تفسير الثعالبي - ج ٤

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي

تفسير الثعالبي - ج ٤

المؤلف:

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٥

قوله : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) [البقرة : ١٨٨] ففي التعدي والخدع ونحوه ، وأمّا هذه الآية ففي إباحة طعام هذه الأصناف التي يسرها ـ استباحة طعامها على هذه الصفة ، وأمّا آية الإذن فعلة إيجاب الاستئذان خوف الكشفة ، فإذا استأذن المرء ودخل المنزل بالوجه المباح صحّ له بعد ذلك أكل الطعام بهذه الإباحة ، وليس يكون في الآية نسخ فتأمله.

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٢) لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٦٤)

وقوله / تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ...) الآية : إنّما هنا : للحصر ، والأمر الجامع يراد به ما للإمام حاجة إلى جمع الناس فيه لمصلحة ، فالأدب اللازم في ذلك ألّا يذهب أحد لعذر إلّا بإذنه ، والإمام الذي يترقّب إذنه هو إمام الإمارة ، وروي : أنّ هذه الآية نزلت في وقت حفر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خندق المدينة ، فكان المؤمنون يستأذنون ، والمنافقون يذهبون دون إذن ، ثم أمر تعالى نبيّه عليه‌السلام بالاستغفار لصنفي المؤمنين : من أذن له ، ومن لم يؤذن [له] (١). وفي ذلك تأنيس للمؤمنين ورأفة بهم.

وقوله تعالى : (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً) أي : لا تخاطبوه كمخاطبة بعضكم لبعض ، وأمرهم تعالى في هذه الآية وفي غيرها أن يدعوا رسول الله بأشرف أسمائه ؛ وذلك هو مقتضى التوقير ، فالأدب في الدعاء أن يقول : يا رسول الله ، ويكون ذلك بتوقير وبرّ ، وخفض صوت ، قاله مجاهد (٢) ، واللواذ : الروغان ، ثم أمرهم تعالى بالحذر من عذاب الله ونقمته إذا خالفوا أمره ومعنى (يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) أي : يقع خلافهم بعد أمره ، ثم أخبر تعالى أنّه قد علم ما أهل الأرض والسماء عليه ، وباقي الآية بيّن ، والحمد لله.

__________________

(١) سقط في ج.

(٢) أخرجه الطبريّ (٩ / ٣٦٠) برقم (٢٦٢٦٢ ، ٢٦٢٦٣) ، وذكره البغوي (٣ / ٣٥٩) ، وابن عطية (٤ / ١٩٨) ، وابن كثير (٣ / ٣٠٦) ، والسيوطي (٥ / ١١١) ، وعزاه لابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد.

٢٠١

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

صلى الله على سيدنا ومولانا محمد ، وعلى آله وسلّم

تفسير سورة الفرقان

[وهي] (١) مكّيّة في قول الجمهور

(تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (١) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (٢) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً) (٣)

قوله تعالى : (تَبارَكَ) هو مطاوع «بارك» من البركة ، و «بارك» فاعل من واحد ، ومعناه : زاد ، و «تبارك» : فعل مختصّ بالله تعالى ، لم يستعمل في غيره ، وهو صفة فعل ، أي : كثرت بركاته ، ومن جملتها : إنزال كتابه الذي هو الفرقان بين الحقّ والباطل.

والضمير في قوله : (لِيَكُونَ) ، قال ابن زيد (٢) : هو لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو عبده المذكور ، ويحتمل أن يكون للفرقان.

وقوله : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) عامّ في كل مخلوق ، ثم عقّب تعالى بالطعن على قريش في اتخاذهم آلهة ليست لها صفات الألوهيّة. والنشور : بعث الناس من القبور.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (٤) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٥) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) (٦)

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني : قريشا (إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ) : محمد ، (وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) تقدمت الإشارة إلى ذلك في سورة النحل ، ثم أكذبهم الله تعالى ، وأخبر أنّهم

__________________

(١) سقط في ج.

(٢) أخرجه الطبريّ (٩ / ٣٦٣) رقم (٢٦٢٦٩) ، وذكره ابن عطية (٤ / ١٩٩)

٢٠٢

ما جاؤوا إلّا إثما وزورا ، أي : ما قالوا إلّا باطلا وبهتانا ؛ قال البخاريّ (١) : (تُمْلى عَلَيْهِ) تقرأ عليه ؛ من أمليت وأمللت ، انتهى. ثم أمر تعالى نبيّه ـ عليه‌السلام ـ أن يقول : إنّ الذي أنزله هو الذي يعلم سرّ جميع الأشياء التي في السموات والأرض ، وعبارة الشيخ العارف بالله ، سيدي عبد الله بن أبي جمرة (رضي الله عنه) : ولما كان المراد منّا بمقتضى الحكمة الربانيّة العبادة ودوامها ؛ ولذلك خلقنا كما ذكر مولانا سبحانه في الآية الكريمة ، يعني : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الآية [الذاريات : ٥٦]. وهو عزل وجل غنيّ عن عبادتنا وعن كل شيء ؛ لكن الحكمة اقتضته لأمر لا يعلمه إلّا هو ؛ كما قال الله عزوجل : (الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : الذي يعلم الحكمة في خلقها وكذلك في خلقنا وخلق جميع المخلوقات ، انتهى.

(وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (٧) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٨) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٩) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (١٠) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً) (١١) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (١٢) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (١٣) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً) (١٤).

(وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ ...) الآية : المعنى عندهم : أنّ من كان رسولا فهو مستغن عن الأكل والمشي في الأسواق ، ومحاجّتهم بهذا مذكورة في السير ، ثم أخبر تعالى عن كفّار قريش ، وهم الظالمون المشار إليهم ، أنّهم قالوا : (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) أي : قد سحر ، ثمّ نبّه تعالى نبيّه مسلّيا له عن مقالتهم فقال : (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ ...) الآية ، والقصور التي في هذه الآية تأوّلها الثعلبيّ وغيره أنّها في الدنيا ، والقصور هي البيوت المبنيّة بالجدرات ، لأنّها قصرت عن الداخلين والمستأذنين ، وباقي الآية بيّن ، والضمير في (رَأَتْهُمْ) لجهنم.

(قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (١٥) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (١٦) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (١٧) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ

__________________

(١) ينظر : «صحيح البخاري» (٨ / ٣٤٨) كتاب «التفسير» : باب سورة الفرقان.

٢٠٣

يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً) (١٨)

وقوله سبحانه : (قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ) المعنى : قل يا محمد لهؤلاء الكفرة الصائرين إلى هذه الأحوال من النار : أذلك خير أم جنّة الخلد ، وهذا استفهام على جهة التوقيف والتوبيخ ؛ لأنّ الموقف جائز له أن يوقف محاوره على ما شاء ؛ ليرى هل يجيبه بالصواب أو بالخطإ.

