تفسير الثعالبي - ج ٤

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي

تفسير الثعالبي - ج ٤

المؤلف:

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٥

قال ع (١) : وإذا كان الفزع الأكبر لا ينالهم فهم حريّون أن لا ينالهم هذا.

وقرأ حمزة (٢) : «وكلّ أتوه» على صيغة الفعل الماضي ، والدّاخر : المتذلّل الخاضع ، قال ابن عباس وابن زيد : الداخر : الصاغر ، وقد تظاهرت الروايات بأنّ الاستثناء في هذه الآية إنما أريد به الشهداء : لأنهم أحياء عند ربهم يرزقون ، وهم أهل للفزع ؛ لأنّهم بشر لكن فضّلوا بالأمن في ذلك اليوم.

ت : واختار الحليميّ هذا القول قال : ـ وهو مروي عن ابن عباس ـ : إن المستثنى هم الشهداء. وضعّف ما عداه من الأقوال ، قال القرطبي (٣) ، في «تذكرته» : وقد ورد في حديث أبي هريرة ؛ بأنّهم الشهداء ؛ وهو حديث صحيح (٤) ، انتهى.

(وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (٨٨) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٩٠)

وقوله تعالى : (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً ...) الآية ، هذا وصف حال الأشياء يوم القيامة عقب النّفخ في الصور ، والرؤية : هي بالعين ، قال ابن عباس : جامدة (٥) : قائمة ، والحسنة الإيمان ، وقال ابن عباس وغيره : هي «لا إله إلا الله» (٦) وروي عن علي بن الحسين أنه قال : كنت في بعض خلواتي فرفعت صوتي : ب «لا إله إلا الله» فسمعت قائلا يقول : إنها الكلمة التي قال الله فيها : «من جاء بالحسنة فله خير منها» (٧).

__________________

(١) ينظر : «المحرر» (٤ / ٢٧٢)

(٢) وبها قرأ حفص عن عاصم. وقرأ الباقون بالمد «آتوه» اسم فاعل ، واحتجوا بقوله تعالى : (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) [مريم : ٩٥].

ينظر : «الحجة» ٥ / ٤٠٦ ، و «السبعة» (٤٨٧) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ١٦٥) ، و «معاني القراءات» (٢ / ٢٤٧) ، و «شرح الطيبة» (٥ / ١١٧) ، و «العنوان» (١٤٦) ، و «حجة القراءات» (٥٣٨) ، و «شرح شعلة» (٥٣١) ، و «إتحاف» (٢ / ٣٣٥)

(٣) ينظر : «التذكرة» للقرطبي (١ / ٢٣٣)

(٤) هو موقوف عن أبي هريرة.

ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٢٢١) ، وعزاه لسعيد بن منصور ، وابن جرير.

(٥) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٢١) رقم (٢٧١٢٤) ، وابن عطية (٤ / ٢٧٣) ، والسيوطي (٥ / ٢٢١) ، وعزاه لابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس.

(٦) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٢٢) رقم (٢٧١٣١) ، وذكره ابن عطية (٤ / ٢٧٣) ، والسيوطي (٥ / ٢٢٣) ، وعزاه لابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن ابن عباس.

(٧) ذكره ابن عطية ؛ (٤ / ٢٧٣) ، وابن كثير (٣ / ٣٧٨)

٢٦١

وقال ابن زيد : يعطى بالحسنة الواحدة عشرا (١).

قال ع (٢) : والسيئة التي في هذه الآية هي الكفر والمعاصي. فيمن حتّم الله عليه من أهل المشيئة بدخول النار.

(إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (٩٢) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (٩٣)

وقوله : (إِنَّما أُمِرْتُ) المعنى : قل يا محمد لقومك : إنما أمرت أن أعبد ربّ هذه البلدة ، يعني : مكة ، (وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ) معناه : تابع في قراءتك ، أي : بين آياته واسرد.

قال ص : (وَأَنْ أَتْلُوَا) معطوف على «أن أكون».

وقرأ عبد الله (٣) : «وأن اتل» بغير واو وقوله : (وَمَنْ ضَلَ) جوابه محذوف يدلّ عليه ما قبله ، أي : فوبال ضلاله عليه ، أو يكون الجواب : فقل ، ويقدّر ضمير عائد من الجواب على الشرط ؛ لأنه اسم غير ظرف ، أي : من المنذرين له ، انتهى. وتلاوة القرآن سبب الاهتداء إلى كل خير.

وقوله تعالى : (سَيُرِيكُمْ آياتِهِ) توعّد بعذاب الدّنيا كبدر ونحوه ، وبعذاب الآخرة.

(وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) فيه وعيد.

__________________

(١) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٢٣) رقم (٢٧١٥١) ، وذكره ابن عطية (٤ / ٢٧٣)

(٢) ينظر : «المحرر» (٤ / ٢٧٤)

(٣) ينظر : «الشواذ» ص ١١٢ ، و «الكشاف» (٣ / ٣٨٩) ، و «المحرر الوجيز» (٤ / ٢٧٤) ، و «البحر المحيط» (٧ / ٩٦) ، و «الدر المصون» (٥ / ٣٣٠)

٢٦٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وصلّى الله على سيّدنا ومولانا محمّد وعلى آله

تفسير «سورة القصص»

وهي مكّيّة

إلّا قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) فإنّها نزلت بالجحفة في وقت هجرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة ؛ قاله ابن سلام وغيره ، وقال مقاتل : فيها من المدني : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) إلى قوله (لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ).

(طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٤) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (٥) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (٦) وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (٨) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (٩)

قوله تعالى : (طسم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى ...) الآية ، معنى (نَتْلُوا) : نقصّ وخصّ تعالى بقوله (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) من حيث إنهم هم المنتفعون بذلك دون غيرهم ، و (عَلا فِي الْأَرْضِ) أي : علوّ طغيان وتغلّب ، و (فِي الْأَرْضِ) يريد أرض مصر ، والشيع : الفرق ، والطائفة المستضعفة : هم بنو إسرائيل ، (يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ) خوف خراب ملكه على ما أخبرته كهنته ، أو لأجل رؤيا رآها ؛ قاله السدي (١). وطمع بجهله أن يردّ القدر ، وأين هذا المنزع من قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمر : «إن يكنه

__________________

(١) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٢٧) رقم (٢٧١٦٠) بنحوه ، وذكره ابن عطية (٤ / ٢٧٦)

٢٦٣

فلن تسلّط عليه ، وإن لم يكنه ، فلا خير لك في قتله» (١) يعني : ابن صيّاد ؛ إذ خاف عمر أن يكون هو الدّجّال ، وباقي الآية بيّن ؛ وتقدّم قصصه. والأئمة : ولاة الأمور ؛ قاله قتادة (٢).

(وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) يريد : أرض مصر والشام ، وقرأ حمزة (٣) : «ويرى فرعون» ـ بالياء وفتح الراء ـ والمعنى : ويقع فرعون وقومه فيما خافوه وحذروه من جهة بني إسرائيل ، وظهورهم ، وهامان : هو وزير فرعون وأكبر رجاله ، وهذا الوحي إلى أم موسى ، قيل : وحي إلهام ، وقيل : بملك.

وقيل : في منام وجملة الأمر أنها علمت أنّ هذا الذي وقع في نفسها هو من عند الله ، قال السدي وغيره : أمرت أن ترضعه عقب الولادة ، وتصنع به ما في الآية (٤) ؛ لأن الخوف كان عقب كلّ ولادة ، واليمّ : معظم الماء ، والمراد : نيل مصر ، واسم أم موسى يوحانذ (٥) ، وروي في قصص هذه الآية : أنّ أمّ موسى لفّته في ثيابه وجعلت له تابوتا صغيرا ، وسدّته عليه بقفل ، وعلّقت مفتاحه عليه ، وأسلمته ثقة بالله وانتظارا لوعده سبحانه ، فلما غاب عنها عاودها بثّها وأسفت عليه ، وأقنطها الشيطان فاهتمّت به وكادت تفتضح ، وجعلت الأخت تقصّه ، أي : تطلب أثره ، وتقدّم باقي القصة في «طه» وغيرها ، والالتقاط : اللقاء عن (٦) غير قصد ، وآل فرعون : أهله وجملته ، واللام في (لِيَكُونَ) : لام العاقبة.

وقال ص : (لِيَكُونَ) : اللام للتعليل المجازيّ ، ولمّا كان مآله إلى ذلك ، عبّر عنه بلام العاقبة ، وبلام الصيرورة ، انتهى.

__________________

(١) أخرجه البخاري (١٠ / ٥٧٦ ـ ٥٧٧) كتاب الأدب : باب قول الرجل للرجل : اخسأ ، حديث (٦١٧٣ ـ ٦١٧٤ ـ ٦١٧٥) ، ومسلم (٤ / ٢٢٤٤ ـ ٢٢٤٥) كتاب الفتن : باب ذكر ابن صياد ، حديث (٩٥ / ٢٩٣٠) من حديث عمر.

(٢) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٢٨) رقم (٢٧١٦٦) ، وذكره ابن عطية (٤ / ٢٧٦) ، والسيوطي (٥ / ٢٢٧) ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن جرير عن قتادة.

(٣) ينظر : «السبعة» (٤٩٢) ، و «الحجة» (٥ / ٤٤١) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ١٦٨) ، و «معاني القراءات» (٢ / ٢٤٩) ، و «شرح الطيبة» (٥ / ١٢٠) ، و «العنوان» (١٤٧) ، و «حجة القراءات» (٥٤١) ، و «شرح شعلة» (٥٣٢) ، و «إتحاف» (٢ / ٣٤٠)

(٤) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٢٩ ـ ٣٠) رقم (٢٧١٧٣) ، (٢٧١٧٦) بنحوه ، وذكره ابن عطية (٤ / ٢٧٦ ـ ٢٧٧)

(٥) في أ : يوحاتة.

(٦) في أ : من.

٢٦٤

وقرأ حمزة ، والكسائيّ (١) «وحزنا» ـ بضمّ الحاء وسكون الزاي ـ ، والخاطئ : متعمد الخطإ ، والمخطئ الذي لا يتعمده.

وقوله : (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي : بأنه هو الذي يفسد ملك فرعون على يده ؛ قاله قتادة (٢) وغيره.

(وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١١) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (١٢) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (١٤)

(وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً) أي : فارغا من كلّ شيء إلا من ذكر موسى (٣).

قاله ابن عباس.

قال مالك : هو ذهاب العقل ، وقالت فرقة : (فارِغاً) من الصبر.

وقوله تعالى : (إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ) أي : أمر ابنها ، وروي أنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : كادت أمّ موسى أن تقول : «وابناه وتخرج سائحة على وجهها». والربط على القلب : تأنيسه وتقويته ، و (لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي : من المصدّقين بوعد الله سبحانه وما أوحي إليها به ، و (عَنْ جُنُبٍ) أي : ناحية ، فمعنى (عَنْ جُنُبٍ) : عن بعد لم تدن منه فيشعر لها.

وقوله : (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) معناه : أنها أخته ، ووعد الله المشار إليه هو الذي أوحاه إليها أولا ، إمّا بملك / أو بمنامة ، حسبما تقدّم ، والقول بالإلهام ضعيف أن يقال فيه وعد.

وقوله : (أَكْثَرَهُمْ) يريد به القبط ، والأشدّ : شدة البدن واستحكام أمره وقوته ،

__________________

(١) ينظر : «السبعة» (٤٩٢) ، و «الحجة» (٥ / ٤١٢) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ١٦٨) ، و «معاني القراءات» (٢ / ٢٤٩) ، و «شرح الطيبة» (٥ / ١٢١) ، و «العنوان» (١٤٧) ، و «حجة القراءات» (٥٤٢) ، و «شرح شعلة» (٥٣٢) ، و «إتحاف» (٢ / ٣٤١)

(٢) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٣٤) رقم (٢٧١٩٢) بنحوه ، وذكره ابن عطية (٤ / ٢٧٨) ، والسيوطي (٥ / ٢٢٨ ـ ٢٢٩) ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن جرير عن قتادة.

(٣) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٣٥) رقم (٢٧٢٠١) ، وذكره ابن عطية (٤ / ٢٧٨) ، وابن كثير (٣ / ٣٨١) ، والسيوطي (٥ / ٢٢٩) ، وعزاه للفريابي ، وابن أبي شيبة وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه عن ابن عباس.

٢٦٥

و (اسْتَوى) معناه : تكامل عقله ، وذلك عند الجمهور مع الأربعين. والحكم : الحكمة ، والعلم : المعرفة بشرع إبراهيم عليه‌السلام.

(وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (١٧) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (١٨) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (١٩) وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (٢٠) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢١) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (٢٢) وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) (٢٤)

وقوله تعالى : (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها).

قال السدي : كان موسى في وقت هذه القصة على رسم التعلّق بفرعون ، وكان يركب مراكبه حتى إنه كان يدعى موسى بن فرعون (١) ، فركب فرعون يوما وسار إلى مدينة من مدائن مصر ، فركب موسى بعده ولحق بتلك المدينة في وقت القائلة ، وهو حين الغفلة ؛ قاله ابن عباس (٢) ، وقال أيضا : هو بين العشاء والعتمة ، وقيل غير هذا (٣).

