تفسير الثعالبي - ج ٤

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي

تفسير الثعالبي - ج ٤

المؤلف:

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٥

لسليمان ـ عليه‌السلام ـ : يا بنيّ ، لا تكثر النّوم باللّيل ؛ فإنّ كثرة النّوم باللّيل ، يدع الرجل فقيرا يوم القيامة» (١) ، انتهى. وابتغاء الفضل : هو بالمشي والتصرّف.

وقوله تعالى : (وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) أي : عدول الأمم وأخيارها ، فيشهدون على الأمم بخيرها وشرّها ، فيحقّ العذاب على من شهد عليه بالكفر ، وقيل له : على جهة الإعذار في المحاورة : (هاتُوا بُرْهانَكُمْ) ، ومن هذه الآية انتزع قول القاضي عند إرادة الحكم : أبقيت لك حجة.

(إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (٧٦) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٧٧) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (٧٨) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (٧٩)

وقوله تعالى : (إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ ...) الآية ، كان قارون من قرابة موسى : ممن آمن بموسى وحفظ / التوراة وكان عند موسى عليه‌السلام من عبّاد ٥٩ ب المؤمنين ، ثم إنّ الله أضلّه وبغى على قومه بأنواع البغي ؛ من ذلك كفره بموسى.

وقال الثّعلبي : قال ابن المسيب : كان قارون عاملا لفرعون على بني إسرائيل ؛ ممن يبغي عليهم ويظلمهم. قال قتادة : بغى عليهم بكثرة ماله وولده (٢) ، انتهى.

ت : وما ذكره ابن المسيب ، هو الذي يصحّ في النظر لمتأمّل الآية ، ولو لا الإطالة

__________________

(١) أخرجه ابن ماجه (١ / ٤٢٢) كتاب إقامة الصلاة : باب ما جاء في قيام الليل ، حديث (١٣٣٢) ، والطبراني في «الصغير» (١ / ١٢١ ـ ١٢٢) ، والبيهقي في «الشعب» (٤ / ١٨٣) رقم (٤٧٤٦) كلهم من طريق سنيد بن داود عن يوسف بن محمد بن المنكدر عن أبيه عن جابر به.

وقال الطبراني : لم يروه عن محمد بن المنكدر إلا ابنه يوسف ، تفرد به سنيد.

قال الشوكاني في «الفوائد المجموعة» (ص ٣٥) : رواه ابن الجوزي عن جابر مرفوعا ، وفي إسناده يوسف بن محمد بن المنكدر متروك. قال في «اللآلئ» : قال فيه أبو زرعة : صالح الحديث ، وقال ابن عدي : أرجو أن لا بأس به. وقد أخرجه ابن ماجه من طريقه ، وكذا الطبراني ، والبيهقي في «شعب الإيمان».

(٢) أخرجه الطبريّ (١٠ / ١٠٠) رقم (٢٧٥٧٤) بنحوه ، وذكره البغوي (٣ / ٤٥٤) بنحوه.

٢٨١

لبيّنت وجه ذلك ، والمفاتح ظاهرها : أنها التي يفتح بها ، ويحتمل أن يريد بها : الخزائن والأوعية الكبار ؛ قاله الضحاك (١) ؛ لأنّ المفتح في كلام العرب الخزانة ، وأمّا قوله : (لَتَنُوأُ) فمعناه : تنهض بتحامل واشتداد ، قال كثير من المفسرين : إنّ المراد : أن العصبة تنوء بالمفاتح المثقلة لها فقلب.

قلت : وقال عريب الأندلسي في كتاب «الأنواء» : له نوء كذا ؛ معناه : مثله منه : (لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ) ، انتهى ، وهو حسن إن ساعده النّقل. وقال الدّاووديّ عن ابن عباس : (لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) يقول تثقل ؛ وكذا قال الواحديّ ، انتهى. واختلف في العصبة : كم هم؟ فقال ابن عبّاس ـ رضي الله عنه ـ : ثلاثة (٢) ، وقال قتادة : هم من العشرة إلى الأربعين (٣) ، قال البخاريّ (٤) : يقال : الفرحين المرحين.

قال الغزّاليّ في «الإحياء» : الفرح بالدنيا والتنعّم بها سمّ قاتل يسري في العروق ؛ فيخرج من القلب الخوف والحزن وذكر الموت وأهوال القيامة ؛ وهذا هو موت القلب والعياذ بالله ، فأولوا الحزم من أرباب القلوب جرّبوا قلوبهم في حال الفرح بمواتاة الدنيا ، وعلموا أن النّجاة في الحزن الدائم ، والتباعد من أسباب الفرح ، والبطر ؛ فقطّعوا النّفس عن ملاذّها وعوّدوها الصبر عن شهواتها ؛ حلالها وحرامها ، وعلموا أن حلالها حساب وهو نوع عذاب ، ومن نوقش الحساب عذّب ، فخلّصوا أنفسهم من عذابها ، وتوصّلوا إلى الحرّية والملك في الدنيا والآخرة ؛ بالخلاص من أسر الشهوات ورقّها ، والأنس بذكر الله تعالى والاشتغال بطاعته ، انتهى.

قال ابن الحاجّ في «المدخل» : قال يمن بن رزق ـ رحمه‌الله تعالى ـ : وأنا أوصيك بأن تطيل النظر في مرآة الفكرة مع كثرة الخلوات ، حتّى يريك شين المعصية وقبحها ، فيدعوك ذلك النّظر إلى تركها ، ثم قال يمن بن رزق : ولا تفرحنّ بكثرة العمل مع قلة الحزن ، واغتنم قليل العمل مع الحزن ، فإن قليل حزن الآخرة الدّائم في القلب ؛ ينفي كلّ سرور ألفته من سرور الدنيا ، وقليل سرور الدنيا في القلب ؛ ينفي عنك (٥) جميع حزن

__________________

(١) أخرجه الطبريّ (١٠ / ١٠١) رقم (٢٧٥٨١) ، وذكره ابن عطية (٤ / ٢٩٨)

(٢) أخرجه الطبريّ (١٠ / ١٠٢) رقم (٢٧٥٨٩) ، وذكره البغوي (٣ / ٤٥٤)

(٣) أخرجه الطبريّ (١٠ / ١٠٢) رقم (٢٧٥٨٥) ، وذكره البغوي (٣ / ٤٥٤) ، وابن عطية (٤ / ٢٩٩) ، والسيوطي (٥ / ٢٦٠) ، وعزاه لعبد بن حميد عن قتادة.

(٤) ينظر : «صحيح البخاري» (٨ / ٣٦٥) كتاب التفسير : باب (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ).

(٥) في ج : عنها.

