تفسير الثعالبي - ج ٤

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي

تفسير الثعالبي - ج ٤

المؤلف:

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٥

الهجرة عنها إلى بلد حق ؛ وقاله (١) مالك.

(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٥٨) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٥٩) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٠) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٦١) اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٢) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) (٦٣)

وقوله سبحانه : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ) تحقير لأمر الدنيا ومخاوفها ، كأن بعض المؤمنين نظر في عاقبة تلحقه في خروجه من وطنه ؛ أنه يموت أو يجوع ونحو هذا ؛ فحقّر الله سبحانه شأن الدنيا ، أي وأنتم لا محالة ميتون ومحشرون إلينا ، فالبدار إلى طاعة الله والهجرة إليه أولى ما يمتثل. ذكر هشام بن عبد الله القرطبيّ في تاريخه المسمى ب «بهجة النفس» قال : بينما المنصور جالس في منزله في أعلى قصره ؛ إذ جاءه سهم عائر فسقط بين يديه ؛ فذعر المنصور منه ذعرا شديدا ، ثم أخذه فجعل يقلّبه ، فإذا مكتوب عليه بين الريشتين : [الوافر]

أتطمع في الحياة إلى التنادي

وتحسب أنّ ما لك من معاد

ستسأل عن ذنوبك والخطايا

وتسأل بعد ذاك عن العباد

ومن الجانب الآخر : [البسيط]

أحسنت ظنّك بالأيّام إذ حسنت

ولم تخف سوء ما يأتي به القدر

وساعدتك اللّيالي فاغتررت بها

وعند صفو اللّيالي يحدث الكدر

وفي الآخر : [البسيط]

هي المقادير تجري في أعنّتها

فاصبر فليس لها صبر على حال

يوما تريك خسيس القوم ترفعه

إلى السماء ويوما تخفض العالي

ثم قرأ على الجانب الآخر من السهم : [البسيط]

من يصحب الدّهر لا يأمن تصرّفه

يوما فللدّهر إحلاء وإمرار

__________________

(١) ذكره ابن عطية (٤ / ٣٢٤)

٣٠١

لكلّ شيء وإن طالت سلامته

إذا انتهى مدّه لا بدّ إقصار

انتهى.

وقرأ حمزة (١) : «لنثوينهم من الجنة غرفا» : من أثوى يثوي بمعنى : أقام.

وقوله تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ ...) الآية : تحريض على الهجرة ؛ لأن بعض المؤمنين فكّر في الفقر والجوع الذي يلحقه في الهجرة ، وقالوا : غربة في بلد لا دار لنا فيه ولا عقار ، ولا من يطعم ، فمثل لهم بأكثر الدواب التي لا تتقوت ولا تدخر ، ثم قال تعالى : (اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ) فقوله : (لا تَحْمِلُ) يجوز أن يريد من الحمل ، أي : لا تنتقل ولا تنظر في ادخاره.

قاله مجاهد (٢) وغيره. (٣)

قال ع : والادّخار ليس من خلق الموقنين ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لابن عمر : «كيف بك إذا بقيت في حثالة من النّاس ؛ يخبّئون رزق سنة بضعف اليقين» (٤) ، ويجوز أن يريد من الحمالة ؛ أي : لا تتكفّل لنفسها.

قال الداوديّ : وعن علي بن الأقمر : (لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا) أي : لا تدخر شيئا لغد ، انتهى. وفي الترمذيّ عن عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو أنّكم تتوكّلون على الله حقّ توكّله ، لرزقتم كما ترزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا» (٥). قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح. انتهى.

__________________

(١) ينظر : «السبعة» (٥٠٤) ، و «الحجة» (٥ / ٤٣٨) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ١٩٠) ، و «معاني القراءات» (٢ / ٢٦١) ، و «شرح الطيبة» (٥ / ١٢٩) ، و «العنوان» (١٥٠) ، و «حجة القراءات» (٥٥٤) ، و «شرح شعلة» (٥٣٨) ، و «إتحاف» (٢ / ٣٥٢)

(٢) أخرجه الطبريّ (١٠ / ١٥٨) رقم (٢٧٨٥٣) بنحوه ، وذكره ابن عطية (٤ / ٣٢٥)

(٣) ينظر : «المحرر» (٤ / ٣٢٥)

(٤) تقدم.

(٥) أخرجه الترمذيّ (٤ / ٥٧٣) كتاب الزهد : باب في التوكل على الله ، حديث (٢٣٤٤) ، وابن ماجه (٢ / ١٣٩٤) ، كتاب الزهد : باب التوكل واليقين ، حديث (٤١٦٤) ، وأحمد (١ / ٣٠) ، وأبو يعلى (١ / ٢١٢) ، رقم (٢٤٧) ، وابن حبان (٢ / ٥٠٩) رقم (٧٣٠) ، وابن المبارك في «الزهد» (ص : ١٩٦ ـ ١٩٧) رقم (٥٥٩) ، والحاكم (٤ / ٣١٨) ، وأبو نعيم (١٠ / ٦٩) ، والقضاعي في «مسند الشهاب» رقم (١٤٤٥) ، والبغوي في «شرح السنة» (٧ / ٣٢٨ ـ بتحقيقنا) كلهم من حديث عمر بن الخطاب. وقال الترمذيّ : هذا حديث حسن صحيح.

٣٠٢

ثم خاطب تعالى في أمر الكفار وإقامة الحجة عليهم ، بأنهم إن سئلوا عن الأمور العظام التي هي دلائل القدرة ، لم يكن لهم إلا التسليم بأنها لله تعالى ، و (يُؤْفَكُونَ) معناه : يصرفون.

(وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٦٤) فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (٦٥) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٦٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ (٦٧) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٦٨) وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (٦٩)

وقوله تعالى : (وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ) وصف الله تعالى الدنيا في هذه الآية بأنها لهو ولعب ، أي : ما كان منها لغير وجه الله تعالى ؛ وأما ما كان لله تعالى فهو من الآخرة ، وأما أمور الدنيا التي هي زائدة على الضروري الذي به قوام العيش ، والقوة على الطاعات ؛ فإنما هي لهو ولعب ، وتأمل ذلك في الملابس ؛ والمطاعم ، والأقوال ، والمكتسبات ، وغير ذلك ، وانظر أن حالة الغني والفقير من الأمور الضرورية واحدة : كالتنفس في الهواء ، وسد الجوع ، وستر العورة ، وتوقّي الحر والبرد ؛ هذه عظم أمر العيش ؛ و (الْحَيَوانُ) و (الْحَياةُ) بمعنى ، والمعنى : لا موت فيها ، قاله مجاهد وهو حسن (١) ، ويقال : أصله : حييان ؛ فأبدلت إحداهما واوا لاجتماع المثلين. ثم وقفهم تعالى على حالهم في البحر ؛ عند الخوف العظيم ؛ ونسيانهم عند ذلك للأصنام ، وغيرها ، على ما تقدم بيانه في غير هذا الموضع : و (لِيَكْفُرُوا) نصب ب «لام كي» ثم عدّد تعالى على كفرة قريش نعمته عليهم في الحرم ؛ و «المثوى» : موضع الإقامة ، وألفاظ هذه الآية في غاية الاقتضاب والإيجاز ؛ وجمع المعاني. ثم ذكر تعالى حال أوليائه والمجاهدين فيه.

