم الذين يؤمنون بآياته ، ووصفهم بالصفة الحسنى من سجودهم عند التذكير ، وتسبيحهم وعدم استكبارهم.

(تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (١٦) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٧) أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (١٨) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٩) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٠) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢١) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) (٢٢)

__________________

(١) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٢٣٦) رقم (٢٨٢١٦) ، وذكره البغوي (٣ / ٤٩٩) ، وابن عطية (٤ / ٣٦٠) ، وابن كثير (٣ / ٤٥٨)

(٢) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٢٣٧) رقم (٢٨٢٢١) ، وذكره ابن عطية (٤ / ٣٦١)

٣٢٨

وقوله تعالى : (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ ...) الآية ، تجافى الجنب عن موضعه إذا تركه ، قال الزجاج وغيره : التجافي التنحّي إلى فوق.

قال ع (١) : وهذا قول حسن ، والجنوب جمع جنب ، والمضاجع موضع الاضطجاع للنوم.

ت : وقال الهرويّ : (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) أي : ترتفع وتتباعد ، والجفاء بين النّاس هو التباعد ، انتهى. وروى البخاري بسنده عن أبي هريرة أن عبد الله بن رواحة ـ رضي الله عنه ـ قال : [الطويل]

وفينا رسول الله يتلو كتابه

إذا انشقّ معروف من الفجر ساطع

أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا

به موقنات أنّ ما قال واقع

يبيت يجافي جنبه عن فراشه

إذا استثقلت بالكافرين المضاجع

انتهى. وجمهور المفسرين : على أن المراد بهذا التجافي صلاة النوافل بالليل.

قال ع (٢) : وعلى هذا التأويل أكثر الناس ، وهو الذي فيه المدح وفيه أحاديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يذكر عليه‌السلام قيام الليل ؛ ثم يستشهد بالآية ؛ ففي حديث معاذ «ألا أدلّك على أبواب الخير : الصوم جنّة ، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفىء الماء النّار ، وصلاة الرجل من جوف اللّيل ، ثم قرأ (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) / ، حتّى بلغ (يَعْمَلُونَ)» رواه ٧٠ أالترمذيّ (٣) ، وقال : حديث حسن صحيح ؛ ورجّح الزجاج (٤) ما قاله الجمهور بأنهم : جوزوا بإخفاء ، فدلّ ذلك على أن العمل إخفاء أيضا ، وهو قيام الليل (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً) أي : من عذابه (وَطَمَعاً) ، أي : في ثوابه.

__________________

(١) ينظر : «المحرر» (٤ / ٣٦٢)

(٢) ينظر : «المحرر» (٤ / ٣٦٢)

(٣) أخرجه الترمذيّ (٥ / ١١ ـ ١٢) كتاب الإيمان : باب ما جاء في حرمة الصلاة ، حديث (٢٦١٦) ، وابن ماجه (٢ / ١٣١٤ ـ ١٣١٥) كتاب الفتن : باب كف اللسان في الفتنة ، حديث (٣٩٧٣) ، والنسائي في «التفسير» (٤١٤) ، وأحمد (٥ / ٢٣١) ، والحاكم (٢ / ٧٦ ، ٤١٢) ، والطبراني في «الكبير» (٢٠ / ١٣٠ ـ ١٣١) رقم (٢٦٦) من طرق عن ابن مسعود.

وقال الترمذيّ : حديث حسن صحيح.

وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٣٣٧) ، وزاد نسبته إلى ابن نصر في «كتاب الصلاة» ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في «شعب الإيمان».

