تفسير الثعالبي - ج ٤

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي

تفسير الثعالبي - ج ٤

المؤلف:

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٥

وقوله : (عالِمِ الْغَيْبِ) المعنى : هو عالم الغيب ، وقرأ أبو عمرو (١) وغيره : «عالم» بالجر ؛ اتباعا للمكتوبة.

وقوله سبحانه : (قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ* رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أمر الله تعالى نبيّه ـ عليه‌السلام ـ أن يدعو لنفسه بالنجاة من عذاب الظلمة إن كان قضي أن يرى ذلك ، و «إن» شرطية و «ما» زائدة و «تريني» جزم بالشرط لزمته النون الثقيلة وهي لا تفارق ، «إمّا» عند المبرّد ، ويجوز عند سيبويه أن تفارق ، ولكن استعمال القرآن لزومها ، فمن هنالك ألزمه المبرد ، وهذا الدعاء فيه استصحاب الخشية والتحذير من الأمر المعذب من أجله ، ثم نظيره لسائر الأمّة دعاء في حسن الخاتمة ، وقوله ثانيا : «رب» اعتراض بين الشرط وجوابه.

وقوله سبحانه : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ) أمر بالصفح ومكارم الأخلاق ، وما كان منها لهذا فهو محكم باق في الأمّة أبدا ، وما كان بمعنى الموادعة فمنسوخ بآية القتال.

وقوله : (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ) يقتضي أنّها آية موادعة.

وقال مجاهد (٢) : الدفع بالتي هي أحسن : هو السلام ، تسلّم عليه إذا لقيته.

وقال الحسن (٣) : والله لا يصيبها / أحد حتّى يكظم غيظه ، ويصفح عمّا يكره ، وفي ٣٣ ب الآية عدة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي : اشتغل أنت بهذا وكل أمرهم إلينا ، ثم أمره سبحانه بالتّعوّذ من همزات الشياطين ، وهي سورات الغضب التي لا يملك الإنسان فيها نفسه ؛ وكأنها هي التي كانت تصيب المؤمنين مع الكفّار فتقع المجادلة ، ولذلك اتّصلت بهذه الآية ، وقال ابن زيد : همز الشيطان : الجنون (٤) ، وفي «مصنّف أبي داود» : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اللهم إنّي أعوذ بك من الشيطان : همزه ، ونفخه ، ونفثه» (٥). قال أبو داود : همزه : الموتة ، ونفخه :

__________________

(١) وقرأ بها ابن كثير ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم.

ينظر : «السبعة» (٤٤٧) ، و «الحجة» (٥ / ٣٠١) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٩٤) ، و «معاني القراءات» (٢ / ١٩٥) ، و «شرح الطيبة» (٥ / ٧٩) ، و «شرح شعلة» (٥٠٩) و «حجة القراءات» (٤٩١) ، و «إتحاف» (٢ / ٢٨٧)

(٢) أخرجه الطبريّ (٩ / ٢٤١) رقم (٢٥٦٤٥) ، وذكره ابن عطية (٤ / ١٥٥)

(٣) أخرجه الطبريّ (٩ / ٢٤١) رقم (٢٥٦٤٧) ، وذكره ابن عطية (٤ / ١٥٥)

(٤) أخرجه الطبريّ (٩ / ٢٤٢) برقم (٢٥٦٤٨) ، وذكره ابن عطية (٤ / ١٥٥) ، والسيوطي (٥ / ٢٨) ، وعزاه لابن أبي حاتم عن ابن زيد.

(٥) أخرجه أبو داود (١ / ٢٦٢ ـ ٢٦٣) كتاب الصلاة : باب ما يستفتح به الصلاة من الدعاء ، حديث (٧٦٤) ، وابن ماجه (١ / ٢٦٥) كتاب الصلاة : باب الاستعاذة في الصلاة ، حديث (٨٠٧) ، وأحمد (٤ / ٨٥) من حديث جبير بن مطعم.

١٦١

الكبر ، ونفثه : السحر.

قال ع (١) : والنّزعات وسورات الغضب من الشيطان ، وهي المتعوّذ منها في الآية ، وأصل الهمز : الدّفع والوكز بيد أو غيرها.

قلت : قال صاحب «سلاح المؤمن» : وهمزات الشياطين : خطراتها التي تخطرها بقلب الإنسان ، انتهى.

وقال الواحديّ : همزات الشياطين : نزغاتها ووساوسها ، انتهى.

(حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٠٠) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (١٠١) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٢) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (١٠٣) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ) (١٠٤)

وقوله سبحانه : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ حَتَّى) في هذا الموضع حرف ابتداء ، والضمير في قوله : (أَحَدَهُمُ) للكفار ، وقوله : (ارْجِعُونِ) أي : إلى الحياة الدنيا ، والنون في : (ارْجِعُونِ) : نون العظمة ؛ وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعائشة : «إذا عاين المؤمن الموت ، قالت له الملائكة : نرجعك؟ فيقول : إلى دار الهموم والأحزان؟ بل قدما إلى الله ، وأمّا الكافر ، فيقول : (ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً)» (٢).

وقوله : (كَلَّا) : ردّ وزجر.

وقوله : (إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) تحتمل ثلاثة معان :

أحدها : الإخبار المؤكّد بأنّ هذا الشيء يقع ، ويقول هذه الكلمة.

الثاني : أن يكون المعنى : إنها كلمة لا تغني أكثر من أنّه يقولها ، ولا نفع له فيها ولا غوث ـ الثالث : أن يكون إشارة إلى أنّه لو ردّ لعاد ، والضمير في : (وَرائِهِمْ) للكفار ، والبرزخ في كلام العرب : الحاجز بين المسافتين ، ثم يستعار لما عدا ذلك ، وهو هنا : للمدّة التي بين موت الإنسان وبين بعثه ؛ هذا إجماع من المفسرين.

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ١٥٥)

(٢) أخرجه الطبريّ في «تفسيره» (٩ / ٢٤٢) رقم (٢٥٦٥٢) عن ابن جريج قال : زعموا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعائشة ، فذكره.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٢٩) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر.

١٦٢

وقوله عزوجل : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ ...) الآية : قال ابن مسعود (١) وغيره : هذا عند النفخة الثانية وقيام الناس من القبور ؛ فهم حينئذ لهول المطلع واشتغال كل امرئ بنفسه قد انقطعت بينهم الوسائل ، وزال انتفاع الأنساب ؛ فلذلك نفاها سبحانه ، والمعنى : فلا أنساب نافعة ، وروي عن قتادة أنّه : ليس أحد أبغض إلى الإنسان في ذلك اليوم ممّن يعرف ، لأنّه يخاف أن يكون له عنده مظلمة (٢) ، وفي ذلك اليوم يفرّ المرء من أخيه ؛ وأمّه وأبيه ؛ وصاحبته وبنيه ، ويفرح كلّ أحد يومئذ أن يكون له حقّ على ابنه وأبيه ، وقد ورد بهذا حديث ، وكأنّ ارتفاع التساؤل لهذه الوجوه ، ثم تأتي في القيامة مواطن يكون فيها السؤال والتعارف.

قال ع (٣) : وهذا التأويل حسن ، وهو مرويّ المعنى عن ابن عباس (٤) ، وذكر البزّار من حديث أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ملك موكّل بالميزان ، فيؤتى بابن آدم ، فيوقف بين كفّتي الميزان ، فإن ثقل ميزانه ، نادى / الملك بصوت يسمع الخلائق : سعد فلان ٣٤ أسعادة لا يشقى بعدها أبدا ، وإن خفّ ميزانه ، نادى الملك بصوت يسمع الخلائق : شقي فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبدا (٥)» ، انتهى من «العاقبة». وروى أبو داود في «سننه» عن عائشة رضي الله عنها أنّها ذكرت النّار فبكت ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما يبكيك؟ قالت : ذكرت النّار فبكيت ، فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أمّا في ثلاثة مواطن ، فلا يذكر أحد أحدا ، عند الميزان حتّى يعلم : أيخفّ ميزانه أم يثقل ، وعند الكتاب حتّى يقول : (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) [الحاقة : ١٩] ، حتّى يعلم أين يعطى كتابه : أفي يمينه أم في شماله ، أم من وراء ظهره ، وعند الصراط ، إذا وضع بين ظهري جهنّم» (٦) ، انتهى. ولفح النار : إصابتها بالوهج والإحراق ، والكلوح انكشاف الشفتين عن الأسنان ، وقد شبه ابن

__________________

(١) أخرجه الطبريّ (٩ / ٢٤٤) برقم (٢٥٦٦٩) نحوه ، وذكره البغوي (٣ / ٣١٧) ، وابن عطية (٣ / ١٥٦) ، والسيوطي (٥ / ٣٠) ، وعزاه لابن المبارك في «الزهد» ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبي نعيم في «الحلية» ، وابن عساكر عن ابن مسعود بنحوه.

