تفسير الثعالبي - ج ٤

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي

تفسير الثعالبي - ج ٤

المؤلف:

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٥

ابن العربيّ في «أحكامه» (١) : قوله تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً).

قال علماؤنا : يعني الذين إذا قرأوا القرآن قرأوه بقلوبهم قراءة فهم وتثبيت ، ولم ينثروه نثر الدّقل ، فإنّ المرور عليه بغير فهم ولا تثبيت صمم وعمى ، انتهى. وقرّة العين : من القر وهذا هو الأشهر ؛ لأنّ دمع السرور بارد ، ودمع الحزن سخن ؛ فلهذا يقال : أقرّ الله عينك ، وأسخن الله عين العدوّ ، وقرة العين في الأزواج والذّرّيّة أن يراهم الإنسان مطيعين لله تعالى ؛ قاله ابن عباس والحسن وغيرهما (٢) ، وبيّن المقداد بن الأسود الوجه من ذلك بأنّه كان في أوّل الإسلام يهتدي الأب ، والابن كافر ، أو الزوج والزوجة كافرة ، فكانت قرة أعينهم في إيمان أحبابهم.

(وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) أي : اجعلنا يأتمّ بنا المتقون ، وذلك بأن يكون الدّاعي متّقيا قدوة ، وهذا هو قصد الداعي ، قال النّخعي : لم يطلبوا الرياسة ، بل أن يكونوا قدوة في الدين ، وهذا حسن أن يطلب ويسعى (٣) له.

قال الثعلبي : قال ابن عباس : المعنى : واجعلنا أئمة هدى (٤) ، انتهى ، وهو حسن ، لأنّهم طلبوا أن يجعلهم أهلا لذلك. والغرفة من منازل الجنة وهي الغرف فوق (٥) الغرف ، وهي اسم جنس ؛ كما قال : [من الهزج]

ولو لا الحبّة السمراء

لم نحلل بواديكم

ت : وأخرج أبو القاسم ، زاهر بن طاهر بن محمد بن الشحامي عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ في الجنّة لغرفا ليس لها معاليق من فوقها ولا عماد من تحتها ، قيل : يا رسول الله ، وكيف يدخلها أهلها؟ قال : يدخلونها أشباه الطير ، قيل : هي يا رسول الله لمن؟ قال : هي لأهل الأسقام والأوجاع والبلوى (٦)». انتهى من «التذكرة». وقرأ حمزة (٧) وغيره : «يلقون» بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف.

__________________

(١) ينظر : «أحكام القرآن» (٣ / ١٤٣٣)

(٢) ذكره ابن عطية (٤ / ٢٢٢)

(٣) ذكره ابن عطية (٤ / ٢٢٢)

(٤) أخرجه الطبريّ (٩ / ٤٢٥) برقم (٢٦٥٦٢) ، وذكره السيوطي (٥ / ١٤٩) ، وعزاه لابن المنذر عن ابن عباس.

(٥) في ج : الغرفة فوق فوق الغرف.

(٦) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ١٥٠) ، وعزاه إلى زاهر بن طاهر الشحامي عن أنس.

(٧) وقرأ بها الكسائيّ وأبو بكر.

٢٢١

(قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً) (٧٧)

وقوله تعالى : (قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ) الآية ، ما نافية وتحتمل التقرير ، ثم الآية تحتمل أن تكون خطابا لجميع الناس ، فكأنه قال لقريش منهم : ما يبالي الله بكم ، ولا ينظر إليكم لو لا عبادتكم إيّاه ، أن لو كانت ، إذ ذلك الذي يعبأ بالبشر من أجله ؛ قال تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦]. وقال النقاش وغيره : المعنى : لو لا استغاثتكم إليه في الشدائد ، وقرأ ابن الزبير (١) وغيره : «فقد كذّب الكافرون» وهذا يؤيّد أنّ الخطاب بما يعبأ هو لجميع الناس ، ثم يقول لقريش : فأنتم قد كذبتم ، ولم تعبدوه فسوف يكون العذاب أو التكذيب الذي هو سبب العذاب لزاما ، ويحتمل أن يكون الخطاب بالآيتين لقريش [خاصة] (٢) وقال الداوديّ : وعن ابن عيينة : (لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) معناه : لو لا دعاؤكم إيّاه لتطيعوه ، انتهى ، قال ابن العربيّ في «أحكامه» (٣) : زعم بعض الأدباء أنّ «لو لا دعاؤكم» معناه : لو لا سؤالكم إيّاه وطلبكم منه ، ورأى أنّه مصدر أضيف إلى فاعل ، وليس كما زعم ؛ وإنما هو مصدر أضيف إلى مفعول ، والمعنى : قل يا محمد للكفار : لو لا دعاؤكم ببعثة الرسول إليكم وتبين الأدلة لكم فقد كذبتم ؛ فسوف يكون لزاما ؛ ذكر هذا عند قوله تعالى : (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً) [النور : ٦٣]. في آخر سورة النور ، انتهى.

ت والحق أنّ الآية محتملة لجميع ما تقدم ، ومن ادّعى التخصيص فعليه بالدليل ، والله أعلم.

ويعبأ : مشتق من العبء وهو الثقل الذي يعبّأ ويرتب كما يعبأ الجيش.

__________________

ـ وحجتهم قوله تعالى : (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) ، [مريم : ٥٩]. وقوله : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً) [الفرقان : ٦٨].

وحجة الباقين قوله : (وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً) [الإنسان : ١١].

ينظر : «حجة القراءات» (٥١٥) ، و «السبعة» (٤٦٨) ، و «الحجة» (٥ / ٣٥٤) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ١٢٨) ، و «معاني القراءات» (٢ / ٢٢١) ، و «شرح الطيبة» (٥ / ٩٨) ، و «العنوان» (١٤١) ، و «حجة القراءات» (٥١٥) ، و «شرح شعلة» (٥٣٠) ، و «إتحاف» (٢ / ٣١١)

(١) وقرأ بها ابن عباس.

ينظر : «مختصر الشواذ» ص ١٠٧ ، و «المحتسب» (٢ / ١٢٦) ، و «المحرر الوجيز» (٤ / ٢٢٣) ، و «البحر المحيط» (٦ / ٤٧٥) ، وزاد نسبتها إلى عبد الله بن مسعود.

(٢) سقط في ج.

(٣) ينظر : «أحكام القرآن» (٣ / ١٤١١)

٢٢٢

قال الثعلبيّ : قال أبو عبيدة : يقال : ما عبأت به شيئا ، أي : لم أعدّه شيئا فوجوده وعدمه سواء ، انتهى.

وقال العراقي : (ما يَعْبَؤُا) أي : ما يبالي ، انتهى. [وأكثر الناس على أن اللزام المشار إليه هو يوم بدر ، وقالت فرقة : هو توعد بعذاب الآخرة] (١) ، وقال ابن عباس : اللزام الموت (٢) ، وقال البخاريّ : (فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً) (٣) أي : هلكة ، انتهى.