وقوله تعالى : (هذا مِنْ شِيعَتِهِ) أي من بني إسرائيل ، و (عَدُوِّهِ) هم القبط ، و «الوكز» : الضرب باليد مجموعة ، وقرأ ابن مسعود (٤) : «فلكزه» والمعنى : واحد ؛ إلا أن اللّكز في اللّحي ، والوكز على القلب ، و (فَقَضى عَلَيْهِ) معناه : قتله مجهزا ، ولم يرد

__________________

(١) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٤٢) رقم (٢٧٢٥٢) ، وذكره البغوي (٣ / ٤٣٨) ، وابن عطية (٤ / ٢٨٠) ، والسيوطي (٥ / ٢٣١) ، وعزاه لابن جرير ، وابن أبي حاتم عن السدي.

(٢) ذكره ابن عطية (٤ / ٢٨٠)

(٣) ذكره ابن عطية (٤ / ٢٨٠)

(٤) ينظر : «الشواذ» ص ١١٤ ، و «الكشاف» (٣ / ٤٩٨) ، و «المحرر الوجيز» (٤ / ٢٨٠) ، و «البحر المحيط» (٧ / ١٠٥) ، و «الدر المصون» (٥ / ٣٣٥)

٢٦٦

ـ عليه‌السلام ـ قتل القبطيّ ، لكن وافقت وكزته الأجل ؛ فندم ، ورأى أنّ ذلك من نزغ الشيطان في يده ، ثم إن ندامة موسى عليه‌السلام حملته على الخضوع لربّه والاستغفار من ذنبه ، فغفر الله له ذلك ، ومع ذلك لم يزل عليه‌السلام يعيد ذلك على نفسه مع علمه أنه قد غفر له ، حتى إنّه في القيامة يقول : «وقتلت نفسا لم أومر بقتلها» ؛ حسبما صحّ في حديث الشفاعة ، ثم قال موسى ـ عليه‌السلام ـ معاهدا لربه : ربّ بنعمتك عليّ وبسبب إحسانك وغفرانك ، فأنا ملتزم ألّا أكون معينا للمجرمين ؛ هذا أحسن ما تأول.

وقال الطبريّ (١) : إنه قسم ؛ أقسم بنعمة الله عنده.

قال ع (٢) : واحتج أهل الفضل والعلم بهذه الآية في منع خدمة أهل الجور ومعونتهم في شيء من أمورهم ، ورأوا أنها تتناول ذلك ؛ نص عليه عطاء بن أبي رباح وغيره.

قال ابن عباس : ثم إنّ موسى ـ عليه‌السلام ـ مرّ وهو بحالة الترقّب ؛ وإذا ذلك الإسرائيلي الذي قاتل القبطيّ بالأمس يقاتل آخر من القبط (٣) ، وكان قتل القبطيّ قد خفي على الناس واكتتم ، فلما رأى الإسرائيلي موسى ، استصرخه ، بمعنى صاح به مستغيثا فلما رأى موسى ـ عليه‌السلام ـ قتاله لآخر ؛ أعظم ذلك وقال له معاتبا ومؤنّبا : (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) وكانت إرادة موسى ـ عليه‌السلام ـ مع ذلك ، أن ينصر الإسرائيلي ، فلما دنا منهما ، وحبس الإسرائيلي وفزع منه ، وظن أنه ربما ضربه ، وفزع من قوته التي رأى بالأمس ، فناداه بالفضيحة وشهّر أمر المقتول ، ولما اشتهر أنّ موسى قتل القتيل ، وكان قول الإسرائيلي يغلب على النفوس تصديقه على موسى ، مع ما كان لموسى من المقدّمات أتى رأي فرعون وملئه على قتل موسى ، وغلب على نفس فرعون أنه المشار إليه بفساد المملكة ، فأنفد فيه من يطلبه ويأتي به للقتل ، وألهم الله رجلا ؛ يقال إنه مؤمن من آل فرعون أو غيره ، فجاء إلى موسى وبلّغه قبلهم و (يَسْعى) / معناه : يسرع في مشيه ؛ قاله ٥٦ ب الزجاج (٤) وغيره ، وهو دون الجري ، فقال : (يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ ...) الآية.

ت قال الهروي : قوله تعالى : (يَأْتَمِرُونَ بِكَ) أي : يؤامر بعضهم بعضا في

__________________

(١) ينظر : «الطبريّ» (١٠ / ٤٦)

(٢) ينظر : «المحرر» (٤ / ٢٨١)

(٣) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٤٧) رقم (٢٧٢٧٧) ، وذكره البغوي (٣ / ٤٤٠) ، وابن عطية (٤ / ٢٨١)

(٤) ينظر : «معاني القرآن» للزجاج (٤ / ١٣٨)

٢٦٧

قتلك ، وقال الأزهري : الباء في قوله : (يَأْتَمِرُونَ بِكَ) بمعنى : «في» يقال : ائتمر القوم إذا شاور بعضهم بعضا ، انتهى. وعن أبي مجلز ـ واسمه لاحق بن حميد ـ قال : من خاف من أمير ظلما فقال : رضيت بالله ربّا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد نبيّا وبالقرآن حكما وإماما ، نجّاه الله منه ؛ رواه ابن أبي شيبة في «مصنفه» ، انتهى من «السلاح». و (تِلْقاءَ) معناه ناحية مدين ، وبين مصر ومدين مسيرة ثمانية أيام ، وكان ملك مدين لغير فرعون ، ولما خرج عليه‌السلام فارّا بنفسه منفردا حافيا ؛ لا شيء معه ولا زاد وغير عارف بالطريق ؛ أسند أمره إلى الله تعالى وقال : (عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ) ومشى ـ عليه‌السلام ـ حتى ورد ماء مدين ، ووروده الماء ، معناه : بلوغه ، ومدين : لا ينصرف إذ هو بلد معروف ، والأمّة : الجمع الكثير ، و (يَسْقُونَ) معناه : ماشيتهم ، و (مِنْ دُونِهِمُ) معناه : ناحية إلى الجهة الّتي جاء منها ، فوصل إلى المرأتين قبل وصوله إلى الأمّة ، و (تَذُودانِ) معناه : تمنعان ، وتحبسان غنمهما عن الماء ؛ خوفا من السقاة الأقوياء ، و (أَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ) ، أي : لا يستطيع لضعفه أن يباشر أمر غنمه.

وقوله تعالى : (فَسَقى لَهُما).

قالت فرقة : كانت آبارهم مغطاة بحجارة كبار ، فعمد إلى بئر ، وكان حجرها لا يرفعه إلّا جماعة ، فرفعه وسقى للمرأتين. فعن رفع الصخرة وصفته إحداهما بالقوة ، وقيل : وصفته بالقوة ؛ لأنه زحم النّاس وغلبهم على الماء حتى سقى لهما.