(٢) أخرجه الطبريّ (٩ / ٢٤٥) برقم (٢٥٦٧١) ، وذكره ابن عطية (٤ / ١٥٦) ، والسيوطي (٥ / ٣٠) ، وعزاه لعبد بن حميد عن قتادة.

(٣) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ١٥٦)

(٤) أخرجه الطبريّ (٩ / ٢٤٤) برقم (٢٥٦٦٧) نحوه ، وذكره البغوي (٣ / ٣١٧) ، وابن عطية (٤ / ١٥٦)

(٥) أخرجه البزار (٣٤٤٥ ـ كشف) من حديث أنس بن مالك ، وذكره الهيثمي (١٠ / ٣٥٣) وقال : رواه البزار ، وفيه صالح المري ، وهو مجمع على ضعفه.

(٦) أخرجه أبو داود (٢ / ٦٥٤) كتاب السنة : باب في ذكر الميزان ، حديث (٤٧٥٥)

١٦٣

مسعود ما في الآية بما يعتري رؤوس الكباش إذا شيطت بالنار ؛ فإنّها تكلح ، ومنه كلوح الكلب والأسد (١).

قلت : وفي «الترمذيّ» عن أبي سعيد الخدريّ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (وَهُمْ فِيها كالِحُونَ) قال : تشويه النّار ، فتقلص شفته العليا حتّى تبلغ وسط رأسه ، وتسترخي شفته السفلى حتّى تضرب سرّته ...» (٢) الحديث قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح غريب ، انتهى.

وهذا هو المعوّل عليه في فهم الآية ، وأمّا قول البخاريّ : (كالِحُونَ) (٣) معناه : عابسون ـ فغير ظاهر ، ولعلّه لم يقف على الحديث.

(أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٠٥) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (١٠٦) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (١٠٧) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) (١٠٨)

وقوله سبحانه : (أَلَمْ تَكُنْ آياتِي) أي : يقال لهم ، والآيات هنا القرآن ، وقرأ حمزة : «شقاوتنا» ثم وقع جواب رغبتهم بحسب ما حتمه الله من عذابهم بقوله : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) ويقال : إنّ هذه الكلمة إذا سمعوها يئسوا من كل خير ، فتنطبق عليهم جهنّم ، ويقع اليأس ـ عافانا الله من عذابه بمنّه وكرمه ـ!

وقوله : (اخْسَؤُا) زجر ، وهو مستعمل في زجر الكلاب.

(إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩)

__________________

(١) أخرجه الطبريّ (٩ / ٢٤٦) برقم (٢٥٦٧٥) ، وذكره ابن عطية (٤ / ١٥٧) ، والسيوطي (٥ / ٣١) وعزاه لعبد الرزاق ، والفريابي ، وابن أبي شيبة ، وهناد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم وصححه عن ابن مسعود.

(٢) أخرجه الترمذي (٤ / ٧٠٨) كتاب صفة جهنم : باب ما جاء في صفة طعام أهل النار ، حديث(٢٥٨٧) ، وفي (٥ / ٣٢٨) كتاب التفسير : باب ومن سورة المؤمنين ، حديث (٣١٧٦) ، وأحمد (٣ / ٨) ، والحاكم (٢ / ٣٩٥) ، وأبو يعلى (٢ / ٥١٦) رقم (١٣٦٧) كلهم من طريق ابن المبارك عن سعيد بن يزيد عن أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري مرفوعا. وقال الترمذي : حديث حسن صحيح غريب. وصححه الحاكم.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٣١) ، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن أبي الدنيا في «صفة النار» ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وأبي نعيم في «الحلية».

(٣) ينظر : «صحيح البخاري» (٨ / ٢٩٩) كتاب التفسير : باب سورة المؤمنين.

١٦٤

فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (١١٠) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (١١١) قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (١١٣) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (١١٥) فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (١١٧) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) (١١٨)

وقوله عزوجل : (إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا ...) الآية الهاء في (إِنَّهُ) : مبهمة : وهي ضمير الأمر والشأن ، والفريق المشار إليه : كلّ مستضعف من المؤمنين يتّفق أن تكون حاله مع كفّار مثل هذه الحال ، ونزلت الآية في كفّار قريش مع صهيب ، وعمّار ، وبلال ، ونظرائهم ، ثم هي عامة فيمن جرى مجراهم قديما وبقية الدهر ، وقرأ نافع وحمزة والكسائيّ : «سخريّا» بضم السين (١) ، والباقون بكسرها ؛ فقيل هما بمعنى واحد ؛ ذكر ذلك الطبريّ (٢).

وقال ذلك أبو زيد الأنصاري : إنهما بمعنى الهزء (٣) ، وقال أبو عبيدة وغيره : إنّ ضم السين من السخرة والاستخدام ، وكسرها من السخر وهو الاستهزاء (٤) ، ومعنى الاستهزاء هنا أليق ؛ ألا ترى إلى قوله : (وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ).

وقوله سبحانه : (كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ...) الآية قوله : (فِي الْأَرْضِ) قال الطبريّ (٥) معناه : في الدنيا أحياء ، وعن هذا وقع السؤال ، ونسوا لفرط هول العذاب حتّى قالوا : (يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) ، والغرض توقيفهم على أنّ أعمارهم قصيرة أدّاهم الكفر فيها إلى عذاب طويل ، عافانا الله من ذلك بمنّه وكرمه!.

وقال الجمهور : معناه : كم لبثتم في جوف التراب أمواتا؟ قال ع (٦) : وهذا هو

__________________

(١) وحجتهم : إجماع الجميع على الرفع في سورة الزخرف ، فرد ما اختلفوا فيه إلى ما أجمعوا عليه.

ينظر : «السبعة» (٤٤٨) ، و «الحجة» (٥ / ٣٠٢) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٩٥) ، و «شرح الطيبة» (٥ / ٨٠) ، و «العنوان» (١٣٧) ، و «حجة القراءات» (٤٩١) ، و «شرح شعلة» (٥١٠) ، و «إتحاف» (٢ / ٢٨٨)

(٢) ينظر : الطبريّ (٩ / ٢٥٠)

(٣) ذكره ابن عطية (٤ / ١٥٨)

(٤) ذكره ابن عطية (٤ / ١٥٨)

(٥) ينظر : «الطبريّ» (٩ / ٢٥٣)

(٦) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ١٥٨)

١٦٥

الأصوب من حيث أنكروا البعث /. وكان قولهم : إنهم لا يقومون من التراب ، وقوله آخرا : (وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) يقتضي ما قلناه.

قلت : الآيات محتملة للمعنيين ، والله أعلم بما أراد سبحانه ؛ قال البخاريّ (١) : قال ابن عباس : (فَسْئَلِ الْعادِّينَ) أي : الملائكة (٢) ، انتهى.

ص : قرأ الجمهور : «العادّين» (٣) ـ بتشديد الدال ـ اسم فاعل من «عدّ» ، وقرأ الحسن والكسائيّ في رواية : «العادين» (٤) بتخفيف الدال ، أي : الظلمة ، و «إن» من قوله : (إِنْ لَبِثْتُمْ) نافية ، أي : ما لبثتم إلّا قليلا ، ا ه. و (عَبَثاً) : معناه : باطلا ، لغير غاية مرادة ، وخرّج أبو نعيم الحافظ عن حنش الصنعانيّ عن ابن مسعود «أنه قرأ في أذن مبتلى : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً ...) إلى آخر السورة ، فأفاق ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما قرأت في أذنه؟ قال : قرأت : (أَفَحَسِبْتُمْ ...) إلى آخر السورة ، فقال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو أنّ رجلا موقنا قرأها على جبل لزال» ، انتهى (٥) ، وخرّجه ابن السنّيّ أيضا ، ذكره النووي.

وقوله سبحانه : (فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُ) : المعنى : فتعالى الله عن مقالتهم في دعوى الشريك والصاحبة والولد ، ثم توعّد سبحانه عبدة الأوثان بقوله : (فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) ، وفي حرف عبد الله : «عند ربك» ، وفي حرف (٦) أبيّ : «عند الله» ثم أمر تعالى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالدعاء والذكر له فقال : (وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ).