__________________

(١) سقط في ج.

(٢) أخرجه الطبريّ (٩ / ٤٢٨) برقم (٢٦٥٨٤) ، وذكره البغوي (٣ / ٣٨٠) ، وابن عطية (٤ / ٢٢٣) ، والسيوطي (٥ / ١٥٠) ، وعزاه لابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس.

(٣) ينظر : «صحيح البخاري» (٨ / ٣٥٥) كتاب التفسير : باب (فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً).

٢٢٣

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد

تفسير سورة الشعراء

وهي مكّيّة كلّها في قول الجمهور

(طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٣) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) (٤)

قوله تعالى : (طسم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ* لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) تقدم الكلام على الحروف التي في أوائل السور ، والباخع : القاتل والمهلك نفسه بالهم ، والخضوع للآية المنزلة إمّا لخوف هلاك كنتق الجبل على بني إسرائيل ، وإمّا لأجل الوضوح وبهر العقول ، بحيث يقع الإذعان لها. والأعناق الجارحة المعلومة ، وذلك أنّ خضوع العنق والرقبة هو علامة الذلة والانقياد.

وقيل : المراد بالأعناق جماعتهم ؛ يقال : جاء عنق من الناس ، أي : جماعة.

(وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (٥) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٦) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (٧) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (٩)

وقوله تعالى : (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ* فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِ زَوْجٍ كَرِيمٍ) تقدم تفسير هذه الجملة فانظره في محلّه ، وقوله تعالى : (فَسَيَأْتِيهِمْ) وعيد بعذاب الدنيا كبدر وغيرها ، ووعيد بعذاب الآخرة ، والزوج : النوع والصنف ، والكريم : الحسن المتقن قاله مجاهد (١) وغيره.

وقوله تعالى : (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) حتم على أكثرهم بالكفر ، ثم توعّد تعالى بقوله : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) أي : عزيز في انتقامه من الكفار ، رحيم بأوليائه المؤمنين.

__________________

(١) ذكره ابن عطية (٤ / ٢٢٦)

٢٢٤

(وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (١١) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (١٢) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (١٣) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (١٤) قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (١٥) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (١٧) قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (١٨) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (١٩) قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (٢٠) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (٢١)

وقوله تعالى : (وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى) التقدير : واذكر إذ نادى ربك موسى ، وسوق هذه القصة تمثيل لكفار قريش في تكذيبهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله : (فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ) معناه : يعينني (وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ) يعني قتله القبطيّ.

وقوله تعالى : (كَلَّا) ردّ لقوله : (إِنِّي أَخافُ) أي : لا تخف ذلك ، وقول فرعون لموسى : (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً) هو على جهة المنّ عليه والاحتقار ، أي : ربّيناك صغيرا ، ولم نقتلك في جملة من قتلنا (وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ) : فمتى كان هذا الذي تدّعيه ، ثم قرره على قتل القبطي بقوله : (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ) والفعلة ـ بفتح الفاء ـ : المرّة ، وقوله : (وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) يريد : وقتلت القبطيّ وأنت في قتلك إياه من الكافرين ؛ إذ هو نفس لا يحلّ قتلها ؛ قاله الضحّاك (١) ، أو يريد : وأنت من الكافرين بنعمتي في قتلك إياه ؛ قاله ابن زيد (٢) ؛ ويحتمل أن يريد : وأنت الآن من الكافرين بنعمتي ، وكان بين خروج موسى عليه‌السلام حين قتل القبطي وبين رجوعه نبيّا إلى فرعون ـ أحد عشر عاما غير أشهر.

وقوله : (قالَ فَعَلْتُها إِذاً) : من كلام موسى عليه‌السلام والضمير في قوله : (فَعَلْتُها) لقتلة القبطي. وقوله : (وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) قال ابن زيد : معناه : من الجاهلين بأنّ وكزتي إياه تأتي على نفسه (٣) ، وقال أبو عبيدة : معناه : من الناسين ، ونزع بقوله : (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما) [البقرة : ٢٨٢] ، وفي قراءة ابن مسعود وابن عباس (٤) : «وأنا من الجاهلين» ، ويشبه أن تكون هذه القراءة على جهة التفسير ، و (حُكْماً) يريد : النبوّة وحكمتها.

__________________

(١) ذكره ابن عطية (٤ / ٢٢٧)

(٢) أخرجه الطبريّ (٩ / ٤٣٦) برقم (٢٦٦٠٥) ، وذكره ابن عطية (٤ / ٢٢٧)

(٣) أخرجه الطبريّ (٩ / ٤٣٧) برقم (٢٦٦١١) ، وذكره ابن عطية (٤ / ٢٢٨)

(٤) ينظر : «مختصر الشواذ» ص ١٠٧ ، و «المحرر الوجيز» (٤ / ٢٢٨) ، و «البحر المحيط» (٧ / ١١) ، و «الكشاف» (٣ / ٣٠٥)

٢٢٥

وقوله : (وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) درجة ثانية للنّبوّة ، فربّ نبيّ ليس برسول.

(وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (٢٢) قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٣) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٢٤) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (٢٥) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٢٦) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (٢٧) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (٢٨) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (٢٩) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (٣٠) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣١) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (٣٢) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (٣٣) قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) (٣٤)

وقوله : (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَ) الآية : قال قتادة : هذا من موسى على جهة الإنكار على فرعون (١) كأنه يقول : أو يصحّ لك أن تعدّ عليّ نعمة ترك قتلي من أجل أنّك ظلمت بني إسرائيل وقتلتهم؟! أي : ليست بنعمة ؛ لأنّ الواجب كان ألّا تقتلني ولا تقتلهم (٢) ، ولا تستعبدهم ، وقرأ الضحّاك (٣) : «وتلك نعمة ما لك أن تمنّها عليّ» وهذه قراءة تؤيّد هذا التأويل ، وقال الطبريّ (٤) والسدّيّ : هذا الكلام من موسى عليه‌السلام علي جهة الإقرار بالنعمة كأنه يقول : نعم (٥) ، وتربيتك نعمة عليّ ؛ من حيث عبّدت غيري وتركتني ، ولكن ذلك لا يدفع رسالتي ، ولمّا لم يجد فرعون حجّة رجع إلى معارضة موسى في قوله : (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) واستفهمه استفهاما فقال موسى هو (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) الآية ، فقال فرعون (٦) عند ذلك : (أَلا تَسْتَمِعُونَ) : على معنى الإغراء والتعجب من شنعة المقالة [إذ] (٧) كانت عقيدة القوم ؛ أنّ فرعون ربّهم ومعبودهم ؛ والفراعنة قبله كذلك ، فزاده موسى في البيان بقوله : (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) فقال فرعون حينئذ على جهة الاستخفاف : (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) فزاده موسى في بيان الصفات التي تظهر نقص فرعون ، وتبين أنّه في غاية البعد عن القدرة عليها ، وهي ربوبيّة المشرق والمغرب ، ولم يكن لفرعون إلّا ملك مصر ، ولما انقطع فرعون في باب الحجة ، رجع إلى الاستعلاء والتغلب فقال لموسى : (لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) وفي

__________________

(١) في ج : فرعون لعنه الله.