(٤) ينظر : «معاني القرآن» للزجاج (٤ / ٢٠٧)

٣٢٩

قال ص : (تَتَجافى) أعربه أبو البقاء : حالا ، و (يَدْعُونَ) : حال أو مستأنف و (خَوْفاً وَطَمَعاً) : مفعولان من أجله أو مصدران في موضع الحال ؛ انتهى. وفي «الترمذيّ» عن معاذ بن جبل قال : قلت : يا رسول الله ، أخبرني بعمل يدخلني الجنّة ، ويباعدني عن النّار ، قال : «لقد سألت عن عظيم ، وإنّه ليسير على من يسّره الله تعالى عليه ؛ تعبد الله لا تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحجّ البيت ، ثمّ قال : ألا أدلّك على أبواب الخير؟ الصوم جنّة ، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفىء الماء النّار ، وصلاة الرجل في جوف اللّيل ، ثم تلا : (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) حتّى بلغ (يَعْمَلُونَ). ثم قال : ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قلت : بلى ، يا رسول الله. قال : رأس الأمر الإسلام ، وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد ، ثمّ قال : ألا أخبرك بملاك ذلك كلّه؟ قلت : بلى يا رسول الله فأخذ بلسانه ، وقال : كفّ عليك هذا. قلت : يا رسول الله ، وإنّا لمؤاخذون بما نتكلّم به؟! فقال : ثكلتك أمّك ، وهل يكبّ النّاس في النّار على وجوههم إلّا حصائد ألسنتهم؟!» (١) قال الترمذيّ : حديث حسن صحيح. انتهى.

وقرأ حمزة وحده (٢) : «أخفي» ـ بسكون الياء كأنه قال : أخفي أنا. وقرأ الجمهور «أخفي» ـ بفتح الياء ـ ، وفي معنى هذه الآية قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قال الله ـ عزوجل ـ : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ذخرا بله ما اطّلعتم عليه ، واقرءوا إن شئتم : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ...) الآية» انتهى.

قال القرطبيّ في «تذكرته» (٣) : «وبله» معناه : غير ، وقيل : هو اسم فعل بمعنى دع ، وهذا الحديث خرّجه البخاري ، وغيره (٤).

__________________

(١) ينظر : الحديث السابق.

(٢) ينظر : «السبعة» (٥١٦) ، و «الحجة» (٥ / ٤٦٣) ، و «معاني القراءات» (٢ / ٢٧٤) ، و «شرح الطيبة» (٥ / ١٤٠) ، و «العنوان» (١٥٣) ، و «حجة القراءات» (٥٦٩) ، و «شرح شعلة» (٥٤٣) ، و «إتحاف» (٢ / ٣٦٧)

(٣) ينظر : «التذكرة» للقرطبي (٢ / ٥٩٥)

(٤) أخرجه البخاري (٨ / ٣٧٥) كتاب التفسير : باب (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) حديث (٤٧٧٩) ، ومسلم (٤ / ٢١٧٤) كتاب الجنة وصفة نعيمها ، حديث (٢ / ٢٨٢٤) ، والترمذيّ (٥ / ٣٤٦ ـ ٣٤٧) كتاب التفسير : باب «ومن سورة السجدة» ، حديث (٣١٩٧) ، والطبريّ في «تفسيره» (١٠ / ٢٤٣) رقم (٢٨٢٥٣ ، ٢٨٢٥٤) ، وأحمد (٢ / ٣١٣) ، والحميدي (٢ / ٤٨٠) ، وهناد في «الزهد» رقم (١ ، ٢) من حديث أبي هريرة.

وقال الترمذيّ : هذا حديث حسن صحيح.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٣٣٩) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وابن الأنباري.

٣٣٠

ت : وفي رواية للبخاري : قال أبو هريرة : واقرؤوا إن شئتم : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ...) (١) الآية. انتهى.

وقال ابن مسعود : في التوراة مكتوب «على الله للّذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» (٢) ، وباقي الآية بيّن ؛ والضمير في قوله تعالى : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ) لكفار قريش ، ولا خلاف أن العذاب الأكبر هو عذاب الآخرة ، واختلف في تعيين العذاب الأدنى ؛ فقيل هو السنون التي أجاعهم الله فيها ؛ وقيل هو مصائب الدنيا من الأمراض ؛ ونحوها ، وقيل هو القتل بالسّيف كبدر وغيرها.