__________________

(١) ينظر : «صحيح البخاري» (٨ / ٢٩٩) كتاب التفسير : باب سورة المؤمنين.

(٢) أخرجه الطبريّ (٩ / ٢٥٢) برقم (٢٥٦٩٥) عن مجاهد ، وذكره ابن عطية (٤ / ١٥٩) عن مجاهد ، والسيوطي (٥ / ٣٤) ، وعزاه لابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد.

(٣) ينظر : «البحر المحيط» (٦ / ٣٩٠)

(٤) ينظر : «البحر المحيط» (٦ / ٣٩٠) ، و «الدر المصون» (٥ / ٢٠٥) ، و «إتحاف فضلاء البشر» (٢ / ٢٨٩)

(٥) أخرجه أبو يعلى (٨ / ٤٥٨) رقم (٥٠٤٥) ، وابن السني في «عمل اليوم والليلة» (٦٣١) ، وأبو نعيم في «الحلية» (١ / ٧).

كلهم من طريق الوليد بن مسلم عن ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة ، عن حنش الصنعاني عن ابن مسعود به.

وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٥ / ١١٥) ، وقال : رواه أبو يعلى ، وفيه ابن لهيعة ، وفيه ضعف ، وحديثه حسن ا ه. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٣٤) ، وزاد نسبته إلى الحكيم الترمذي ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه.

(٦) في قراءة عبد الله ، وقراءة أبي : ينظر «المحرر الوجيز» (٤ / ١٥٩).

ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ١٥٩)

١٦٦

تفسير سورة النّور

وهي مدنيّة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢) الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (٣)

قوله تعالى : (سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها ...) الآية معنى «فرضنا» : أوجبنا وأثبتنا ، وقال الثعلبيّ والواحديّ : (فَرَضْناها) أي : أوجبنا ما فيها من الأحكام ، انتهى ، وقال البخاريّ (١) : قال ابن عباس (٢) : (سُورَةٌ أَنْزَلْناها) : بيّنّاها ، انتهى. وما تقدم أبين.

ص : (فَرَضْناها) الجمهور : بتخفيف الراء أي : فرضنا أحكامها ، وأبو عمرو وابن كثير : بتشديد الراء : إما للمبالغة في الإيجاب ، وإما لأنّ فيها فرائض شتّى ، انتهى. والآيات البيّنات : أمثالها ومواعظها وأحكامها.

وقوله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ ...) الآية ، هذه الآية ناسخة لآية الحبس باتّفاق ، وحكم المحصنين منسوخ بآية الرجم والسنّة المتواترة على ما تقدّم في سورة النساء ، وقرأ الجمهور (٣) : «رأفة» بهمزة ساكنة ؛ من رأف إذا رقّ ورحم ، والرأفة المنهيّ عنها هي [في] (٤) إسقاط الحدّ ، أي : أقيموه ولا بدّ ، وهذا تأويل ابن عمر (٥) وغيره.

__________________

(١) ينظر : البخاري (٨ / ٣٠١) كتاب التفسير : باب سورة النور.

(٢) أخرجه الطبريّ (٩ / ٢٥٦) برقم (٢٥٧٠٦) ، وذكره السيوطي (٥ / ٣٦) ، وعزاه لابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حارثة عن ابن عباس.

(٣) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ١٦١) ، و «البحر المحيط» (٦ / ٣٩٤) ، و «الدر المصون» (٥ / ٢٠٨)

(٤) سقط في ج.

(٥) أخرجه الطبريّ (٩ / ٢٥٦) برقم (٢٥٧٠٩ ، ٢٥٧١٠) ، وذكره البغوي (٣ / ٣٢١) ، وذكره ابن عطية (٤ / ١٦١) ، وابن كثير (٣ / ٢٦١ ، ٢٦٢) ، والسيوطي (٥ / ٣٧) ، وعزاه لعبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم.

١٦٧

وقال قتادة وغيره : هي في تخفيف الضرب عن الزناة (١) ، ومن رأيهم أن يخفّف ضرب الخمر ، والفرية دون ضرب الزنا.

وقوله تعالى : (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي : إغلاظا على الزناة ، وتوبيخا لهم ، ولا خلاف أنّ الطائفة كلّما كثرت فهو أليق بامتثال الأمر ، واختلف في أقلّ ما يجزىء فقال الزهريّ : الطائفة : ثلاثة فصاعدا (٢) ، وقال عطاء : لا بدّ من اثنين (٣) ، وهذا هو مشهور قول مالك فرآها موضع شهادة.

وقوله تعالى : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) مقصد الآية تشنيع الزنا وتشنيع ٣٥ أأمره ، وأنّه محرّم على المؤمنين / ويريد بقوله : (لا يَنْكِحُ) أي : لا يطأ ، فالنكاح هنا بمعنى : الجماع ؛ كقوله تعالى : (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) [البقرة : ٢٣٠]. وقد بيّنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصحيح أنّه بمعنى الوطء ، حيث قال : «لا حتّى تذوقي عسيلته ...» (٤) الحديث ، وتحتمل الآية وجوها هذا أحسنها.

__________________

(١) أخرجه الطبريّ (٩ / ٢٥٨) برقم (٢٥٧٢٢ ، ٢٥٧٢٤) ، وذكره البغوي (٣ / ٣٢١) ، وابن عطية (٤ / ١٦١) ، والسيوطي (٥ / ٣٧) ، وعزاه لعبد بن حميد عن الحسن ، وابراهيم ، وعامر ، ولابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد عن شعبة.

(٢) أخرجه الطبريّ (٩ / ٢٥٩) برقم (٢٥٧٣٦) ، وذكره البغوي (٣ / ٣٢١) ، وابن كثير (٣ / ٢٦٢) ، والسيوطي (٥ / ٣٨) وعزاه لابن جرير عن الزهري.

(٣) أخرجه الطبريّ (٩ / ٢٥٩) برقم (٢٥٧٣٤) ، وذكره البغوي (٣ / ٣٢١) ، وابن كثير (٣ / ٢٦٢)

(٤) أخرجه مالك (٢ / ٥٣١) كتاب النكاح : باب نكاح المحلل وما أشبهه ، حديث (١٧) من طريق المسور بن رفاعة القرظي عن الزبير بن عبد الرحمن بن الزبير ، أن رفاعة بن سموأل طلق امرأته ... ومن طريق مالك أخرجه الشافعي في «الأم» (٥ / ٢٤٨) باب نكاح المطلقة ثلاثا ، وابن حبان (١٣٢٣ ـ موارد) ، والبيهقي (٧ / ٣٧٥) كتاب الرجعة : باب نكاح المطلقة ثلاثا.

قال السيوطي في «تنوير الحوالك» (٢ / ٦) قال ابن عبد البر : كذا لأكثر الرواة مرسل ، ووصله ابن وهب عن مالك ، فقال : عن أبيه ، وابن وهب من أجل من روى عن مالك هذا الشأن ، وأثبتهم فيه. وتابعه أيضا ابن القاسم وعلي بن زياد وإبراهيم بن طهمان وعبيد الله بن عبد المجيد الحنفي ، كلهم عن مالك ، وقالوا فيه : عن أبيه ، وهو صاحب القصة ا. ه.

ومن طريق ابن وهب أخرجه ابن الجارود (٦٨٢) ، والبيهقي (٧ / ٣٧٥) كتاب «الرجعة» : باب نكاح المطلقة ثلاثا.

وأخرجه البزار (٢ / ١٩٤ ـ كشف) رقم (١٥٠٤) من طريق عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي ثنا مالك بن أنس عن المسور بن رفاعة ، عن الزبير بن عبد الرحمن بن الزبير عن أبيه.

قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٤ / ٣٤٣) : رواه البزار والطبراني ، ورجالهما ثقات ، وقد رواه مالك في «الموطأ» مرسلا ، وهو هنا متصل ا. ه.