(٢) في ج : ولا قتلتهم.

(٣) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ٢٢٨) ، و «البحر المحيط» (٧ / ١١)

(٤) ينظر : «الطبريّ» (٩ / ٤٣٨)

(٥) ذكره ابن عطية (٤ / ٢٢٨)

(٦) في ج : فرعون لعنه الله.

(٧) سقط في ج.

٢٢٦

توعده بالسجن ضعف ؛ لأنّه خارت طباعه معه ، وكان فيما روي أنّه يفزع من موسى فزعا شديدا حتى كان لا يمسك بوله ، وكان عند موسى من أمر الله والتوكل عليه ما لا يفزعه توعّد فرعون ، فقال له موسى على جهة اللطف به والطمع في إيمانه : (أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ) : يتّضح لك معه صدقي ، فلما سمع فرعون ذلك طمع أن يجد أثناءه موضع معارضة فقال له : (فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) فألقى موسى عصاه (فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) على ما تقدّم بيانه و (نَزَعَ يَدَهُ) من جيبه (فَإِذا هِيَ) : تتلألأ كأنها قطعة من الشمس ، فلما رأى فرعون ذلك هاله ، ولم يكن له فيه مدفع غير أنّه فزع إلى رميه بالسحر.

(يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ (٣٥) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٣٦) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (٣٧) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٣٨) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (٣٩) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (٤٠) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (٤١) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٢) قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٤٣) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (٤٤) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) (٤٥)

وقوله : (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ) تقدم بيانه ، وكذلك قولهم : (وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ* يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ) تقدم بيانه.

وقوله تعالى : (قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) يريد بتقريبهم الجاه الزائد على العطاء الذي طلبوه.

(فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (٤٦) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٤٧) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (٤٨) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (٤٩) قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (٥٠) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (٥١) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٥٢) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٥٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (٥٥) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (٥٦) فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٧) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٥٨) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (٦٠) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١) قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (٦٢) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (٦٣) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (٦٤) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (٦٥) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٦٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٦٧) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (٦٨).

٢٢٧

وقوله تعالى : (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) تقدم بيان هذه الجملة ، والحمد لله فانظره في محلّه ؛ قال ابن العربيّ (١) في «أحكامه» : قال مالك : دعا موسى فرعون أربعين سنة إلى الإسلام ، وأنّ السحرة آمنوا في يوم واحد ، انتهى ، وقولهم : (لا ضَيْرَ) أي : لا يضرّنا ذلك مع انقلابنا إلى مغفرة الله ورضوانه ، وقولهم : (أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) يريدون : من القبط وصنيفتهم ، وإلّا فقد كانت بنو إسرائيل آمنت ، والشرذمة : الجمع القليل المحتقر ، وشرذمة كل شيء : بقيّته الخسيسة.

وقوله : (لَغائِظُونَ) يريد بخلافهم الأمر وبأخذهم الأموال عارية و (حاذِرُونَ) جمع حذر ، والضمير في قوله : (فَأَخْرَجْناهُمْ) عائد على القبط ، والجنات والعيون بحافتي النيل من أسوان إلى رشيد ؛ قاله ابن عمر (٢) وغيره ، والمقام الكريم : قال ابن لهيعة : هو الفيّوم ، وقيل : هو المنابر ، وقيل : مجالس الأمراء والحكّام ، وقيل : المساكن الحسان ، و (مُشْرِقِينَ) معناه : عند شروق الشمس ، وقيل : معناه : نحو المشرق ، والطود : هو الجبل ، و (أَزْلَفْنا) معناه : قرّبنا ، وقرأ ابن عباس (٣) : «وأزلقنا» بالقاف.

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (٦٩) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (٧٠) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (٧١) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (٧٢) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (٧٣) قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٧٤) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (٧٧) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) (٨٢).

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ ...) الآية : هذه الآية تضمنت الإعلام بغيب ، والعكوف : اللزوم.

__________________

(١) ينظر : «أحكام القرآن» (٣ / ١٤٣٥)

(٢) ذكره ابن عطية (٤ / ٢٣٢)

(٣) وقرأ بها أبي ، وعبد الله بن الحارث.

قال أبو الفتح : ومن قرأ بالقاف ف «الآخرون» : فرعون ، وأصحابه. أي : أهلكنا ثم الآخرين ، أي : فرعون وأصحابه.

ينظر : «المحتسب» (٢ / ١٢٩) ، و «مختصر الشواذ» ص ١٠٨ ، و «المحرر الوجيز» (٤ / ٢٣٣) ، و «البحر المحيط» (٧ / ٢٠) ، و «الدر المصون» (٥ / ٢٧٦)

٢٢٨

وقوله : (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) قالت فرقة : هو استثناء متّصل. لأنّ في الآباء الأقدمين من قد عبد الله تعالى ، وقالت فرقة : هو استثناء منقطع ؛ لأنه إنّما أراد عبّاد الأوثان من كل قرن منهم ، وأسند إبراهيم عليه‌السلام المرض إلى نفسه والشفاء إلى ربه عزوجل ، وهذا حسن أدب في العبارة ، والكل من عند الله ، وأوقف عليه‌السلام نفسه على الطمع في المغفرة ، وهذا دليل على شدّة خوفه مع علوّ منزلته عند الله ، وروى الترمذيّ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من عاد مريضا أو زار أخا [له] (١) في الله ـ ناداه مناد : أن طبت وطاب ممشاك ، وتبوّأت من الجنّة منزلا» (٢) ، قال أبو عيسى : هذا حديث حسن ، انتهى. وفي «صحيح مسلم» عن ثوبان مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من عاد مريضا لم يزل في خرفة الجنّة حتّى يرجع ، قيل : يا رسول الله ، وما خرفة الجنّة؟ قال : جناها» (٣) انتهى ، وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من عاد مريضا لم يحضر أجله ، فقال عنده سبع مرّات : أسأل الله العظيم ربّ العرش العظيم (٤) أن يشفيك ـ إلّا عافاه الله سبحانه» (٥) خرجه أبو داود ، والترمذيّ ، والحاكم في «المستدرك على الصحيحين» بالإسناد الصحيح ، انتهى من «حلية النوويّ» ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من عاد مريضا لم يحضر أجله ، فقال عند رأسه سبع مرّات : أسأل الله العظيم ربّ العرش العظيم ـ أن يشفيك ـ إلّا عافاه الله من ذلك المرض» (٦). رواه أبو داود واللفظ له ، والترمذيّ والنسائيّ والحاكم وابن حبّان في «صحيحيهما» بمعناه ، وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ، يعني : البخاريّ ومسلما ، وفي رواية النسائيّ وابن حبّان : «كان النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا عاد المريض ، جلس عند رأسه ، ثمّ قال» ، فذكر مثله بمعناه انتهى من «السلاح».