٢٨٢

الآخرة. والحزن لا يصل إلى القلب إلّا مع تيقّظه ؛ وتيقّظه حياته ، وسرور الدّنيا لغير الآخرة لا يصل إلى القلب إلا مع غفلته ؛ وغفلة القلب موته ، وعلامة ثبات اليقين في القلب استدامة الحزن فيه. وقال ـ رحمه‌الله ـ : اعلم أني لم أجد شيئا أبلغ في الزهد في الدنيا من ثبات حزن الآخرة في القلب ، وعلامة ثبات حزن الآخرة في القلب أنس العبد بالوحدة ، انتهى.

وقولهم له : (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا).

قال ابن عباس والجمهور : معناه : لا تضيّع عمرك في ألّا تعمل عملا صالحا في دنياك ؛ إذ الآخرة إنّما يعمل لها في الدنيا ، فنصيب الإنسان عمره وعمله الصالح فيها ؛ فينبغي أن لا يهمله. وحكى الثعلبيّ أنه قيل : أرادوا بنصيبه الكفن.

قال : ع (١) : وهذا كلّه وعظ متّصل ؛ ونحو هذا قول الشاعر : [الطويل]

نصيبك ممّا تجمع الدّهر كلّه

رداءان تلوى فيهما وحنوط (٢)

وقال ابن العربيّ في «أحكامه (٣)» : وفي معنى النصيب ثلاثة أقوال : الأول : لا تنس حظّك من الدنيا ، أي : لا تغفل أن تعمل في الدنيا للآخرة ، الثاني : أمسك ما يبلغك ؛ فذلك حظّ الدنيا ، وأنفق الفضل فذلك حظّ الآخرة ، الثالث : لا تغفل عن شكر ما أنعم الله به عليك ، انتهى. وقولهم : (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) أمر بصلة المساكين وذوي الحاجات.

ص : (كَما أَحْسَنَ) : ـ الكاف للتشبيه أو للتعليل ـ ، انتهى. وقول قارون : (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) قال الجمهور : ادّعى أنّ عنده علما استوجب به أن يكون صاحب ذلك المال ، ثم اختلفوا في ذلك العلم ، فقال ابن المسيب : أراد علم الكيمياء (٤).

وقال أبو سليمان الداراني : أراد العلم بالتجارة ووجوه تثمير المال ، وقيل غير هذا.

وقوله تعالى : (وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ).

قال محمد بن كعب : هو كلام متصل بمعنى ما قبله ، والضمير في (ذُنُوبِهِمُ) عائد على من أهلك من القرون ، أي : أهلكوا ولم يسئل غيرهم بعدهم عن ذنوبهم ، أي : كل

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ٢٩٩)

(٢) البيت من شواهد «المحرر الوجيز» (٤ / ٢٩٩)

(٣) ينظر : «أحكام القرآن» (٣ / ١٤٨٣)

(٤) ذكره البغوي (٣ / ٤٥٥) ، وابن عطية (٤ / ٣٠٠)

٢٨٣

أحد إنما يكلّم ويعاتب بحسب ما يخصّه ، وقالت فرقة : هو إخبار مستأنف عن حال يوم القيامة ، وجاءت آيات أخر تقتضي السؤال ، فقال الناس في هذا : إنها مواطن وطوائف.

وقيل غير هذا ، ويوم القيامة هو مواطن. ثم أخبر تعالى عن خروج قارون على قومه في زينته من الملابس والمراكب وزينة الدنيا وأكثر النّاس في تحديد زينة قارون وتعيينها بما لا صحّة له ؛ فتركته ، وباقي الآية بيّن في اغترار الجهلة والأغمار من النّاس.

(وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (٨٠) فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (٨١) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) (٨٢)

وقوله سبحانه : (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ...) الآية : أخبر تعالى عن الذين أوتوا العلم والمعرفة بالله وبحقّ طاعته أنّهم زجروا الأغمار الّذين تمنّوا حال قارون وحملوهم على الطريقة المثلى ؛ من أنّ النّظر والتمنّي إنّما ينبغي أن يكون في أمور الآخرة ، وأنّ حالة المؤمن العامل الذي ينتظر ثواب الله تعالى خير من حال كلّ ذي دنيا. ثم أخبر تعالى عن هذه النّزعة وهذه القوّة في الخير والدين أنّها (١) (لا يُلَقَّاها) أي : لا يمكّن فيها ويخوّلها إلا الصابر على طاعة الله وعن شهوات نفسه ؛ وهذا هو جماع الخير كله.

وقال الطبريّ (٢) : الضمير عائد على الكلمة ؛ وهي قوله : (ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) ، أي : لا يلقّن هذه الكلمة إلا الصابرون ؛ وعنهم تصدر ، وروي في الخسف بقارون وداره أن موسى عليه‌السلام لما أمضّه فعل قارون به وتعدّيه عليه ؛ استجار بالله تعالى وطلب النصرة ؛ فأوحى الله إليه ، أني قد أمرت الأرض أن تطيعك في قارون وأتباعه ، فقال موسى : يا أرض ؛ خذيهم فأخذتهم إلى الركب ، فاستغاثوا : يا موسى ؛ يا موسى ؛ فقال : خذيهم ، فأخذتهم شيئا فشيئا إلى أن تم الخسف بهم / ، فأوحى الله إليه : يا موسى ؛ لو بي استغاثوا وإليّ تابوا لرحمتهم. قال قتادة وغيره : روي أنه يخسف به كل يوم قامة ؛ فهو يتجلجل إلى يوم (٣) القيامة.

__________________

(١) في ج : أنهما.

(٢) ينظر : «الطبريّ» (١٠ / ١٠٩)

(٣) أخرجه الطبريّ (١٠ / ١١٢) رقم (٢٧٦٤٤) ، وذكره البغوي (٣ / ٤٥٧) ، وابن عطية (٤ / ٣٠١) ، وابن كثير (٣ / ٤٠١) ، والسيوطي (٥ / ٤٥٧)

٢٨٤

ت : وفي الترمذيّ ؛ عن معاذ بن أنس الجهنيّ ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من ترك اللّباس تواضعا لله ، وهو يقدر عليه ، دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق ؛ حتّى يخيّره ؛ من أيّ حلل الإيمان شاء يلبسها» (١). وروى الترمذيّ عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : كان لنا قرام ستر فيه تماثيل على بابي فرآه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «انزعيه فإنّه يذكّرني الدّنيا» (٢) ، الحديث وروى الترمذيّ عن كعب بن عياض قال : سمعت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إنّ لكلّ أمّة فتنة ، وفتنة أمّتي : المال» (٣) ؛ قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح ؛ وفيه عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ليس لابن آدم حقّ في سوى هذه الخصال : بيت يسكنه ، وثوب يواري عورته ، وجلف الخبز والماء» (٤).