١٦٨

__________________

ـ وقد ورد هذا الحديث موصولا من حديث عائشة :

أخرجه أحمد (٦ / ٢٢٦) ، والبخاري (٥ / ٢٤٩) كتاب «الشهادات» : باب شهادة المختبئ ، حديث (٢٦٣٩) ، ومسلم (٢ / ١٠٥٥ ـ ١٠٥٦) كتاب النكاح : باب لا تحل المطلقة ثلاثا لمطلقها حتى تنكح زوجا غيره ، حديث (١١١ / ١٤٣٣) ، والترمذي (٢ / ٢٩٣) كتاب النكاح : باب ما جاء فيمن يطلق امرأته ثلاثا حديث (١١١٨) ، والنسائي (٦ / ١٤٨) كتاب الطلاق : باب إحلال المطلقة ثلاثا ، وابن ماجه (١ / ٦٢١ ـ ٦٢٢) كتاب النكاح : باب الرجل يطلق امرأته ثلاثا ، حديث (١٩٣٢) والدارمي (٢ / ١٦١) كتاب الطلاق : باب ما يحل المرأة لزوجها الذي طلقها ، والشافعي (٢ / ٣٤ ـ ٣٥) كتاب الطلاق ، حديث (١١٠) ، والحميدي (١ / ١١١) رقم (٢٢٦) ، وعبد الرزاق (٦ / ٣٤٦ ـ ٣٤٧) رقم (١١١٣١) ، والطيالسي (١ / ٣١٤ ـ ٣١٥) رقم (١٦١٢ ، ١٦١٣) ، وسعيد بن منصور (٢ / ٧٣ ـ ٧٤) ، رقم (١٩٨٥) ، وأبو يعلى (٣٩٧) ، رقم (٤٤٢٣) ، وابن حبان (٤١٩٩ ـ الإحسان) ، والبيهقي (٧ / ٣٧٣ ـ ٣٧٤) ، والبغوي في «شرح السنة» (٥ / ١٦٩ ـ بتحقيقنا) من طريق الزهري عن عروة عن عائشة قالت : جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : كنت عند رفاعة فطلقني فبت طلاقي ، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير ، وإنما معه مثل هدبة الثوب ، فقال : أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك.

وقال الترمذي : حسن صحيح.

وللحديث طرق أخرى عن عائشة :

فأخرجه البخاري (٩ / ٢٨٤) كتاب الطلاق : باب من قال لامرأته : أنت عليّ حرام ، حديث (٥٢٦٥) ، ومسلم (٢ / ١٠٥٧) كتاب النكاح : باب لا تحل المطلقة ثلاثا لمطلقها حتى تنكح زوجا غيره ، حديث (١١٤ / ١٤٣٣) ، وأحمد (٦ / ٢٢٩) ، والدارمي (٢ / ١٦٢) من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة به.

وأخرجه مسلم (٢ / ١٠٥٧) كتاب النكاح : باب لا تحل المطلقة ثلاثا لمطلقها حتى تنكح زوجا غيره ، حديث (١١٥ / ١٤٣٣) ، وأحمد (٦ / ١٩٣) ، وأبو يعلى (٨ / ٣٧٣ ـ ٣٧٤) رقم (٤٩٦٤) من طريق القاسم بن محمد عن عائشة.

وأخرجه أبو داود (١ / ٧٠٥) كتاب الطلاق : باب في المبتوتة لا يرجع إليها زوجها حتى تنكح زوجا غيره ، حديث (٢٣٠٩) ، وأحمد (٦ / ٤٢) من طريق الأسود عن عائشة.

وأخرجه البخاري (١٠ / ٢٩٣) من طريق عبد الوهاب عن أيوب عن عكرمة [«أنّ رفاعة طلّق امرأته ، فتزوجها عبد الرحمن بن الزبير القرظيّ ، قالت عائشة : وعليها خمار أخضر ، فشكت إليها ، وأرتها خضرة بجلدها فلما جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والنساء ينصر بعضهن بعضا ـ قالت عائشة : ما رأيت مثل ما يلقى المؤمنات لجلدها أشدّ خضرة من ثوبها. قال وسمع أنها قد أتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجاء ومعه ابنان له من غيرها ، قالت : والله ما لي إليه من ذنب ، إلا أنّ ما معه ليس بأغنى عني من هذه ـ وأخذت هدبة من ثوبها ـ فقال : كذبت والله يا رسول الله ، إني لأنفضها نفض الأديم ، ولكنها ناشز تريد رفاعة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فإن كان ذلك لم تحلّي له أو تصلحي له حتى يذوق من عسيلتك. قال وأبصر معه ابنين له فقال : بنوك هؤلاء؟ قال : نعم. قال : هذا الذي تزعمين ما تزعمين؟ فو الله لهم أشبه به من الغراب بالغراب»].

١٦٩

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٥)

وقوله سبحانه : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ ...) الآية نزلت بسبب القاذفين ، وذكر تعالى في الآية : قذف النساء من حيث هو أهمّ وأبشع ، وقذف الرجال داخل في حكم الآية بالمعنى والإجماع على ذلك ، و (الْمُحْصَناتِ) هنا : العفائف ، وشدّد تعالى على القاذف بأربعة شهداء ؛ رحمة بعباده ، وسترا لهم ، وحكم شهادة الأربعة أن تكون على معاينة مبالغة كالمرود في المكحلة في موطن واحد ، فإن اضطرب منهم واحد

__________________

ـ وفي الباب عن ابن عمر ، وعبيد الله بن عباس ، وأنس بن مالك ، والفضل بن عباس.

حديث ابن عمر :

أخرجه أحمد (٢ / ٨٥) ، والنسائي (٦ / ١٤٨ ـ ١٤٩) كتاب النكاح : باب إحلال المطلقة ثلاثا ، وابن ماجه (١ / ٦٢٢) كتاب النكاح : باب الرجل يطلق امرأته ثلاثا : فتتزوج فيطلقها (١٩٣٣) من طريق محمد بن جعفر : حدثنا شعبة عن علقمة بن مرثد : سمعت سالم بن رزين يحدث عن سالم بن عبد الله بن عمر عن سعيد بن المسيب عن ابن عمر به.

وأخرجه أحمد (٢ / ٦٢) ، والنسائي (٦ / ١٤٩) ، والبيهقي (٧ / ٣٧٥) من طريق سفيان عن علقمة بن مرثد عن رزين بن سليمان عن ابن عمر.

قال النسائي : هذا أولى بالصواب.

وأخرجه أبو يعلى (٨ / ٣٧٤) رقم (٤٠٦٦) من طريق يحيى بن سعيد عن نافع عن ابن عمر.

قال الهيثمي في «المجمع» (٤ / ٣٤٣) : رواه الطبراني وأبو يعلى ، ورجال أبي يعلى رجال الصحيح.

حديث عبيد الله بن عباس :

أخرجه أحمد (١ / ٢١٤) ، والنسائي (٦ / ١٤٨) كتاب الطلاق : باب إحلال المطلقة ثلاثا ، عنه أن «الغميصاء أو الرميصاء أتت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تشتكي زوجها أنه لا يصل إليها ، فلم يلبث أن جاء زوجها ، فقال : يا رسول الله هي كاذبة ، وهو يصل إليها ، ولكنها تريد أن ترجع إلى زوجها الأول ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس ذلك حتى تذوفي عسيلته».

وأخرجه أبو يعلى (١٢ / ٨٥ ـ ٨٦) رقم (٦٧١٨) عن عبيد الله بن عباس والفضل بن عباس به.

وقال الهيثمي في «المجمع» (٤ / ٣٤٣) ، رواه أبو يعلى ، ورجاله رجال الصحيح.

حديث أنس بن مالك :

أخرجه أحمد (٣ / ٢٨٤) ، والبزار (٢ / ١٩٥ ـ كشف) برقم (١٥٠٥) ، وأبو يعلى (٧ / ٢٠٧) رقم (٤١٩٩) عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن رجل طلق امرأته ثلاثا ، فتزوجت زوجا ، فمات عنها قبل أن يدخل بها هل يتزوجها الأول؟ قال : «لا حتى يذوق عسيلتها».

قال الهيثمي في «المجمع» (٤ / ٣٤٣) : رواه أحمد ، والبزار ، وأبو يعلى ، والطبراني في «الأوسط» ، ورجاله رجال الصحيح خلا محمد بن دينار الطاحي ، وقد وثقه أبو حاتم ، وأبو زرعة ، وابن حبان ، وفيه كلام لا يضر.

حديث الفضل بن عباس : انظر حديث عبيد الله بن العباس.

١٧٠

جلد الثلاثة ، والجلد : الضرب ، ثم أمر تعالى : ألّا تقبل للقذفة المحدودين شهادة أبدا (١) ،

__________________

(١) القاذف هو من يرمي محصنا أو محصنة بالزنى ولم يأت بأربعة شهداء يشهدون على صدق قوله ، ولا خلاف بين العلماء في شهادة القاذف إذا شهد قبل إقامة الحدّ وبعد التوبة ، أو بعد إقامة الحدّ وقبل التوبة ؛ فإنه في الصورة الأولى ، تقبل شهادته إجماعا ، وفي الثانية لا تقبل إجماعا إنّما الخلاف في شهادته بعد الحد وبعد التوبة.