وقرأ الجمهور (١) «يصدر الرعاء» ـ على حذف المفعول ـ تقديره : مواشيهم ، وتولّى موسى إلى الظلّ وتعرّض لسؤال ما يطعمه بقوله : (رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) ولم يصرّح بسؤال ؛ هكذا ، روى جميع المفسرين أنّه طلب في هذا الكلام ما يأكله ، قال ابن عباس : وكان قد بلغ به عليه‌السلام الجوع إلى أن اخضرّ لونه من أكل البقل ، ورئيت خضرة البقل في بطنه ، وإنه لأكرم الخلق يومئذ على الله ، وفي هذا معتبرّ وحاكم بهوان الدّنيا على (٢) الله تعالى ، وعن معاذ بن أنس قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أكل طعاما ، فقال :

__________________

(١) وقرأ أبو عمرو وابن عامر «حتى يصدر». وقرأ بها الحسن وأبو جعفر.

ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ٢٨٣) ، و «السبعة» (٤٩٢) ، و «الحجة» (٥ / ٤١٢) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ١٦٩) ، و «معاني القراءات» (٢٥٠) ، و «العنوان» (١٤٧) ، و «حجة القراءات» (٥٤٣) ، و «شرح شعلة» (٥٣٣) ، و «إتحاف» (٢ / ٣٤١)

(٢) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٥٧) رقم (٢٧٣٤٢) بنحوه ، وذكره البغوي (٣ / ٤٤١ ـ ٤٤٢) ، وابن عطية (٤ / ٢٨٤) ، وابن كثير (٣ / ٣٨٣ ، ٣٨٤) ، والسيوطي (٥ / ٢٣٧) ، وعزاه لسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والضياء في «المختارة» عن ابن عباس.

٢٦٨

الحمد لله الّذي أطعمني هذا الطعام ورزقنيه من غير حول منّي ولا قوّة ـ غفر له ما تقدّم من ذنبه ، ومن لبس ثوبا ، فقال : الحمد لله الّذي كساني هذا الثّوب ورزقنيه من غير حول منّي ولا قوّة غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر» (١) رواه أبو داود ؛ واللفظ له ، والترمذيّ وابن ماجه والحاكم في «المستدرك» ، وقال : صحيح على شرط البخاريّ ، وقال الترمذيّ : حسن غريب ، انتهى من «السلاح».

(فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٥) قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (٢٦) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) (٢٨)

وقوله تعالى : (فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ ...) الآية : في هذا الموضع اختصار يدلّ عليه الظاهر ، قدّره ابن إسحاق : فذهبتا إلى أبيهما فأخبرتاه بما كان من الرجل ، فأمر إحدى ابنتيه أن تدعوه له ، فجاءته ، على ما في الآية /. وقوله : (عَلَى اسْتِحْياءٍ) أي : خفرة ، قد سترت وجهها بكمّ درعها ؛ قاله عمر بن الخطاب (٢) ـ رضي الله عنه ـ. وروى الترمذيّ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الحياء من الإيمان والإيمان في الجنّة ، والبذاء من الجفاء ؛ والجفاء في النّار» (٣) قال أبو عيسى : هذا حديث

__________________

(١) أخرجه أبو داود (١ / ٤٤٠) كتاب اللباس : باب ما جاء في اللباس ، حديث (٤٠٢٣) ، والترمذيّ (٥ / ٥٠٨) كتاب الدعوات : باب ما يقول إذا فرغ من الطعام ، حديث (٣٤٥٨) ، وابن ماجه (٢ / ١٠٩٣) كتاب الأطعمة : باب ما يقال إذا فرغ من الطعام ، حديث (٣٢٨٥) ، وأحمد (٣ / ٤٣٩) ، والحاكم (١ / ٥٠٧ ، ٤ / ١٩٢) ، وابن السني في «عمل اليوم والليلة» رقم (٤٦١) كلهم من طريق أبي مرحوم عبد الرحيم بن ميمون عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه به.

وقال الترمذيّ : حديث حسن غريب.

وقال الحاكم : صحيح الإسناد.

(٢) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٥٨) رقم (٢٧٣٥٤) ، وذكره البغوي (٣ / ٤٤٢) بنحوه ، وابن عطية (٤ / ٢٨٤) ، وابن كثير (٣ / ٣٨٤) ، والسيوطي (٥ / ٢٣٨) ، وعزاه لسعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم من طريق عبد الله بن أبي الهذيل عن عمر بن الخطاب.

(٣) أخرجه الترمذيّ (٤ / ٣٦٥) كتاب البر والصلة : باب ما جاء في الحياء ، حديث (٢٠٠٩) ، وأحمد (٢ / ٥٠١) ، وابن حبان (١٩٢٩ ـ موارد) ، والبغوي في «شرح السنة» (٦ / ٥٤٠ ، ٥٤١ ـ بتحقيقنا) كلهم من طريق محمد بن عمرو.

٢٦٩

حسن صحيح ؛ انتهى.

والجمهور أن الداعي لموسى ـ عليه‌السلام ـ هو شعيب عليه‌السلام وأن المرأتين ابنتاه ، ف (قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ ...) الآية ، فقام يتبعها فهبّت ريح ضمّت قميصها إلى بدنها فتحرّج موسى عليه‌السلام من النظر إليها ؛ فقال لها : امشي خلفي وأرشديني إلى الطريق ، ففهمت عنه ؛ فذلك سبب وصفها له بالأمانة ؛ قاله ابن عباس (١). (فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ) فآنسه بقوله : (لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) فلما فرغ كلامهما قالت إحدى الابنتين (يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) فقال لها أبوها : ومن أين عرفت هذا منه؟ قالت : أمّا قوته ففي رفع الصخرة ، وأمّا أمانته ففي تحرّجه عن النّظر إليّ ؛ قاله ابن عباس (٢) وقتادة وابن زيد وغيرهم ، فقال له الأب عند ذلك : (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ ...) الآية ، قال ابن العربيّ : في «أحكامه» (٣) قوله : (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ) يدلّ على أنه عرض لا عقد ؛ لأنه لو كان عقدا ، لعيّن المعقود عليها ؛ لأن العلماء وإن اختلفوا في جواز البيع ، إذا قال له : بعتك أحد عبديّ هذين بثمن كذا ، فإنهم اتّفقوا على أن ذلك لا يجوز في النكاح ؛ لأنه خيار وشيء من الخيار لا يلحق بالنّكاح (٤). وروي أنه قال شعيب : أيّتهما تريد؟ قال : الصغرى ، انتهى. «وتأجر» معناه : تثيب وجعل شعيب الثمانية الأعوام شرطا ووكل العامين إلى المروءة ، ولما فرغ كلام شعيب قرّره موسى ؛ وكرّر معناه على جهة التوثّق في أن الشرط إنما وقع في ثمان حجج ، و (أَيَّمَا) استفهام نصب ب (قَضَيْتُ) و «ما» صلة للتّأكيد و «لا عدوان» لا تباعة عليّ ، و «الوكيل» : الشاهد القائم بالأمر.