قال النضر بن شميل : «جلف الخبز» يعني : ليس معه إدام. انتهى. فهذه الأحاديث وأشباهها تزهّد في زينة الدنيا وغضارة (٥) عيشها الفاني.

__________________

(١) أخرجه الترمذيّ (٤ / ٦٥٠) كتاب صفة القيامة باب (٣٩) حديث (٢٤٨١) ، وأحمد (٣ / ٤٣٩) ، والحاكم (٤ / ١٨٣) ، وأبو نعيم في «الحلية» (٨ / ٨٤) من طريق أبي مرحوم عبد الرحيم بن ميمون عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه مرفوعا.

وقال الترمذيّ : هذا حديث حسن.

وقال الحاكم : صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي.

(٢) أخرجه الترمذيّ (٤ / ٦٤٣ ـ ٦٤٤) كتاب صفة القيامة : باب (٣٢) حديث (٢٤٦٨) ، والنسائي (٨ / ٢١٣).

كتاب الزينة : باب التصاوير ، وأحمد (٦ / ٢٢٦) ، والبيهقي (٧ / ٢٦٧) من طريق سعد بن هشام عن عائشة.

وقال الترمذيّ : هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه.

(٣) أخرجه الترمذيّ (٤ / ٥٦٩) كتاب الزهد : باب ما جاء أن فتنة هذه الأمة في المال ، حديث (٢٣٣٦) ، والبخاري في «التاريخ الكبير» (٧ / ٢٢٢) ، وأحمد (٤ / ١٦٠) ، والحاكم (٤ / ٣١٨) ، وابن حبان (٢٤٧٠ ـ موارد) ، والطبراني في «الكبير» (١٩ / ١٧٩) رقم (٤٠٤) ، والقضاعي في «مسند الشهاب» (٢ / ١٢٤) رقم (١٠٢٢) من حديث كعب بن عياض وقال الترمذيّ : هذا حديث حسن صحيح غريب.

وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وصححه ابن حبان.

(٤) أخرجه الترمذيّ (٤ / ٥٧١ ـ ٥٧٢) كتاب الزهد : باب (٣٠) حديث (٢٣٤١) من طريق حريث بن السائب ، قال : سمعت الحسن يقول : حدثني حمران بن أبان عن عثمان بن عفان به.

وقال الترمذيّ : هذا حديث حسن صحيح.

وصححه الحاكم (٤ / ٣١٢) ووافقه الذهبي.

(٥) الغضارة : النعمة والسعة في العيش.

ينظر : «لسان العرب» (٣٢٦٤)

٢٨٥

وقوله : (وَيْكَأَنَ) مذهب الخليل وسيبويه : أن «وي» حرف تنبيه منفصلة من (كأن) ، لكن أضيفت لكثرة الاستعمال.

وقال أبو حاتم وجماعة : ويك : هي (ويلك) حذفت اللام منها لكثرة الاستعمال.

وقالت فرقة : «ويكأن» بجملتها كلمة.

(تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (٨٣) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٨٤)

وقوله تعالى : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً ...) الآية : هذا إخبار مستأنف من الله تعالى لنبيه ـ عليه‌السلام ـ ، يراد به جميع العالم ، ويتضمن الحضّ على السعي ، حسب ما دلت عليه الآية ، ويتضمن الانحناء على حال قارون ونظرائه ، والمعنى : أنّ الآخرة ليست في شيء من أمر قارون ؛ وأشباهه ؛ وإنما هي لمن صفته كذا وكذا ، والعلو المذموم : هو بالظلم والتجبر ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وذلك أن تريد أن يكون شراك نعلك أفضل من شراك نعل أخيك» ، والفساد يعمّ وجوه الشر.

(إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨٥) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (٨٦) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧) وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٨٨)

وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) قالت فرقة : معناه فرض عليك أحكام القرآن.

وقوله تعالى : (لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) قال الجمهور : معناه : لرادك إلى الآخرة ، أي : باعثك بعد الموت ، وقال ابن عباس وغيره : المعاد : الجنة (١) ، وقال ابن عباس (٢) أيضا ؛

__________________

(١) أخرجه الطبريّ (١٠ / ١١٦) رقم (٢٧٦٦٠ ـ ٢٧٦٦١) ، وذكره ابن عطية (٤ / ٣٠٣) ، وابن كثير (٣ / ٤٠٢) ، والسيوطي (٥ / ٢٦٦) ، وعزاه لابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس.

(٢) أخرجه البخاري رقم (٤٧٧٣) والنسائي في «التفسير» (٤٠٦).

وأخرجه الطبريّ (١٠ / ١١٧) رقم (٢٧٦٨١) ، وذكره البغوي (٣ / ٤٥٨) ، وذكره ابن عطية (٤ / ٣٠٣) ، وابن كثير (٣ / ٤٠٢) ، والسيوطي (٥ / ٢٦٦) ، وعزاه لابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، والبخاري ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في «الدلائل» من طرق عن ابن عباس.

٢٨٦

ومجاهد (١) : المعاد : مكة ، وفي البخاري بسنده عن ابن عباس : (لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) : إلى مكة ، انتهى. وهذه الآية نزلت بالجحفة ؛ كما تقدّم ، والمعاد : الموضع الذي يعاد إليه.

وقوله تعالى : (وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) هو تعديد نعم ، والظهير : المعين.

وقوله تعالى : (وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ) : بأقوالهم ؛ ولا تلتفت نحوهم ؛ وامض لشأنك ، وادع إلى ربك ، وآيات الموادعة كلّها منسوخة.

وقوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) قالت فرقة : المعنى : كلّ شيء هالك إلا هو سبحانه ؛ قاله الطبريّ وجماعة منهم أبو المعالي ـ رحمه‌الله ـ وقال الزجّاج : إلا إياه.

__________________

(١) أخرجه الطبريّ (١٠ / ١١٧ ـ ١١٨) رقم (٢٧٦٨٣ ـ ٢٧٦٨٤ ـ ٢٧٦٨٥) ، وذكره البغوي (٣ / ٤٥٨) ، وابن عطية (٤ / ٣٠٣) ، وابن كثير (٣ / ٤٠٢) ، والسيوطي (٥ / ٢٦٦) بنحوه ، وعزاه للفريابي ، وعبد بن حميد عن مجاهد.

٢٨٧

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وصلّى الله على سيّدنا ومولانا محمّد وآله

تفسير «سورة العنكبوت»

وهي مكّيّة

إلا الصدر منها العشر الآيات ؛ فإنها مدنية نزلت في شأن من كان من المسلمين بمكة ؛ هذا أصحّ ما قيل هنا والله تعالى أعلم.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) (٣)

قوله تعالى : (الم) تقدم الكلام على هذه الحروف.