__________________

(١) سقط في ج.

(٢) أخرجه الترمذيّ (٤ / ٣٦٥) كتاب البر والصلة : باب ما جاء في زيارة الإخوان ، حديث (٢٠٠٨) ، وابن ماجه (١ / ٤٦٤) كتاب الجنائز : باب ما جاء في ثواب من عاد مريضا ، حديث (١٤٤٣). كلاهما من طريق أبي سنان القسملي عن عثمان بن أبي سودة عن أبي هريرة مرفوعا.

وقال الترمذيّ : هذا حديث حسن غريب ، وأبو سنان اسمه عيسى بن سنان.

(٣) أخرجه مسلم (٤ / ١٩٨٩) كتاب البر والصلة : باب فضل عيادة المريض ، حديث (٤٢ / ٢٥٦٨)

(٤) في ج : رب العرش الكريم.

(٥) أخرجه أبو داود (٢ / ٢٠٤) كتاب الجنائز : باب الدعاء للمريض عند العيادة ، حديث (٣١٠٦) ، والترمذيّ (٤ / ٤١٠) كتاب الطب : باب (٣٢) حديث (٢٠٨٣) ، والحاكم (١ / ٣٤٢) من حديث ابن عباس. وقال الحاكم : صحيح على شرط البخاري. وصححه النووي في «الأذكار» (ص ـ ١٦٧)

(٦) تقدم تخريجه.

٢٢٩

وقوله : (خَطِيئَتِي) ذهب أكثر المفسرين إلى : أنّه أراد كذباته الثلاث ، قوله : هي أختي في شأن سارة ، وقوله : (إِنِّي سَقِيمٌ) [الصافات : ٨٩]. وقوله : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) [الأنبياء : ٦٣] ، وقالت فرقة : أراد بالخطيئة اسم الجنس ، فدعا في كل أمره من غير تعيين.

قال ع (١) : وهذا أظهر عندي.

(رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (٨٣) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (٨٥) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (٨٦) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (٨٧) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (٨٨) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٩) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (٩٠) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (٩١) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٩٢) مِنْ دُونِ اللهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (٩٣) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (٩٤) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (٩٥) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (٩٦) تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٩٧) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٩٨) وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (٩٩) فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (١٠٠) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (١٠١) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٠٤) كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (١٠٥) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ) (١٠٦)

وقوله : (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً) : أي حكمة ونبوّة ، ودعاؤه في مثل هذا هو في معنى التثبيت والدوام ، ولسان الصدق : هو الثناء الحسن ، واستغفاره لأبيه في هذه الآية هو قبل أن يتبيّن له أنّه عدوّ لله.

وقوله : (بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) معناه : خالص من الشرك والمعاصي وعلق الدنيا المتروكة ، وإن كانت مباحة ؛ كالمال والبنين ؛ قال سفيان هو الذي يلقى ربّه / وليس في قلبه شيء غيره.

قال ع (٢) : وهذا يقتضي عموم اللفظة ، ولكنّ السليم من الشرك هو الأهمّ ، وقال الجنيد : بقلب [لديغ من خشية الله ، والسليم : اللديغ.

ص : (إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ) الظاهر أنّه استثناء منقطع ، أي : لكن من أتى الله بقلب] (٣) سليم ، نفعته سلامة قلبه ، انتهى. (وَأُزْلِفَتِ) معناه : قربت ، والغاوون الذين برّزت لهم الجحيم هم : المشركون ، ثم أخبر سبحانه عن حال يوم القيامة من أنّ الأصنام تكبكب في النار ، أي : تلقى كبّة واحدة.

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ٢٣٥)

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ٢٣٥)

(٣) سقط في ج.

٢٣٠

وقال ص : (فَكُبْكِبُوا) ، أي : قلّب بعضهم على بعض ، وحروفه كلها أصول عند جمهور البصريين ، وذهب الزجّاج وابن عطية وغيرهما إلى أنّه مضاعف الباء من «كبّ».

وقال غيرهما : وجعل التكرير من اللفظ دليلا على التكرير في المعنى ، وذهب الكوفيون إلى : أنّ أصله «كبب» والكاف بدل من الباء (١) الثانية ، انتهى. والغاوون : الكفرة الذين شملتهم الغواية وجنود إبليس : نسله وكل من يتبعه ؛ لأنّهم جند له وأعوان ، ثم وصف تعالى أنّ أهل النار يختصمون فيها ويتلاومون قائلين لأصنامهم : (تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) : في أن نعبدكم ونجعلكم سواء مع الله الذي هو رب العالمين ، ثم عطفوا يردّون الملامة على غيرهم ، أي : ما أضلّنا إلّا كبراؤنا وأهل الجرم والجراءة ، ثم قالوا على جهة التلهف والتأسف حين رأوا شفاعة الملائكة والأنبياء والعلماء نافعة في أهل الإيمان عموما ، وشفاعة الصديق في صديقه خصوصا : (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ* وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) ، والحميم : الوليّ والقريب الذي يخصّك أمره وتخصه أمرك ، وحامّة (٢) الرجل خاصّته ، وباقي الآية بيّن.

(إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٠٧) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٠٨) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٩) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١١٠) قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (١١١) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٢) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (١١٣) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٤) إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١١٥) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (١١٦) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (١١٧)

__________________

(١) قال الزمخشري : الكبكبة تكرير الكبّ وجعل التكرير في اللفظ دليلا على التكرير في المعنى. وقال ابن عطية نحوا منه قال : وهو الصحيح لأن تكرير الفعل بيّن نحو صرّ وصرصر. وهذا هو مذهب الزجّاج وفي هذا البناء ثلاثة مذاهب :

أحدها : هذا.

والثاني : هو مذهب البصريين أن الحروف كلها أصول.

والثالث : وهو قول الكوفيين أن الثالث مبدل من مثل الثاني فأصل كبكب كبّب بثلاث باءات ومثله لملم وكفكف هذا إذا صح المعنى بسقوط الثالث فأما إذا لم يصح المعنى بسقوطه كانت كلها أصولا من غير خلاف نحو سمسم وخمخم ، وواو «كبكبوا» قيل : للأصنام إجراء لها مجرى العقلاء وقيل لعابديها قوله : (وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ) جملة حالية معترضة بين القول ومعموله الجملة القسميّة «إن كنّا لفي» ومذهب البصريين أنّ إن مخففة واللام فارقة ومذهب الكوفيين أنّ إنّ نافية واللام بمعنى إلّا.