وقوله : (فِينا) معناه : في مرضاتنا وبغية ثوابنا.

قال السدي وغيره : نزلت هذه الآية قبل فرض (٢) القتال.

قال ع (٣) : فهي / قبل الجهاد العرفي وإنما هو جهاد عامّ في دين الله وطلب مرضاته.

__________________

(١) أخرجه الطبريّ (١٠ / ١٥٩) رقم (٢٧٨٥٨) ، وذكره ابن عطية (٤ / ٣٢٥)

(٢) ذكره ابن عطية (٤ / ٣٢٦)

(٣) ينظر : «المحرر» (٤ / ٣٢٦)

٣٠٣

قال الحسن بن أبي الحسن (١) : الآية في العبّاد. وقال إبراهيم بن أدهم : هي في الذين يعملون بما علموا (٢). وقال أبو سليمان الدّارانيّ : ليس الجهاد في هذه الآية قتال العدو فقط ؛ بل هو نصر الدّين والردّ على المبطلين وقمع الظالمين ؛ وأعظمه الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، ومنه مجاهدة النفوس في طاعة الله عزوجل وهو الجهاد الأكبر ؛ قاله الحسن (٣) وغيره ، وفيه حديث عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «رجعتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» (٤) و «السبل» هنا يحتمل أن تكون طرق الجنة ومسالكها ، ويحتمل أن تكون سبل الأعمال المؤدّية إلى الجنة ، قال يوسف بن أسباط : هي إصلاح النيّة في الأعمال ، وحب التزيّد والتفهّم ، وهو أن يجازى العبد على حسنة بازدياد حسنة وبعلم ينقدح من علم متقدم.

قال ص : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا) : مبتدأ خبره القسم المحذوف ، وجوابه وهو : (لَنَهْدِيَنَّهُمْ) ، انتهى.

وقال الثعلبي : قال سهل بن عبد الله : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا) في إقامة السنة (لَنَهْدِيَنَّهُمْ) سبل الجنة ؛ انتهى. واللام في قوله (لَمَعَ) لام تأكيد.

__________________

(١) ذكره ابن عطية (٤ / ٣٢٦)

(٢) ذكره ابن عطية (٤ / ٣٢٦)

(٣) ذكره ابن عطية (٤ / ٣٢٦)

(٤) أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (١٣ / ٤٩٣) من حديث جابر.

وقال الحافظ العراقي في «تخريج الإحياء» (٣ / ٧) : أخرجه البيهقي في «الزهد» من حديث جابر ، وقال : هذا إسناد فيه ضعف.

٣٠٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وصلّى الله على سيّدناو مولانا محمّد وعلى آله

تفسير «سورة الروم»

وهي مكّيّة اتّفاقا

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٥) وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (٧) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ) (٨)

قوله تعالى : (الم غُلِبَتِ الرُّومُ) قرأ الجمهور (١) : «غلبت» ـ بضم الغين ، ـ وقالوا : معنى الآية : أنه بلغ أهل مكة أنّ الملك كسرى هزم جيش الروم بأذرعات ؛ وهي أدنى الأرض إلى مكة ؛ قاله عكرمة (٢). فسرّ بذلك كفار مكة فبشر الله تعالى المؤمنين بأن الروم سيغلبون في بضع سنين ، فخرج أبو بكر رضي الله عنه إلى المسجد الحرام ؛ فقال للكفار : أسركم أن غلبت الروم؟ فإن نبيّنا أخبرنا عن الله تعالى : أنهم سيغلبون في بضع سنين ، فقال له أبيّ بن خلف وأخوه أمية بن خلف : يا أبا بكر : تعال فلنتناحب ، أي : نتراهن في ذلك ، فراهنهم أبو بكر على خمس قلائص (٣) ، والأجل ثلاث سنين ، وذلك قبل أن يحرم القمار ، فأخبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك ؛ فقال له : إن البضع إلى التسع ، ولكن زدهم في

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ٣٢٧) ، و «البحر المحيط» (٧ / ١٥٧) ، و «الدر المصون» (٥ / ٣٧٠)

(٢) ذكره البغوي (٣ / ٤٧٧) ، وابن كثير (٣ / ٤٢٣ ـ ٤٢٤) ، والسيوطي (٥ / ٢٩١) ، وعزاه لابن جرير عن عكرمة.

(٣) القلائص : جمع قلوص ، وهي الفتيّة من الإبل بمنزلة الجارية الفتاة من النساء. وقيل : هي الثنيّة ، وقيل : هي ابنة المخاض. وقيل : هى كل أنثى من الإبل حين تركب.

ينظر : «لسان العرب» ٣٧٢٢.

٣٠٥

الرهن ؛ واستزدهم في الأجل ، ففعل أبو بكر ، فجعلوا القلائص مائة ، والأجل تسعة أعوام ، فغلبت الروم فارس في أثناء الأجل يوم بدر. وروي أن ذلك كان يوم الحديبية ، يوم بيعة الرضوان ؛ وفي كلا اليومين كان نصر من الله تعالى للمؤمنين ؛ وذكر الناس سرور المؤمنين بغلبة الروم ؛ من أجل أنهم أهل كتاب ، وفرحت قريش بغلبة الفرس ؛ من أجل أنهم أهل أوثان ونحوه من عبادة النار.

وقوله تعالى : (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ). أي : له إنفاذ الأحكام من قبل ومن بعد هذه الغلبة التي بين هؤلاء ؛ ثم أخبر تعالى أن يوم غلبة الروم للفرس يفرح المؤمنون بنصر الله ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) يريد : كفّار قريش والعرب ، أي : لا يعملون أن الأمور من عند الله ، وأن وعده لا يخلف ، وأن ما يورده نبيّه حق.