وقوله سبحانه : (إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) ظاهر الإجرام هنا أنه الكفر ، وروى معاذ بن جبل عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ثلاث من فعلهنّ ، فقد أجرم : من عقد لواء في غير حقّ ، ومن عقّ والديه ، ومن نصر ظالما». (٣)

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٢٣) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (٢٤) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (٢٥)

وقوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ) اختلف في الضمير الذي في (لِقائِهِ) على من يعود؟ فقال قتادة وغيره : يعود على موسى ، والمعنى : فلا تكن يا محمد ، في شك من أنك تلقى موسى ، أي : في ليلة الإسراء ، وهذا قول جماعة من السلف ، وقالت فرقة : الضمير : عائد على الكتاب ، أي : فلا تكن في شك من لقاء موسى للكتاب.

__________________

(١) ينظر : الحديث السابق.

(٢) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٢٤٢) رقم (٢٨٢٤٧) ، وذكره ابن عطية (٤ / ٣٦٣) ، والسيوطي (٥ / ٣٣٩) ، وعزاه للفريابي ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم وصححه عن ابن مسعود.

(٣) أخرجه الطبريّ في «تفسيره» (١٠ / ٢٤٩) رقم (٢٨٢٩٨) ، والطبراني في «الكبير» (٢٠ / ٦١) رقم (١١٢) كلاهما من طريق عبد العزيز بن عبيد الله عن عبادة بن نسي عن جنادة بن أبي أمية عن معاذ بن جبل مرفوعا. وذكره الهيثمي في «المجمع» (٧ / ٩٣) وقال : وفيه عبد العزيز بن عبيد الله بن حمزة ، وهو ضعيف.

والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٣٤٢) ، وزاد نسبته إلى ابن منيع ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وضعف السيوطي سنده.

٣٣١

٧٠ ب ص : وقيل : يعود على الكتاب / على تقدير مضمر ، أي : من لقاء مثله ، أي : آتيناك مثل ما آتينا موسى ، والتأويل الأول هو الظاهر ، انتهى. والمرية : الشكّ ، والضمير في (جَعَلْناهُ) : يحتمل أن يعود على الكتاب أو على موسى ؛ قاله قتادة.

وقوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ ...) الآية ، حكم يعم جميع الخلق ، وذهب بعضهم إلى تخصيص الضمير وذلك ضعيف.

(أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (٢٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (٢٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٨) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٢٩) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) (٣٠)

وقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَهْدِ) معناه يبيّن ؛ قاله ابن عباس ، والفاعل ب (يَهْدِ) هو الله ؛ في قول فرقة ، والرسول في قول فرقة ، وقرأ أبو عبد الرحمن (١) : «نهد» ـ بالنون ـ وهي قراءة الحسن وقتادة ، فالفاعل الله تعالى ، والضمير في (يَمْشُونَ) يحتمل أن يكون للمخاطبين أو للمهلكين ، و (الْجُرُزِ) : الأرض العاطشة التي قد أكلت نباتها من العطش والقيظ ؛ ومنه قيل للأكول جروز. وقال ابن عباس (٢) وغيره : (الْأَرْضِ الْجُرُزِ) : أرض أبين من اليمن وهي أرض تشرب بسيول لا بمطر ، وفي «البخاري» : وقال ابن عباس : (الْجُرُزِ) : التي لم تمطر إلا مطرا لا يغني عنها (٣) شيئا. انتهى.

ثم حكى سبحانه عن الكفرة أنهم يستفتحون ؛ ويستعجلون فصل القضاء بينهم وبين الرسل على معنى الهزء والتكذيب ، و (الْفَتْحِ) : الحكم ، هذا قول جماعة من المفسرين ، وهو أقوى الأقوال.

__________________

(١) وقد قرأ بها علي بن أبي طالب ، وابن عباس رضي الله عنهما.

ينظر : «مختصر شواذ» ابن خالويه ص ١١٩ ، و «المحرر الوجيز» (٤ / ٣٦٥)

(٢) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٢٥٢) رقم (٢٨٣٠٥) بنحوه ، وذكره البغوي بلفظ «هي أرض باليمن» ، وابن عطية (٤ / ٣٦٦) ، وابن كثير (٣ / ٤٦٤) ، والسيوطي (٥ / ٣٤٣ ـ ٣٤٤) ، وعزاه لابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس.