فذهب الإمام الشافعيّ ، ومالك ، وأحمد ، والبتيّ وإسحاق ، وأبو عبيدة وابن المنذر إلى قبول شهادة المحدود في القذف إذا تاب ، وروي هذا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وذهب الإمام أبو حنيفة وأصحابه وشريح والحسن والنّخعيّ وسعيد بن جبير والثوريّ إلى ردّ شهادة المحدود في القذف وإن تاب. وروي هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما.

ومنشأ هذا الاختلاف هو : اختلافهم في فهم الآية الكريمة : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ* إِلَّا الَّذِينَ تابُوا). اختلفوا في الاستثناء : هل هو راجع إلى الكل أو إلى الأخيرة فقط؟ وهذه مسألة أصولية ، وسنذكر فيما يلي خلاصة القول فيها : إنّ الاستثناء إذا وقع بعد جمل متعاطفة بالواو ، ونحوها أمكن رده للجميع ، وإلى الأخيرة خاصة بلا خلاف ، وإنما الخلاف فيما هو ظاهر فيه ، فالشافعية يقولون ظاهر في الكل ، ولا يرجع للأخيرة فقط إلّا بقرينة. والحنفية يقولون : ظاهر في الأخيرة ، ولا يرجع للكل إلا بدليل.

وأبو الحسين كالشافعية إلّا أنه فصل في القرينة فقال : إن قامت قرينة على الإضراب عن الأول فهو للأخير. وظهور الإضراب يكون باختلاف الجملتين نوعا : بأن تكون إحداهما خبرا والأخرى إنشاءا ؛ نحو العلماء مكرمون ولا تكرم الجهال إلّا خالدا.

أو تكون إحداهما أمرا والأخرى نهيا نحو : أكرم العلماء ولا تكرم الجهال إلّا من دخل الدار فالاستثناء من الأخير.

أو باختلافهما حكما : بأن يكون مضمون إحداهما غير مضمون الأخرى نحو : الرجال قائمون ، والعلماء جالسون إلّا محمدا. أو باختلافهما اسما بأن يكون الاسم في الأولى غير صالح لتعلق الاستثناء به نحو : أكرم الرجال وأعطف على النساء إلّا هندا. ففي هذا كلّه يرجع الاستثناء إلى الأخير ، ظهور الإضراب. لكن محل هذا ما لم يكن الاسم في الجملة الثانية ضمير الاسم في الأولى أو اتفقا في الغرض وإلّا كان الاستثناء راجعا للكل مطلقا وإن اختلفا نوعا أو حكما.

وأما الاختلاف في الاسم فلا يمكن معه رجوع الاستثناء للكل ، لعدم صلاحيته للتعلق بالكل. مثال الأول : أكرم بني تميم وهم مكرمون إلّا بكرا ، فهما مختلفان نوعا لكن الاسم في الثانية ضمير الأول فيرجع للكل. ومثال الثاني قوله تعالى : (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) فقد اتحدا في الغرض وهو الإهانة والانتقام وإن اختلفا نوعا فيرجع للكل.

وقال القاضي والغزاليّ : «بالوقف». وقال المرتضى : مشترك بين الكل والأخير ، ويرجع مذهب الوقف والاشتراك إلى قول الحنفية ، لأنّ مذهب الوقف معناه أنّ الاستثناء لا يعلم أهو موضوع للإخراج من الكل أو من الأخير؟ ومذهب المرتضى أنّه مشترك بين الإخراج من الكل ومن الأخير. فيلزم الرجوع للأخير عليهما ؛ لأنه إن كان موضوعا للأخير فظاهر ، وإن كان للكل ففي ضمنه الأخير.

قال الشافعي : توبة القاذف إكذابه نفسه. وفسره الإصطخري (من أصحاب الشافعي) : بأن يقول : كذبت ـ

١٧١

وهذا يقتضي مدّة أعمارهم ، ثم حكم بفسقهم ، ثم استثنى تعالى من تاب وأصلح من بعد القذف ، فالاستثناء غير عامل في جلده بإجماع ، وعامل في فسقه بإجماع ، واختلف في عمله في ردّ الشهادة ، والجمهور أنّه عامل في ردّ الشهادة ، فإذا تاب القاذف قبلت شهادته ، ثم اختلفوا في صورة توبته ، فقيل بأن يكذّب نفسه ، وإلّا لم تقبل ، وقالت فرقة منها مالك : توبته أن يصلح وتحسن حاله (١). وإن لم يرجع عن قوله بتكذيب واختلف فقهاء المالكية متى تسقط شهادة القاذف فقال ابن الماجشون : بنفس قذفه ، وقال ابن القاسم وغيره : لا تسقط حتى يجلد ، فإن منع من جلده مانع عفو أو غيره لم تردّ شهادته ، قال اللّخميّ : شهادته في مدة الأجل للإثبات موقوفة ، و (تابُوا) معناه : رجعوا ، وقد رجّح الطبريّ (٢) وغيره قول مالك ، واختلف أيضا على القول بجواز شهادته ، فقال مالك : تجوز في كل شيء بإطلاق ، وكذلك كلّ من حدّ في شيء.

وقال سحنون : من حدّ في شيء فلا تجوز شهادته في مثل ما حدّ فيه ، واتفقوا فيما أحفظ على ولد الزنا أنّ شهادته لا تجوز في الزنا.

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٧) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (٨) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٩) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ) (١٠)

وقوله سبحانه : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ ...) الآية : لما رمى هلال بن أميّة الواقفيّ زوجته بشريك بن سحماء ـ عزم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ضربه حدّ القذف ؛ فنزلت هذه الآية حسبما هو مشروح في الصحاح ، فجمعهما صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المسجد ،

__________________

ـ فيما قلت ، فلا أعود إلى مثله. وقال أبو إسحاق المروزي (من أصحاب الشافعي) لا يقول كذبت ، لأنه ربما يكون صادقا ، فيكون قوله : «كذبت» كذبا ، والكذب معصية. والإتيان بالمعصية لا يكون توبة عن معصية أخرى ، بل يقول : القذف باطل ، وندمت على ما فعلت ، ورجعت عنه ، ولا أعود إليه. وظاهر كلام أحمد والخرقي أن توبة القاذف (كما قال الشافعي) إكذاب نفسه ، فيقول : كذبت فيما قلت. وقال بعض العلماء : توبة القاذف كتوبة غيره ، أمر بينه وبين ربه ، ومرجعها إلى الندم على ما قال ، والعزم على ألا يعود. والسر في أن الشافعية ومن وافقهم أدخلوا في معنى التوبة التلفظ باللسان مع أن التوبة من عمل القلب أن يترتب عليها حكم شرعي ، وهو قبول شهادة المحدود في القذف إذا تاب ، فلا بد أن يعلم الحاكم توبته حتى تقبل شهادته.

(١) في ج : وتحسن حالته.

(٢) ينظر : «الطبريّ» (٩ / ٢٦٥)

١٧٢

وتلاعنا ، وجاء أيضا عويمر العجلانيّ فرمى امرأته ولا عن (١) ، والمشهور : أنّ نازلة هلال قبل ، وأنّها سبب الآية ، والأزواج في هذه الآية : يعمّ المسلمات والكافرات والإماء ؛ فكلّهن يلاعنهنّ الزوج ؛ للانتفاء من الحمل ، وتختصّ الحرّة بدفع حدّ القذف عن نفسها ، وقرأ السبعة غير نافع (٢) : (أَنَّ لَعْنَتَ) ، و (أَنَّ غَضَبَ) بتشديد «أنّ» فيهما ونصب اللعنة والغضب ، والعذاب المدرأ في قول الجمهور : هو الحدّ ، وجعلت اللعنة للرجل الكاذب ؛ لأنّه مفتر مباهت ، فأبعد باللعنة ، وجعل الغضب ، الذي هو أشدّ على المرأة التي باشرت المعصية بالفعل ثم كذبت وباهتت ـ بالقول ، والله أعلم ، وأجمع مالك وأصحابه على وجوب اللعان بادّعاء الرؤية زنا لا وطء من / الزوج بعده ، وذلك مشهور المذهب.