__________________

(١) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٦١) رقم (٢٧٣٧٦) ، (٢٧٣٧٨) بنحوه ، وذكره ابن عطية (٤ / ٢٨٤) ، وابن كثير (٣ / ٣٨٥) بنحوه.

(٢) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٦١) رقم (٢٧٣٧٦) ، وذكره ابن عطية (٤ / ٢٨٤ ـ ٢٨٥) ، وابن كثير (٣ / ٣٨٥)

(٣) ينظر : «أحكام القرآن» (٣ / ١٤٦٩)

(٤) لا يدخل الخيار شرعا إلا عقود المعاوضات اللازمة القابلة للفسخ بتراضي العاقدين ، فغير المعاوضات كالصدقة والهبة بلا ثواب لا يدخلها أي نوع من أنواع الخيار ؛ لأنها شرعت لدفع الضرر ، وهذه العقود نفع محض ، لعدم المقابل فيها ، وأما اشتراط اللزوم ، فلأن المعاوضات الجائزة كالشركة والوكالة لكل من العاقدين أن يفسخها متى شاء بمتقضى العقد ذاته ، فليست هناك من حاجة تدعو إلى إثبات الخيار فيها ، وهو لم يشرع إلا تحت ضغط الحاجة. وأما اشتراط كونها قابلة للفسخ برضا الطرفين ، كالبيع ، والهبة بثواب ، والصلح على مال ، فلأنها لو لم تكن قابلة للفسخ بتراضيهما كالنكاح ، والخلع ، لكان اشتراط الخيار فيها أو ثبوته في أحوال مخصوصة مخالفا لمقتضاها ، لأن الخيار يستلزم جواز الفسخ ، وهي لا تقبله.

٢٧٠

(فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٢٩) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٣٠) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (٣١) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٣٢) قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (٣٣) وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (٣٤) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (٣٥) فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٣٦) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٣٧) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (٣٨) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) (٤٠)

وقوله تعالى : (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ) قال ابن عباس : قضى أكملهما عشر سنين ؛ وأسنده إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١).

وقوله : (إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ* فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ ...) الآية ، تقدّم قصصها ، فانظره في محالّه ، قال البخاريّ : والجذوة قطعة غليظة من الخشب فيها لهب ، انتهى. قال العراقيّ : و «آنس» معناه : أبصر ، انتهى.

وقوله : (مِنَ الشَّجَرَةِ) يقتضي : أن موسى ـ عليه‌السلام ـ سمع ما سمع من جهة الشجرة ، وسمع وأدرك غير مكيّف ولا محدّد.

قال السهيليّ : قيل إن هذه الشجرة عوسجة ، وقيل : علّيقة ، والعوسج إذا عظم قيل له : الغرقد ، انتهى. (وَلَمْ يُعَقِّبْ) معناه : لم يرجع على عقبه من توليته.

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٢٣٩) ، وعزاه إلى البزار ، وأبي يعلى ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والحاكم ، وابن مردويه.

وصححه الحاكم.

٢٧١

وقوله تعالى : (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ) ذهب مجاهد (١) وابن زيد (٢) إلى : أنّ ذلك حقيقة ، أمره بضمّ عضده وذراعه ؛ وهو الجناح إلى جنبه ؛ ليخفّ بذلك ٥٧ ب فزعه ؛ ورهبه ، ومن شأن / الإنسان إذا فعل ذلك في أوقات فزعه ؛ أن يقوى قلبه ، وذهبت فرقة إلى أن ذلك على المجاز ، وأنه أمر بالعزم على ما أمر به ، كما تقول العرب : اشدد حيازيمك ؛ واربط جأشك ، أي : شمّر في أمرك ودع عنك الرهب.

وقوله تعالى : (فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ) قال مجاهد (٣) والسدي (٤) : هي إشارة إلى العصا واليد.

وقرأ الجمهور : «ردءا» ـ بالهمز ـ.

وقرأ نافع (٥) وحده : «ردا» ـ بتنوين الدال دون همز وذلك على التخفيف من ردء ، والردء : الوزير المعين ، وشدّ العضد : استعارة في المعونة ، والسلطان : الحجة.

وقوله : (بِآياتِنا) : متعلّق بقوله (الْغالِبُونَ) أي : تغلبون بآياتنا ؛ وهي المعجزات ، ثم إن فرعون استمر في طريق مخرقته (٦) على قومه ، وأمر هامان بأن يطبخ له الآجرّ وأن يبني له صرحا أي سطحا في أعلى الهواء ، موهما لجهلة قومه أن يطّلع بزعمه في السماء ، ثم قال : (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ) يعني : موسى في أنه أرسله مرسل و (فَنَبَذْناهُمْ) معناه : طرحناهم ، و (الْيَمِ) : بحر القلزم في قول أكثر الناس ؛ وهو الأشهر.

(وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (٤١) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (٤٢) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (٤٣)

__________________

(١) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٧٠) رقم (٢٧٤٣٢) بنحوه ، وذكره البغوي (٣ / ٤٤٥) ، وابن عطية (٤ / ٢٨٧) ، وابن كثير (٣ / ٣٨٨) ، والسيوطي (٥ / ٢٤٣) بنحوه ، وعزاه للفريابي ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد.

(٢) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٧٠) رقم (٢٧٤٣٧) بنحوه ، وذكره ابن عطية (٤ / ٢٨٧) ، وابن كثير (٣ / ٣٨٨) بنحوه.

(٣) ذكره ابن عطية (٤ / ٢٨٧) ، والسيوطي (٥ / ٢٤٣) ، وعزاه للفريابي ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد.

(٤) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٧١) رقم (٢٧٤٣٨) ، وذكره ابن عطية (٤ / ٢٨٧)

(٥) ينظر : «السبعة» (٤٩٤) ، و «الحجة» (٥ / ٤٢٠) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ١٧٥) ، و «معاني القراءات» (٢ / ٢٥٢) ، و «شرح الطيبة» (٥ / ١٢٢) ، و «العنوان» (١٤٧) ، و «حجة القراءات» (٥٤٥) ، و «إتحاف» (٢ / ٣٤٣)

(٦) في : ج : متخوفته.