(٣) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٢٥٢) رقم (٢٨٣٠٩) ، وذكره ابن كثير (٣ / ٤٦٤) ، والسيوطي (٥ / ٣٤٣) ، وعزاه للفريابي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس.

٣٣٢

قال مجاهد و (الْفَتْحِ) هنا هو حكم الآخرة. ثم أمر تعالى نبيه عليه‌السلام بالإعراض عن الكفرة وانتظار الفرج ، وهذا مما نسخته آية السيف.

وقوله : (إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) أي : العذاب بمعنى هذا حكمهم وإن كانوا لا يشعرون.

٣٣٣

تفسير «سورة الأحزاب»

وهي مدنيّة بإجماع فيما علمت

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٢) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٣) ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (٤) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (٥)

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ ...) الآية. قوله : (اتَّقِ) معناه : دم على التقوى ، ومتى أمر أحد بشيء وهو به متلبّس ؛ فإنما معناه الدوام في المستقبل على مثل الحالة الماضية. وحذره تعالى من طاعة الكافرين والمنافقين تنبيها على عداوتهم ، وألّا يطمئنّ إلى ما يبدونه من نصائحهم. والباء في قوله : (وَكَفى بِاللهِ) زائدة على مذهب سيبويه ، وكأنه قال وكفى الله ، وغيره يراها غير زائدة متعلقة ب «كفى» على أنه بمعنى : اكتف بالله. واختلف في السبب في قوله تعالى : (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) فقال ابن عباس (١) : سببها أن بعض المنافقين قال : إن محمدا له قلبان ، وقيل غير هذا.

قال ع (٢) : ويظهر من الآية بجملتها أنّها نفي لأشياء كانت العرب تعتقدها في ذلك الوقت ، وإعلام بحقيقة الأمر ، فمنها أن العرب كانت تقول : إن الإنسان له قلب يأمره ، وقلب ينهاه ، وكان تضادّ الخواطر يحملها على ذلك ، وكذلك كانت العرب تعتقد الزوجة إذا ظاهر منها بمنزلة الأم ، وتراه طلاقا ، وكانت تعتقد الدّعيّ المتبنّي ابنا ، فنفى الله ما اعتقدوه من ذلك.

وقوله سبحانه : (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) سببها أمر زيد بن حارثة كانوا يدعونه : زيد بن محمد ، و (السَّبِيلَ) هنا سبيل الشرع والإيمان. ثم أمر تعالى في هذه الآية بدعاء

__________________

(١) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٢٥٥) رقم (٢٨٣١٨) ، وذكره ابن عطية (٣٦٧ ـ ٣٦٨) ، وابن كثير (٣ / ٤٦٦) ، والسيوطي (٥ / ٣٤٧) ، وعزاه لأحمد ، والترمذيّ ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم ، وابن مردويه ، والضياء عن ابن عباس.

(٢) ينظر : «المحرر» (٤ / ٣٦٨)

٣٣٤

الأدعياء لآبائهم ، أي : إلى آبائهم للصّلب ، فمن جهل ذلك فيه ؛ كان مولى وأخا في الدين ، فقال الناس : زيد بن حارثة وسالم مولى أبي حذيفة ، إلى غير ذلك و (أَقْسَطُ) : معناه : أعدل.

وقوله عزوجل : (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ ...) الآية : رفع الحرج عمّن وهم ونسي وأخطأ ، فجرى على العادة من نسبة زيد إلى محمد ، وغير ذلك : مما يشبهه ، وأبقى الجناح في المتعمّد ، والخطأ مرفوع عن هذه الأمة عقابه ؛ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وضع عن أمّتي الخطأ والنّسيان وما أكرهوا عليه» (١). وقال ـ عليه‌السلام ـ : «ما أخشى عليكم الخطأ وإنّما أخشى العمد» (٢).