وقوله تعالى : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) يعني الكفار ، (وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) يريد كل شيء عبد من دون الله ، وقرأ ابن (١) عامر : «فنقول» بالنون ، قال جمهور المفسرين : والموقف المجيب كل من ظلم بأن عبد ممّن يعقل كالملائكة وعيسى وعزير وغيرهم ، وقال الضحّاك وعكرمة : الموقف المجيب : الأصنام التي لا تعقل يقدرها الله تعالى على هذه المقالة ، ويجيء خزي الكفرة لذلك أبلغ (٢) ، وقرأ الجمهور (٣) : «نتّخذ» ـ بفتح النون ـ ، وذهبوا بالمعنى إلى أنّه من قول من يعقل ، وأنّ هذه الآية بمعنى التي في سورة سبإ : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ) الآية [سبأ : ٤٠]. وكقول عيسى : (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ) [المائدة : ١١٧].

وقولهم : (حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ) أي : ما ذكر به الناس على ألسنة الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ ، وقرأ زيد بن ثابت (٤) وجماعة : «نتّخذ» ـ بضم النون ـ.

(فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ

__________________

(١) قال أبو علي الفارسي : وقراءة ابن عامر : «ويوم نحشرهم فنقول» حسن ؛ لإجرائه المعطوف مجرى المعطوف عليه في لفظ الجمع ، وقد قال : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ) [سبأ : ٤٠] ، (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا) [الأنعام : ٢٢] ، (وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ) [الكهف : ٤٧].

ينظر : «الحجة للقراء السبعة» (٥ / ٣٣٨) ، و «السبعة» (٤٦٣) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ١١٧) ، و «معاني القراءات» (٢ / ٢١٤) ، و «شرح الطيبة» (٥ / ٩٣) ، و «العنوان» (١٤٠) ، و «حجة القراءات» (٥٠٩) ، و «شرح شعلة» (٥١٧) ، و «إتحاف» (٢ / ٣٠٦)

(٢) ذكره البغوي (٣ / ٣٦٣ ـ ٣٦٤) ، وابن عطية (٤ / ٢٠٤)

(٣) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ٢٠٤) ، و «البحر المحيط» (٦ / ٤٤٦) ، و «الدر المصون» (٥ / ٢٤٧)

(٤) وقرأ بها أبو جعفر ، والحسن ، وأبو الدرداء ، وأبو رجاء ، ونصر بن علقمة ، ومكحول ، وزيد بن علي ، وحفص بن حميد ، والسلمي.

ينظر «الشواذ» ص (١٠٥) ، و «الكشاف» (٣ / ٢٧٠) ، و «المحرر الوجيز» (٤ / ٢٠٤) ، و «البحر المحيط» (٦ / ٤٤٨) ، و «الدر المصون» (٥ / ٢٤٧)

٢٠٤

عَذاباً كَبِيراً (١٩) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً) (٢٠)

وقوله تعالى : (فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ ...) الآية : خطاب من الله تعالى للكفرة ، أخبرهم أنّ معبوداتهم كذبتهم ، وفي هذا الإخبار خزي وتوبيخ لهم ، وقرأ حفص عن عاصم : «فما تستطيعون» ـ بالتاء من فوق ـ ؛ قال مجاهد (١) : الضمير في «يستطيعون» هو للمشركين ، و (صَرْفاً) معناه ردّ التكذيب أو العذاب.

وقوله تعالى : (وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ) قيل : هو خطاب للكفّار ، وقيل : للمؤمنين ، والظلم هنا : الشرك ، قاله الحسن (٢) وغيره ، وقد يحتمل أن يعم غيره من المعاصي ، وفي حرف أبيّ : «ومن يكذب منكم نذقه عذابا كبيرا».

وقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ...) الآية : ردّ على قريش في قولهم : (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) ثم أخبر عزوجل أنّ السبب في ذلك أنّه جعل بعض عبيدة فتنة لبعض على العموم في جميع الناس مؤمن وكافر ، والتوقيف ب (أَتَصْبِرُونَ) خاصّ بالمؤمنين المحققين ، قال ابن العربيّ في «الأحكام» (٣) : ولما كثر الباطل في الأسواق ، وظهرت فيه المناكر ـ كره علماؤنا دخولها لأرباب الفضل والمقتدى يهم في الدّين ؛ تنزيها لهم عن البقاع التي يعصى الله تعالى فيها ، انتهى. ثم أعرب قوله تعالى : (وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً) عن الوعد للصابرين والوعيد للعاصين ، وعن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من دخل السوق ، فقال : لا إله إلّا الله وحده ، لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، يحيي ويميت ، وهو حيّ لا يموت ، بيده الخير ، وهو على كلّ شيء قدير ـ كتب الله له ألف ألف حسنة ، ومحا عنه ألف ألف سيّئة ، ورفع له ألف ألف درجة» (٤) ، رواه الترمذيّ وابن ماجه ، وهذا لفظ الترمذيّ ، وزاد في رواية أخرى : «وبنى له بيتا في الجنّة» ، ورواه الحاكم في «المستدرك» من عدة طرق ، انتهى من «السلاح».

__________________

(١) أخرجه الطبريّ (٩ / ٣٧٥) برقم (٢٦٣٠٧ ، ٢٦٣٠٨) ، وذكره ابن عطية (٤ / ٢٠٤) ، والسيوطي (٥ / ١١٩) ، وعزاه للفريابي ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد.

(٢) أخرجه الطبريّ (٩ / ٣٧٦) برقم (٢٦٣١٢) عن الحسن ، و (٣٦٣١١) عن ابن جريج. وذكره ابن عطية (٤ / ٢٠٤) ، والسيوطي (٥ / ١١٩) ، وعزاه لعبد الرزاق عن الحسن.

(٣) ينظر : «أحكام القرآن» (٣ / ١٤١٤)

(٤) تقدم تخريجه في سورة آل عمران.

٢٠٥

(وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (٢١) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (٢٢) وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (٢٣) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) (٢٤)

وقوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا ...) الآية : الرجاء هنا على بابه ، وقيل : هو بمعنى الخوف ، ولما تمنّت كفّار قريش رؤية ربّهم أخبر تعالى عنهم أنّهم عظّموا أنفسهم ، وسألوا ما ليسوا له بأهل.

ص (لَقَدِ) جواب قسم محذوف ، انتهى. والضمير في قوله : (وَيَقُولُونَ) قال مجاهد (١) ، وغيره : هو للملائكة ، والمعنى : يقول الملائكة للمجرمين : حجرا محجورا عليكم البشرى ، أي : حراما محرّما ، والحجر : الحرام ، وقال [مجاهد أيضا] (٢) وابن جريج (٣) : الضمير للكافرين المجرمين ، قال ابن جريج : كانت العرب إذا كرهوا شيئا ، قالوا : حجرا ، قال مجاهد : حجرا عوذا يستعيذون من الملائكة(٤).

قال ع (٥) : ويحتمل أن يكون المعنى : ويقولون حرام محرّم علينا العفو ، وقد ذكر أبو عبيدة أنّ هاتين اللفظتين عوذة للعرب يقولها من خاف آخر في الحرم ، أو في شهر حرام إذا لقيه وبينهما ترة ؛ قال الداوديّ : وعن مجاهد (٦) : (وَقَدِمْنا) أي : عمدنا ، انتهى.