وقال مالك : إنّ اللعان يجب بنفي حمل يدّعى قبله استبراء والمستحبّ من ألفاظ اللعان أن يمشي مع ترتيب القرآن ولفظه ، فيقول الزوج : أشهد بالله لرأيت هذه المرأة تزني ،

__________________

(١) تقدم.

حديث ابن عباس في الملاعنة.

أخرجه أبو داود (٢ / ٦٨٨) كتاب الطلاق : باب في اللعان ، حديث (٢٢٥٦) ، وأحمد (١ / ٢٣٨ ـ ٢٣٩) ، والطيالسي (١ / ٣١٩ ـ منحة) رقم (١٦٢٠) ، والطبريّ في «تفسيره» (١٨ / ٦٥ ـ ٦٦) ، والبيهقي (٧ / ٣٩٤) كتاب «اللعان» : باب الزوج يقذف امرأته ، كلهم من طريق عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس ، وفيه : فقال : يا رسول الله ، إني جئت أهلي عشاء ، فوجدت عندها رجلا فرأيت بعيني وسمعت بأذني ، فكره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما جاء به ، واشتد عليه ، فنزلت : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ).

والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٤٣) ، وعزاه إلى أحمد ، وعبد الرزاق ، والطيالسي ، وعبد بن حميد ، وأبي داود ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس. أما حديث عويمر : فرواه سهل بن سعد.

وأخرجه مالك (٢ / ٥٦٦ ـ ٥٦٧) كتاب الطلاق : باب ما جاء في اللعان ، حديث (٣٤) ، والبخاري (٩ / ٣٦١) كتاب الطلاق : باب من جوز الطلاق الثلاث ، حديث (٥٢٥٩) ، ومسلم (٢ / ١١٢٩ ـ ١١٣٠) كتاب «اللعان» ، حديث (١ / ١٤٩٢) ، وأبو داود (٢ / ٦٧٩ ـ ٦٨٢) كتاب الطلاق : باب في اللعان ، حديث (٢٢٤٥) ، والنسائي (٦ / ١٧٠ ـ ١٧١) كتاب الطلاق : باب بدء اللعان ، وابن ماجه (١ / ٦٦٧) كتاب الطلاق : باب اللعان ، حديث (٢٠٦٦) ، وأحمد (٥ / ٣٣٦ ـ ٣٣٧) ، والدارمي (٢ / ١٥٠) كتاب النكاح : باب في اللعان ، وابن الجارود في «المنتقى» برقم (٧٥٦) ، وابن حبان (٤٢٧١ ـ الإحسان) ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (٣ / ١٠٢) ، والبيهقي (٧ / ٣٩٨ ـ ٣٩٩) كتاب «اللعان» : باب سنة اللعان ، والبغوي في «شرح السنة» (٥ / ١٨١ ـ بتحقيقنا) من طريق الزهري عن سهل بن سعد به.

(٢) ينظر : «السبعة» (٤٥٣) ، و «الحجة» (٥ / ٣١٤) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ١٠١) ، و «معاني القراءات» (٢ / ٢٠٢) ، و «شرح الطيبة» (٥ / ٨٤) ، و «العنوان» (١٣٨) ، و «حجة القراءات» (٤٩٤) ، و «شرح شعلة» (٥١٢) ، و «إتحاف» (٢ / ٢٩٢) ، و «المحتسب» (٢ / ١٠٢)

١٧٣

وإنّي في ذلك لمن الصادقين ، ثم يقول في الخامسة : وأنّ لعنة الله علي إن كنت من الكاذبين ، وأمّا في لعان نفي الحمل فيقول : ما هذا الولد منّي ، وتقول المرأة : أشهد بالله ما زنيت ، وأنّه في ذلك لمن الكاذبين ، ثم تقول : غضب الله عليّ إن كان من الصادقين ، فإن منع جهلهما من ترتيب هذه الألفاظ ، وأتيا بما في معناها أجزأ ذلك ، ومشهور المذهب : أنّ نفس تمام اللعان بينهما فرقة ، ولا يحتاج معها إلى تفريق حاكم ، وتحريم اللعان أبديّ باتفاق فيما أحفظ من مذهب مالك ، وجواب (لَوْ لا) محذوف تقديره : لكشف الزناة بأيسر من هذا ، أو لأخذهم بعقابه ونحو هذا.

(إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١) لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (١٢) لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ) (١٣)

وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ ...) الآية : نزلت في شأن أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها ففي «البخاريّ» في غزوة بني المصطلق عن عائشة رضي الله عنها قالت : وأنزل الله العشر الآيات في براءتي : (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ ...) الآيات : والإفك : الزور والكذب ، وحديث الإفك في «البخاريّ» و «مسلم» وغيرهما مستوعب ، والعصبة : الجماعة من العشرة إلى الأربعين.

وقوله سبحانه : (لا تَحْسَبُوهُ) خطاب لكلّ من ساءه ذلك من المؤمنين.

وقوله تعالى : (بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) معناه : أنّه تبرئة في الدنيا ، وترفيع من الله تعالى في أن نزّل وحيه بالبراءة من ذلك ، وأجر جزيل في الآخرة ، وموعظة للمؤمنين في غابر الدهر ، و (اكْتَسَبَ) : مستعملة في المآثم ، والإشارة بقوله تعالى : (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ) هي إلى : عبد الله بن أبيّ ابن سلول وغيره من المنافقين ، وكبره : مصدر كبر الشيء وعظم ولكن استعملت العرب ضمّ الكاف في السنّ.

وقوله تعالى : (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً ...) الآية : الخطاب للمؤمنين حاشا من تولى كبره ، وفي هذا عتاب للمؤمنين ، أي : كان الإنكار واجبا عليهم ، ويقيس فضلاء المؤمنين الأمر على أنفسهم ، فإذا كان ذلك يبعد فيهم فأمّ المؤمنين أبعد ، لفضلها ، ووقع هذا النّظر السديد من أبي أيّوب وامرأته ؛ وذلك أنّه دخل عليها فقالت له : «يا أبا أيوب ، أسمعت ما قيل؟ فقال : نعم ، وذلك الكذب ؛ أكنت أنت يا أمّ أيّوب

١٧٤

تفعلين ذلك؟ قالت : لا ، والله ، قال : فعائشة ـ والله ـ أفضل منك ، قالت أمّ أيوب : نعم» (١) فهذا الفعل ونحوه هو الذي عاتب الله فيه المؤمنين ؛ إذ لم يفعله جميعهم ، والضمير في قوله : (لَوْ لا جاؤُ) للذين تولوا كبره.

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٤) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ (١٥) وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (١٦) يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧) وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (١٨)

وقوله تعالى : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ) هذا عتاب من الله تعالى ، بليغ في تعاطيهم هذا الحديث وإن لم يكن المخبر والمخبر مصدّقين ، ولكنّ نفس التعاطي والتلقي من لسان إلى لسان والإفاضة في الحديث ـ هو الذي وقع العتاب فيه ، وقرأ ابن يعمر (٢) وعائشة (رضي الله عنها) وهي أعلم الناس بهذا الأمر : «إذ تلقونه» / ـ بفتح التاء ، وكسر اللام ، وضم القاف ـ ، ومعنى هذه القراءة من قول العرب : ولق الرجل ولقا إذا كذب ، وحكى (٣) الطبريّ : أن هذه اللفظة مأخوذة من : الولق الذي هو إسراعك بالشيء بعد الشيء ؛ يقال : ولق في سيره إذا أسرع ، والضمير في : (تَحْسَبُونَهُ) للحديث والخوض فيه والإذاعة له.

وقوله تعالى : (سُبْحانَكَ) أي : تنزيها لله أن يقع هذا من زوج نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحقيقة البهتان : أن يقال في الإنسان ما ليس فيه ، والغيبة : أن يقال في الإنسان ما فيه ، ثم وعظهم تعالى في العودة إلى مثل هذه الحالة.

(إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (١٩) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (٢٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ

__________________

(١) أخرجه الطبريّ (٩ / ٢٨٤) برقم (٢٥٨٥٩) ، وذكره ابن عطية (٤ / ١٧٠) ، وابن كثير (٣ / ٢٧٣) ، والسيوطي (٥ / ٦٠) ، وعزاه لابن إسحاق ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وابن عساكر.

(٢) وقرأ بها ابن عباس ، وعثمان الثقفي.