قال السهيليّ : ولمّا نزلت الآية وامتثلها زيد فقال : أنا زيد بن حارثة ؛ جبر الله وحشته وشرّفه بأن سمّاه باسمه في القرآن فقال : (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً) [الأحزاب : ٣٧] ومن ذكره سبحانه باسمه في الذّكر الحكيم ، حتى صار اسمه قرآنا يتلى في المحاريب ، فقد نوّه به غاية التنويه ، فكان في هذا تأنيس له وعوض من الفخر بأبوّة سيّدنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم له ؛ ألا ترى إلى قول أبي بن كعب حين قال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله تعالى أمرني أن أقرأ عليك سورة كذا ، فبكى أبيّ وقال : أو ذكرت هنالك» (٣) ، وكان بكاؤه من الفرح حين أخبر أن الله تعالى ذكره ؛ فكيف بمن صار اسمه قرآنا يتلى مخلّدا لا يبيد ، يتلوه أهل الدّنيا إذا قرؤوا القرآن ، وأهل الجنّة كذلك في الجنان ، ثم زاده في الآية غاية الإحسان أن قال : (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ) [الأحزاب : ٣٧] يعني بالإيمان ؛ فدلّ على أنه عند الله من أهل الجنان ، وهذه فضيلة أخرى هي غاية منتهى أمنية الإنسان ، انتهى.

(النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) أخرجه أحمد (٢ / ٣٠٨) ، والحاكم (٢ / ٥٣٤) ، وابن حبان (٢٤٧٩ ـ موارد) من طريق جعفر بن برقان عن يزيد بن الأصم عن أبي هريرة مرفوعا.

وقال الحاكم : صحيح على شرط مسلم. ووافقه الذهبي وصححه ابن حبان.

وذكره الهيثمي في «المجمع» (٣ / ١٢٤) ، وقال : رواه أحمد ، ورجاله رجال الصحيح.

(٣) أخرجه البخاري (٧ / ١٥٨) كتاب مناقب الأنصار : باب مناقب أبي بن كعب ، حديث (٣٨٠٩) ، وفي (٨ / ٥٩٧) كتاب التفسير : باب سورة (لم يكن) ، حديث (٤٩٥٩ ، ٤٩٦٠ ، ٤٩٦١) ، ومسلم (٤ / ١٩١٤) ، كتاب فضائل الصحابة : باب من فضائل أبي بن كعب ، حديث (١٢٢ / ٧٩٩) من حديث أنس.

٣٣٥

كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) (٦)

وقوله تعالى : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أزال الله بهذه الآية أحكاما كانت في صدر الإسلام ، منها أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان لا يصلي على ميت عليه دين ، فذكر الله تعالى ؛ أنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، فجمع هذا أن المؤمن يلزم أن يحبّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أكثر من نفسه ، حسب حديث عمر بن الخطاب ، ويلزم أن يمتثل أوامره ، أحبت نفسه ذلك أو كرهت ، وقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين نزلت هذه الآية : «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، من ترك مالا فلورثته ، ومن ترك دينا أو ضياعا فإليّ وعليّ ، أنا وليّه ، اقرؤوا إن شئتم : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ...)».

ت : ولفظ البخاريّ من رواية أبي هريرة أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من مؤمن إلّا وأنا أولى به في الدّنيا والآخرة ، اقرؤوا إن شئتم : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ)» ، فأيّما مؤمن ترك مالا فليرثه عصبته من كانوا ، فإن ترك دينا أو ضياعا ، فليأتني فأنا مولاه» (١).

قال ابن العربيّ : في «أحكامه» (٢) : فهذا الحديث هو تفسير الولاية في هذه الآية. انتهى.

قال ع (٣) : وقال بعض العارفين : هو صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؛ لأنّ أنفسهم تدعوهم إلى الهلاك ، وهو يدعوهم إلى النجاة.

قال ع (٤) : ويؤيد هذا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فأنا آخذ بحجزكم عن النّار ، وأنتم تقحّمون فيها تقحّم الفراش».