وقوله تعالى : (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) نزلت هذه الآية في قوم من المؤمنين بمكة ؛ وكان كفار قريش يؤذونهم ، ويعذبونهم على الإسلام ، فكانت صدورهم تضيق لذلك ؛ وربما استنكر بعضهم أن يمكّن الله الكفرة من المؤمنين. قال مجاهد وغيره : فنزلت هذه الآية مسلية ، ومعلمة أن هذه هي سيرة الله في عباده اختبارا للمؤمنين ، ليعلم الصادق من الكاذب (١) ، و «حسب» بمعنى (٢) : ظنّ.

و (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يريد بهم : المؤمنين مع الأنبياء في سالف الدّهر.

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٤) مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) (٧)

__________________

(١) ذكره ابن عطية (٤ / ٣٠٥)

(٢) في ج : معناه.

٢٨٨

وقوله تعالى : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) أم : معادلة للهمزة ؛ في قوله : (أَحَسِبَ) [العنكبوت : ٢] وكأنه تعالى قرر الفريقين : قرر المؤمنين على ظنهم أنهم لا يفتنون ، وقرر الكافرين الذين يعملون السيئات ؛ في تعذيب المؤمنين ؛ وغير ذلك على ظنهم ؛ أنهم يسبقون عقاب الله تعالى ؛ ويعجزونه ، ثم الآية بعد تعمّ كلّ عاص ، وعامل سيئة من المسلمين ؛ وغيرهم ، وفي الآية وعيد شديد للكفرة الفاتنين ، وفي قوله تعالى : (مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ) تثبيت للمؤمنين ، وباقي الآية بيّن ، والله الموفق.

وقال ص : قول ع (١) : أم : معادلة للألف في قوله : (أَحَسِبَ) يقتضي أنها هنا متصلة ؛ وليس كذلك ؛ بل «أم» هنا : منقطعة مقدرة ب «بل» ؛ للإضراب ، بمعنى : الانتقال ؛ لا بمعنى الإبطال ، وهمزة الاستفهام ؛ للتقرير والتوبيخ ؛ فلا تقتضي جوابا ، انتهى.

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ). إخبار عن المؤمنين المهاجرين الذين هم في أعلى رتبة من البدار إلى الله تعالى ؛ نوه بهم ـ عزوجل ـ وبحالهم ؛ ليقيم نفوس المتخلفين عن الهجرة ؛ وهم الذين فتنهم الكفار.

(وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ) ، أي : ثواب أحسن الذي كانوا يعملون.

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (٩) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (١٠) وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ) (١١)

وقوله تعالى : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما) روي عن قتادة (٢) وغيره : أنها نزلت في شأن سعد بن أبي وقاص ؛ وذلك أنه هاجر ؛ فحلفت أمه أن لا تستظلّ بظلّ حتى يرجع إليها ؛ ويكفر بمحمد ، فلجّ هو في هجرته ، ونزلت الآية.

وقيل : بل نزلت في عياش بن أبي ربيعة ؛ وكانت قصته كهذه ثم خدعه أبو جهل ؛

__________________

(١) ينظر : «المحرر» (٤ / ٣٠٦)

(٢) أخرجه الطبريّ (١٠ / ١٢٤) رقم (٢٧٧٠١) ، وذكره ابن عطية (٤ / ٣٠٧) ، والسيوطي (٥ / ٢٧٠) بنحوه ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن قتادة.

٢٨٩

ورده إلى أمه. الحديث في كتب السيرة ، وباقي الآية بيّن. ثم كرر تعالى التمثيل بحالة المؤمنين العاملين ؛ ليحرك النفوس إلى نيل مراتبهم.

قال الثعلبي : قوله تعالى : (لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) أي : في زمرتهم.

وقال محمد بن جرير (١) : في مدخل الصالحين : وهو الجنة.

وقيل : (فِي) بمعنى : «مع» و «الصالحون» : هم الأنبياء والأولياء ، انتهى.

وقوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ) إلى قوله : (الْمُنافِقِينَ) ، نزلت في المتخلفين عن الهجرة ؛ المتقدّم ذكرهم ؛ قاله ابن عباس (٢). ثم قررهم تعالى على علمه بما في صدورهم ، أي : لو كان يقينهم تامّا وإسلامهم خالصا ؛ لما توقّفوا ساعة ولركبوا كلّ هول إلى هجرتهم ودار نبيهم.

وقوله تعالى : (وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ) هنا انتهى المدني من هذه السورة.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٢) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) (١٣)

وقوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا ...) الآية ، روي : أن قائل هذه المقالة هو : الوليد بن المغيرة ، وقيل : بل كانت شائعة من كفار قريش ؛ لاتباع النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله تعالى : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ ...) الآية ، لأنه يلحق كل داع إلى ضلالة ؛ كفل منها حسبما صرّح به الحديث المشهور (٣).

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١٤) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (١٥) وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٦) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ

__________________

(١) ينظر : «الطبريّ» (١٠ / ١٢٤)

(٢) أخرجه الطبريّ (١٠ / ١٢٥) رقم (٢٧٧٠٦) بنحوه ، وذكره ابن عطية (٤ / ٣٠٨) بنحوه.

(٣) تقدم تخريجه ، وهو حديث : «من دعا إلى ضلالة ...».

٢٩٠

وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١٧) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (١٨)

وقوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ ...) الآية ، العطف بالفاء يقتضي ظاهره أنه لبث هذه المدة رسولا ؛ يدعو إلى عبادة الله تعالى ، و (الطُّوفانُ) : العظيم الطامي ، ويقال ذلك لكل طام خرج عن العادة من ماء ، أو نار ، أو موت.

وقوله : (وَهُمْ ظالِمُونَ) يريد : بالشرك. ثم ذكر تعالى قصة إبراهيم عليه‌السلام وقومه ، وذلك أيضا تمثيل لقريش.

وقوله تعالى : (وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) قال ابن عباس (١) : هو نحت الأصنام.

وقال مجاهد (٢) : هو اختلاق الكذب في أمر الأوثان ؛ وغير ذلك.

(أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١٩) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (٢١) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٢٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٣) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٤) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) (٢٥)

وقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ...) الآية ، هذه الحالة هي على ما يظهر مع الأحيان من إحياء الأرض ، والنبات ؛ وإعادته ؛ ونحو ذلك مما هو دليل على البعث من القبور ، ثم أمر تعالى نبيّه محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويحتمل أن يكون إبراهيم عليه‌السلام بأن يأمرهم على جهة الاحتجاج ، بالسير في الأرض ، والنظر في أقطارها ، و (النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) : نشأة القيام من القبور.