٢٧٢

وقوله تعالى : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ...) الآية ، عبارة عن حالهم وأفعالهم ، وخاتمتهم ، أي : هم بذلك كالداعين إلى النار ؛ وهم فيه أئمّة من حيث اشتهروا ، وبقي حديثهم ، فهم قدوة لكلّ كافر وعات إلى يوم القيامة ، و (الْمَقْبُوحِينَ) الذين يقبّح كلّ أمرهم ، قولا لهم وفعلا بهم ، قال ابن عباس : هم الذين قبحوا بسواد الوجوه وزرقة العيون (١) ، و (يَوْمَ) ظرف مقدّم (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) يعني : التوراة والقصد بهذا الإخبار التمثيل لقريش ؛ بما تقدم في غيرها من الأمم و (بَصائِرَ) نصب على الحال ، أي : طرائق هادية.

(وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٤٤) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) (٤٥)

وقوله تعالى : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ ...) الآية ، أي : ما كنت يا محمد حاضرا لهذه الغيوب الّتي تخبرهم بها ، ولكنّها صارت إليك بوحينا ، أي : فكان الواجب أن يسارعوا إلى الإيمان بك.

قال السهيلي : وجانب الغربي هو جانب الطور الأيمن ، فحين ذكر سبحانه نداءه لموسى قال : (وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ) [مريم : ٥٢] وحين نفى عن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يكون بذلك الجانب قال : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِ) والغربيّ : هو الأيمن ، وبين اللفظين في ذكر المقامين ما لا يخفى في حسن العبارة وبديع الفصاحة والبلاغة ؛ فإن محمدا عليه‌السلام لا يقال له : ما كنت بالجانب الأيمن ؛ فإنّه لم يزل بالجانب الأيمن مذ كان في ظهر آدم عليه‌السلام ، انتهى.

وقوله سبحانه : (فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) [قال] الثعلبيّ : أي : فنسوا عهد الله ، انتهى. و (قَضَيْنا) معناه : أنفذنا ، و (الْأَمْرَ) يعني : التوراة.

وقالت فرقة : يعني به : ما أعلمه من أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال ع (٢) : وهذا تأويل حسن يلتئم معه ما بعده من قوله (وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً).

ت : قال أبو بكر بن العربيّ : قوله تعالى : (إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ) معناه :

__________________

(١) ذكره البغوي (٣ / ٤٤٧) ، وابن عطية (٤ / ٢٨٩)

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ٢٩٠)

٢٧٣

أعلمناه ، وهو أحد ما يرد تحت لفظ القضاء مرادا ، انتهى من كتاب «تفسير الأفعال الواقعة في القرآن». و «الثاوي» : المقيم.

(وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٦) وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٤٧)

وقوله تعالى : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ) يريد وقت إنزال التوراة إلى موسى ـ عليه‌السلام ـ وقوله : (إِذْ نادَيْنا) روي عن أبي هريرة : أنّه نودي يومئذ من السماء : «يا أمّة محمّد ، استجبت لكم قبل أن تدعوني ، وغفرت لكم قبل أن تسألوني» ، فحينئذ قال موسى عليه‌السلام : اللهمّ اجعلني من أمّة محمد ، فالمعنى : إذ نادينا بأمرك وأخبرنا بنبوّتك.

وقال الطبريّ (١) : معنى قوله : (إِذْ نادَيْنا) : بأن (فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ ...) الآية [الأعراف : ١٥٦].

وقوله سبحانه : (وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ ...) الآية ، المصيبة : عذاب في الدّنيا على كفرهم ، وجواب (لَوْ لا) محذوف يقتضيه الكلام ؛ تقديره : لعاجلناهم بما يستحقّونه.

وقال الزجاج (٢) : تقديره : لما أرسلنا الرسل.

(فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (٤٨) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٩) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٥٠)

وقوله سبحانه : (فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُ) يريد القرآن ومحمدا عليه‌السلام ، والمقالة التي قالتها قريش : (لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى) كانت من تعليم اليهود لهم ؛ قالوا لهم : لم لا يأتي بآية باهرة كالعصا واليد ، وغير ذلك ، فعكس الله عليهم قولهم ، ووقفهم على أنهم قد وقع منهم في تلك الآيات ما وقع من هؤلاء في هذه ، فالضمير في قوله (يَكْفُرُوا) لليهود ، وقرأ الجمهور : «ساحران» والمراد : موسى وهارون.

__________________

(١) ينظر : «الطبريّ» (١٠ / ٧٧)

(٢) ينظر : «معاني القرآن» للزجاج (٤ / ١٤٧)

٢٧٤

قال ع (١) : ويحتمل أن يريد (بِما أُوتِيَ مُوسى) من أمر محمد والإخبار به الذي هو في التوراة.

وقوله : (وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ) يؤيّد هذا التأويل ، وقرأ حمزة والكسائيّ (٢) وعاصم : «سحران» والمراد بهما : التوراة والقرآن ؛ قاله ابن عباس (٣) ، و (تَظاهَرا) : معناه : تعاونا.

وقوله : (أَهْدى مِنْهُما).

قال الثعلبي : يعني : أهدى من كتاب محمد وكتاب موسى ؛ انتهى.

ت : ويحتمل أن يكون الضمير في (يَكْفُرُوا) لقريش كما أشار إليه الثعلبيّ ، وكذا في (قالُوا) لقريش عنده. و (سِحْرانِ) يريدون موسى ومحمدا ـ عليهما‌السلام ـ وهو ظاهر قولهم : (إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ) ؛ لأن اليهود لا يقولون ذلك في موسى في عصر نبينا محمد عليه‌السلام ، ويبيّن هذا كلّه قوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ ...) الآية ، فإنّ ظاهر الآية أنّ المراد قريش وعلى هذا كله مرّ الثعلبيّ ، انتهى.

(وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥١) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (٥٥) إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٥٦) وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (٥٨) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (٥٩) وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٦٠)

__________________

(١) ينظر : «المحرر» (٤ / ٢٩١)

(٢) ينظر : «السبعة» (٤٩٥) ، و «الحجة» (٥ / ٤٢٣) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ١٧٧) ، و «معاني القراءات» (٢ / ٢٥٤) ، و «شرح الطيبة» (٥ / ١٢٣) ، و «العنوان» (١٤٧) ، و «حجة القراءات» (٥٤٧) ، و «شرح شعلة» (٥٣٤) ، و «إتحاف» (٢ / ٣٤٤)

(٣) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٨٠) رقم (٢٧٤٨٤) ، وذكره ابن عطية (٤ / ٣٩١) ، وابن كثير (٣ / ٣٩٢) ، والسيوطي (٥ / ٢٤٨) ، وعزاه لابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس.