قال ع (٧) : (وَقَدِمْنا) أي : قصد حكمنا وإنفاذنا ونحو هذا من الألفاظ اللائقة ، ومعنى الآية : وقصدنا إلى أعمالهم التي لا تزن شيئا فصيرناها هباء ، أي : شيئا لا تحصيل له ، والهباء : ما يتطاير في الهواء من الأجزاء الدقيقة ولا يكاد يرى إلّا في الشمس ، قاله ابن

__________________

(١) أخرجه الطبريّ (٩ / ٣٧٩) برقم (٢٦٣٢٢) ، وذكره ابن عطية (٤ / ٢٠٦) عن الحسن ، وقتادة ، والضحاك ومجاهد ، وابن كثير (٣ / ٣١٤) ، والسيوطي (٥ / ١٢١) وعزاه للفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد.

(٢) سقط في ج.

(٣) أخرجه الطبريّ (٩ / ٣٧٩) برقم (٢٦٣٢٣) ، وذكره البغوي (٣ / ٣٦٥) ، وابن عطية (٤ / ٢٠٦) ، والسيوطي (٥ / ١٢١) ، وعزاه للفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد.

(٤) أخرجه الطبريّ (٩ / ٣٧٩) برقم (٢٦٣٢١) ، وذكره البغوي (٣ / ٣٦٥) ، وابن عطية (٤ / ٢٠٦)

(٥) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ٢٠٦)

(٦) أخرجه الطبريّ (٩ / ٣٨٠) رقم (٢٦٣٢٤) ، وذكره ابن كثير (٣ / ١٣٤)

(٧) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ٢٠٦)

٢٠٦

عباس (١) وغيره ، ومعنى هذه الآية : جعلنا أعمالهم لا حكم لها ولا منزلة ، ووصف تعالى الهباء في هذه الآية بمنثور ، ووصفه في غيرها بمنبثّ ، فقالت فرقة : هما سواء ، وقالت فرقة : المنبثّ : أرقّ وأدقّ من المنثور ؛ لأنّ المنثور يقتضي أنّ غيره نثره ، والمنبثّ كأنه انبثّ من دقّته.

وقوله تعالى : (وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) ذهب ابن عباس والنّخعيّ وابن جريج : إلى أن حساب الخلق يكمل في وقت ارتفاع النهار ، ويقيل أهل الجنة في الجنة ، وأهل النار في النار ، فالمقيل : القائلة (٢).

قال ع : ويحتمل أنّ اللفظة إنّما تضمنت تفضيل الجنّة جملة ، وحسن هوائها ؛ فالعرب تفضّل البلاد بحسن المقيل ؛ لأنّ وقت القائلة يبدي فساد هواء البلاد ، فإذا كان بلد في وقت فساد الهواء حسنا حاز الفضل ، وعلى ذلك شواهد.

(وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (٢٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (٢٦) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (٢٧) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (٢٨) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً) (٢٩)

(وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ) يريد : يوم القيامة.

ص : (بِالْغَمامِ) الباء : للحال ، أي : متغيمة ، أو للسبب ، أو بمعنى «عن» ، انتهى. وفي قوله تعالى : (وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً) : دليل على أنّه سهل على المؤمنين ، وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : «إنّ الله ليهوّن يوم القيامة على المؤمن ، حتّى يكون عليه أخفّ من صلاة مكتوبة صلّاها في الدّنيا». وعضّ اليدين هو فعل النادم ؛ قال ابن عباس وجماعة من المفسرين : الظالم في هذه الآية عقبة بن أبي معيط ؛ وذلك أنّه كان أسلم أو جنح إلى الإسلام ، وكان أبيّ بن خلف الذي قتله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده يوم أحد خليلا

__________________

(١) أخرجه الطبريّ (٩ / ٣٨١) برقم (٢٦٣٣١) ، وذكره البغوي (٣ / ٣٦٦) ، وابن عطية (٤ / ٢٠٧) ، والسيوطي (٥ / ١٢٢) ، وعزاه لابن أبي حاتم عن ابن عباس نحوه.

(٢) أخرجه الطبريّ (٩ / ٣٨٢) برقم (٣٦٣٣٦) عن إبراهيم النخعي ، (٣٦٣٣٧) وابن جريج ، (٣٦٣٣٥) وابن عباس ، وذكره ابن عطية (٤ / ٢٠٧) ، وابن كثير (٣ / ٣١٥) عن ابن عباس ، والسيوطي (٥ / ١٢٣) ، وعزاه لابن أبي حاتم عن ابن عباس ، وعزاه لابن المبارك ، وسعيد بن منصور ، وابن المنذر ، وأبي نعيم في «الحلية» عن إبراهيم النخعي.

٢٠٧

لعقبة ، فنهاه عن الإسلام ، فقبل نهيه ؛ فنزلت الآية فيهما (١) ، فالظالم : عقبة ، و (فُلاناً) أبيّ. قال السهيلي : وكنّى سبحانه عن هذا الظالم ولم يصرّح باسمه ؛ ليكون هذا الوعيد غير مخصوص به ولا مقصور عليه ؛ بل يتناول جميع من فعل مثل فعله ، انتهى.

٤٣ ب / وقال مجاهد (٢) وغيره : (الظَّالِمُ) عام ، اسم جنس ، وهذا هو الظاهر ، وأنّ مقصد الآية تعظيم يوم القيامة وذكر هوله بأنّه يوم تندم فيه الظلمة ، وتتمنّى أنّها لم تطع في دنياها أخلّاءها ، والسبيل المتمنّاة : هي طريق الآخرة ، وفي هذه الآية لكل ذي نهية تنبيه على تجنب قرين السوء ، والأحاديث والحكم في هذا الباب كثيرة مشهورة ، و (الذِّكْرِ) : ما ذكّر الإنسان أمر آخرته من قرآن ، أو موعظة ونحوه.

(وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً) يحتمل : أن يكون من قول الظالم ، ويحتمل : أن يكون ابتداء إخبار من الله عزوجل على وجه التحذير من الشيطان الذي بلّغهم ذلك المبلغ.

(وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (٣٠) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (٣١) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (٣٢) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (٣٣) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً) (٣٤)

وقوله تعالى : (وَقالَ الرَّسُولُ) حكاية عن قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الدنيا وتشكيه ما يلقى من قومه ؛ هذا قول الجمهور ، وهو الظاهر ، وقالت فرقة : هو حكاية عن قوله ذلك في الآخرة ، و (مَهْجُوراً) يحتمل : أن يريد مبعدا مقصيّا من الهجر بفتح الهاء ، وهذا قول ابن زيد (٣) ، ويحتمل : أن يريد مقولا فيه الهجر ـ بضم الهاء ؛ إشارة إلى قولهم : شعر وكهانة ونحوه ؛ قاله مجاهد (٤).

قال ع (٥) : وقول ابن زيد منبّه للمؤمن على ملازمة المصحف ، وألّا يكون الغبار

__________________

(١) أخرجه الطبريّ (٩ / ٣٨٤) برقم (٢٦٣٤٧) ، وذكره ابن عطية (٤ / ٢٠٨) والسيوطي (٥ / ١٢٥) وعزاه لأبي نعيم من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس.

(٢) ذكره ابن عطية (٤ / ٢٠٨) ، والسيوطي (٥ / ١٢٧) ، وعزاه للفريابي ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد بلفظ : «الشيطان».