ينظر : «الدر المصون» (٥ / ٢٨٠)

(٢) في ج : حماة.

٢٣١

فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١١٨) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١١٩) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (١٢٠) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٢١) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٢٢) كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٢٥) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٢٦) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٢٧)

وقول نوح عليه‌السلام : (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) أي : أمين على وحي الله ورسالته.

ص : قرأ الجمهور (١) : «واتّبعك» والجملة حال ، أي وقد اتبعك ، ويعقوب (٢) : «وأتباعك» ، وعن اليماني (٣) : «وأتباعك» بالجر ؛ عطفا على الضمير في «لك» انتهى ، و (الْأَرْذَلُونَ) : جمع الأرذل ، ولا يستعمل إلّا معرّفا أو مضافا ، أو بمن.

قال ع (٤) : ويظهر من الآية [أنّ] (٥) مراد قوم نوح بنسبة الرذيلة إلى المؤمنين تهجين أفعالهم لا النظر في صنائعهم ، وذهب أشراف قوم نوح في استنقاصهم ضعفة المؤمنين مذهب كفّار قريش في شأن عمّار بن ياسر. وصهيب وبلال وغيرهم ، وقولهم : (مِنَ الْمَرْجُومِينَ) يحتمل أن يريدوا بالحجارة أو بالقول والشتم ، وقوله : (فَافْتَحْ) معناه : احكم ، والفتّاح ، القاضي بلغة يمانية ، و (الْفُلْكِ) : السفينة ، و (الْمَشْحُونِ) معناه : المملوء.

(أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (١٢٨) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (١٢٩) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (١٣٠) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٣١) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (١٣٢) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (١٣٣) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٣٤) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣٥) قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (١٣٦) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (١٣٧) وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (١٣٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٤٠) كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (١٤١) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٤٢) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٤٣) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ(١٤٤) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٤٥)

__________________

(١) ينظر : «البحر المحيط» (٧ / ٣٠)

(٢) وقرأ بها عبد الله ، وابن عباس ، وأبو حيوة ، والضحاك ، وطلحة ، وابن السميفع ، وسعيد بن أبي سعيد الأنصاري.

ينظر : «المحتسب» (٢ / ١٣١) ، و «البحر المحيط» (٧ / ٣٠) ، و «الدر المصون» (٥ / ٢٨٠)

(٣) ينظر : «الدر المصون» (٥ / ٢٨١)

(٤) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ٢٣٧)

(٥) سقط في ج.

٢٣٢

وقول هود عليه‌السلام لقومه : (أَتَبْنُونَ) هو على جهة التوبيخ ، والريع : المرتفع من الأرض وله في كلام العرب شواهد ، وعبّر المفسرون عن الريع بعبارات ، وجملة ذلك أنّه المكان المشرف ، وهو الذي يتنافس البشر في مبانيه ، والآية : البنيان ؛ قال ابن عباس : آية علم (١).

وقال مجاهد : أبراج الحمام (٢) ، وقيل : القصور الطوال ، والمصانع جمع مصنع وهو ما صنع وأتقن في بنيانه من قصر مشيد ونحوه ، قال البخاريّ : كل بناء مصنعة ، انتهى.

وقوله : (لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) أي : كأنكم تخلدون / وكذا نقله البخاريّ عن ابن عباس غير مسند ، انتهى. والبطش : الأخذ بسرعة ، والجبار : المتكبّر ، ثم ذكّرهم عليه‌السلام بأياد الله تعالى فيما منحهم ، وحذّرهم من عذابه ، فكانت مراجعتهم أن سووا بين وعظه وتركه الوعظ ، وقرأ نافع (٣) وغيره : «خلق الأوّلين» ـ بضم اللام ـ فالإشارة بهذا إلى دينهم ، أي ما هذا الذي نحن عليه إلّا خلق الناس وعادتهم ، وقرأ ابن كثير (٤) وغيره : «خلق» ـ بسكون اللام ـ ، فيحتمل المعنى : ما هذا الذي تزعمه إلّا أخلاق الأولين من الكذبة ؛ فأنت على منهاجهم ، وروى علقمة عن ابن مسعود ، : إلّا اختلاق الأوّلين.

(أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (١٤٦) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٤٧) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (١٤٨) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (١٤٩) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٥٠) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (١٥١) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (١٥٢) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٥٣) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٥٤) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (١٥٥) وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥٦) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (١٥٧) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٥٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (١٥٩)

وقول صالح لقومه : (أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا) : تخويف لهم بمعنى : أتطمعون أن تقرّوا

__________________

(١) أخرجه الطبريّ (٩ / ٤٦٠) برقم (٢٦٦٩٧) ، وذكره ابن عطية (٤ / ٢٣٨) ، والسيوطي (٥ / ١٦٩) ، وعزاه لابن جرير عن ابن عباس.

(٢) أخرجه الطبريّ (٩ / ٤٦١) برقم (٢٦٧٠٠) ، والسيوطي (٩ / ١٧٠) ، وعزاه للفريابي ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد.

(٣) ينظر : «السبعة» ٤٧٢ ، و «الحجة» (٥ / ٣٦٥) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ١٣٦) ، و «معاني القراءات» (٢ / ٢٢٧) ، و «شرح الطيبة» (٥ / ١٠٠) ، و «العنوان» (١٤٢) ، و «حجة القراءات» (٥١٨) ، و «شرح شعلة» (٥٢١) ، و «إتحاف» (٢ / ٣١٨)

(٤) ينظر : مصادر القراءة السابقة.

٢٣٣

في النعم على معاصيكم ، والهضيم : معناه اللّيّن الرطب. والطلع الكفرّى. وهو عنقود التمر قبل أن يخرج من الكمّ في أوّل نباته ، فكأنّ الإشارة إلى أنّ طلعها يتم ويرطب ؛ قال ابن عباس : [إذا أينع وبلغ فهو هضيم (١) ، وقال الزجّاج : هو فيما قيل الذي رطبه بغير نوى ، وقال الثعلبيّ : قال ابن عباس] (٢) هضيم : لطيف ما دام في كفرّاه (٣) ، انتهى. وقرأ الجمهور (٤) : «تنحتون» : ـ بكسر الحاء ـ ، و «فرهين» : من الفراهة وهي جودة منظر الشيء وخبرته وقوته.

وقوله : (وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ) خاطب به جمهور قومه وعنى بالمسرفين : كبراءهم وأعلام الكفر والإضلال فيهم (قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) أي : قد سحرت.

ص : قرأ : الجمهور (٥) : «شرب» ـ بكسر الشين ـ ، أي : نصيب ، وقرأ ابن أبي عبلة : ـ بضم الشين ـ فيهما ، انتهى.