قال ع (١) : وهذا الذي ذكرناه عمدة ما قيل. ثم وصف تعالى الكفرة الذين لا يعلمون أمر الله وصدق وعده بأنهم إنما : (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) ، قال صاحب «الكلم الفارقية» : الدنيا طبق مسموم ، لا يعرف ضرره إلا أرباب الفهوم. قوة الرغبة في الدنيا علامة ضعفها في الآخرة. بحسب انصراف الرغبة إلى الشيء ، يجدّ الراغب في طلبه ، وتتوفّر دواعيه على تحصيله. المطلوبات تظهر وتبيّن أقدار طلّابها ؛ فمن شرفت همّته شرفت رغبته ؛ وعزت طلبته. يا غافل ، سكر حبك لدنياك ؛ وطول متابعتك لغاوي هواك ـ أنساك عظمة مولاك ؛ وثناك عن ذكره وألهاك ؛ وصرف وجه رغبتك عن آخرتك إلى دنياك. إن كنت من أهل الاستبصار ، فألق ناظر رغبتك عن زخارف هذه الدار ؛ فإنها مجمع الأكدار ، ومنبع المضار ؛ وسجن الأبرار ؛ ومجلس سرور الأشرار. الدنيا كالحية تجمع في أنيابها ؛ سموم نوائبها ؛ وتفرغه في صميم قلوب أبنائها ، انتهى. قال عياض في «الشفا» : قال أبو العباس المبرّد ـ رحمه‌الله ـ قسّم كسرى أيامه ؛ فقال : يصلح يوم الريح للنوم ، ويوم الغيم للصيد ، ويوم المطر للشّرب واللهو ، ويوم الشمس للحوائج. قال ابن خالويه : ما كان أعرفهم بسياسة دنياهم ، (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) ، لكن نبينا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم جزأها ثلاثة أجزاء : جزءا لله تعالى ، وجزءا لأهله ، وجزءا لنفسه. ثم جزّأ جزءه بينه وبين الناس ؛ فكان يستعين بالخاصة على العامة ؛ ويقول : أبلغوا حاجة من لا يستطيع إبلاغي ؛ فإنّه من أبلغ حاجة من لا يستطيع ، أمّنه الله يوم الفزع الأكبر ، انتهى. والمؤمن المنهمك في أمور الدنيا التي هي أكبر همه ، يأخذ من هذه الآية بحظّ. نوّر الله قلوبنا بهداه.

__________________

(١) ينظر : «المحرر» (٤ / ٣٢٩)

٣٠٦

ت : قد تقدم ما جاء في الفكرة في «آل عمران». قال ابن عطاء الله : الفكرة سراج القلب ؛ فإذا ذهبت فلا إضاءة له. وقال : ما نفع القلب شيء مثل عزلة يدخل بها ميدان فكرة ، انتهى وباقي الآية بيّن.

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٩) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١١) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (١٢) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ) (١٣)

وقوله عزوجل : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ ...) الآية ، يريد أثاروا الأرض بالمباني ، والحرث ، والحروب وسائر الحوادث التي أحدثوها هي كلّها إثارة للأرض ؛ بعضها حقيقة وبعضها بتجوّز ، والضمير في (عَمَرُوها) الأول للماضين ، وفي الثاني للحاضرين المعاصرين.

وقوله تعالى : (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ).

قرأ نافع (١) وغيره : «عاقبة» ـ بالرفع ـ على أنها اسم (كانَ) ، والخبر يجوز أن يكون (السُّواى) ، ويجوز أن يكون (أَنْ كَذَّبُوا) ، وتكون (السُّواى) على هذا مفعولا ب (أَساؤُا) وإذا كان (السُّواى) خبرا ف (أَنْ كَذَّبُوا) مفعول من أجله.

وقرأ (٢) حمزة والكسائيّ وغيرهما «عاقبة» بالنصب على أنها خبر مقدّم ، واسم كان أحد ما تقدم ، و (السُّواى) : مصدر كالرّجعى ، والشورى ، والفتيا. قال ابن عباس : (أَساؤُا) هنا بمعنى : كفروا (٣) ، و (السُّواى) هي النار. وعبارة البخاري : وقال مجاهد (السُّواى) أي : الإساءة جزاء المسيئين (٤) ، انتهى. والإبلاس : الكون في شرّ ، مع اليأس من الخير.

__________________

(١) ينظر : «السبعة» (٥٠٦) ، و «الحجة» (٥ / ٤٤٢) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ١٩٣) ، و «معاني القراءات» (٢ / ٢٦٣) ، و «شرح الطيبة» (٥ / ١٣١) ، و «العنوان» (١٥١) ، و «حجة القراءات» (٥٥٦) ، و «شرح شعلة» (٥٣٩) ، و «إتحاف» (٢ / ٣٥٤)

(٢) ينظر : مصادر القراءة السابقة.

(٣) أخرجه الطبريّ (١٠ / ١٧١) رقم (٢٧٩٠٧) ، وذكره ابن عطية (٤ / ٣٣١) ، والسيوطي (٥ / ٢٩٣) ، وعزاه لابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس.

(٤) ذكره السيوطي (٥ / ٢٩٣) ، وعزاه للفريابي ، وابن أبي شيبة عن مجاهد.

٣٠٧

ص : وقال الزجاج (١) : المبلس : الساكت المنقطع / في حجته ؛ اليائس من أن يهتدي إليها ، انتهى.

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (١٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (١٥) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) (١٦)

وقوله جلت عظمته : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ) معناه : في المنازل والأحكام والجزاء. قال قتادة (٢) : فرقة ؛ والله ـ لا اجتماع بعدها. و (يُحْبَرُونَ) معناه ينعّمون ؛ قاله مجاهد (٣). والحبرة والحبور : السرور ، وقال يحيى بن أبي كثير : (يُحْبَرُونَ) معناه : يسمعون الأغاني ؛ وهذا نوع من الحبرة.

ت : وفي الصحيح من قول أبي موسى : لو شعرت بك يا رسول الله لحبّرته لك تحبيرا ؛ أو كما قال.

وقال ص : (يُحْبَرُونَ) : قال الزجاج (٤) : التحبير : التحسين ، والحبر العالم ، إنما هو من هذا المعنى ؛ لأنه متخلّق بأحسن أخلاق المؤمنين ، والحبر المداد إنما سمي به ؛ لأنه يحسّن به ، انتهى. قال الأصمعيّ : ولا يقال : روضة حتى يكون فيها ماء ؛ يشرب منه. ومعنى : (فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) أي : مجموعون له : لا يغيب أحد عنه.

(فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (١٨) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١٩) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (٢٠) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (٢٢) وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ

__________________

(١) ينظر : «معاني القرآن» للزجاج (٤ / ١٧٩)

(٢) أخرجه الطبريّ (١٠ / ١٧٢) رقم (٢٧٩١١) ، وذكره ابن عطية (٤ / ٣٣١) ، وابن كثير (٣ / ٤٢٨) ، والسيوطي (٥ / ٢٩٣) ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة.

(٣) أخرجه الطبريّ (١٠ / ١٧٣) رقم (٢٧٩١٣) ، وذكره البغوي (٣ / ٤٧٩) ، وابن عطية (٤ / ٣٣١) ، وابن كثير (٣ / ٤٢٨) ، والسيوطي (٥ / ٢٩٤) ، وعزاه للفريابي ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد.

(٤) ينظر : «معاني القرآن» للزجاج (٤ / ١٨٠)

٣٠٨

(٢٣) وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٤) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (٢٥) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (٢٦) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٨) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) (٢٩)

وقوله تعالى : (فَسُبْحانَ اللهِ ...) الآية خطاب للمؤمنين بالأمر بالعبادة والحضّ على الصلاة في هذه الأوقات ، كأنه يقول سبحانه : إذا كان أمر هذه الفرق هكذا من النقمة والعذاب ، فجدّ أيها المؤمن في طريق الفوز برحمة الله. وروى ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من قال حين يصبح (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) إلى قوله : (وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) أدرك ما فاته في يومه ذلك ، ومن قالهنّ حين يمسي أدرك ما فاته في ليلته» (١). رواه أبو داود ، انتهى من «السلاح».

قال ابن عباس وغيره : في هذه الآية تنبيه على أربع صلوات : المغرب ، والصبح ، والظهر ، والعصر (٢) ، قالوا : والعشاء الأخيرة هي في آية أخرى : في زلف الليل ، وقد تقدم بيان هذا مستوفى في محاله.

وقوله تعالى : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ...) الآية ، تقدم بيانها. ثم بعد هذه الأمثلة القاضية بتجويز بعث الأجساد عقلا ؛ ساق الخبر سبحانه بأن كذلك خروجنا من قبورنا ، و (تَنْتَشِرُونَ) معناه : تتصرفون وتتفرقون ، والمودة والرحمة : هما على بابهما المشهور من التواد والتراحم ؛ هذا هو البليغ. وقيل : غير هذا.

__________________

(١) أخرجه أبو داود (٢ / ٧٤٠) كتاب الأدب : باب ما يقول إذا أصبح حديث (٥٠٧٦) والطبراني في «الكبير» (١٢ / ٢٣٩) رقم (١٢٩٩١) كلاهما من طريق محمد بن عبد الرحمن البيلماني عن أبيه عن ابن عباس مرفوعا. وعبد الرحمن البيلماني وابنه لا يحتج به.

والحديث ضعفه الزيلعي في «تخريج أحاديث الكشاف» (٣ / ٥٧)

(٢) أخرجه الطبريّ (١٠ / ١٧٤) رقم (٢٧٩١٩ ـ ٢٧٩٢١ ـ ٢٧٩٢٣) بنحوه ، وذكره البغوي (٣ / ٤٧٩) ، وابن عطية (٤ / ٣٣٢) ، والسيوطي (٥ / ٢٩٥) ، بنحوه وعزاه لابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس.

٣٠٩

وقرأ الجمهور : «للعالمين» ـ بفتح اللام ـ يعني : جميع العالم. وقرأ حفص (١) عن عاصم ـ بكسرها ـ على معنى : أنّ أهل الانتفاع بالنظر فيها إنما هم أهل العلم ، وباقي الآية اطلبه في محالّه ؛ تجده إن شاء الله مبينا ، وهذا شأننا الإحالة في هذا المختصر ؛ على ما تقدم بيانه ، فاعلمه راشدا.

ت : وهذه الآيات والعبر إنما يعظم موقعها في قلوب العارفين بالله سبحانه ، ومن أكثر التفكّر في عجائب صنع الله تعالى حصلت له المعرفة بالله سبحانه.

قال الغزّاليّ في «الإحياء» : وبحر المعرفة لا ساحل له ؛ والإحاطة بكنه جلال الله محال ، وكلما كثرت المعرفة بالله تعالى وصفاته وأفعاله وأسرار مملكته وقويت ـ كثر النعيم في الآخرة ؛ وعظم ، كما أنه كلما كثر البذر وحسن ـ كثر الزرع وحسن.

وقال أيضا في كتاب «شرح عجائب القلب» من «الإحياء» : وتكون سعة ملك العبد في الجنة ؛ بحسب سعة معرفته بالله ، وبحسب ما يتجلّى له من عظمة الله ـ سبحانه ـ ، وصفاته ، وأفعاله ، انتهى.

وقوله تعالى : (أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ) معناه : تثبت ، كقوله تعالى : (وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا) [البقرة : ٢٠].

وهذا كثير ، والدعوة من الأرض : هي البعث ليوم القيامة ، قال مكي : والأحسن عند أهل النظر أنّ الوقف في هذه الآية يكون في آخرها ، (تُخْرَجُونَ) ؛ لأن مذهب سيبويه والخليل في «إذا» الثانية : أنها جواب / الأولى ، كأنه قال : ثم إذا دعاكم خرجتم ؛ وهذا ٦٦ أأسدّ الأقوال.

وقال ص : (إِذا أَنْتُمْ) ، «إذا» : للمفاجأة ، وهل هي ظرف مكان أو ظرف زمان؟ خلاف ، و (مِنَ الْأَرْضِ) علّقه الحوفيّ ب «دعا» ، وأجاز ع (٢) : أن يتعلق ب «دعوة» انتهى.

وقرأ حمزة (٣) والكسائيّ : «تخرجون» ـ بفتح التاء ، والباقون بضمها ـ ، والقنوت هنا

__________________

(١) ينظر : «الحجة» (٥ / ٤٤٤) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ١٩٤) ، و «معاني القراءات» (٢ / ٢٦٤) ، و «شرح الطيبة» (٥ / ١٣٢) ، و «العنوان» (١٥١) ، و «حجة القراءات» (٥٥٧) ، و «شرح شعلة» (٥٤٠) ، و «إتحاف» (٢ / ٣٥٦)

(٢) ينظر : «المحرر» (٤ / ٣٣٤)

(٣) وحجتهما قوله تعالى : (يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ) [القمر : الآية ٧] ، وقوله : (إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) [يس : ٥١]. وحجة الباقين قوله سبحانه : (يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا) [يس : الآية ٥٢].