٢٧٥

وقوله تعالى : (وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ ...) الآية ؛ الذين وصّل لهم القول : هم قريش ؛ قاله مجاهد (١) وغيره ، قال الجمهور : والمعنى : وأصلنا لهم في القرآن ، وتابعناه موصولا بعضه ببعض في المواعظ والزواجر ، والدعاء ، إلى الإسلام. وذهبت فرقة إلى : أنّ الإشارة بتوصيل القول إنما هي إلى الألفاظ ، فالمعنى (٢) : ولقد وصّلنا لهم قولا معجزا دالّا على نبؤتك.

قال ع (٣) : والمعنى الأول تقديره : ولقد وصلنا لهم قولا يتضمّن معاني ؛ من تدبّرها اهتدى. ثم ذكر ـ تعالى ـ القوم الذين آمنوا بمحمد من أهل الكتاب مباهيا بهم قريشا. واختلف في تعيينهم فقال الزهري : الإشارة : إلى النّجاشيّ (٤).

وقيل : إلى سلمان ، وابن سلام ، وأسند الطبريّ (٥) إلى رفاعة القرظي ، قال : نزلت ٥٨ ب هذه الآية / في اليهود في عشرة أنا أحدهم ، أسلمنا فأوذينا (٦) ؛ فنزلت فينا هذه الآية. والضمير في (قَبْلِهِ) يعود على القرآن. و (أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ) معناه : على ملّتين ؛ وهذا المعنى هو الذي قال فيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ثلاثة يؤتون أجرهم مرّتين ؛ رجل من أهل الكتاب آمن بنبيّه وآمن بي ...» الحديث (٧). و (يَدْرَؤُنَ) معناه : يدفعون ؛ وهذا وصف لمكارم الأخلاق ، أي : يتغابون ومن قال لهم سوءا لاينوه وقابلوه من القول الحسن بما يدفعه ، واللغو سقط القول ، والقول يسقط لوجوه يعزّ حصرها ، والمراد منه في الآية : ما كان سبّا وأذى ونحوه ؛ فأدب الإسلام الإعراض عنه. و (سَلامٌ) في هذا الموضع قصد به المتاركة لا التحيّة. قال

__________________

(١) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٨٤) رقم (٢٧٥٠١ ـ ٢٧٥٠٢) ، وذكره ابن عطية (٤ / ٢٩١) ، وابن كثير (٣ / ٣٩٣) ، والسيوطي (٥ / ٢٤٩) ، وعزاه للفريابي ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد.

(٢) في ج : لمعنى.

(٣) ينظر : «المحرر» (٤ / ٢٩١)

(٤) ذكره ابن عطية (٤ / ٢٩٢)

(٥) ينظر : «الطبريّ» (١٠ / ٨٤)

(٦) ذكره ابن عطية (٤ / ٢٩٢)

(٧) أخرجه البخاري (١ / ٢٢٩) كتاب العلم : باب تعليم الرجل أمته (٩٧) ، ومن (٥ / ٢٠٥) كتاب العتق : باب فضل من أدب جاريته وعلمها (٢٥٤٤) ، ومن (٥ / ٢٠٧) باب العبد إذا أحسن عبادة ربه (٢٥٤٧) ، ومن (٥ / ٢١٠) باب كراهية التطاول على الرقيق (٢٥٥١) ، ومن (٦ / ١٦٩) كتاب الجهاد : باب فضل من أسلم (٣٠١١) ، ومن (٦ / ٥٥١) كتاب أحاديث الأنبياء : باب قول الله تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا) (٣٤٤٦) ، ومن (٩ / ٢٩) كتاب النكاح باب اتخاذ السراري (٥٠٨٣) ، ومسلم (١ / ١٣٤ ـ ١٣٥) كتاب الإيمان : باب وجوب الإيمان برسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢٤١ / ١٥٤)

٢٧٦

الزجاج : وهذا قبل الأمر بالقتال ، و (لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) معناه : لا نطلبهم للجدال والمراجعة والمشاتمة.

ت : قال ابن المبارك في «رقائقه» : أخبرنا حبيب بن حجر القيسي ، قال : كان يقال : ما أحسن الإيمان يزينه العلم ، وما أحسن العلم يزينه العمل ، وما أحسن العمل يزينه الرفق ، وما أضفت شيئا إلى شيء ، مثل حلم إلى علم ، انتهى. وأجمع جلّ المفسرين على أنّ قوله تعالى : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) إنما نزلت في شأن أبي طالب ، فروى أبو هريرة وغيره «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل عليه ، وهو يجود بنفسه ، فقال له : أي عمّ ، قل : لا إله إلّا الله ، كلمة أشهد لك بها عند الله ...» الحديث (١) قد ذكرناه في سورة : «براءة» ، فمات أبو طالب على كفره ، فنزلت هذه الآية فيه.

قال أبو روق : قوله تعالى : (وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) إشارة إلى العباس (٢) ، والضمير في قوله : (وَقالُوا) لقريش.

قال ابن عباس : والمتكلّم بذلك فيهم الحارث بن نوفل ، وحكى الثعلبيّ أنه قال له : إنا لنعلم أن الذي تقول حقّ ولكن إن اتبعناك تخطّفتنا العرب. وتجبى : معناه : تجمع وتجلب.

وقوله : (كُلِّ شَيْءٍ) يريد مما به صلاح حالهم ، ثم توعّد قريشا بقوله (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ) و (بَطِرَتْ) معناه : سفهت وأشرت وطغت ؛ قاله ابن زيد (٣) وغيره.

ت : قال الهروي : قوله تعالى : (بَطِرَتْ مَعِيشَتَها) ، أي : في معيشتها ، والبطر : الطغيان عند النّعمة ، انتهى. ثم أحالهم على الاعتبار في خراب ديار الأمم المهلكة كحجر ثمود ، وغيره. ثمّ خاطب تعالى قريشا محقّرا لما كانوا يفتخرون به من مال وبنين ، وأنّ ذلك متاع الدنيا الفاني ، وأنّ الآخرة وما فيها من النّعيم الذي أعدّه الله للمؤمنين خير وأبقى.

ت : وفي الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لو كانت الدّنيا تعدل عند الله جناح

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) ذكره ابن عطية (٤ / ٢٩٣)

(٣) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٩٠) رقم (٢٧٥٣٨) بنحوه ، وذكره ابن عطية (٤ / ٢٩٣)

٢٧٧

بعوضة ما سقى كافرا منها شربة» (١) رواه الترمذيّ من طريق سهل بن سعد ، قال : وفي الباب عن أبي هريرة ، قال أبو عيسى : هذا حديث صحيح ، انتهى. وباقي الآية بيّن لمن أبصر واهتدى ، جعلنا الله منهم بمنّه.

(أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٦١) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٦٢) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (٦٣) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ) (٦٤)

وقوله سبحانه : (أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ ...) الآية ، معناها ، يعمّ جميع العالم و (مِنَ الْمُحْضَرِينَ) : معناه : في عذاب الله ؛ قاله مجاهد (٢) وقتادة (٣) ، ولفظة (الْمُحْضَرِينَ) مشيرة إلى سوق [بجبر] (٤).