(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (١٦٠) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٦١) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٦٢) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٦٣) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٤) أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (١٦٥) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (١٦٦) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (١٦٧) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (١٦٨) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (١٦٩) فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٧٠) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٧١) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٧٢) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٣) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٤) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (١٧٥)

وقوله تعالى : (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ) قال [النقاش] (٦) : إنّ في مصحف ابن مسعود وأبيّ وحفصة : «إذ قال لهم لوط» وسقط أخوهم.

وقوله : (إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ) القلي : البغض ، فنجاه الله بأن أمره بالرحلة على ما تقدم في قصصهم.

__________________

(١) أخرجه الطبريّ (٩ / ٤٦٥) برقم (٢٦٧٢١) ، وذكره ابن عطية (٤ / ٢٣٩) ، والسيوطي (٤ / ١٧١) ، وعزاه لابن أبي حاتم عن ابن عباس نحوه.

(٢) سقط في ج.

(٣) ذكره البغوي (٣ / ٣٩٥)

(٤) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ٢٤٠) ، و «البحر المحيط» (٧ / ٣٣) ، و «الدر المصون» (٥ / ٢٨٣)

(٥) ينظر : «البحر المحيط» (٧ / ٣٤)

(٦) سقط في ج.

٢٣٤

(كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (١٧٦) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٧٧) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٧٨) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٧٩) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٠) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (١٨١) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (١٨٢) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (١٨٣) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (١٨٤) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٨٥) وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (١٨٦) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٨٧) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (١٨٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٨٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٩٠) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (١٩١).

وقوله تعالى : (كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ) قرأ نافع وابن كثير (١) وابن عامر : «أصحاب ليكة» على وزن فعلة هنا ، وفي [ص] وقرأ الباقون : «الأيكة» وهي : الدوحة الملتفّة من الشجر على الإطلاق ، وقيل من شجر معروف له غضارة تألفه الحمام والقماريّ ونحوها ، و «ليكة» اسم البلد في قراءة من قرأ ذلك ؛ قاله بعض المفسرين ، وذهب قوم إلى أنّها مسهّلة من الأيكة ، وأنّها وقعت في المصحف هنا وفي «ص» بغير ألف.

وقوله تعالى : (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) [الشعراء : ١٠٥] وكذلك ما بعده بلفظ الجمع من حيث إنّ تكذيب نبيّ واحد يستلزم تكذيب جميع الأنبياء ؛ لأنّهم كلهم يدعون الخلق إلى الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر ، وفي قول الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ : «ألا تتقون» عرض رفيق وتلطّف ، كما قال تعالى : (فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى) [النازعات : ١٨] والجبلّة : الخليقة والقرون الماضية ، والكسف : القطع ، واحدها كسفة ، و (يَوْمِ الظُّلَّةِ) : هو يوم عذابهم ، وصورته فيما روي أنّ الله امتحنهم بحر شديد ، وأنشأ الله سحابة في بعض قطرهم فجاء بعضهم إلى ظلّها فوجد لها بردا وروحا ، فتداعوا إليها / حتى تكاملوا فاضطرمت عليهم نارا ، فأحرقتهم عن آخرهم.

وقيل غير هذا ، والحق أنّه عذاب جعله الله ظلة عليهم.

(وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (١٩٦) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٩٧)

__________________

(١) ينظر : «السبعة» (٤٧٣) ، و «الحجة» (٥ / ٣٦٧) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ١٣٧) ، و «معاني القراءات» (٢ / ٢٢٩) ، و «شرح الطيبة» (٥ / ١٠١) ، و «العنوان» (١٤٢) ، و «حجة القراءات» (٥١٩) ، و «شرح شعلة» (٥٢١) ، و «إتحاف» (٢ / ٣١٩)

٢٣٥

وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (١٩٨) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) (١٩٩)

وقوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ) يعني القرآن.

وقوله : (بِلِسانٍ عَرَبِيٍ) متعلق ب (نَزَلَ) ، أي : سمعه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جبريل حروفا عربيّة ، وهذا هو القول الصحيح ، وما سوى هذا فمردود.

وقوله سبحانه : (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) أي : القرآن مذكور في الكتب المنزّلة القديمة ، منبّه عليه ، مشار إليه (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ) ؛ كعبد الله بن سلام ونحوه ؛ قاله ابن عباس ومجاهد (١) ، قال مقاتل (٢) : هذه الآية مدنية ، ومن قال إنّ الآية مكّيّة ذهب إلى أنّ علماء بني إسرائيل ذكروا لقريش أنّ في التوراة صفة النّبيّ الأمّيّ ، وأنّ هذا زمانه ، فهذه الإشارة إلى ذلك ؛ وذلك أنّ قريشا بعثت إلى الأحبار يسألونهم عن أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم أخبر تعالى أنّ هذا القرآن لو سمعوه من أعجم ، أي : من حيوان غير ناطق ، أو من جماد ، والأعجم : كل ما لا يفصح ـ ما كانوا يؤمنون ، والأعجمون : جمع أعجم ، وهو الذي لا يفصح ، وإن كان عربيّ النّسب ، وكذلك يقال للحيوانات والجمادات ، ومنه الحديث : «جرح العجماء جبار» (٣) والعجميّ هو الذي نسبه

__________________

(١) أخرجه الطبريّ (٩ / ٤٧٦ ، ٤٧٧) برقم (٢٦٧٧١) عن ابن عباس ، و (٢٦٧٧٢) عن مجاهد ، وذكره ابن عطية (٤ / ٢٤٣) ، والسيوطي (٥ / ١٧٧) ، وعزاه لابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس ، ولابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد.

(٢) ذكره ابن عطية (٤ / ٢٤٣)