قال عياض في «الشفا» : قال أهل التفسير في قوله تعالى : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أي : ما أنفذه فيهم من أمر ؛ فهو ماض عليهم ؛ كما يمضي حكم السيد على عبده ، وقيل : اتباع أمره أولى من اتباع رأي النفس. انتهى. وشرّف تعالى أزواج نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن جعلهن أمهات المؤمنين في المبرّة وحرمة النّكاح ، وفي مصحف أبيّ بن كعب (٥) :

__________________

(١) أخرجه البخاري (٥ / ٦١) ، كتاب الاستقراض : باب الصلاة على من ترك دنيا (٢٣٩٩) ، وأخرجه مسلم (٣ / ١٢٣٧) ، كتاب الفرائض : باب «من ترك مالا فلورثته» الحديث (١٥ / ١٦١٩)

(٢) ينظر : «أحكام القرآن» (٣ / ١٥٠٨)

(٣) ينظر : «المحرر» (٤ / ٣٧٠)

(٤) ينظر : «المحرر» (٤ / ٣٧٠)

(٥) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ٣٧٠) ، و «البحر المحيط» (٧ / ٢٠٨)

٣٣٦

«وأزواجه أمّهاتهم وهو أب لهم» وقرأ ابن عباس (١) «من أنفسهم وهو أب لهم» ووافقه أبيّ على ذلك. ثم حكم تعالى : بأن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض في التوارث ، مما كانت الشريعة قررته من التوارث بأخوة الإسلام ، و (فِي كِتابِ اللهِ) يحتمل أن يريد القرآن أو اللوح المحفوظ.

وقوله : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) متعلق ب (أَوْلى) الثانية.

وقوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً) يريد الإحسان في الحياة والصلة والوصيّة عند الموت و «الكتاب المسطور» : يحتمل الوجهين اللذين ذكرنا.

(وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٧) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً) (٨)

وقوله سبحانه : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ) المعنى واذكر إذ أخذنا من النبيين ، وهذا الميثاق :

قال الزجاج (٢) وغيره : إنه الذي أخذ عليهم وقت استخراج البشر من صلب آدم كالذر ، بالتبليغ وبجميع ما تضمّنته النبوّة. وروي نحوه عن أبيّ بن كعب (٣).

وقالت فرقة : بل أشار إلى أخذ الميثاق عليهم وقت بعثهم وإلقاء الرسالة إليهم ، وذكر تعالى النبيين جملة ، ثم خصّص أولي العزم منهم تشريفا لهم ، واللام في قوله (لِيَسْئَلَ) يحتمل أن تكون لام كي ، أو لام الصيرورة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٩) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا (١٠) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (١١) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً) (١٢)

وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ ...) الآيات إلى قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ) [الأحزاب : ٢٨] نزلت في شأن غزوة

__________________

(١) ونسبها الزمخشري في «الكشاف» (٣ / ٥٢٣) إلى ابن مسعود. وينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ٣٧٠) ، و «البحر المحيط» (٧ / ٢٠٨)

(٢) ينظر : «معاني القرآن» للزجاج (٤ / ٢١٦)

(٣) ذكره ابن عطية (٤ / ٣٧١) ، وابن كثير (٣ / ٤٦٩) بنحوه.