وقوله تعالى : (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ ...) الآية ، قال ابن

__________________

(١) أخرجه الطبريّ (١٠ / ١٢٩) رقم (٢٧٧٢٠) بنحوه ، وذكره ابن عطية (٤ / ٣١١) ، وابن كثير (٣ / ٤٠٧)

(٢) أخرجه الطبريّ (١٠ / ١٢٩) رقم (٢٧٧١٩) بنحوه ، وذكره ابن عطية (٤ / ٣١١) ، والسيوطي (٥ / ٢٧٤) بنحوه ، وعزاه للفريابي ، وابن جرير عن مجاهد.

٢٩١

زيد (١) : لا يعجزه أهل الأرض في الأرض ، ولا أهل السماء في السماء ؛ إن عصوه. وقيل : معناه : ولا في السماء لو كنتم فيها. وقيل : المعنى : ليس للبشر حيلة إلى صعود أو نزول ؛ يفلتون بها. قال قتادة : ذمّ الله قوما هانوا عليه ؛ فقال : (أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي ...) الآية.

قال ع (٢) : وما تقدّم من قوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ ...) إلى هذه الآية المستأنفة ؛ يحتمل أن يكون خطابا لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويكون اعتراضا في قصّة إبراهيم عليه‌السلام ، ويحتمل أن يكون خطابا لإبراهيم عليه‌السلام ؛ ومحاورة لقومه ؛ وعند آخر ذلك ذكر جواب قومه.

وقوله تعالى : (فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ) أي بأن جعلها بردا وسلاما.

قال كعب (٣) الأحبار ـ رضي الله عنه ـ : ولم تحرق النار إلا الحبل الذي أو ثقوه به ؛ وجعل سبحانه ذلك آية ، وعبرة ، ودليلا على توحيده لمن شرح صدره ؛ ويسره للإيمان. ثم ذكر تعالى أن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ قررهم على أنّ اتخاذهم الأوثان ؛ إنما كان اتباعا من بعضهم لبعض ؛ وحفظا لمودتهم الدنيوية ؛ وأنهم يوم القيامة يجحد بعضهم بعضا ، ويتلاعنون ؛ لأن توادّهم كان على غير تقوى ، (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) [الزخرف : ٦٧].

(فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٦) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٢٨) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٩) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (٣٠) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (٣١) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ

__________________

(١) أخرجه الطبريّ (١٠ / ١٣١) رقم (٢٧٧٢٦)

(٢) ينظر : «المحرر» (٤ / ٣١٢)

(٣) أخرجه الطبريّ (١٠ / ١٣٢) رقم (٢٧٧٢٧) بنحوه ، وذكره ابن عطية (٤ / ٣١٢ ـ ٣١٣) ، والسيوطي (٥ / ٢٧٤) بنحوه ، وعزاه لكعب.

٢٩٢

وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٢) وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٣) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٣٤) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٣٥)

وقوله تعالى : (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) معناه : صدق ، وآمن : يتعدى باللام والباء ، والقائل (إِنِّي مُهاجِرٌ) هو إبراهيم عليه‌السلام. قاله قتادة والنخعيّ (١) ؛ وقالت فرقة : هو لوط ـ عليه‌السلام ـ.

وقوله تعالى : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا ...) الآية ، الأجر الذي آتاه الله في الدنيا : العافية من النار ومن الملك الجائر. والعمل الصالح ؛ أو الثناء الحسن ؛ قاله مجاهد (٢) ويدخل في عموم اللفظ غير ما ذكر.

قوله تعالى : (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) ، أي : في عداد الصالحين الذين نالوا رضا الله عزوجل ، وقول لوط عليه‌السلام : (أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ) ، قالت فرقة : كان قطع الطريق بالسلب فاشيا فيهم ، وقيل غير هذا ، والنادي ، المجلس الذي يجتمع الناس فيه. واختلف في هذا المنكر الذي يأتونه في ناديهم : فقالت فرقة : كانوا يحذفون الناس بالحصباء ؛ ويستخفّون بالغريب والخاطر عليهم ؛ وروته أم هانىء عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣) : وكانت خلقهم مهملة ؛ لا يربطهم دين ؛ ولا مروءة ، وقال

__________________

(١) ذكره ابن عطية (٤ / ٣١٤)

(٢) أخرجه الطبريّ (١٠ / ١٣٤) رقم (٢٧٧٣٥) بنحوه ، وذكره ابن عطية (٤ / ٣١٤) ، وابن كثير (٣ / ٤١١)

(٣) أخرجه الترمذيّ (٥ / ٣٤٢) كتاب التفسير : باب «ومن سورة العنكبوت» ، حديث (٣١٩٠) ، وأحمد (٦ / ٣٤١) ، والطبريّ في «تفسيره» (١٠ / ١٣٦) رقم (٢٧٧٤٥) ، والحاكم (٢ / ٤٠٩) ، والطبراني في «الكبير» (٢٤ / ٤١١ ـ ٤١٢) رقم (١٠٠٠ ، ١٠٠١ ، ١٠٠٢) كلهم من طريق أبي صالح مولى أم هانىء عن أم هانىء به ..

وقال الترمذيّ : حديث حسن.

وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٢٧٦) ، وزاد نسبته إلى الفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن أبي الدنيا في «الصمت» ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والشاشي في «مسنده» ، وابن مردويه ، والبيهقي في «الشعب» ، وابن عساكر.

٢٩٣

مجاهد (١) : كانوا يأتون الرجال في مجالسهم ؛ وبعضهم يرى بعضا.

وقال ابن عباس (٢) : كانوا يتضارطون ويتصافعون في مجالسهم ، وقيل غير هذا ، وقد تقدم قصص الآية مكرّرا والرجز : العذاب.

وقوله تعالى : (وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها) ؛ أي : من خبرها وما بقي من آثارها ، والآية : موضع العبرة ، وعلامة القدرة ، ومزدجر النفوس عن الوقوع في سخط الله تعالى.

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٣٦) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (٣٨) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (٣٩) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٠) مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) (٤١)

وقوله تعالى : (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ ...) الآية ، الرجاء في الآية : على بابه ، وذهب أبو عبيدة إلى أن المعنى : وخافوا ، و (تَعْثَوْا) معناه : تفسدوا ، و (السَّبِيلِ) : هي طريق الإيمان ، ومنهج النجاة من النار ، و (ما كانُوا سابِقِينَ) ، أي : مفلتين أخذنا وعقابنا ، وقيل : معناه : وما كانوا سابقين الأمم إلى الكفر ، وباقي الآية بيّن.

(إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤٢) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (٤٣) خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٤٤) اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ) (٤٥)

__________________

(١) أخرجه الطبريّ (١٠ / ١٣٧) رقم (٢٧٧٥٢) ، وذكره البغوي (٣ / ٤٦٦) ، وابن عطية (٤ / ٣١٥) ، والسيوطي (٥ / ٢٧٦) ، وعزاه للفريابي ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والخرائطي في «مساوئ الأخلاق» عن مجاهد.