(٣) أخرجه الطبريّ (٩ / ٣٨٦) برقم (٢٦٣٥٧) ، وذكره ابن عطية (٤ / ٢٠٩)

(٤) أخرجه الطبريّ (٩ / ٣٨٦) برقم (٢٦٣٥٥) ، وذكره ابن عطية (٤ / ٢٠٩) ، والسيوطي (٥ / ١٢٧) ، وعزاه للفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد.

(٥) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ٢٠٩)

٢٠٨

يعلوه في البيوت ، ويشتغل بغيره ، وروى أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من علّق مصحفا ، ولم يتعاهده ـ جاء يوم القيامة متعلّقا به يقول : يا ربّ ، هذا اتّخذني مهجورا ؛ اقض بيني وبينه» وفي حلية النووي قال : وروينا في «سنن أبي داود» و «مسند الدّارميّ» عن سعد بن عبادة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : لمن قرأ القرآن ثمّ نسيه ، لقي الله تعالى يوم القيامة أجذم» (١) ، وروينا في كتاب أبي داود والترمذيّ عن أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «عرضت عليّ أجور أمّتي حتّى القذاة يخرجها الرجل من المسجد ، وعرضت عليّ ذنوب أمّتي فلم أر ذنبا أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها رجل ثم نسيها» (٢) تكلم الترمذيّ فيه ، انتهى ، ثم سلّاه تعالى عن فعل قومه بقوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) أي : فاصبر كما صبروا ؛ قاله ابن عباس (٣) ، ثم وعد تعالى بقوله : (وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً) والباء في (بِرَبِّكَ) : للتأكيد دالّة على الأمر ؛ إذ المعنى : اكتف بربك.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) (٤) (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) قال ابن عباس (٥) وغيره : قالوا في بعض معارضاتهم : لو كان من عند الله لنزل جملة كالتوراة والإنجيل.

وقوله : (كَذلِكَ) يحتمل أن يكون من قول الكفّار ؛ إشارة إلى التوراة والإنجيل ، ويحتمل أن يكون من الكلام المستأنف وهو أولى ، ومعناه : كما نزّل أردناه ، فالإشارة إلى نزوله متفرّقا ، والترتيل : التفريق بين الشيء المتتابع ، ومنه ترتيل القرآن ، وجعل الله تعالى السبب في نزوله متفرقا : تثبيت قلب نبيّه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأن ينزله في النوازل والحوادث التي

__________________

(١) أخرجه أبو داود (١ / ٤٦٥) كتاب الصلاة : باب التشديد فيمن حفظ القرآن ثم نسيه ، حديث (١٤٧٤) ، والدارمي (٢ / ٤٣٧) كتاب «فضائل القرآن» : باب من تعلم القرآن ثم نسيه ، وأحمد (٥ / ٣٢٣) من حديث سعد بن عبادة.

(٢) أخرجه أبو داود (١ / ١٧٩) كتاب «الصلاة» : باب في كنس المساجد ، حديث (٤٦١) ، والترمذيّ (٥ / ١٧٨ ـ ١٧٩) كتاب «فضائل القرآن» : باب (١٩) حديث (٢٩١٦) ، وكلاهما من طريق المطلب بن حنطب عن أنس بن مالك مرفوعا.

وقال الترمذيّ : هذا حديث غريب ، لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وذاكرت به محمد بن إسماعيل فلم يعرفه ، واستغربه. قال محمد : ولا أعرف للمطلب بن عبد الله سماعا من أحد من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا قوله : حدثني من شهد خطبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال : وسمعت عبد الله بن عبد الرحمن (هو الدارمي) يقول : لا نعرف للمطلب سماعا من أحد من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال عبد الله : وأنكر علي بن المديني أن يكون المطلب سمع من أنس.

(٣) أخرجه الطبريّ (٩ / ٣٨٦) برقم (٢٦٣٥٨) بنحوه ، والسيوطي (٥ / ١٢٧)

(٤) في ج «وقالوا الذين كفروا».

(٥) ذكره ابن عطية (٤ / ٢٠٩) ، والسيوطي (٥ / ١٢٧) ، وعزاه لابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والضياء في «المختارة» عن ابن عباس.

٢٠٩

قد قدّرها وقدّر نزوله فيها ، وأنّ هؤلاء الكفرة لا يجيئون بمثل يضربونه على جهة المعارضة منهم إلّا جاء القرآن بالحقّ في ذلك والجلية ، ثم هو أحسن تفسيرا ، وأفصح بيانا ، وباقي الآية بيّن تقدم تفسير نظيره ، والجمهور : أنّ هذا المشي على الوجوه حقيقة ، وقد جاء كذلك في الحديث ، وقد تقدّم ، ولفظ البخاريّ عن أنس [رضي الله عنه] : / أنّ رجلا قال : يا نبيّ الله ، أيحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ قال : «أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدّنيا قادرا على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة» (١) قال قتادة : بلى وعزّة ربّنا ، انتهى.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (٣٥) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (٣٦) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (٣٨) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (٣٩) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (٤٠) وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً (٤١) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٢) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (٤٣) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) (٤٤)

وقوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ ...) الآيات تنبيه لكفار قريش ، وتوعّد أن يحلّ بهم ما حلّ بهؤلاء المعذّبين ؛ قال قتادة (٢) : أصحاب الرسّ ، وأصحاب الأيكة : قومان أرسل إليهما شعيب ، وقاله وهب (٣) بن منبه ، وقيل غير هذا.

وقوله تعالى : (وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً) إبهام لا يعلم حقيقته إلّا الله عزوجل ، والتبار : الهلاك ، والقرية التي أمطرت مطر السوء هي : «سدوم» مدينة قوم لوط ، وما لم نذكر تفسيره قد تقدم بيانه للفاهم المتيقظ ، ثم ذكر سبحانه أنّهم إذا رأوا محمدا عليه‌السلام قالوا على جهة الاستهزاء : (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً).

قال ص : (إِنْ يَتَّخِذُونَكَ) [إن] (٤) نافية ، جواب «إذا» ، انتهى ، ثم آنس الله تعالى نبيّه بقوله : (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ...) الآية ، المعنى : لا تتأسف عليهم ،

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) ذكره ابن عطية (٤ / ٢١٠) ، والسيوطي (٥ / ١٢٩) ، وعزاه لابن عساكر.

(٣) ذكره ابن عطية (٤ / ٢١١)

(٤) سقط في ج.

٢١٠

ومعنى (اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) أي : جعل هواه مطاعا فصار كالإله. (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ) أي : بل هم كالأنعام.

قلت : وعبارة الواحدي : (إِنْ هُمْ) أي : ما هم إلّا كالأنعام ، انتهى.

(أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (٤٥) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (٤٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (٤٧) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (٤٨) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (٤٩) وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٥٠) وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (٥١) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً) (٥٢)

وقوله سبحانه : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ...) الآية : مدّ الظل بإطلاق : هو ما بين أول الإسفار إلى بزوغ الشمس ، ومن بعد مغيبها أيضا وقتا يسيرا ؛ فإنّ في هذين الوقتين على الأرض كلّها ظلّا ممدودا.

(وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً) أي : ثابتا غير متحرك ولا منسوخ ، لكنه جعل الشمس ونسخها إيّاه ، وطردها له من موضع إلى موضع ؛ دليلا عليه مبيّنا لوجوده ولوجه العبرة فيه ، وحكى الطبريّ (١) أنّه : لو لا الشمس لم يعلم أنّ الظل شيء ، إذ الأشياء إنّما تعرف بأضدادها.

وقوله تعالى : (قَبْضاً يَسِيراً) يحتمل أن يريد ، لطيفا ، أي : شيئا بعد شيء ، لا في مرة واحدة.

قال الداوديّ : قال الضحّاك : (قَبْضاً يَسِيراً) يعني : الظلّ إذا علته الشمس (٢) ، انتهى. قال الطبريّ (٣) : ووصف الليل باللباس من حيث يستر الأشياء ويغشاها ، والسبات : ضرب من الإغماء يعتري اليقظان مرضا ، فشبّه النوم به ، والنشور هنا : الإحياء ، شبّه اليقظة به ، ويحتمل أن يريد بالنشور وقت انتشار وتفرق ، و (أَناسِيَ) : قيل [هو] (٤) جمع إنسان ،

__________________

(١) ينظر : «الطبريّ» (٩ / ٣٩٥)

(٢) أخرجه الطبريّ (٩ / ٣٩٤) رقم (٢٦٣٩٨)

(٣) ينظر «الطبريّ» (٩ / ٣٩٦)

(٤) سقط في ج.

٢١١

والياء المشدّدة بدل من النون في الواحد ، قاله سيبويه ، وقال المبرّد : هو جمع إنسي ، والضمير في (صَرَّفْناهُ) عائد على القرآن وإن لم يتقدم له ذكر ، ويعضد ذلك قوله : (وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً).

(وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (٥٣) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (٥٤) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (٥٥) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (٥٦) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) (٥٧)

وقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) مرج معناه : خلط.

قال ع (١) : والذي أقول به في معنى هذه الآية : أنّ المقصود بها التنبيه على قدرة الله تعالى في أنّ بثّ في الأرض مياها عذبة كثيرة ، جعلها خلال الأجاج ، وجعل الأجاج خلالها ، كما هو مرئيّ تجد البحر قد اكتنفته المياه العذبة في ضفّته ، وتجد الماء العذب في الجزائر ونحوها قد اكتنفه الماء الأجاج ، وكلّ باق على حاله ومطعمه ؛ فالبحران : يراد بهما جميع الماء العذب ، وجميع الماء الأجاج ، والبرزخ والحجر هو ما بين البحرين من الأرض واليبس ؛ قاله (٢) الحسن ، والفرات : الصافي اللذيذ المطعم ، والأجاج أبلغ ما يكون من الملوحة.

وقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ / بَشَراً ...) الآية تعديد نعم على الناس ، والنسب : هو أن يجتمع إنسان مع آخر في أب أو أمّ ، والصهر هو تواشج المناكحة ، فقرابة الزوجة هم الأختان ، وقرابة الزوج هم الأحماء ، والأصهار يقع عاما لذلك كله.

وقوله تعالى : (وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً) أي : معينا ؛ يعينون على ربّهم غيرهم من الكفرة بطاعتهم للشيطان ، وهذا تأويل مجاهد (٣) وغيره ، والكافر هنا اسم جنس ، وقال

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ٢١٤)

(٢) أخرجه الطبريّ (٩ / ٤٠٠) برقم (٢٦٤٣٠) ، وذكره ابن عطية (٤ / ٢١٤) ، والسيوطي (٥ / ١٣٦) ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم عن الحسن.

(٣) أخرجه الطبريّ (٩ / ٤٠١) برقم (٢٦٤٣٥) ، وذكره ابن عطية (٤ / ٢١٥) ، والسيوطي (٥ / ١٣٧) ، وعزاه لابن أبي شيبة ، وسعيد بن منصور ، والفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد.

٢١٢

ابن عباس (١) : هو أبو جهل.

قال ع (٢) : فيشبه أنّ أبا جهل هو سبب الآية ، ولكنّ اللفظ عام للجنس كله.

قلت : والمعنى : على دين ربّه ظهيرا.

وقوله تعالى : (إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) الظاهر فيه : أنّه استثناء منقطع ، والمعنى : لكن مسؤولي ومطلوبي من شاء أن يهتدي ويؤمن ، ويتخذ إلى رحمة ربه طريق نجاة.

(وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (٥٨) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) (٥٩)

وقوله سبحانه : (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ).

قال القشيريّ في «التحبير» : وإذا علم العبد أنّ مولاه حيّ لا يموت ، صحّ توكّله عليه ؛ قال تعالى : (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) قيل : إنّ رجلا كتب إلى آخر أنّ صديقي فلانا قد مات ، فمن كثرة ما بكيت عليه ذهب بصري ، فكتب إليه : الذّنب لك حين أحببت الحيّ الذي يموت ، فهلا أحببت الحيّ الذي لا يموت حتى لا تحتاج إلى البكاء عليه ، انتهى. وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما كربني أمر إلّا تمثّل لي جبريل عليه‌السلام فقال يا محمّد ، قل : توكّلت على الحيّ الّذي لا يموت ، والحمد لله الّذي لم يتّخذ ولدا ، ولم يكن له شريك في الملك ، ولم يكن له وليّ من الذّلّ ، وكبّره تكبيرا» رواه (٣) الحاكم في «المستدرك» وقال : صحيح الإسناد ، انتهى من «السلاح».

__________________

(١) أخرجه الطبريّ (٩ / ٤٠٢) برقم (٢٦٤٤٠) ، وابن عطية (٤ / ٢١٥) ، والسيوطي (٥ / ١٣٧) ، وعزاه لابن مردويه عن ابن عباس.

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ٢١٥)

(٣) أخرجه الحاكم في «المستدرك» (١ / ٥٠٩) من حديث أبي هريرة مرفوعا.

وقال الحاكم : صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه.

وذكره الهندي في «كنز العمال» (٢ / ١١٩ ـ ١٢٠) رقم (٣٤٢٤) ، وعزاه لابن أبي الدنيا في «الفرج» ، والبيهقي في «الأسماء» عن إسماعيل بن أبي فديك مرسلا.

وعزاه لابن صصرى في «أماليه» عن أبي هريرة.

٢١٣

وقوله تعالى : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) أي : قل : سبحان الله وبحمده أي : تنزيهه واجب وبحمده أقول ، وصحّ عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : «من قال في كلّ يوم سبحان الله وبحمده مائة مرّة غفرت له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر» (١) فهذا معنى قوله : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) وهي إحدى الكلمتين الخفيفتين على اللسان الثقيلتين في الميزان ، الحديث في البخاري وغيره (٢).

ت : وعن جويريّة ـ رضي الله عنها ـ أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج من عندها بكرة حين صلّى الصبح ، وهي في مسجدها ، ثمّ رجع بعد أن أضحى وهي جالسة فقال : «ما زلت على الحال الّتي فارقتك عليها؟ قالت : نعم ، قال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرّات ، لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهنّ : سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته» (٣) رواه الجماعة إلّا البخاريّ ، زاد النسائي في آخره : «والحمد لله كذلك» وفي رواية له : «سبحان الله وبحمده ، ولا إله إلّا الله ، والله أكبر عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته» انتهى من «السلاح». وقوله سبحانه : (وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً) : وعيد بيّن.