٣٣٧

الخندق ، وما اتّصل بها من أمر بني قريظة ، وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أجلى بني النّضير من موضعهم عند المدينة إلى خيبر ، فاجتمعت جماعة منهم ، ومن غيرهم من اليهود ، وخرجوا إلى مكّة مستنهضين قريشا إلى حرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجسّروهم على ذلك ، وأزمعت (١) قريش السير إلى المدينة ، ونهض اليهود إلى غطفان ، وبني أسد ، ومن أمكنهم من أهل نجد وتهامة ، فاستنفروهم إلى ذلك وتحزّبوا وساروا إلى المدينة ، واتّصل خبرهم بالنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فحفر الخندق حول المدينة ، وحصّنها ، فوردت الأحزاب ، وحصروا المدينة ، وذلك في شوّال سنة خمس ، وقيل : أربع من الهجرة ، وكانت قريظة قد عاهدوا النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعاقدوه ألّا يلحقه منهم ضرر ، فلمّا تمكّن ذلك الحصار ، وداخلهم بنو النضير غدروا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونقضوا عهده ، وضاق الحال على المؤمنين ، ونجم النفاق وساءت ظنون قوم ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع ذلك يبشّر ويعد النّصر ، فألقى الله عزوجل الرعب في قلوب الكافرين ، وتخاذلوا ويئسوا من الظفر ، وأرسل الله عليهم ريحا وهي الصبا ، وملائكة تسدّد الريح ، وتفعل نحو فعلها ، وتلقي الرعب في قلوب الكفرة ، وهي الجنود التي لم تر ، فارتحل الكفرة وانقلبوا خائبين.

قوله تعالى : (إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ) يريد : أهل نجد مع عيينة بن حصن (وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) : يريد أهل مكة وسائر تهامة قاله مجاهد (٢). و (زاغَتِ الْأَبْصارُ) معناه مالت عن مواضعها وذلك فعل الواله الفزع المختبل. (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ) عبارة عمّا يجده الهلع من ثوران نفسه وتفرقها ويجد كأنّ حشوته وقلبه يصّعّد علوّا ، وروى أبو سعيد أن المؤمنين قالوا يوم الخندق : يا نبيّ الله ، بلغت القلوب الحناجر ؛ فهل من شيء نقوله؟ قال : نعم ؛ قولوا : «اللهمّ ، استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا» فقالوها ؛ فضرب الله وجوه الكفّار بالرّيح فهزمهم (٣).

وقوله سبحانه : (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا ...) الآية : عبارة عن خواطر خطرت للمؤمنين لا يمكن البشر دفعها ، وأما المنافقون قنطقوا ، ونجم نفاقهم. و (ابْتُلِيَ

__________________

(١) الزمع : المضاء في الأمر والعزم عليه. وأزمع الأمر ، وبه ، وعليه ، مضى فيه ، فهو مزمع.

ينظر : «لسان العرب» ١٨٦٢.

(٢) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٢٦٥) رقم (٢٨٣٦٧) ، وذكره ابن عطية (٤ / ٣٧٢) ، والسيوطي (٥ / ٣٥٧) ، وعزاه للفريابي ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد.

(٣) أخرجه أحمد (٣ / ٣) ، والطبريّ في «تفسيره» (١٠ / ٢٦٣) رقم (٢٨٣٦٠) من حديث أبي سعيد الخدري ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٣٥٥) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.

٣٣٨

الْمُؤْمِنُونَ) معناه : اختبروا (وَزُلْزِلُوا) : معناه : حرّكوا بعنف. ثم ذكر تعالى قول المنافقين والمرضي القلوب ؛ على جهة الذّمّ لهم (ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) فروي عن يزيد بن رومان أن معتّب بن قشير قال : يعدنا محمّد أن نفتتح كنوز كسرى وقيصر ومكة ؛ ونحن الآن لا يقدر أحدنا أن يذهب إلى الغائط ؛ ما يعدنا إلا غرورا ، وقال غيره من المنافقين نحو هذا.

(وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (١٣) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (١٤) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً (١٥) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٦) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧) قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٨) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٩) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (٢٠) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) (٢١)

وقوله سبحانه : (وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ) أي : من المنافقين (لا مُقامَ لَكُمْ) أي : لا موضع قيام وممانعة ، فارجعوا إلى منازلكم وبيوتكم ، وكان هذا على جهة التخذيل عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والفريق المستأذن هو أوس بن قيظي ؛ استأذن في ذلك على اتّفاق من أصحابه المنافقين ؛ فقال : (إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ) أي : منكشفة للعدو فأكذبهم الله ـ تعالى ـ ولو دخلت المدينة (مِنْ أَقْطارِها) أي : من نواحيها ، واشتد الخوف الحقيقي ، ثم سئلوا الفتنة والحرب لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه لبادروا إليها وآتوها محبين فيها ولم يتلبّثوا في بيوتهم لحفظها إلّا يسيرا ، قيل : قدر ما يأخذون سلاحهم.