(٢) ذكره ابن عطية (٤ / ٣١٥)

٢٩٤

وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) ، قيل : معناه : إن الله يعلم الذين تدعون من دونه من جميع الأشياء ، وقيل : ما نافية ؛ وفيه نظر ، وقيل : ما استفهامية ، قال جابر : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله تعالى : (وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) : العالم : من عقل عن الله تعالى فعمل بطاعته وانتهى عن معصيته.

وقوله تعالى : (خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) أي : لا للعبث واللعب ؛ بل ليدل على سلطانه ؛ وتثبيت شرائعه ، ويضع الدلالة لأهلها ويعم بالمنافع ؛ إلى غير ذلك مما لا يحصى عدا. ثم أمر تعالى نبيه عليه‌السلام بالنفوذ لأمره ؛ وتلاوة القرآن الذي أوحي إليه ، وإقامة الصلاة ، أي : إدامتها ؛ والقيام بحدودها. ثم أخبر سبحانه حكما منه أن الصلاة تنهى صاحبها وممتثلها عن الفحشاء والمنكر.

قال ع (١) : وذلك عندي بأن المصلي إذا كان على الواجب من الخشوع ، والإخبات (٢) وتذكر الله ، وتوهّم الوقوف بين يديه ، وإنّ قلبه وإخلاصه مطّلع عليه مرقوب صلحت لذلك نفسه ، وتذلّلت ، وخامرها ارتقاب الله تعالى ؛ فاطّرد ذلك في أقواله ، وأفعاله ، وانتهى عن الفحشاء والمنكر ، ولم يكد يفتر من ذلك حتى تظله صلاة أخرى ؛ يرجع بها إلى أفضل حاله ؛ فهذا معنى هذا الإخبار ؛ لأن صلاة المؤمن هكذا ينبغي أن تكون ، وقد روي عن بعض السلف : أنه كان إذا أقام الصلاة ارتعد ، واصفر لونه ، فكلّم في ذلك ، فقال : إني أقف بين يدي الله تعالى.

قال ع (٣) : فهذه صلاة تنهى ـ ولا بد ـ عن الفحشاء / والمنكر ، وأما من كانت صلاته دائرة حول الإجزاء ، بلا تذكر ولا خشوع ، ولا فضائل ؛ فتلك تترك صاحبها من منزلته حيث كان.

وقوله تعالى : (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) قال ابن عباس (٤) وأبو الدرداء (٥) وسلمان (٦) وابن

__________________

(١) ينظر : «المحرر» (٤ / ٣١٩)

(٢) أخبت لله : خشع. وأخبت إلى ربه أي اطمأن إليه. والإخبات : الخشوع والتواضع.

ينظر : «لسان العرب» ١٠٨٧.

(٣) ينظر : «المحرر» (٤ / ٣١٩)

(٤) أخرجه الطبريّ (١٠ / ١٤٦) رقم (٢٧٧٩٠) ، وذكره البغوي (٣ / ٤٦٩) ، وابن عطية (٤ / ٣٢٠) ، وابن كثير (٣ / ٤١٥) ، والسيوطي (٥ / ٢٨٠) ، وعزاه لابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس.

(٥) أخرجه الطبريّ (١٠ / ١٤٧) رقم (٢٧٨٠١) بنحوه ، وذكره ابن عطية (٤ / ٣٢٠) ، وابن كثير (٣ / ٤١٥) ، والسيوطي (٥ / ٢٨١) ، بنحوه ، وعزاه لابن أبي شيبة ، وابن جرير عن أبي الدرداء.

(٦) أخرجه الطبريّ (١٠ / ١٤٧) رقم (٢٧٨٠٢) ، وذكره ابن عطية (٤ / ٣٢٠) ، وابن كثير (٣ / ٤١٥)

٢٩٥

مسعود (١) وأبو قرة (٢) : معناه : ولذكر الله إياكم ؛ أكبر من ذكركم إياه.

وقيل : معناه : ولذكر الله أكبر ؛ مع المداومة من الصلاة في النهي عن الفحشاء والمنكر. وقال ابن زيد وغيره : معناه : ولذكر الله أكبر (٣) من كل شيء. وقيل لسلمان : أيّ الأعمال أفضل؟ فقال : أما تقرأ (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ). والأحاديث في فضل الذّكر كثيرة ؛ لا تنحصر.

وقال ابن العربي في «أحكامه» (٤) : قوله : و (لَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) فيه أربعة أقوال :

الأول : ذكر الله لكم أفضل من ذكركم له ؛ أضاف المصدر إلى الفاعل.

الثاني : ذكر الله أفضل من كل شيء.

الثالث : ذكر الله في الصلاة ؛ أفضل من ذكره في غيرها ؛ يعني : لأنهما عبادتان.

الرابع : ذكر الله في الصلاة ؛ أكبر من الصلاة ؛ وهذه الثلاثة الأخيرة من إضافة المصدر إلى المفعول ، وهذه كلها صحيحة ، وإن للصلاة بركة عظيمة ، انتهى.

قال ع (٥) : وعندي ، أن المعنى : ولذكر الله أكبر على الإطلاق ، أي : هو الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر ، فالجزء الذي منه في الصلاة ؛ يفعل ذلك ، وكذلك يفعل في غير الصلاة ، لأنّ الانتهاء لا يكون إلا من ذاكر لله تعالى ، مراقب له ، وثواب ذلك الذكر أن يذكره الله تعالى ، كما في الحديث الصحيح : «ومن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم» (٦) والحركات التي في الصلاة ؛ لا تأثير لها في نهي ، والذكر النافع هو مع العلم ؛ وإقبال القلب وتفرّغه إلا من الله تعالى. وأما ما لا يتجاوز اللسان ففي رتبة أخرى ، وذكر الله تعالى للعبد ؛ هو إفاضة الهدى ونور العلم عليه ؛ وذلك ثمرة ذكر العبد ربّه.

__________________

(١) ذكره ابن عطية (٤ / ٣٢٠) ، وابن كثير (٣ / ٤١٥) ، والسيوطي (٥ / ٢٨٠) ، وعزاه لابن أبي شيبة ، وعبد الله بن أحمد بن حنبل في «زوائد الزهد» ، وابن جرير عن ابن مسعود.

(٢) أخرجه الطبريّ (١٠ / ١٤٧) رقم (٢٧٨٠٣) ، وذكره ابن عطية (٤ / ٣٢٠) ، والسيوطي (٥ / ٢٨٠) ، وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير عن جابر قال : سألت أبا قرة.

(٣) ذكره ابن عطية (٤ / ٣٢٠)

(٤) ينظر : «أحكام القرآن» (٣ / ١٤٨٧)

(٥) ينظر : «المحرر» (٤ / ٣٢٠)

(٦) تقدم تخريجه ، وهو حديث : «أنا عند ظن عبدي بي».