٣١٠

بمعنى الخضوع ، والانقياد في طاعته سبحانه. وإعادة الخلق : هو بعثهم من القبور.

وقوله تعالى : (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) قال ابن عباس وغيره : المعنى : وهو هين (١) عليه ، وفي مصحف ابن مسعود (٢) «وهو هين عليه» ، وفي بعض المصاحف «وكل هين عليه».

وقال ابن عباس أيضا وغيره : المعنى : وهو أيسر (٣) عليه ، قال : ولكن هذا التفضيل إنّما هو بحسب معتقد البشر ؛ وما يعطيهم النظر في الشاهد من أن الإعادة في كثير من الأشياء أهون علينا من البدأة. ولما جاء بلفظ فيه استعارة ، وتشبيه (٤) بما يعهده الناس من أنفسهم خلص جانب العظمة ؛ بأن جعل له المثل الأعلى الذي لا يلحقه تكييف ولا تماثل مع شيء. ثم بين تعالى أمر الأصنام وفساد معتقد من يشركها بالله ـ بضربه هذا المثل ـ ؛ وهو قوله : (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ ...) الآية ، ومعناه : أنكم أيها الناس إذا كان لكم عبيد تملكونهم ؛ فإنكم لا تشركونهم في أموالكم ؛ ومهمّ أموركم ، ولا في شيء على جهة استواء المنزلة. وليس من شأنكم أن تخافوهم في أن يرثوا أموالكم ، أو يقاسموكم إياها في حياتكم ، كما يفعل بعضكم ببعض ؛ فإذا كان هذا فيكم ، فكيف تقولون : إن من عبيده وملكه شركاء في سلطانه وألوهيته ؛ هذا تفسير ابن عباس (٥) والجماعة.

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٠) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٣١) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (٣٢)

__________________

ـ ينظر : «حجة القراءات» (٥٥٧) ، و «السبعة» (٥٠٦) ، و «الحجة» (٥ / ٤٤٥) ، و «إعراب القراءات» ، (٢ / ١٩٥) ، و «العنوان» (١٥١) ، و «حجة القراءات» (٥٥٧) ، و «إتحاف» (٢ / ٣٥٦)

(١) أخرجه الطبريّ (١٠ / ١٧٩) رقم (٢٧٩٣٩) ، وذكره البغوي (٣ / ٤٨١) ، وابن عطية (٤ / ٣٣٥) ، وابن كثير (٣ / ٤٣١) ، والسيوطي (٥ / ٢٩٨) ، وعزاه لابن الأنباري عن ابن عباس.

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ٣٣٥) ، و «البحر المحيط» (٧ / ١٦٥)

(٣) أخرجه الطبريّ (١٠ / ١٧٩) رقم (٢٧٩٤٠) ، وذكره ابن عطية (٤ / ٣٣٥) ، وابن كثير (٣ / ٤٣٠) ، والسيوطي (٥ / ٢٩٧) بنحوه ، وعزاه لابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس.

(٤) في ج : التشبيه.

(٥) أخرجه الطبريّ (١٠ / ١٨١) رقم (٢٧٩٤٩) بنحوه ، وذكره البغوي ، (٣ / ٤٨٢) ، وابن عطية (٤ / ٣٣٥ ـ ٣٣٦) ، والسيوطي (٥ / ٢٩٨) ، بنحوه ، وعزاه لابن جرير عن ابن عباس.

٣١١

وقوله تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً ....) الآية ، إقامة الوجه : هي تقويم المقصد والقوة على الجدّ في أعمال الدين. وخص الوجه ؛ لأنه جامع حواس الإنسان ؛ ولشرفه. و (فِطْرَتَ اللهِ) نصب على المصدر.

وقيل : بفعل مضمر تقديره : اتبع أو التزم فطرة الله ، واختلف في الفطرة هاهنا ، والذي يعتمد عليه في تفسير هذه اللفظة أنها الخلقة والهيئة التي في نفس الطفل التي هي معدّة مهيّئة لأن يميز بها مصنوعات الله ، ويستدلّ بها على ربّه ، ويعرف شرائعه ؛ ويؤمن به ، فكأنه تعالى ، قال : أقم وجهك للدّين الذي هو الحنيف ، وهو فطرة الله الذي على الإعداد له فطر البشر ؛ لكن تعرضهم العوارض ؛ ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث الصحيح : «كلّ مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه ، أو ينصّرانه ...» الحديث (١) ـ ، ثم يقول

__________________

(١) أخرجه البخاري (١١ / ٤٩٣) كتاب القدر : باب الله أعلم بما كانوا عاملين ، الحديث (٦٥٩٩) ، ومسلم (٤ / ٢٠٤٨) : كتاب القدر : باب معنى كل مولود يولد على الفطرة ، الحديث (٢٥ / ٢٦٥٨) ، وأبو داود (٥ / ٨٦) : كتاب السنة : باب في ذراري المشركين ، الحديث (٤٧١٤) ، والترمذيّ (٣ / ٣٠٣) : كتاب القدر : باب كل مولود يولد على الفطرة ، الحديث (٣٢٢٣) ، ومالك (١ / ٢٤١) : كتاب الجنائز : باب جامع الجنائز ، الحديث (٥٢) ، وأحمد (٢ / ٢٣٣) ، والحميدي (٢ / ٤٧٣) ، رقم (١١١٣) ، وعبد الرزاق (٢٠٠٨٧) ، وأبو يعلى (١١ / ١٩٧) ، رقم (٦٣٠٦) وابن حبان (١٢٨ ، ١٣٠) ، وأبو نعيم في «الحلية» (٩ / ٣٢٨) ، من حديث أبي هريرة ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : كل مولود يولد على الفطرة ؛ فأبواه يهودانه ، أو ينصرانه ، أو يمجسانه ، كما تنتج الإبل جمعاء ، هل تحس فيها من جدعاء ، قالوا : يا رسول الله : أرأيت الذي يموت وهو صغير ، قال : الله أعلم بما كانوا عاملين.

ولفظ مسلم مصدرا بلفظ : كل إنسان تلده أمه على الفطرة ، وأبواه بعد يهودانه وينصرانه ويمجسانه ، فإن كانا مسلمين فمسلم ، كل إنسان تلده أمه ، يلكز الشيطان في حضنيه إلا مريم وابنها.

وفي الباب عن جابر والأسود بن سريع وابن عباس وسمرة بن جندب.