وقوله تعالى : «الرحمن» : يحتمل أن يكون : رفعه بإضمار مبتدإ ، أي : هو الرحمن ، ويحتمل أن يكون : بدلا من الضمير في قوله : (اسْتَوى).

وقوله : (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) [فيه تأويلان : أحدهما : فاسأل عنه خبيرا] (٤) والمعنى : اسأل جبريل والعلماء وأهل الكتاب ، والثاني : أن يكون المعنى كما تقول : لو لقيت فلانا لقيت به البحر كرما ، أي : لقيت منه ، والمعنى : فاسأل الله عن كل أمر ، وقال عياض في ٤٥ أ«الشفا» قال القاضي أبو بكر بن العلاء : المأمور بالسؤال غير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسئول الخبير هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم انتهى.

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) تقدم تخريجه.

(٣) أخرجه مسلم (٤ / ٢٠٩٠) كتاب الذكر والدعاء : باب التسبيح أول النهار وعند النوم ، حديث (٧٩ / ٢٧٢٦) ، والترمذيّ (٥ / ٥٥٦) كتاب الدعوات : باب (١٠٤) حديث (٣٥٥٥) ، والنسائي (٣ / ٧٧) كتاب السهو : باب نوع آخر من عدد التسبيح ، وابن ماجه (٢ / ١٢٥١ ـ ١٢٥٢) كتاب الأدب : باب فضل التسبيح ، حديث (٣٨٠٨) ، وأحمد (٦ / ٣٢٤) ، والبخاري في «الأدب المفرد» (٦٤٧) ، وابن خزيمة (٧٥٣) ، والبغوي في «شرح السنة» (٣ / ٨٢ ـ بتحقيقنا).

وقال الترمذيّ : هذا حديث حسن صحيح.

(٤) سقط في ج.

٢١٤

قال أبو حيان (١) : والظاهر تعلق به (فَسْئَلْ) وبقاء الباء على بابها ، و (خَبِيراً) من صفاته تعالى ، نحو : لقيت بزيد أسدا ، أي : أنّه الأسد شجاعة ، والمعنى : فاسأل الله الخبير بالأشياء ، انتهى.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً(٦٠) تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً) (٦١)

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ) يعني أنّ كفار قريش قالوا : ما نعرف الرحمن إلّا رحمن اليمامة ، وهو مسيلمة الكذّاب ، وكان مسيلمة تسمّى بالرحمن.

(أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ) هذا اللفظ (نُفُوراً) والبروج هي التي علمتها العرب ، وهي المشهورة عند اللغويين وأهل تعديل الأوقات ، وكل برج منها على منزلتين وثلث من منازل القمر التي ذكرها الله تعالى في قوله : (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ) [يس : ٣٩].

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (٦٢) وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) (٦٣)

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً) أي : هذا يخلف هذا ، وهذا يخلف هذا ، قال مجاهد وغيره : (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ) أي : يعتبر بالمصنوعات ويشكر الله تعالى على آلائه (٢) ، وقال عمر وابن عباس والحسن : معناه : لمن أراد أن يذكر ما فاته من الخير والصلاة ونحوه في أحدهما فيستدركه في الذي يليه (٣) ، وقرأ حمزة (٤) وحده : «يذكر» بسكون الذال وضم الكاف ، ثم لما قال تعالى : (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً) جاء بصفات عباده الذين هم أهل التذكرة والشكور.

وقوله : (الَّذِينَ يَمْشُونَ). [خبر مبتدإ ، والمعنى : وعباده حقّ عباده هم الذين يمشون.

__________________

(١) ينظر : «البحر المحيط» (٦ / ٤٦٥)

(٢) أخرجه الطبريّ (٩ / ٤٠٧) برقم (٢٦٤٥٨ ، ٢٦٤٥٩) ، وذكره البغوي (٣ / ٣٧٥) ، وابن عطية (٤ / ٢١٧) ، والسيوطي (٥ / ١٣٩) ، وعزاه للفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد.

(٣) ذكره ابن عطية (٣ / ٢١٨) ، وابن كثير (٣ / ٣٢٤) عن ابن عباس ، والسيوطي (٥ / ١٣٩) ، وعزاه لابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس ، وعزاه أيضا لعبد بن حميد عن الحسن.

(٤) ينظر : «السبعة» (٤٦٦) ، و «الحجة» (٥ / ٣٤٨) ، و «العنوان» (١٤١) ، و «إتحاف» (٢ / ٣١٠) ، و «حجة القراءات» (٥١٣)

٢١٥

وقوله : (يَمْشُونَ (١) عَلَى الْأَرْضِ) عبارة عن عيشهم ومدّة حياتهم وتصرّفاتهم ، و (هَوْناً) بمعنى أنّ أمرهم كله هيّن ، أي : ليّن حسن ؛ قال مجاهد (٢) : بالحلم والوقار.

وقال ابن عباس (٣) : بالطاعة والعفاف والتواضع ، وقال الحسن (٤) : حلماء ، إن جهل عليهم لم يجهلوا.

قال الثعلبيّ : قال الحسن (٥) : يمشون حلماء علماء مثل الأنبياء ، لا يؤذون الذّرّ في سكون وتواضع وخشوع ، وهو ضدّ المختال الفخور الذي يختال في مشيه ، اه.

قال عياض في صفة نبيّنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يخطو تكفّؤا (٦) ، ويمشي هونا ، كأنّما ينحطّ من صبب ، انتهى من «الشفا».

قال أبو حيان (٧) : (هَوْناً) : نعت لمصدر محذوف ، أي : مشيا هونا ، أو حال ، أي : هيّنين ، انتهى ، وروى الترمذيّ عن ابن مسعود أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ألا أخبركم بمن يحرم على النّار أو بمن تحرم عليه النّار؟ على كلّ قريب هيّن ، سهل» (٨) ، قال أبو عيسى : هذا

__________________

(١) سقط في ج.

(٢) أخرجه الطبريّ (٩ / ٤٠٧) برقم (٢٦٤٦١) ، وذكره ابن عطية (٤ / ٢١٨) ، والسيوطي (٥ / ١٤٠) ، وعزاه لعبد الرزاق ، والفريابي ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في «شعب الإيمان» عن مجاهد.

(٣) أخرجه الطبريّ (٩ / ٤٠٨) برقم (٢٦٤٦٩) ، وذكره ابن عطية (٤ / ٢١٨) والسيوطي (٥ / ١٤٠) ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس.

(٤) أخرجه الطبريّ (٩ / ٤٠٨) برقم (٢٦٤٧٤) ، وذكره البغوي (٣ / ٣٧٥) ، وابن عطية (٤ / ٢١٨) ، والسيوطي (٥ / ١٤١) ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن المنذر ، والبيهقي في «شعب الإيمان» عن الحسن.