(٣) أخرجه البخاري (٥ / ٣٣) : كتاب المساقاة : باب من حفر بئرا في ملكه لم يضمن ، حديث (٢٢٥٥) ، و «مسلم» (٣ / ١٣٣٤) : كتاب الحدود : باب جرح العجماء والمعدن والبئر جبار ، حديث (٤٥ / ١٧١٠) ، وأبو داود (١٤) : كتاب الخراج والإمارة والفيء : باب ما جاء في الركاز وما فيه ، حديث (٣٠٨٥) ، والترمذيّ (٢ / ٤١٨) : كتاب الأحكام : باب ما جاء في العجماء أن جرحها جبار. حديث (١٣٩١) ، والنسائي (٥ / ٤٥) : كتاب الزكاة : باب المعدل ، وابن ماجه (٢ / ٨٣٩) : كتاب اللقطة : باب من أصاب ركازا ، حديث (٢٥٠٩) ، ومالك (١ / ٢٤٩) : كتاب الزكاة : باب زكاة الحديث (٩) ، والشافعي (١ / ٢٤٨) : كتاب الزكاة الباب الرابع في الركاز والمعادن ، حديث (٦٧١ ، ٦٧٢) ، وأبو عبيد (٤٢٠ ، ٤٢١) : كتاب الخمس وأحكامه وسننه : باب الخمس في المعادن والركاز والطيالسي (ص : ٣٠٤) ، حديث (٢٣٠٥) ، وابن أبي شيبة (٣ / ٢٢٤ ، ٢٢٥) : كتاب الزكاة : باب في الركاز يجدوه القوم ، فيه زكاة ، وأحمد (٢ / ٢٢٨) ، وابن الجارود (ص : ١٣٥) : كتاب الزكاة ، حديث (٣٧٢) ، والبيهقي (٤ / ١٥٥) : كتاب الزكاة : باب زكاة الركاز ، وعبد الرزاق (١٠ / ٦٦) ، رقم (١٨٣٧٣) ، والحميدي (٢ / ٤٦٢) ، رقم (١٠٧٩) ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (٣ / ٢٠٤) ، وأبو يعلى (١٠ / ٤٣٧) ، رقم (٦٠٥٠) ، والطبراني في «الصغير» (١ / ١٢٠ ـ ١٢١) ، من حديث أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «العجماء جبار ، والبئر جبار ، والمعدن جبار ، وفي الركاز الخمس».

٢٣٦

في العجم ، وإن كان أفصح الناس ، وقرأ الحسن (١) : الأعجميّين.

قال أبو حاتم : أراد جمع الأعجمي المنسوب إلى العجم.

وقال الثعلبيّ : معنى الآية : ولو نزلناه على رجل ليس بعربيّ اللسان ، فقرأه عليهم بغير لغة العرب ـ لما آمنوا أنفة من اتباعه ، انتهى.

(كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (٢٠٠) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٢٠١) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٢٠٢) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ) (٢٠٣)

وقوله تعالى : (كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ).

قال ع (٢) : و (سَلَكْناهُ) معناه : أدخلناه ، والضمير فيه للكفر الذي يتضمنه قوله : (ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) [الشعراء : ١٩٩] ؛ قاله الحسن (٣) ، وقيل الضمير للتكذيب ، وقيل للقرآن ورجّح بأنّه المتبادر إلى الذهن ، والمجرمون أراد به مجرمي كل أمّة ، أي : أنّ هذه عادة الله فيهم لا يؤمنون حتى يروا العذاب ، فكفّار قريش كذلك و (هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ) أي : مؤخّرون.

(أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (٢٠٤) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (٢٠٧) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (٢٠٨) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (٢٠٩) وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (٢١٠) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ) (٢١١)

وقوله سبحانه : (أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ) توبيخ لقريش على استعجالهم العذاب ، وقولهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أسقط علينا كسفا من السماء ، وقولهم : أين ما تعدنا؟ ثم خاطب سبحانه نبيّه ـ عليه‌السلام ـ بقوله : (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ).

قال عكرمة : (سِنِينَ) : يريد عمر الدنيا (٤) ، ثم أخبر تعالى أنّه لم يهلك قرية من

__________________

(١) ينظر : «مختصر الشواذ» ص ١٠٩ ، و «المحتسب» (٢ / ١٣٢) ، و «الكشاف» (٣ / ٣٣٦) ، و «المحرر الوجيز» (٤ / ٢٤٣) ، و «البحر المحيط» (٧ / ٤٠) ، وزاد نسبتها إلى ابن مقسم. وهي في «الدر المصون» (٥ / ٢٨٩)

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ٢٤٤)

(٣) أخرجه الطبريّ (٩ / ٤٧٨) برقم (٢٦٧٨٠) بلفظ «خلقناه» ، وذكره البغوي (٣ / ٣٩٩) ، وابن عطية (٤ / ٢٤٤) ، والسيوطي (٥ / ١٧٨) ، وعزاه لعبد بن حميد عن الحسن بلفظ «جعلناه».

(٤) ذكره ابن عطية (٤ / ٣٤٤)

٢٣٧

القرى إلّا بعد إرسال من ينذرهم عذاب الله عزوجل ؛ ذكرى لهم وتبصرة.

وقوله تعالى : (وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ) الضمير في (بِهِ) عائد على القرآن.

(إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (٢١٢) فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (٢١٣) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤) وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢١٥) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢١٦) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) (٢١٧)

وقوله تعالى : (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) أي : لأنّ السماء محروسة بالشّهب الجارية إثر الشياطين ، ثم وصّى تعالى نبيه بالثبوت على التوحيد والمراد : أمّته فقال : (فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ...) الآية.

وقوله تعالى : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ...) الآية : وفي «صحيح البخاريّ» وغيره عن ابن عباس : لما نزلت هذه الآية خرج النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتّى صعد الصفا ، فهتف : «يا صباحاه ، فقالوا : من هذا؟ فاجتمعوا إليه ، فقال : أرأيتم إن أخبرتكم أنّ خيلا تخرج من ٥٠ أسفح هذا الجبل ، أكنتم مصدّقيّ؟ قالوا : / نعم ، ما جرّبنا عليك كذبا ، قال : فإنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد» الحديث (١) ، وخصّ بإنذاره عشيرته ؛ لأنّهم مظنّة الطواعية ؛ وإذ يمكنه من الإغلاظ عليهم ما لا يحتمله غيرهم ، ولأنّ الإنسان غير متّهم على عشيرته ، والعشيرة : قرابة الرجل ، وخفض الجناح : استعارة معناه : لين الكلمة ، وبسط الوجه ، والبرّ ، والضمير في (عَصَوْكَ) عائد على عشيرته ، ثم أمر تعالى نبيه عليه‌السلام بالتوكل عليه في كل أموره ، ثم جاء بالصفات التي تؤنس المتوكل وهي العزة والرحمة.

(الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (٢١٨) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٢١٩) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٢٢٠)

وقوله : (الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ) يراك عبارة عن الإدراك ، وظاهر الآية أنّه أراد قيام الصلاة ، ويحتمل سائر التصرفات ؛ وهو تأويل مجاهد وقتادة (٢).

وقوله سبحانه : (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) قال ابن عباس (٣) وغيره : يريد أهل

__________________

(١) أخرجه البخاري (٨ / ٣٦٠) كتاب التفسير : باب (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) حديث (٤٧٧٠) من حديث ابن عباس.

(٢) أخرجه الطبريّ (٩ / ٤٨٥) برقم (٢٦٨١٤) عن مجاهد ، وذكره البغوي (٣ / ٤٠٢) عن مجاهد ، وابن عطية (٤ / ٢٤٦) ، وابن كثير (٣ / ٣٥٢) عن قتادة ، والسيوطي (٥ / ١٨٣) ، وعزاه لابن أبي حاتم عن مجاهد ، ولعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم عن قتادة.