ينظر : «مختصر الشواذ» ص ١٠٢ ، و «المحتسب» (٢ / ١٠٤) ، و «الكشاف» (٣ / ٢١٩) ، و «المحرر الوجيز» (٤ / ١٧١) ، و «البحر المحيط» (٦ / ٤٠٢) ، و «الدر المصون» (٥ / ٢١٣)

(٣) ينظر : «الطبريّ» (٩ / ٢٨٥)

١٧٥

وَالْمُنْكَرِ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٢١)

وقوله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا ...) الآية : قال مجاهد وغيره : الإشارة بهذه الآية إلى المنافقين ، وعذابهم الأليم في الدنيا : الحدود ، وفي الآخرة : النار (١) ، وقالت فرقة : الآية عامّة في كلّ قاذف ، و [هذا] (٢) هو الأظهر.

وقوله تعالى : (وَاللهُ يَعْلَمُ) معناه : يعلم البريء من المذنب ، ويعلم سائر الأمور ، وجواب (لَوْ لا) أيضا محذوف تقديره : لفضحكم بذنوبكم ، أو لعذّبكم ونحوه.

وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ ...) الآية : خطوات جمع خطوة ، وهي ما بين القدمين في المشي ، فكأنّ المعنى : لا تمشوا في سبله وطرقه.

قلت : وفي قوله سبحانه : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً) : ما يردع العاقل عن الاشتغال بغيره ، ويوجب له الاهتمام بإصلاح نفسه قبل هجوم منيّته وحلول رمسه ، وحدّث أبو عمر في «التمهيد» بسنده عن إسماعيل بن كثير قال : سمعت مجاهدا يقول : «إنّ الملائكة مع ابن آدم ، فإذا ذكر أخاه المسلم بخير ، قالت الملائكة : ولك مثله ، وإذا ذكره بشرّ ، قالت الملائكة : ابن آدم المستور عورته ، أربع على نفسك ، واحمد الله الذي يستر عورتك» انتهى ، وروّينا في «سنن أبي داود» عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من حمى مؤمنا من منافق ـ أراه قال : بعث الله ملكا يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنّم ، ومن رمى مسلما بشيء يريد به شينه ، حبسه الله ـ عزوجل ـ على جسر جهنّم حتّى يخرج ممّا قال» (٣) ، وروينا أيضا عن أبي داود بسنده عن جابر بن عبد الله وأبي طلحة بن سهل الأنصاريّين أنّهما قالا : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من امرئ يخذل أمرا مسلما في موضع تنتهك فيه حرمته ، وينتقص فيه من عرضه ـ إلّا خذله الله في موطن يحبّ فيه نصرته ، وما من امرئ ينصر مسلما في موضع ينتقص فيه من عرضه ، وينتهك فيه من حرمته ـ إلّا نصره الله في موضع يحبّ فيه

__________________

(١) أخرجه الطبريّ (٩ / ٢٨٧) برقم (٣٥٨٧٠) نحوه ، وذكره ابن عطية (٤ / ١٧١) ، والسيوطي (٥ / ٦١) ، وعزاه للفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، والطبراني عن مجاهد بلفظ : «تظهر».

(٢) سقط في ج.

(٣) أخرجه أبو داود (٢ / ٦٨٧) كتاب الأدب : باب من رد على مسلم غيبة ، حديث (٤٨٨٣) ، وابن المبارك في «الزهد» (٢٣٩)

١٧٦

نصرته» ، انتهى (١) ، ثم ذكر تعالى أنّه يزكي من شاء ممّن سبقت له السعادة ، وكان عمله الصالح أمارة على سبق السعادة له.

(وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٢٢)

وقوله تعالى : (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ ...) الآية : المشهور من الروايات أنّ هذه الآية نزلت في قصة أبي بكر رضي الله عنه ومسطح بن أثاثة ، وكان من قرابة أبي بكر ، وكان أبو بكر ينفق عليه ، لمسكنته ، فلما وقع أمر الإفك بلغ أبا بكر أنّه : وقع مسطح مع من وقع ؛ فحلف أبو بكر : لا ينفق عليه ، ولا ينفعه بنافعة أبدا ، فجاء مسطح معتذرا / ٣٦ ب وقال : إنّما كنت أسمع ولا أقول ، فنزلت الآية ، والفضل : الزيادة في الدّين ، والسعة هنا : هي المال ، ثم قال تعالى : (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ ...) الآية ، أي : كما تحبون عفو الله لكم عن ذنوبكم فكذلك اغفروا لمن دونكم ، فيروى أنّ أبا بكر قال : بلى ، إنّي أحبّ أن يغفر الله لي ، ورجّع إلى مسطح ما كان يجري عليه من النفقة والإحسان (٢).

قال ابن العربيّ في «أحكامه» : وفي هذه الآية دليل على أنّ الحنث إذا رآه الإنسان خيرا هو أولى من البر ، ولقول النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فرأى غيرها خيرا منها ، فليأت الّذي هو خير ، وليكفّر عن يمينه» انتهى (٣). وقال بعض الناس : هذه أرجى آية في كتاب الله عزوجل من

__________________

(١) أخرجه أبو داود (٢ / ٦٨٧) كتاب الأدب : باب من رد على مسلم غيبة ، حديث (٤٨٨٤) ، وأحمد (٣ / ٤٤١) ، والبغوي في «شرح السنة» (٦ / ٤٩٥ ـ ٤٩٦ ـ بتحقيقنا)

(٢) أخرجه الطبريّ (٩ / ٢٨٩) برقم (٢٥٨٧٥) ، وذكره البغوي (٣ / ٣٣٤) ، وابن عطية (٤ / ١٧٢ ، ١٧٣) ، وابن كثير (٣ / ٢٧٦) ، والسيوطي (٥ / ٦٣) ، وعزاه لابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان.

(٣) أخرجه مسلم (٣ / ١٢٧١ ـ ١٢٧٢) كتاب الأيمان ، باب ندب من حلف يمينا ، فرأى غيرها خيرا منها أن يأتي الذي هو خير ، ويكفر عن يمينه ، حديث (١١ / ١٦٥٠) ، والبيهقي (١٠ / ٣٢) كتاب الأيمان ، باب من حلف على يمين فرأى خيرا منها ، فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه.

وأخرجه مسلم (٣ / ١٢٧٢) كتاب الأيمان ، باب ندب من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها ، حديث (١٣ / ١٦٥٠). ومن حديث عدي بن حاتم أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» ، وأبو داود الطيالسي (١ / ٢٤٧) كتاب «الأيمان والنذور» ، باب من حلف على يمين فرأى خيرا منها ، فليأت الذي هو خير ، وليكفر عن يمينه ، حديث (١٢١٨) ، وأحمد (٤ / ٢٥٦ ـ ٢٥٧ ـ ٢٥٨) ، والدارمي (٢ / ١٨٦) كتاب «الأيمان والنذور» ، باب من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها ، ومسلم (٣ / ١٢٧٢ ـ ١٢٧٣) ، كتاب : الأيمان ، باب : ندب من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها أن يأتي الذي هو خير ، ويكفر عن يمينه ، حديث (١٦ ، ١٨ / ١٦٥١) ، والنسائي (٧ / ١٠ ـ ١١) كتاب «الأيمان والنذور» ، باب الكفارة بعد الحنث ، وابن ماجه (١ / ٦٨١) كتاب «الكفارات» ، باب من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها ، ـ

١٧٧

حيث لطفه سبحانه بالقذفة العصاة بهذا اللفظ.

قال ع (١) : وإنّما تعطي الآية تفضلا من الله تعالى في الدنيا ، وإنّما الرجاء في الآخرة ، أما أنّ الرجاء في هذه الآية بقياس ، أي : إذا أمر أولي الفضل والسعة بالعفو ، فطرد هذا التفضل بسعة رحمته سبحانه لا ربّ غيره ، وإنّما آيات الرجاء : قوله تعالى : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) [الزمر : ٥٣]. وقوله تعالى : (اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ)

__________________

ـ حديث (٢١٠٨) ، والحاكم (٤ / ٣٠٠ ـ ٣٠١) كتاب «الأيمان والنذور» ، باب لا نذر في معصية الرب ولا في قطيعة الرحم ، والبيهقي (١٠ / ٣٢) كتاب «الأيمان» : باب من حلف على يمين فرأى خيرا منها ، فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه ، بلفظ «فليأت الذي هو خير ، وليكفر عن يمينه».

ومن حديث عبد الرحمن بن سمرة بلفظ «إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها ، فائت الذي هو خير وكفر عن يمينك».

ومنهم من قال : «فكفر عن يمينك ، وائت الذي هو خير».