وقوله تعالى : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ) الضمير المتصل ب «ينادي» لعبدة الأوثان ، والإشارة إلى قريش وكفار العرب.

٥٩ أوقوله : (قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) هؤلاء / المجيبون هم كل مغو داع إلى الكفر من الشياطين والإنس ؛ طمعوا في التبرّي من متّبعيهم ؛ فقالوا ربّنا هؤلاء إنّما أضللناهم كما ضللنا نحن باجتهاد لنا ولهم ، وأحبوا الكفر كما أحببناه (تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ). ثم أخبر تعالى : أنه يقال للكفرة العابدين للأصنام : (ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) يعني : الأصنام ، (فَدَعَوْهُمْ) فلم يكن في الجمادات ما يجيب ، ورأى الكفار العذاب.

__________________

(١) أخرجه الترمذيّ (٤ / ٥٦٠) كتاب الزهد : باب ما جاء في هوان الدنيا على الله عزوجل ، حديث (٢٣٢٠) ، وابن ماجه (٢ / ١٣٧٦ ـ ١٣٧٧) كتاب الزهد : باب مثل الدنيا ، حديث (٤١١٠) ، وأبو نعيم في «الحلية» (٣ / ٢٥٣) من طريق أبي حازم عن سهل بن سعد به.

وقال الترمذيّ : حديث صحيح غريب من هذا الوجه.

(٢) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٩٢) رقم (٢٧٥٤٤) بنحوه ، وذكره ابن عطية (٤ / ٢٩٤) ، وابن كثير (٣ / ٣٩٦) بنحوه ، والسيوطي (٥ / ٢٥٦) ، وعزاه للفريابي ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد.

(٣) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٩٢) رقم (٢٧٥٤٢) ، وذكره ابن عطية (٤ / ٢٩٤) ، وابن كثير (٣ / ٣٩٦) ، والسيوطي (٥ / ٢٥٥ ـ ٢٥٦) ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم عن قتادة.

(٤) سقط في ج.

٢٧٨

وقوله تعالى : (لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ) ذهب الزجاج (١) وغيره إلى أن جواب «لو» محذوف. تقديره : لما نالهم العذاب.

وقالت فرقة : لو : متعلقة بما قبلها ، تقديره : فودّوا حين رأوا العذاب لو أنّهم كانوا يهتدون.

(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (٦٥) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (٦٦) فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (٦٧) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٨) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٦٩) وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٧٠) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (٧١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (٧٢)

وقوله سبحانه : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) هذا النداء أيضا للكفّار ، و (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ) : معناه أظلمت عليهم جهاتها.

وقوله : (فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ) معناه ، في قول مجاهد : لا يتساءلون بالأرحام (٢) ويحتمل أن يريد أنهم لا يتساءلون عن الأنباء ، ليقين جميعهم أنه لا حجّة لهم.

وقوله سبحانه : (فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ).

قال كثير من العلماء : «عسى» من الله واجبة.

قال ع (٣) : وهذا ظنّ حسن بالله تعالى يشبه كرمه وفضله سبحانه ، واللازم من «عسى» : أنها ترجية لا واجبة ، وفي كتاب الله تعالى : (عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَ) [التحريم : ٥].

ت : ومعنى الوجوب هنا : الوقوع.

__________________

(١) ينظر : «معاني القرآن» للزجاج (٤ / ١٥١)

(٢) أخرجه الطبريّ (١٠ / ٩٤) رقم (٢٧٥٥٤) بنحوه ، وذكره ابن عطية (٤ / ٢٩٥) ، وابن كثير (٣ / ٣٩٧) بنحوه ، والسيوطي (٥ / ٢٥٧) ، وعزاه للفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد.

(٣) ينظر : «المحرر» (٤ / ٢٩٥)

٢٧٩

وقوله سبحانه : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ...) الآية ، قيل : سببها ، قول قريش : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف : ٣١].

ونحو ذلك من قولهم ؛ فردّ الله عليهم بهذه الآية ، وجماعة المفسرين : أن «ما» نافية ، أي : ليس لهم الخيرة ، وذهب الطبريّ (١) إلى أن (ما) مفعولة ب (يَخْتارُ) أي : ويختار الذي لهم فيه الخيرة ، وعن سعد بن أبي وقاص قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من سعادة ابن آدم استخارته الله ، ومن شقاوته تركه» (٢) رواه الحاكم في «المستدرك» ؛ وقال : صحيح الإسناد ، انتهى من «السلاح». وباقي الآية بيّن. والسرمد من الأشياء : الدّائم الذي لا ينقطع.

(وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٣) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٧٤) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) (٧٥)

ت : وقوله سبحانه : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ...) ، الآية معناها بيّن ، وينبغي للعاقل ألّا يجعل ليله كلّه نوما ؛ فيكون ضائع العمر جيفة بالليل بطّالا بالنّهار ، كما قيل : [الطويل]

نهارك بطّال وليلك نائم

كذلك في الدّنيا تعيش البهائم

فإن أردت أيّها الأخ ؛ أن تكون من الأبرار فعليك بالقيام في الأسحار ، وقد نقل صاحب «الكوكب الدري» عن البزار ؛ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أتدرون ما قالت أمّ سليمان

__________________

(١) ينظر : «الطبريّ» (١٠ / ٩٥)

(٢) أخرجه الحاكم (١ / ٥١٨) ، وأحمد (١ / ١٦٨) من طريق محمد بن أبي حميد عن إسماعيل بن محمد بن سعد عن أبيه عن جده به.

وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. قلت : وهو من أوهامهما ، فالحديث ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٢ / ٢٨٢) وقال : رواه أحمد ، وأبو يعلى ، والبزار ... وفيه محمد بن أبي حميد ، قال ابن عدي : ضعفه بين على ما يرويه ، وحديثه مقارب ، وهو مع ضعفه يكتب حديثه ، وقد ضعفه أحمد والبخاري وجماعة.

ومن طريق محمد بن أبي حميد : أخرجه الترمذيّ (٤ / ٤٥٥) كتاب القدر : باب ما جاء في الرضا بالقضاء ، حديث (٢١٥١) بلفظ : «من سعادة ابن آدم رضاه بما قضى الله له ، ومن شقاوة ابن آدم تركه استخارة الله ، ومن شقاوة ابن آدم سخطه بما قضى الله له».

وقال الترمذيّ : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث محمد بن أبي حميد ، ويقال له أيضا : حماد بن أبي حميد ، وهو أبو إبراهيم المدني ، وليس هو بالقوي عند أهل الحديث.

٢٨٠