(٣) أخرجه الطبريّ (٩ / ٤٨٥) برقم (٢٦٨١٥) بنحوه ، وذكره البغوي (٣ / ٤٠٢) ، وابن عطية (٤ / ٢٤٦) ، والسيوطي (٥ / ١٨٣) ، وعزاه لابن المنذر عن ابن عباس.

٢٣٨

الصلاة ، أي : صلاتك مع المصلّين.

(هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (٢٢٣) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (٢٢٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ) (٢٢٦)

وقوله تعالى : (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ) أي : قل لهم يا محمد : هل أخبركم (عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ)؟ والأفّاك : الكذّاب ، والأثيم : الكثير الإثم ، ويريد الكهنة ؛ لأنّهم كانوا يتلقّون من الشياطين الكلمة الواحدة الّتي سمعت من السماء فيخلطون معها مائة كذبة ، حسبما جاء في الحديث (١) ، وقد ذكرناه في غير هذا الموضع ، والضمير في (يُلْقُونَ) يحتمل أن يكون للشياطين ، ويحتمل أن يكون للكهنة ، ولما ذكر الكهنة بإفكهم وحالهم التي تقتضي نفي كلامهم عن كلام الله تعالى ـ عقّب ذلك بذكر الشعراء وحالهم ؛ لينبّه على بعد كلامهم من كلام القرآن ، إذ قال بعض الكفرة في القرآن : إنّه شعر ، والمراد شعراء الجاهلية ، ويدخل في الآية كلّ شاعر مخلّط يهجو ويمدح ؛ شهوة ، ويقدف المحصنات ، ويقول الزور.

وقوله : (الْغاوُونَ) قال ابن عباس : هم المستحسنون (٢) لأشعارهم ، المصاحبون لهم.

وقال عكرمة : هم الرعاع الذين يتبعون الشاعر ويغتنمون إنشاده (٣).

وقوله : (فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ) عبارة عن تخليطهم وخوضهم في كل فنّ من غثّ الكلام وباطله ؛ قاله ابن عباس (٤) وغيره ، وروى جابر بن عبد الله عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : «من مشى سبع خطوات في شعر ، كتب من الغاوين» ذكره أسد بن موسى ، وذكره النقاش.

__________________

(١) أخرجه البخاري (١٠ / ٥٩٥) كتاب الأدب : باب قول الرجل للشيء ... ، حديث (٦٢١٣) ، ومسلم (٤ / ١٧٥٠) كتاب السلام : باب تحريم إتيان الكهان ، حديث (١٢٣ / ٢٢٢٨) من حديث عائشة.

(٢) أخرجه الطبريّ (٩ / ٤٨٨) برقم (٢٦٩٣٣) ، وذكره ابن عطية (٤ / ٢٤٦) ، والسيوطي (٥ / ١٨٦) ، وعزاه للفريابي ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس.

(٣) أخرجه الطبريّ (٩ / ٤٨٩) برقم (٢٦٨٣٧) ، بلفظ «عصاة الجن» ، وذكره ابن عطية (٤ / ٢٤٦) ، والسيوطي (٥ / ١٨٦) ، وعزاه للفريابي ، وابن المنذر ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، عن عكرمة بلفظ «عصاة الجن».

(٤) أخرجه الطبريّ (٩ / ٤٩٠) برقم (٢٦٨٤٢) نحوه ، وبرقم (٢٦٨٤٣) ، عن مجاهد ، وذكره البغوي (٣ / ٤٠٣) ، وابن عطية (٤ / ٢٤٦) ، والسيوطي (٥ / ١٨٦) ، وعزاه لابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس.

٢٣٩

(إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) (٢٢٧)

وقوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ...) الآية : هذا الاستثناء هو في شعراء الإسلام ؛ كحسّان بن ثابت ، وكعب بن مالك ، وعبد الله بن رواحة ، وكلّ من اتصف بهذه الصفة ، ويروى عن عطاء بن يسار وغيره أنّ هؤلاء شقّ عليهم ما ذكر قبل في الشعراء ، فذكروا ذلك للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت آية الاستثناء بالمدينة.

وقوله تعالى : (وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً) يحتمل أن يريد في أشعارهم ، وهو تأويل ابن زيد (١) ، ويحتمل أنّ ذلك خلق لهم وعبادة ؛ قاله ابن عباس (٢) ، فكل شاعر في الإسلام يهجو ويمدح عن غير حقّ فهو داخل في [هذه الآية ، وكل تقيّ منهم يكثر من الزهد ، ويمسك عن كل ما يعاب فهو داخل في] (٣) الاستثناء.

ت : قد كتبنا ـ والحمد لله ـ في هذا المختصر ـ جملة صالحة في فضل الأذكار ؛ عسى الله أن ينفع به من وقع بيده ، ففي «جامع الترمذيّ» عن أبي سعيد الخدريّ ، قال : سئل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أيّ العباد أفضل درجة عند الله تعالى يوم القيامة؟ قال : «الذّاكرون الله كثيرا ، قلت : ومن الغازي في سبيل الله عزوجل؟! قال : لو ضرب بسيفه في الكفّار ٥٠ ب والمشركين حتّى ينكسر ويختضب دما ـ لكان الذّاكرون الله تعالى أفضل منه» (٤) / وروى الترمذيّ ، وابن ماجه عن أبي الدّرداء ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا أنبّئكم بخير أعمالكم ، وأزكاها عند مليككم ، وأرفعها في درجاتكم ، وخير لكم من إنفاق الذّهب والورق ؛ وخير لكم من أن تلقوا عدوّكم فتضربوا أعناقهم ونضربوا أعناقكم؟ قالوا : بلى ، قال : ذكر الله تعالى» (٥). قال الحاكم أبو عبد الله في كتابه «المستدرك على الصحيحين».

__________________

(١) أخرجه الطبريّ (٩ / ٤٩١) برقم (٢٦٨٥٦) ، وذكره ابن عطية (٤ / ٢٤٧)

(٢) ذكره ابن عطية (٤ / ٢٤٧)

(٣) سقط في ج.

(٤) أخرجه الترمذيّ (٥ / ٤٢٨) كتاب الدعوات : باب فضل الذكر ، حديث (٣٣٧٦) ، وأحمد (٣ / ٧٥) من طريق دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري به. وقال الترمذيّ : هذا حديث غريب ، إنما نعرفه من حديث دراج.

(٥) أخرجه الترمذيّ (٥ / ٤٥٩) كتاب الدعاء : باب (٦) حديث (٣٣٧٧) ، وابن ماجه (٢ / ١٢٤٥) كتاب الأدب : باب فضل الذكر ، حديث (٣٧٩٠) ، وأحمد (٥ / ١٩٥) ، والحاكم (١ / ٤٩٦) عن أبي الدرداء مرفوعا.

٢٤٠