(٥) أخرجه الطبريّ (٩ / ٤٠٨) برقم (٢٦٤٧٦) ، وذكره البغوي (٣ / ٣٧٥) ، وابن عطية (٤ / ٢١٨)

(٦) أي تمايل إلى قدام. ينظر : «النهاية» (٤ / ١٨٣)

(٧) ينظر : «البحر المحيط» (٦ / ٤٦٩)

(٨) أخرجه الترمذيّ (٤ / ٦٥٤) كتاب صفة القيامة : باب (٤٥) حديث (٢٤٨٨) ، وأحمد (١ / ٤١٥) ، وأبو يعلى (٨ / ٤٦٧ ـ ٤٦٨) رقم (٥٠٥٣) ، وابن حبان (١٠٩٦ ، ١٠٩٧ ـ موارد) ، والخرائطي في «مكارم الأخلاق» (١١) ، والطبراني في «الكبير» (١٠ / ٢٨٥) رقم (١٠٥٦٢) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (٧ / ٥٣٥ ـ ٥٣٦) رقم (١١٢٥١ ، ١١٢٥٢) ، والبغوي في «شرح السنة» (٦ / ٤٨٠ ـ بتحقيقنا) كلهم من طريق هشام بن عروة عن موسى بن عقبة عن عبد الله بن عمرو الأودي عن ابن مسعود مرفوعا.

وقال الترمذيّ : حديث حسن غريب.

وصححه ابن حبان.

وللحديث طريق آخر :

فقال ابن أبي حاتم في «العلل» (٢ / ١٠٨) : سألت أبي وأبا زرعة عن حديث رواه مصعب بن عبد الله ـ

٢١٦

حديث حسن ، انتهى.

(وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) العامل في (سَلاماً قالُوا) ، والمعنى : قالوا هذا اللفظ ، وقال مجاهد (١) : معنى (سَلاماً) : قولا سدادا ، أي : يقول للجاهل كلاما يدفعه به برفق ولين ، وهذه الآية كانت قبل آية السيف فنسخ منها ما يخصّ الكفرة ، وبقي أدبها في المسلمين إلى يوم القيامة ، قال صاحب «الحكم الفارقية» : إذا نازعك إنسان فلا تجبه ؛ فإنّ الكلمة الأولى أنثى وإجابتها فحلها ، فإن أمسكت عنها بترتها وقطعت نسلها ، وإن أجبتها ألقحتها ، فكم من نسل مذموم يتولد بينهما في ساعة واحدة ، انتهى.

(وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (٦٤) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (٦٥) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) (٦٦)

(وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً) هذه آية فيها تحريض على قيام الليل بالصلاة ، قال الحسن : لما [فرغ من] (٢) وصف نهارهم ، وصف في هذه ليلهم (٣) ، و (غَراماً) : معناه : ملازما ثقيلا ، و (مُقاماً) : من الإقامة ، وعن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من سأل الله الجنّة ثلاث مرّات ، قالت الجنّة : اللهمّ ، أدخله الجنّة ، ومن استجار من النّار ثلاث مرّات ، قالت النّار : اللهم أجره من النّار» (٤) ، رواه أبو داود ،

__________________

ـ الزبيري عن أبيه عن هشام بن عروة عن محمد بن المنكدر عن جابر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ... فذكر الحديث قالا : هذا خطأ ، رواه الليث بن سعد وعبدة بن سليمان عن هشام بن عروة عن موسى بن عقبة عن عبد الله بن عمرو الأودي عن ابن مسعود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ... وهذا هو الصحيح.

(١) أخرجه الطبريّ (٩ / ٤٠٩) ، وذكره ابن عطية (٤ / ٢١٨) ، والسيوطي (٥ / ١٤٠) ، وعزاه لعبد الرزاق ، والفريابي ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في «شعب الإيمان» عن مجاهد.

(٢) سقط في ج.

(٣) ذكره ابن عطية (٤ / ٢١٩) ، والسيوطي (٥ / ١٤١) ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن المنذر ، والبيهقي في «شعب الإيمان» عن الحسن.

(٤) أخرجه الترمذيّ (٤ / ٦٩٩ ـ ٧٠٠) كتاب صفة الجنة : باب ما جاء في صفة أنهار الجنة ، حديث (٢٥٧٢) ، وابن ماجه (٢ / ١٤٥٣) كتاب الزهد : باب صفة الجنة ، حديث (٤٣٤٠) ، والنسائي (٨ / ٢٧٩) كتاب الاستعاذة : باب الاستعاذة من حر النار ، وأحمد (٣ / ١١٧ ، ١٤١ ، ١٥٥ ، ٢٦٢) ، وأبو يعلى (٦ / ٣٥٦) رقم (٣٦٨٢) ، وابن حبان (٢٤٣٣ ـ موارد) ، وابن أبي شيبة (١٠ / ٤٢١) رقم (٩٨٥٧) ، والحاكم (١ / ٥٣٤ ـ ٥٣٥) ، وهناد بن السري في «الزهد» (١ / ١٣٣) رقم (١٧٣) كلهم من حديث أنس.

وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي. وصححه أيضا ابن حبان.

٢١٧

والنسائي ، وابن ماجه ، وابن حبّان في «صحيحه» بلفظ واحد ، ورواه الحاكم في «المستدرك» ، وقال : صحيح الإسناد ، انتهى من «السلاح».

(وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) (٦٧)

وقوله سبحانه : (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا ...) الآية : عبارة أكثر المفسرين أنّ الذي لا يسرف هو المنفق في الطاعة وإن أفرط ، والمسرف هو المنفق في المعصية وإن قلّ إنفاقه ، وأنّ المقتر هو الذي يمنع حقّا عليه ؛ وهذا قول ابن عباس (١) وغيره ، والوجه أن يقال : إنّ النفقة في المعصية أمر قد حظرت الشريعة قليله وكثيره ، وهؤلاء الموصوفون منزّهون عن ذلك ، وإنّما التأديب بهذه الآية هو في نفقة الطاعات والمباحات ، فأدب الشريعة فيها ألّا يفرط الإنسان حتى يضيّع حقّا آخر أو عيالا ونحو هذا ، وألّا يضيّق أيضا ويقتر حتى يجمع العيال ويفرط في الشحّ ، والحسن في ذلك هو القوام ، أي : المعتدل ، والقوام في كل واحد بحسب عياله وحاله ، وخير الأمور أوساطها ؛ ولهذا ترك النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا بكر الصدّيق يتصدّق بجميع ماله ؛ لأنّ ذلك وسط بنسبة جلده وصبره في الدّين ، ومنع غيره من ذلك.

وقال عبد الملك بن مروان لعمر بن عبد العزيز حين زوّجه ابنته فاطمة : ما نفقتك؟ فقال له عمر : الحسنة بين السيّئتين ، ثم تلا الآية (٢) ، وقال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ : كفى بالمرء سرفا ألّا يشتهي شيئا إلّا اشتراه فأكله (٣). و (قَواماً) : خبر (كانَ) واسمها مقدّر ، أي : الإنفاق.

(وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (٦٨) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (٦٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٠) وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً (٧١) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) (٧٢)

(وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) الآية : في نحو هذه الآية قال ابن مسعود :

__________________

(١) أخرجه الطبريّ (٩ / ٤١١) نحوه ، وذكره البغوي (٣ / ٣٧٦) نحوه ، وابن عطية (٤ / ٢٢٠) والسيوطي (٥ / ١٤٢) ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس.