ثم أخبر تعالى عنهم أنهم قد كانوا عاهدوا الله إثر أحد لا يولّون الأدبار وفي قوله تعالى : (وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً) توعّد وباقي الآية بيّن. ثم وبّخهم بقوله : (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ) وهم الذين يعوّقون الناس عن نصرة الرسول ويمنعونهم بالأقوال والأفعال من ذلك ويسعون على الدين ، وأما القائلون لإخوانهم هلمّ إلينا فقال ابن زيد وغيره : أراد

٣٣٩

من كان من المنافقين يقول لإخوانه في النسب وقرابته هلمّ ، أي : إلى المنازل والأكل والشرب ، واترك القتال (١). وروي : أنّ جماعة منهم فعلت ذلك وأصل (هَلُمَ) : ها المم. وهذا مثل تعليل «ردّ» من «اردد» والبأس : القتال و (إِلَّا قَلِيلاً) معناه إلا إتيانا قليلا ، و (أَشِحَّةً) جمع شحيح والصواب تعميم الشحّ أن يكون بكلّ ما فيه للمؤمنين منفعة.

وقوله : (فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ) قيل : معناه : فإذا قوي الخوف رأيت هؤلاء المنافقين ٧٢ ب ينظرون إليك / نظر الهلع المختلط ؛ الذي يغشى عليه ، فإذا ذهب ذلك الخوف العظيم وتنفّس المختنق : (سَلَقُوكُمْ) أي : خاطبوكم مخاطبة بليغة ، يقال : خطيب سلّاق ومسلاق ومسلق ولسان أيضا كذلك إذا كان فصيحا مقتدرا ووصف الألسنة بالحدّة لقطعها المعاني ونفوذها في الأقوال ، قالت فرقة : وهذا السلق هو في مخادعة المؤمنين بما يرضيهم من القول على جهة المصانعة والمخاتلة.

وقوله : (أَشِحَّةً) حال من الضمير في (سَلَقُوكُمْ).

وقوله : (عَلَى الْخَيْرِ) يدل على عموم الشح في قوله أولا : (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ) وقيل : المراد بالخير : المال ، أي : أشحة على مال الغنائم ، والله أعلم. ثم أخبر تعالى عنهم أنهم لم يؤمنوا ، وجمهور المفسرين على أن هذه الإشارة إلى منافقين لم يكن لهم قط إيمان ، ويكون قوله : (فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ) أي : أنها لم تقبل قط ، والإشارة بذلك في قوله (وَكانَ ذلِكَ) إلى حبط أعمال هؤلاء المنافقين ، والضمير في قوله : (يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ) للمنافقين ، والمعنى : أنهم من الفزع والجزع بحيث رحل الأحزاب وهزمهم الله تعالى ، وهؤلاء يظنون أنها من الخدع ؛ وأنّهم لم يذهبوا ، (وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ) ، أي : يرجعوا إليهم كرة ثانية (يَوَدُّوا) من الخوف والجبن (لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ) أي : خارجون إلى البادية. (فِي الْأَعْرابِ) وهم أهل العمود ليسلموا من القتال. (يَسْئَلُونَ) أي من ورد عليهم. ثم سلّى سبحانه عنهم وحقّر شأنهم بأن أخبر أنهم لو حضروا لما أغنوا ولما قاتلوا إلا قتالا قليلا ؛ لا نفع له. ثم قال تعالى ـ على جهة الموعظة ـ : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) حين صبر وجاد بنفسه ، و (أُسْوَةٌ) معناه قدوة ، ورجاء الله تابع للمعرفة به ، ورجاء اليوم الآخر ثمرة العمل الصالح ، وذكر الله كثيرا من خير الأعمال فنبّه عليه.

__________________

(١) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٢٧٤) رقم (٢٨٣٩٨) بنحوه ، وذكره ابن عطية (٤ / ٣٧٥)

٣٤٠