ـ حديث جابر :

أخرجه أحمد (٣ / ٣٥٣) من طريق أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن الحسن عن جابر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه فإذا عبر عنه لسانه إما شاكرا وإما كفورا.» وذكره الهيثمي في «المجمع» (٧ / ٢٢١) وقال : رواه أحمد وفيه أبو جعفر الرازي وهو ثقة وفيه خلاف وبقية رجاله ثقات.

ـ حديث الأسود بن سريع :

أخرجه أحمد (٣ / ٤٣٥) ، وابن حبان (١٦٥٨ ـ موارد) ، وأبو يعلى (٢ / ٢٤٠) رقم (٩٤٢) ، والطبراني في «الكبير» (١ / ٢٨٣) رقم (٨٢٨) ، والطحاوي في «مشكل الآثار» (٢ / ١٦٣) من حديث الأسود بن سريع بمثل حديث جابر.

وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٥ / ٣١٩) وقال : رواه أحمد بأسانيد والطبراني في «الكبير» و «الأوسط» ... وبعض أسانيد أحمد رجاله رجال الصحيح. ـ

٣١٢

(فِطْرَتَ اللهِ ...) الآية ، إلى (الْقَيِّمُ) فذكر الأبوين إنما هما مثال للعوارض التي هي كثيرة. وقال البخاريّ : فطرة الله : هي الإسلام (١) ، انتهى.

وقوله تعالى : (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) يحتمل أن يريد بها هذه الفطرة ، ويحتمل أن يريد بها الإنحاء على الكفرة ؛ اعترض به أثناء الكلام ؛ كأنه يقول : أقم وجهك للدين الذي من صفته كذا وكذا ، فإنّ هؤلاء الكفرة قد خلق الله لهم الكفر ، و (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) ، أي : أنهم لا يفلحون ، وقيل غير هذا ، وقال البخاري : (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) أي : لدين الله ، وخلق الأولين : دينهم. انتهى. و (الْقَيِّمُ) بناء مبالغة من القيام الذي هو بمعنى الاستقامة ، و (مُنِيبِينَ) يحتمل أن يكون حالا من قوله (فَطَرَ النَّاسَ) لا سيّما على رأي من رأى أنّ ذلك خصوص في المؤمنين ، ويحتمل أن يكون حالا من قوله (فَأَقِمْ وَجْهَكَ) وجمعه : لأن الخطاب بإقامة الوجه هو للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأمته نظيرها قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) [الطلاق : ١]. والمشركون المشار إليهم في هذه الآية : هم اليهود والنصارى ؛ قاله قتادة (٢) ، وقيل غير هذا.

(وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٣٣) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٤) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (٣٥) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (٣٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣٧) فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٣٨) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (٣٩) اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ

__________________

ـ حديث ابن عباس :

أخرجه البزار في «مسنده» (٢١٦٧ ـ كشف). وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٧ / ٢٢١) بلفظ : «كل مولود يولد على الفطرة أبواه يهودانه وينصرانه».

وقال الهيثمي : رواه البزار وفيه ممن لم أعرفه غير واحد.

ـ حديث سمرة بن جندب :

أخرجه البزار (٢١٦٦ ـ كشف) وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٧ / ٢٢١) ، وقال : رواه البزار وفيه عباد بن منصور وهو ضعيف. ونقل عن يحى القطان أنه وثقه.

(١) ينظر : «البخاري» (٨ / ٣٧٢) كتاب التفسير : باب : (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ).

(٢) أخرجه الطبريّ (١٠ / ١٨٥) رقم (٢٧٩٧٣) ، وذكره ابن عطية (٤ / ٣٣٧) ، والسيوطي (٥ / ٣٠٠) ، وعزاه لابن جرير ، وابن أبي حاتم عن قتادة.

٣١٣

يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٠) ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤١) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (٤٢) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (٤٣) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (٤٤) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٤٥) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٤٦) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) (٤٧)

وقوله تعالى : (وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ...) الآية ، ابتداء إنحاء على عبدة الأصنام.

قال ع (١) : ويلحق من هذه الألفاظ شيء للمؤمنين ؛ إذا جاءهم فرج بعد شدة ؛ فعلقوا ذلك بمخلوقين ، أو بحذق آرائهم ، وغير ذلك ؛ لأن فيه قلة شكر لله تعالى ؛ ويسمى تشريكا مجازا. والسلطان هنا البرهان من رسول أو كتاب ، ونحوه.

وقوله تعالى : (فَهُوَ يَتَكَلَّمُ) معناه فهو يظهر حجتهم ، ويغلب مذهبهم ، وينطق بشركهم. ثم قال تعالى : (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها ...) الآية ، وكل أحد يأخذ من هذه الخلق بقسط ، فالمقل والمكثر ، إلا من ربطت الشريعة جأشه ، ونهجت السنة سبيله ، وتأدّب بآداب الله ، فصبر عند الضراء ؛ وشكر عند السراء ، ولم يبطر عند النّعمة ، ولا قنط عند الابتلاء ، والقنط : اليأس الصريح. ثم ذكر تعالى الأمر الذي من اعتبره ؛ لم ييأس من روح الله ـ وهو أنه سبحانه يخصّ من يشاء من عباده ببسط الرزق ، ويقدر على من يشاء منهم. فينبغي لكل عبد أن يكون راجيا ما عند ربه. ثم أمر تعالى نبيّه ـ عليه‌السلام ـ أمرا تدخل فيه أمته ـ على جهة الندب ـ بإيتاء ذي القربى حقّه من صلة المال ، وحسن المعاشرة ولين القول ، قال الحسن (٢) : حقه المواساة في اليسر ، وقول ميسور في العسر.

قال ع (٣) : ومعظم ما قصد أمر المعونة بالمال.

__________________

(١) ينظر : «المحرر» (٤ / ٣٣٧)

(٢) أخرجه الطبريّ (١٠ / ١٨٧) رقم (٢٧٩٧٦) ، وذكره ابن عطية (٤ / ٣٣٨)

(٣) ينظر : «المحرر» (٤ / ٣٣٨)

٣١٤

وقرأ الجمهور : (وَما آتَيْتُمْ) بمعنى : أعطيتم ، وقرأ ابن كثير (١) بغير مد ، بمعنى : وما فعلتم ، وأجمعوا على المد في قوله (وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ) والربا : الزيادة.

قال ابن عباس (٢) وغيره : هذه الآية نزلت في هبات الثواب.