٢٩٦

قال الله عزوجل : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) [البقرة : ١٥٢].

وعبارة الشيخ ابن أبي جمرة : (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) معناه : ذكره لك في الأزل أن جعلك من الذاكرين له ؛ أكبر من ذكرك أنت الآن له ، انتهى.

قال القشيريّ في «رسالته» : الذكر ركن قوي في طريق الحق سبحانه ؛ وهو العمدة في هذا الطريق ؛ ولا يصل أحد إلى الله سبحانه إلا بدوام الذكر ، ثم الذكر على ضربين : ذكر باللسان ، وذكر بالقلب ، فذكر اللسان : به يصل العبد إلى استدامة ذكر القلب ، والتأثير لذكر القلب ، فإذا كان العبد ذاكرا بلسانه ، وقلبه ؛ فهو الكامل في وصفه ، سمعت أبا علي الدقاق يقول : الذكر منشور الولاية ، فمن وفّق للذكر ؛ فقد وفّق للمنشور ؛ ومن سلب الذكر فقد عزل ، والذكر بالقلب مستدام في عموم الحالات. وأسند القشيريّ عن المظفر الجصاص قال : كنت أنا ونصر الخراط ليلة في موضع ؛ فتذاكرنا شيئا من العلم ؛ فقال الخراط : الذاكر لله تعالى فائدته في أول ذكره : أن يعلم أنّ الله ذكره ؛ فبذكر الله له ذكره ، قال : فخالفته ، فقال : لو كان الخضر هاهنا لشهد لصحته ، قال : فإذا نحن بشيخ يجيء بين السماء والأرض ، حتى بلغ إلينا وقال : صدق ؛ الذاكر لله بفضل الله ، وذكره له ذكره ، فعلمنا أنه الخضر عليه‌السلام ، انتهى. وباقي الآية ضرب من التوعّد وحثّ على المراقبة ، قال الباجيّ في «سنن الصالحين» : قال بعض العلماء : إن الله عزوجل يقول : «أيّما عبد اطّلعت على قلبه ؛ فرأيت الغالب عليه التمسّك بذكري ؛ تولّيت سياسته ، وكنت جليسه ومحادثه وأنيسه». انتهى.

(وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٤٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (٤٧) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ) (٤٩)

وقوله تعالى : (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) هذه الآية مكية ، ولم يكن يومئذ قتال ، وكانت اليهود يومئذ بمكة ؛ وفيما جاورها ، فربما وقع بينهم وبين بعض المؤمنين جدال واحتجاج في أمر الدين ؛ وتكذيب ، فأمر الله المؤمنين ألا يجادلوهم إلا بالتي هي أحسن ؛ دعاء إلى الله تعالى وملاينة ، ثم استثنى من ظلم منهم المؤمنين ؛ وحصلت منه أذية ؛ فإن هذه الصنيفة استثني لأهل الإسلام معارضتها ؛ بالتغيير عليها ،

٢٩٧

والخروج معها عن التي هي أحسن. ثم نسخ هذا بعد بآية القتال ؛ وهذا قول قتادة (١) ؛ وهو أحسن ما قيل في تأويل الآية.

ت : قال عز الدين بن عبد السلام في «اختصاره لقواعد الأحكام» (٢) : فائدة : لا يجوز الجدال والمناظرة إلا لإظهار الحقّ ونصرته ؛ ليعرف ويعمل به ، فمن جادل لذلك ؛ فقد أطاع ، ومن جادل لغرض آخر ، فقد عصى وخاب ، ولا خير فيمن يتحيّل لنصرة مذهبه ؛ مع ضعفه وبعد أدلته من الصواب ، انتهى.

تنبيه : روى الترمذيّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «الحياء والعيّ : شعبتان من الإيمان ، والبذاء والبيان شعبتان من النّفاق» (٣). وروى أبو داود والترمذيّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إنّ الله يبغض البليغ من الرجال الّذي يتخلّل بلسانه كما تتخلّل البقرة بلسانها» حديث (٤)

__________________

(١) أخرجه الطبريّ (١٠ / ١٥٠) رقم (٢٧٨٢٢) بنحوه ، وذكره البغوي (٣ / ٤٧٠) بنحوه ، وابن عطية (٤ / ٣٢١) بنحوه ، وابن كثير بنحوه (٣ / ٤١٥) ، والسيوطي (٥ / ٢٨٢) ، وعزاه لأبي داود في «ناسخه» ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن الأنباري في «المصاحف» عن قتادة.

(٢) قال «المقري» في «قواعده» : لا يجوز التعصب إلى المذاهب بالانتصاب للانتصار بوضع الحجاج ، وتقريبها على الطرق الجدلية مع اعتقاد الخطأ ، أو المرجوحية عند المجيب ، كما يفعله أهل الخلاف ، إلا على وجه التدريب على نصب الأدلة ، والتعليم لسلوك الطريق بعد بيان ما هو الحق ، فالحق أعلى من أن يعلى ، وأغلب من أن يغلب. وقال أيضا : ولا يجوز رد الأحاديث إلى المذاهب على وجه ينقص من بهجتها ، ويذهب بالثقة بظاهرها ؛ فإن ذلك إفساد لها ، وغض من منزلتها ، لا أصلح الله المذاهب بفسادها ، ولا رفعها بخفض درجاتها ، فكل كلام يؤخذ منه ويرد إلا ما صح لنا عن سيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بل لا يجوز الرد مطلقا ؛ لأن الواجب أن ترد المذاهب إليها كما قال «الإمام الشافعي» ، لا أن ترد هي إلى المذاهب ولله درّ علي ـ رضي الله عنه ـ أي بحر علم ضم جنباه! ـ إذ قال لكميل بن زياد لما قال له : أترانا نعتقد أنك على الحق ، وأن طلحة ، والزبير على الباطل؟! : اعرف الرجل بالحق ، ولا تعرف الحق بالرجال ، اعرف الحق تعرف أهله.

وما أحسن قول أرسطو لما خالف أستاذه أفلاطون : تخاصم الحقّ وأفلاطون ، وكلاهما صديق لي ، والحق أصدق منه. انظر «القواعد» (٢ / ٣٩٧) وما بعدها بتصرف ، وينظر : «القواعد الصغرى» بتحقيقنا ص ١٠٩.

(٣) أخرجه الترمذيّ (٤ / ٣٧٥) كتاب البر والصلة : باب ما جاء في العي ، حديث (٢٠٢٧) ، وأحمد (٥ / ٢٦٩) ، والحاكم (١ / ٩) ، والبغوي في «شرح السنة» (٦ / ٤١٠ ـ بتحقيقنا) كلهم من طريق محمد بن مطرف أبي غسان عن حسان بن عطية عن أبي أمامة مرفوعا.