(٢) ذكره ابن عطية (٤ / ٢٢٠)

(٣) ذكره البغوي (٣ / ٣٧٦) ، وابن عطية (٤ / ٢٢٠) ، والسيوطي (٥ / ١٤٣) ، وعزاه لعبد الرزاق عن الحسن.

٢١٨

قلت يوما : يا رسول الله ، أيّ الذّنب أعظم؟ قال : «أن تجعل لله ندّا وهو خلقك ، قلت : ثمّ أي قال : أن تقتل ولدك ، خشية أن يطعم معك ؛ قلت : ثمّ أيّ؟ قال : أن تزاني حليلة جارك» ثمّ قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه (١) الآية والأثام في كلام العرب : العقاب ، وبه فسّر ابن زيد وقتادة هذه الآية.

قال ع (٢) : (يُضاعَفْ) : بالجزم بدل من (يَلْقَ) قال سيبويه : مضاعفة العذاب هو لقي الأثام.

وقوله تعالى : (إِلَّا مَنْ تابَ) : لا خلاف بين العلماء أن الاستثناء عام في الكافر والزاني ، واختلفوا في القاتل ، وقد تقدم بيان ذلك في «سورة النساء».

وقوله سبحانه : (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) أي : بأن يجعل أعمالهم بدل معاصيهم الأولى طاعة ؛ قاله ابن عباس (٣) وغيره ، ويحتمل أن يكون ذلك في يوم القيامة ، يجعل بدل السيئات الحسنات تكرّما منه سبحانه وتعالى ؛ كما جاء في «صحيح مسلم» (٤) ، وهو تأويل ابن المسيّب.

ص : والأولى : ويحتمل أن يكون الاستثناء هنا منقطعا ، أي : لكن من تاب

__________________

(١) حديث : «أن تجعل لله ندا وهو خلقك».

أخرجه البخاري (٨ / ١٣) كتاب التفسير : باب قوله تعالى : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) حديث (٤٤٧٧) ، وفي (٨ / ٣٥٠ ـ ٣٥١). كتاب التفسير : باب والذين تدعون مع الله إلها آخر ، حديث (٤٧٦١) ، وفي (١٠ / ٤٤٨) كتاب الأدب : باب قتل الولد خشية أن يأكل معه ، حديث (٦٠٠١) ، وفي (١٢ / ١١٦) كتاب الحدود : باب إثم الزناة ، حديث (٦٨١١) ، وفي (١٢ / ١٩٤) ، كتاب الديات : باب قوله تعالى : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً) ، حديث (٦٨٦١) ، وفي (١٣ / ٤٩٩ ـ ٥٠٠) كتاب التوحيد : باب قول الله تعالى : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) ، حديث (٧٥٢٠) ، وفي (١٣ / ٥١٢) ، حديث (٧٥٣٢).

ومسلم (١ / ٩٠ ـ ٩١) كتاب الإيمان : باب كون الشرك أقبح الذنوب ، حديث (١٤١ / ٨٦) ، وأبو داود (١ / ٧٠٥) ، كتاب الطلاق : باب في تعظيم الزنا ، حديث (٢٣١٠) ، والترمذيّ (٥ / ٣٣٦) كتاب التفسير : باب «ومن سورة الفرقان» ، حديث (٣١٨٢) والنسائي (٧ / ٨٩) كتاب تحريم الدم : باب ذكر أعظم الذنب ، حديث (٤٠١٣). وأحمد (١ / ٣٨٠ ، ٤٣١ ، ٤٣٣ ، ٤٦٢ ، ٤٦٤) ، والطيالسي (٣ ، ٤ ـ منحة) وأبو عوانة (١ / ٥٦) ، وأبو نعيم (٤ / ١٤٥) ، والبيهقي (٨ / ١٨) كتاب الجنايات : باب قتل الولدان ، من حديث ابن مسعود.

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ٢٢١)

(٣) أخرجه الطبريّ (٩ / ٤١٨) ، برقم (٢٦٥٢٧) بنحوه ، وذكره البغوي (٣ / ٣٧٧) وابن عطية (٤ / ٢٢١) ، والسيوطي (٥ / ١٤٦) ، وعزاه لابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس.

(٤) تقدم تخريجه.

٢١٩

وآمن ، وعمل عملا صالحا فأولئك يبدّل الله سيئاتهم حسنات ، انتهى. ثم أكّد سبحانه أمر التوبة ، ومدح المتاب فقال : «ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب الى الله متابا» كأنه قال : فإنه يجد بابا للفرج والمغفرة عظيما ، ثم استمرت الآيات في صفة عباد الله المؤمنين بأن نفى عنهم شهادة الزور ، و (يَشْهَدُونَ) في هذا الموضع ظاهر ، معناها : يشاهدون ويحضرون ، والزور : كل باطل زوّر ، وأعظمه الشرك ، وبه فسر الضحّاك (١) ، ومنه الغناء ، وبه فسّر مجاهد (٢) ، وقال عليّ وغيره : معناه لا يشهدون بالزور ، فهي من الشهادة لا من المشاهدة ، والمعنى الأوّل أعمّ. واللغو : كل سقط من فعل أو قول ، وقال الثعلبيّ : اللغو كل ما ينبغي أن يطرح ويلغى ، انتهى. و (كِراماً) معناه : معرضين مستحيين ، يتجافون عن ذلك ، ويصبرون على الأذى فيه.

قال ع (٣) : وإذا مرّ المسلم بمنكر فكرمه أن يغيّره ، وحدود التغير معروفة.

(وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (٧٣) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (٧٤) أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (٧٥) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) (٧٦)

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) يريد : ذكّروا بالقرآن أمر آخرتهم ومعادهم.

وقوله : (لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً) يحتمل تأويلين : أحدهما : أن يكون المعنى : لم يكن خرورهم بهذه الصفة ؛ بل يكونوا سجّدا وبكيّا ، وهذا كما تقول : لم يخرج زيد إلى الحرب جزعا ، أي : إنما خرج جريئا مقداما ، وكأنّ الذي يخرّ أصمّ أعمى هو المنافق أو الشاكّ ، والتأويل الثاني : ذهب إليه الطبريّ (٤) وهو أنّ : يخروا صما وعميانا ، هي صفة للكفار ، وهي عبارة عن إعراضهم.

وقال الفرّاء : (لَمْ يَخِرُّوا) ، أي : لم يقيموا ، وهو نحو تأويل الطبريّ ، انتهى. وقال

__________________

(١) أخرجه الطبريّ (٩ / ٤٢٠) برقم (٢٦٥٣٦) ، وذكره البغوي (٣ / ٣٧٨) ، وابن عطية (٤ / ٢٢٢)

(٢) أخرجه الطبريّ (٩ / ٤٢٠) برقم (٢٦٥٣٨) ، وذكره ابن عطية (٤ / ٢٢٢) والسيوطي (٥ / ١٤٨) ، وعزاه للفريابي ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن أبي الدنيا في «ذم الغضب» ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في «شعب الإيمان» عن مجاهد.

(٣) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ٢٢٢)

(٤) ينظر : «الطبريّ» (٩ / ٤٢٣)

٢٢٠