والحديث أخرجه أحمد (٥ / ٦٢ ـ ٦٣) ، والدارمي (٢ / ١٨٦) كتاب «الأيمان والنذر» ، باب من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها ، والبخاري (١١ / ٥١٦ ـ ٥١٧) كتاب «الأيمان والنذور» ، باب قول الله تعالى : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ ...) حديث (٦٦٢٢) ، ومسلم (٣ / ١٢٧٣ ـ ١٢٧٤) كتاب «الأيمان» ، باب ندب من حلف يمينا ، فرأى غيرها خيرا منها ، حديث (٩ / ١٦٥٢) ، وأبو داود الطيالسي (١ / ٢٤٧) كتاب «الأيمان والنذور» ، باب من حلف على يمين فرأى خيرا منها ، فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه ، حديث (١٢١٩) ، والنسائي (٧ / ١٢) كتاب «الأيمان والنذور» ، باب الكفارة بعد الحنث ، وأبو داود (٣ / ٥٨٤) كتاب «الأيمان والنذور» ، باب الرجل يكفر قبل أن يحنث ، حديث (٣٢٧٧) ، وابن الجارود في «المنتقى» ص (٣١٠) : باب ما جاء في الأيمان ، حديث (٩٢٩) ، والبيهقي (١٠ / ٣١) كتاب «الأيمان» ، باب من حلف على يمين فرأى خيرا منها ، فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه.

والخطيب في «تاريخ بغداد» (٢ / ٤٠٠) من طرق عن الحسن عن عبد الرحمن به.

ومن حديث عبد الرحمن بن أذينة عن أبيه أخرجه الطيالسي (١ / ٢٤٧) كتاب «الأيمان والنذور» ، باب من حلف على يمين فرأى خيرا منها ، فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه ، حديث (١٢٢٠).

ومن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رواه أحمد (٢ / ٢٠٤) بلفظ «فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه» ، ورواه الطيالسي (١ / ٢٤٧) كتاب «الأيمان والنذور» ، باب من حلف على يمين فرأى خيرا منها ، حديث (١٢٢١) ، وأحمد (٢ / ٢١٢) ، وأبو داود (٣ / ٥٨٢) كتاب «الأيمان والنذور» ، باب اليمين في قطيعة الرحم ، حديث (٣٢٧٤) ، وابن ماجه (١ / ٦٨٢) كتاب «الكفارات» ، باب من قال : كفارتها تركها ، حديث (٢١١١) بلفظ «فليدعها وليأت الذي هو خير ، فإن تركها كفارتها».

وقال أبو داود : الأحاديث كلها عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «وليكفر عن يمينه» إلا فيما لا يعبأ به.

ومن حديث مالك الجشمي رواه النسائي (٧ / ١١) كتاب «الأيمان والنذور» ، باب الكفارة بعد الحنث ، وابن ماجه (١ / ٦٨١) كتاب «الكفارات» ، باب من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها ، حديث (٢١٠٩)

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ١٧٣)

١٧٨

[الشورى : ١٩]. وسمعت أبي رحمه‌الله يقول : أرجى آية في كتاب الله عندي قوله تعالى : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً) [الأحزاب : ٤٧]. وقال بعضهم : أرجى آية قوله تعالى : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) [الضحى : ٥].

(إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٢٣) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) (٢٥)

وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ...) الآية : قال ابن جبير : هذه الآية خاصّة في رماة عائشة (١) ، وقال ابن عباس (٢) وغيره : بل ولجميع أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمكانهن من الدّين ولم يقرن بآخر الآية توبة.

قال ع (٣) : وقاذف غيرهنّ له اسم الفسق ، وذكرت له التوبة ، ولعن الدنيا : الإبعاد ، وضرب الحدّ ، والعامل في قوله : (يَوْمَ) فعل مضمر تقديره : يعذّبون يوم أو نحو هذا ، والدين في هذه الآية : الجزاء ، وفي مصحف ابن مسعود (٤) وأبيّ : يومئذ يوفّيهم الله الحقّ دينهم بتقديم الصفة على الموصوف.

وقوله : (وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) يقوّي قول من ذهب : أنّ الآية في المنافقين عبد الله بن أبيّ وغيره.

(الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٢٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٢٧) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (٢٨)

__________________

(١) أخرجه الطبريّ (٩ / ٢٩٠) برقم (٢٥٨٨١) ، وذكره البغوي (٣ / ٣٣٤) ، وابن عطية (٤ / ١٧٤) ، وابن كثير (٣ / ٢٧٦) ، والسيوطي (٥ / ٦٤) ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني عن خصيف.

(٢) أخرجه الطبريّ (٩ / ٢٩١) برقم (٢٥٨٨٥) ، وذكره البغوي (٣ / ٣٣٤) ، وابن عطية (٤ / ١٧٤) ، وابن كثير (٣ / ٢٧٦) ، والسيوطي (٥ / ٦٤) ، وعزاه لسعيد بن منصور ، والطبراني ، وابن مردويه عن ابن عباس.

(٣) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ١٧٤)

(٤) ونسبها ابن خالويه إلى قراءة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولكنه ضبطها برفع كلمة «الحق».

ينظر : «المختصر» ص (١٠٣) ، و «المحرر الوجيز» (٤ / ١٧٤)

١٧٩

وقوله تعالى : (الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ ...) الآية : قال ابن عباس (١) وغيره : الموصوف بالخبث والطيب : الأقوال والأفعال ، وقال ابن زيد (٢) : الموصوف بالخبث والطيب ، النساء والرجال ، ومعنى هذا التفريق بين حكم ابن أبيّ وأشباهه وبين حكم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفضلاء أصحابه وأمّته.

وقوله تعالى : (أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ) إشارة إلى الطيبين المذكورين ، وقيل : الإشارة ب (أُولئِكَ) إلى عائشة ـ رضي الله عنها ـ ومن في معناها.

وقوله تعالى : (لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) سبب هذه الآية فيما روى الطبريّ (٣) : أنّ امرأة من الأنصار قالت : يا رسول الله ، إنّي أكون في منزلي على الحال الّتي لا أحبّ أن يراني أحد عليها ، لا والد ولا ولد ، وإنّه لا يزال يدخل عليّ رجل من أهلي ، وأنا على تلك الحال ؛ فنزلت هذه (٤) الآية ، ثم هي عامّة في الأمّة غابر الدهر ، وبيت الإنسان : هو الذي لا أحد معه فيه ، أو البيت الذي فيه زوجته أو أمته ، وما عدا هذا ٣٧ أفهو غير بيته ، و (تَسْتَأْنِسُوا) معناه : تستعملوا / من في البيت ، وتستبصروا ، تقول : آنست : إذا علمت عن حسّ وإذا أبصرت ؛ ومنه قوله تعالى : (آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً) [النساء : ٦].

و «استأنس» وزنه : استفعل ، فكأنّ المعنى في (تَسْتَأْنِسُوا) : تطلبوا أن تعلموا ما يؤنسكم ويؤنس أهل البيت منكم ، وإذا طلب الإنسان أن يعلم أمر البيت الذي يريد دخوله ، فذلك يكون بالاستئذان على من فيه ، أو بأن يتنحنح ويشعر بنفسه بأي وجه أمكنه ، ويتأنّى قدر ما يتحفظ منه ، ويدخل إثر ذلك.

وذهب الطبريّ (٥) في : (تَسْتَأْنِسُوا) إلى أنّه بمعنى حتى تؤنسوا أهل البيت بأنفسكم بالتنحنح والاستئذان ونحوه ، وتؤنسوا نفوسكم بأن تعلموا أن قد شعر بكم.

__________________

(١) أخرجه الطبريّ (٩ / ٢٩٣) برقم (٢٥٨٩١) ، وذكره ابن عطية (٤ / ١٧٤) ، وابن كثير (٣ / ٢٨٧) ، والسيوطي (٥ / ٦٦) ، وعزاه لابن جرير ، ولابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه عن ابن عباس.

(٢) أخرجه الطبريّ (٩ / ٢٩٥) برقم (٢٥٩٠٥) ، وذكره البغوي (٣ / ٣٣٥) ، وابن عطية (٤ / ١٧٤) ، وابن كثير (٣ / ٢٧٨)

(٣) ينظر : «الطبريّ» (٩ / ٢٩٧)

(٤) أخرجه الطبريّ في «تفسيره» (٩ / ٢٩٧) رقم (٢٥٩٢١) عن عدي بن ثابت.

(٥) ينظر : «الطبريّ» (٩ / ٢٩٨)

١٨٠