وقال الترمذيّ : هذا حديث حسن غريب ، إنما نعرفه من حديث أبي غسان محمد بن مطرف.

وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه.

(٤) أخرجه أبو داود (٢ / ٧٢٠) كتاب الأدب : باب ما جاء في المتشدق في الكلام ، حديث (٥٠٠٥) ، والترمذيّ (٥ / ١٤١) كتاب الأدب : باب ما جاء في الفصاحة والبيان ، حديث (٢٨٥٣) ، وأحمد (٢ / ١٦٥ ، ١٨٧) من طريق نافع بن عمر الجمحي عن بشر بن عاصم عن أبيه عن عبد الله بن عمرو مرفوعا.

وقال الترمذيّ : هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.

٢٩٨

غريب ، انتهى ؛ وهما في «مصابيح البغوي». وروى أبو داود عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من تعلّم صرف الكلام ليسبي به قلوب الرجال ، أو النّاس ـ لم يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا» (١) انتهى.

وقوله تعالى : (وَقُولُوا آمَنَّا) الآية ، قال أبو هريرة : كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ؛ ويفسرونها بالعربية للمسلمين ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تصدّقوا أهل الكتاب ، ولا تكذّبوهم (٢)» ، وقولوا : (آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)» وروى ابن مسعود ؛ أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء ، فإنّهم لن يهدوكم ؛ وقد ضلّوا : إمّا أن تكذّبوا بحقّ ، وإمّا أن تصدّقوا بباطل» (٣).

وقوله تعالى : (فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) يريد : التوراة والإنجيل ؛ كانوا في وقت نزول الكتاب عليهم يؤمنون بالقرآن. ثم أخبر عن معاصري نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن منهم أيضا من يؤمن به ولم يكونوا آمنوا بعد ، ففي هذا إخبار بغيب ؛ بيّنه الوجود بعد ذلك.

قوله تعالى : (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ) يشبه أن يراد بهذا الانحناء كفار قريش. ثم بيّن تعالى الحجة وأوضح البرهان : أن مما يقوي أنّ نزول هذا القرآن من عند الله ؛ أن محمدا ـ عليه‌السلام ـ جاء به في غاية الإعجاز والطول والتضمّن للغيوب ، وغير ذلك؟ وهو أمّيّ ؛ لا يقرأ ولا يكتب ؛ ولا يتلو كتابا / ولا يخط حروفا ؛ ولا سبيل له إلى التعلم ، ولو كان ممن يقرأ أو يخط ، لارتاب المبطلون ، وكان لهم في ارتيابهم معلّق ، وأما ارتيابهم مع وضوح هذه الحجة ؛ فظاهر فساده.

قوله تعالى : (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ) يعني : القرآن ، ويحتمل أن يعود على أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم و (الظَّالِمُونَ) و (الْمُبْطِلُونَ) يعمّ لفظهما كلّ مكذّب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولكنّ عظم

__________________

(١) أخرجه أبو داود (٢ / ٧٢٠) كتاب الأدب : باب ما جاء في المتشدق في الكلام ، حديث (٥٠٠٦) من حديث أبي هريرة.

(٢) أخرجه البخاري (١٣ / ٣٤٥) كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة : باب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء» ، حديث (٧٣٦٢) وفي (١٣ / ٥٢٥) كتاب التوحيد : باب ما يجوز من تفسير التوراة ، حديث (٧٥٤٢) ، والطبريّ في «تفسيره» (١٠ / ١٥١) رقم (٢٧٨٢٣) من حديث أبي هريرة.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٢٨٢) ، وزاد نسبته إلى النسائي ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في «الشعب».

(٣) أخرجه الطبريّ في «تفسيره» (١٠ / ١٥١) رقم (٢٧٨٢٥) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٢٨٢) ، وزاد نسبته إلى عبد الرزاق.

٢٩٩

الإشارة بهما إلى قريش ؛ لأنهم الأهم ؛ قاله مجاهد (١).

(وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (٥٢)

(وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ) الضمير في : (قالُوا) لقريش ولبعض اليهود ؛ لأنهم كانوا يعلّمون قريشا مثل هذه الحجة ؛ على ما مر في غير ما موضع. ثم احتج عليهم في اقتراحهم آية بأمر القرآن الذي هو أعظم الآيات ؛ ومعجز للجن والإنس ؛ فقال سبحانه : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ ...) الآية.

وقوله : (آمَنُوا بِالْباطِلِ) يريد : الأصنام وما في معناها.

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٣) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٥٤) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٥) يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) (٥٦)

وقوله تعالى : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) يريد : كفار قريش ، وباقي الآية بيّن مما تقدم مكرّرا والله الموفق بفضله. و (بَغْتَةً) : معناه : فجأة : وهذا هو عذاب الدنيا ؛ كيوم بدر ونحوه. ثم توعدهم سبحانه بعذاب الآخرة في قوله : (يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ ...) الآية.

وقوله تعالى : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ...) الآيات ، هذه الآيات نزلت في تحريض المؤمنين الكائنين بمكّة على الهجرة. قال ابن جبير (٢) ، وعطاء (٣) ومجاهد (٤) : إن الأرض التي فيها الظلم والمنكر ؛ تترتب فيها هذه الآية وتلزم

__________________

(١) أخرجه الطبريّ (١٠ / ١٥٢) رقم (٢٧٨٣٢) بنحوه ، وذكره ابن عطية (٤ / ٣٢٢) ، والسيوطي (٥ / ٢٨٣) بنحوه ، وعزاه لابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد.

(٢) أخرجه الطبريّ (١٠ / ١٥٦) رقم (٢٧٨٤٥ ـ ٢٧٨٤٦) بنحوه ، وذكره البغوي (٣ / ٤٧٢) بنحوه ، وابن عطية (٤ / ٣٢٤) ، والسيوطي (٥ / ٢٨٥) بنحوه ، وعزاه لابن أبي شيبة عن سعيد بن جبير.

(٣) أخرجه الطبريّ (١٠ / ١٥٦) رقم (٢٧٨٤٧) بنحوه ، وذكره البغوي (٣ / ٤٧٢) بنحوه ، وابن عطية (٤ / ٣٢٤) ، والسيوطي (٥ / ٢٨٥) ، وعزاه لابن أبي الدنيا في «العزلة» ، وابن جرير عن عطاء.

(٤) أخرجه الطبريّ (١٠ / ١٥٦) رقم (٢٧٨٤٩) بنحوه ، وذكره البغوي (٣ / ٤٧٢) بنحوه ، وابن عطية (٤ / ٣٢٤) ، والسيوطي (٥ / ٢٨٥) ، وعزاه للفريابي ، وابن جرير عن مجاهد.

٣٠٠