قال ع (٣) : وما جرى مجراها مما يصنعه الإنسان ليجازى عليه ؛ كالسّلم وغيره ، فهو وإن كان لا إثم فيه ؛ فلا أجر فيه ولا زيادة عند الله تعالى ، وما أعطى الإنسان تنمية لماله وتطهيرا ؛ يريد بذلك وجه الله تعالى ؛ فذلك هو الذي يجازى به أضعافا مضاعفة على ما شاء الله له. وقرأ جمهور السبعة «ليربوا» بإسناد الفعل إلى الربا ، وقرأ (٤) نافع وحده «لتربوا» وباقي الآية بيّن. ثم ذكر تعالى ـ على جهة العبرة ـ ما ظهر من الفساد بسبب المعاصي ، قال مجاهد : البرّ البلاد البعيدة من البحر ، والبحر السواحل والمدن التي على ضفّة البحر (٥) ، وظهور الفساد فيهما : هو بارتفاع البركات ، ووقوع الرزايا ، وحدوث الفتن. وتغلب العدوّ ، وهذه الثلاثة توجد في البر والبحر ، قال ابن عباس : الفساد في البحر : انقطاع صيده بذنوب بني آدم (٦) ، وقلما توجد أمة فاضلة مطيعة مستقيمة الأعمال ؛ إلا يدفع الله عنها هذه الأمور ، والأمر بالعكس في المعاصي ، وبطر النعمة ؛ ليذيقهم عاقبة بعض ما عملوا ويعفوا عن كثير. و (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) ، أي : يتوبون ويراجعون بصائرهم في طاعة ربهم ؛ ثم حذّر ـ تعالى ـ من يوم القيامة تحذيرا يعمّ العالم وإياهم المقصد بقوله (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ) الآية و (لا مَرَدَّ لَهُ) : معناه : ليس فيه رجوع لعمل ، ويحتمل أن يريد / لا يردّه رادّ. وهذا ظاهر بحسب اللفظ ٦٧ أو (يَصَّدَّعُونَ) : معناه : يتفرّقون بعد جمعهم إلى الجنة وإلى النار. ثم ذكر تعالى من آياته أشياء وهي ما في الريح من المنافع وذلك أنها بشرى بالمطر ويلقّح بها الشجر ، وغير ذلك ،

__________________

(١) ينظر : «السبعة» (٥٠٧) ، و «الحجة» (٥ / ٤٤٦) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ١٩٦) ، و «معاني القراءات» (٢ / ٢٦٤) ، و «العنوان» (١٥١) ، و «حجة القراءات» (٥٥٨) ، و «إتحاف» (٢ / ٣٥٧)

(٢) ذكره ابن عطية (٤ / ٣٣٩)

(٣) ينظر : «المحرر» (٤ / ٣٣٩)

(٤) فالتاء هاهنا للمخاطبين ، والواو واو الجمع. وحجته أنها كتبت في المصاحف بألف بعد واو. وحجة الباقين قوله بعده : (فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ).

ينظر : «حجة القراءات» (٥٥٩) ، و «السبعة» (٥٠٧) ، و «الحجة» (٥ / ٤٤٧) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ١٩٦) ، و «معاني القراءات» (٢ / ٢٦٥) ، و «شرح الطيبة» (٥ / ١٣٢) ، و «العنوان» (١٥١) ، و «شرح شعلة» (٥٤٠) ، و «إتحاف» (٢ / ٣٥٧)

(٥) أخرجه الطبريّ (١٠ / ١٩٠ ـ ١٩١) رقم (٢٧٩٩٧) بنحوه ، وذكره ابن عطية (٤ / ٣٤٠)

(٦) ذكره ابن عطية (٤ / ٣٤٠)

٣١٥

وتجري بها السفن في البحر. ثم آنس سبحانه نبيه عليه‌السلام بقوله : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ ...) الآية ، ثم وعد تعالى محمدا عليه‌السلام وأمّته النصر بقوله : (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) وحقا خبر كان قدّمه اهتماما.

(اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٨) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (٤٩) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٥٠) وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (٥١) فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٥٢) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ) (٥٣)

وقوله تعالى : (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً ...) الآية. الإثارة : تحريكها من سكونها ، وتسييرها ، وبسطه في السماء هو نشره في الآفاق ، والكسف : القطع.

وقوله : (مِنْ قَبْلِهِ) : تأكيد أفاد الإعلام بسرعة تقلب قلوب البشر من الإبلاس إلى الاستبشار ، والإبلاس : الكون في حال سوء مع اليأس من زوالها.

وقوله تعالى : (كَيْفَ يُحْيِ) الضمير في (يُحْيِ) يحتمل أن يكون للأثر ويحتمل أن يعود على الله تعالى وهو أظهر. ثم أخبر تعالى عن حال تقلب بني آدم ، في أنه بعد الاستبشار بالمطر ، إن بعث الله ريحا فاصفرّ بها النبات ؛ ظلوا يكفرون قلقا منهم وقلّة تسليم لله تعالى ، والضمير في (فَرَأَوْهُ) للنبات واللام في (لَئِنْ) مؤذنة بمجيء القسم وفي (لَظَلُّوا) لام القسم.

وقوله تعالى : (فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى ...) الآية : استعارة للكفّار وقد تقدم بيان ذلك في «سورة النمل».

(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (٥٤) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (٥٥) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٥٦) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٥٧) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (٥٨) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٥٩) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) (٦٠)

٣١٦

وقوله تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) قال كثير من اللغويين : ضمّ الضاد في البدن ، وفتحها في العقل ، وهذه الآية إنما يراد بها حال الجسم ، والضعف الأول هو : كون الإنسان من ماء مهين ، والقوة بعد ذلك : الشبيبة وشدة الأسر ، والضعف الثاني هو الهرم والشيخوخة ، هذا قول قتادة وغيره (١) وروى أبو داود في «سننه» بسند صحيح ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جدّه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تنتفوا الشيب ، ما من مسلم يشيب شيبة في الإسلام إلّا كانت له نورا يوم القيامة» (٢). وفي رواية «إلّا كتب الله عزوجل له بها حسنة ، وحطّ عنه بها خطيئة» (٣) انتهى.

ثم أخبر عزوجل عن يوم القيامة فقال : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا) أي : تحت التراب (غَيْرَ ساعَةٍ) وقيل : المعنى : ما لبثوا في الدنيا كأنهم استقلوها. (كَذلِكَ كانُوا) في الدنيا (يُؤْفَكُونَ) أي : يصرفون عن الحق.

قال ص : (ما لَبِثُوا) : جواب القسم على المعنى ، ولو حكي قولهم لكان ما لبثنا ؛ انتهى. ثم أخبر تعالى أن الكفرة لا ينفعهم يومئذ اعتذار ولا يعطون عتبى ، وهي الرضا وباقي الآية بيّن ، ولله الحمد.

__________________

(١) أخرجه الطبريّ (١٠ / ١٩٨) رقم (٢٨٠٢٩) ، وذكره ابن عطية (٤ / ٣٤٣) ، والسيوطي (٥ / ٣٠٥) بنحوه لابن جرير ، وابن أبي حاتم عن قتادة.

(٢) أخرجه أبو داود (٢ / ٤٨٤) كتاب الترجل : باب في نتف الشيب ، حديث (٤٢٠٢)

(٣) ينظر : الحديث السابق.

٣١٧

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وصلّى الله على سيّدنا ومولانا محمّد وعلى آله

تفسير «سورة لقمان»

وهي مكيّة

غير آيتين قال قتادة : أولهما : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ) إلى آخر الآيتين ، وقال ابن عباس ثلاث.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (٢) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (٣) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) (٦)

قوله عزوجل : (الم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ) : خصّه للمحسنين من حيث لهم نفعه ، وإلا فهو هدى في نفسه.

وقوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) روي : أن الآية نزلت في شأن رجل من قريش ؛ اشترى جارية مغنية ؛ لتغنّي له بهجاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقيل : إنه ابن خطل.

وقيل : نزلت في النضر بن الحارث ، وقيل غير هذا ، والذي يترجح أن الآية نزلت في لهو حديث مضاف إلى كفر ؛ فلذلك اشتدت ألفاظ الآية ، و (لَهْوَ الْحَدِيثِ) كل ما يلهي من غناء وخناء. ونحوه ، والآية باقية المعنى في الأمة غابر الدهر ؛ لكن ليس ليضلوا عن سبيل الله ، ولا ليتخذوا آيات الله هزوا ، ولا عليهم هذا الوعيد ؛ بل ليعطلوا عبادة ، ويقطعوا زمنا بمكروه.

قال ابن العربيّ (١) في «أحكامه» : وروى ابن وهب عن مالك عن محمد بن المنكدر :

__________________

(١) ينظر : «أحكام القرآن» (٣ / ١٤٩٣)

٣١٨

أنّ الله تعالى يقول يوم القيامة : أين الذين كانوا ينزهون أنفسهم وأسماعهم عن اللهو ومزامير الشيطان ؛ أدخلوهم في أرض المسك ، ثم يقول الله تعالى للملائكة : أسمعوهم ثنائي وحمدي ؛ وأخبروهم أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. انتهى.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (٨) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (١٠) هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (١١)

وقوله عزوجل : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) الوقر في الأذن : الثقل الذي يعسر معه إدراك المسموعات ، و «الرواسي» : هي الجبال و «الميد» : التحرك يمنة ويسرة ، وما قرب من ذلك ، والزوج : النوع والصنف. و (كَرِيمٍ) : مدحه بكرم جوهره ، وحسن منظره ، وغير ذلك. ثم وقف تعالى الكفرة على جهة التوبيخ فقال : (هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ).

(وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (١٢) وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (١٣)

وقوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ) اختلف في لقمان ؛ هل هو نبيّ أو رجل صالح فقط ، وقال ابن عمر : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لم يكن لقمان نبيّا ؛ ولكن كان عبدا كثير التفكير ، حسن اليقين ، أحبّ الله فأحبّه ، فمنّ عليه بالحكمة وخيّره في أن يجعله خليفة ؛ يحكم بالحقّ ، فقال : ربّ إن خيّرتني ، قبلت العافية ، وتركت البلاء ، وإن عزمت عليّ ، فسمعا وطاعة ، فإنّك ستعصمني ، وكان قاضيا في بني إسرائيل نوبيّا أسود ، مشقق الرجلين ، ذا (١) مشافر» ، قاله سعيد بن المسيّب (٢) وابن عباس (٣) وجماعة : وقال له رجل

__________________

(١) المشفر والمشفر للبعير : كالشفة للإنسان ، وقد يقال للإنسان مشافر على الاستعارة. قال أبو عبيد : إنما قيل : مشافر الحبش تشبيها بمشافر الإبل.

ينظر : «لسان العرب» ٢٢٨٧ ، ٢٢٨٨.

(٢) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٢٠٨) رقم (٢٨٠٨٦) ، وذكره ابن عطية (٤ / ٣٤٧) ، وابن كثير (٣ / ٤٤٣) ، والسيوطي (٥ / ٣١٠) ، وعزاه لابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب.

(٣) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٢٠٨) رقم (٢٨٠٨٥) بنحوه ، وذكره ابن عطية (٤ / ٣٤٧) ، وابن كثير (٣ / ٤٤٣) ، والسيوطي (٥ / ٣١١) بنحوه ، وعزاه لابن أبي شيبة ، وابن المنذر عن ابن عباس.

٣١٩

كان قد رعى معه الغنم ـ : ما بلغ بك يا لقمان ما أرى؟ قال : صدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وتركي ما لا يعنيني ، وحكم لقمان كثيرة مأثورة.

قال ابن العربيّ في «أحكامه (١)» : وروى علماؤنا عن مالك قال : قال لقمان لابنه : يا بنيّ ، إنّ الناس قد تطاول عليهم ما يوعدون ، وهم إلى الآخرة سراعا يذهبون ، وإنك قد استدبرت الدنيا مذ كنت ، واستقبلت الآخرة مع أنفاسك ، وإن دارا ستسير إليها ؛ أقرب إليك من دار تخرج منها ، انتهى.

وقوله : (أَنِ اشْكُرْ) يجوز أن تكون «أن» في موضع نصب على إسقاط حرف الجر ، أي : بأن اشكر لله ويجوز أن تكون مفسّرة ، أي : كانت حكمته دائرة على الشكر لله ، وجميع العبادات داخلة في الشكر لله عزوجل ، و (حَمِيدٌ) بمعنى : محمود ، أي : هو مستحق ذلك بذاته وصفاته.

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (١٤) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٥) يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (١٦) يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٧) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (١٨) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (١٩) أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٢٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) (٢١)

وقوله تعالى : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ) هاتان الآيتان اعتراض أثناء وصية لقمان و (وَهْناً عَلى وَهْنٍ) معناه ضعفا على ضعف ، كأنه قال : حملته أمه ، والضعف يتزيد بعد الضعف إلى أن ينقضي أمده.

وقال ص : (وَهْناً عَلى وَهْنٍ) حال من أمه أي شدة بعد شدة ، أو جهدا على جهد ، وقيل (وَهْناً) نطفة ، ثم علقة ، فيكون حالا من الضمير المنصوب في جملته. انتهى.

__________________

(١) ينظر : «أحكام القرآن» (٣ / ١٤٩٥)

٣٢٠