تفسير الثعالبي - ج ٤

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي

تفسير الثعالبي - ج ٤

المؤلف:

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٥

تفسير سورة المؤمنين

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما

(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (٢) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ) (٤)

قوله سبحانه : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) أخبر الله سبحانه عن فلاح المؤمنين ، وأنهم نالوا البغية ، وأحرزوا البقاء الدائم.

قلت : وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا نزل عليه الوحي ، يسمع عند وجهه صلى‌الله‌عليه‌وسلم دويّ كدويّ النحل ، فأنزل عليه يوما ، فمكثنا ساعة ، وسرّي عنه ، فاستقبل القبلة ، ورفع يديه ، فقال : اللهمّ ، زدنا ولا تنقصنا ، وأكرمنا ولا تهنّا ، وأعطنا ولا تحرمنا ، وآثرنا ولا تؤثر علينا ، وأرضنا وأرض عنّا» ، ثمّ قال : «أنزلت عليّ عشر آيات من أقامهنّ دخل الجنّة» ، ثمّ قرأ : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) حتى ختم عشر آيات (١) ؛ رواه الترمذي واللفظ له والنسائيّ والحاكم في «المستدرك» ، وقال : صحيح الإسناد ، انتهى من «سلاح المؤمن».

قلت : وقد نصّ بعض أئمتنا على وجوب الخشوع في الصلاة ، قال الغزاليّ

__________________

(١) أخرجه الترمذي (٥ / ٣٢٦) كتاب التفسير : باب ومن سورة المؤمنين ، حديث (٣١٧٣) ، والنسائي في «الكبرى» (١ / ٤٥٠) كتاب الوتر : باب رفع اليدين في الدعاء ، حديث (١٤٣٩) ، وأحمد (١ / ٣٤) ، والحاكم (٢ / ٣٩٢) ، وعبد الرزاق (٦٠٣٨) ، والعقيلي في «الضعفاء» (٤ / ٤٦٠) كلهم من طريق يونس بن سليم قال : أملى علي يونس بن يزيد عن الزهري عن عروة عن عبد الرحمن بن عبد القارئ عن عمر بن الخطاب به.

وقال النسائي : هذا حديث منكر ، لا نعلم أحدا رواه غير يونس بن سليم ، ويونس بن سليم لا نعرفه.

وقال العقيلي في ترجمة يونس : لا يتابع على حديثه هذا ولا يعرف إلا به.

والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٤) ، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد ، وابن المنذر ، والبيهقي في «الدلائل» ، والضياء في «المختارة».

١٤١

ـ رحمه‌الله ـ : ومن مكائد الشيطان أن يشغلك [في الصلاة بفكر الآخرة وتدبير فعل الخيرات ؛ لتمتنع عن فهم ما تقرأه ، واعلم أنّ كلّ ما أشغلك] (١) عن معاني قراءتك فهو وسواس ؛ فإنّ حركة اللسان غير مقصودة ؛ بل المقصود معانيها ، انتهى من «الإحياء».

وروي عن مجاهد (٢) : أنّ الله تعالى لما خلق الجنّة ، وأتقن حسنها قال : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) ثم وصف تعالى هؤلاء المفلحين : فقال : (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) والخشوع التطامن ، وسكون الأعضاء ، والوقار ، وهذا إنّما يظهر في الأعضاء ممّن في قلبه خوف واستكانة ؛ لأنّه إذا خشع قلبه خشعت جوارحه ، وروي أنّ سبب الآية أنّ المسلمين كانوا يلتفتون في صلاتهم يمنة ويسرة ؛ فنزلت هذه الآية ، وأمروا أن يكون [بصر] (٣) المصلّي حذاء قبلته أو بين يديه ، وفي الحرم إلى الكعبة ، و (اللَّغْوِ) : سقط القول ، وهذا يعمّ جميع ما لا خير فيه ، ويجمع آداب الشرع ، وكذلك كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، أي : يعرضون عن اللغو ، وكأنّ الآية فيها موادعة.

(وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ) ذهب الطبريّ (٤) وغيره إلى : أنّها الزكاة المفروضة في الأموال ، وهذا بيّن ، ويحتمل اللفظ أن يريد بالزكاة : الفضائل ، كأنه أراد الأزكى من كل فعل ؛ كما قال تعالى : (خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً) [الكهف : ٨١].

(وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٥) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٧) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٨) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩) أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (١١)

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ) إلى قوله : (هُمُ العادُونَ) يقتضي تحريم الزنا والاستمناء ومواقعة البهائم ، وكلّ ذلك داخل في قوله : (وَراءَ ذلِكَ) ويريد : وراء هذا الحدّ الذي حدّ ، والعادي : الظالم ، والأمانة والعهد يجمع كلّ ما تحمّله الإنسان من أمر دينه ودنياه قولا وفعلا. وهذا يعمّ معاشرة الناس والمواعيد وغير ذلك ، ورعاية ذلك حفظه والقيام به ، والأمانة أعمّ من العهد ؛ إذ كل عهد فهو أمانة ، وقرأ الجمهور :

__________________

(١) سقط في ج.

(٢) أخرجه الطبريّ (٩ / ١٩٦) (٢٥٤١١) ، وذكره ابن عطية (٤ / ١٣٦) ، وابن كثير في «تفسيره» (٣ / ٢٣٧) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٤) ، وعزاه لابن جرير عن مجاهد.

(٣) سقط في ج.

(٤) ينظر الطبريّ (٩ / ١٩٩)

١٤٢

«صلواتهم» وقرأ حمزة والكسائيّ : «صلاتهم» بالإفراد (١) ، و (الْوارِثُونَ) يريد الجنة ، وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله تعالى جعل لكلّ إنسان مسكنا في الجنّة ، ومسكنا في النّار ، فأمّا المؤمنون فيأخذون منازلهم ، ويرثون منازل الكفّار ، ويحصل الكفّار في منازلهم / في النّار».

قلت : وخرّجه ابن ماجه أيضا بمعناه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما منكم إلّا [من] (٢) له منزلان : منزل في الجنّة ، ومنزل في النّار ، فإذا مات ـ يعني الإنسان ـ ودخل النّار ، ورث أهل الجنّة منزله ؛ فذلك قوله تعالى : (أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ)» (٣) قال القرطبي في «التذكرة» (٤) : إسناده صحيح ، انتهى من «التذكرة».

قال ع (٥) : ويحتمل أن يسمّي الله تعالى حصولهم في الجنة وراثة من حيث حصّلوها دون غيرهم ، وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : «إنّ الله أحاط حائط الجنّة : لبنة من ذهب ، ولبنة من فضّة ، وغرس غراسها بيده ، وقال لها : تكلّمي ، فقالت : «قد أفلح المؤمنون» فقال : طوبى لك! منزل الملوك» (٦) خرجه البغويّ في «المسند المنتخب» له ، انتهى من «الكوكب الدرّيّ».

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً

__________________

(١) ينظر : «السبعة» (٤٤٤) ، و «الحجة» (٥ / ٢٨٧) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٨٥) ، و «معاني القراءات» (٢ / ١٨٧) ، و «شرح الطيبة» (٥ / ٧٥) ، و «العنوان» (١٣٦) ، و «حجة القراءات» (٤٨٣) ، و «شرح شعلة» (٥٠٧) ، و «إتحاف» (٢ / ٢٨٢)

(٢) سقط في ج.

(٣) أخرجه ابن ماجه (٢ / ١٤٥٣) كتاب الزهد : باب صفة الجنة ، حديث (٤٣٤١) ، والطبريّ في «تفسيره» (٩ / ٢٠٠) رقم (٢٥٤٤١) من طريق أبي معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا.

قال البوصيري في «الزوائد» (٣ / ٣٢٧) : هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين.

والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٩) ، وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في «البعث».

(٤) ينظر : «التذكرة» للقرطبي (١ / ١٦٦) ، (٢ / ٥٦٩)

(٥) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ١٣٧)

(٦) أخرجه أبو نعيم في «صفة الجنة» (١ / ١٣٧) رقم (١٤٠) ، وفي «الحلية» (٦ / ٢٠٤) ، والبيهقي في «البعث» (٢٣٦) من حديث أبي سعيد الخدري.

وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١٠ / ٤٠٠) وقال : رواه البزار مرفوعا وموقوفا ، والطبراني في «الأوسط» ، ورجال الموقوف رجال الصحيح.

١٤٣

آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (١٤)

وقوله سبحانه : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ...) الآية : اختلف في قوله : «الإنسان» فقال قتادة وغيره [أراد آدم ـ عليه‌السلام ـ ؛ لأنه استلّ من الطين (١).

وقال ابن عباس وغيره] (٢) : المراد ابن آدم (٣) ، والقرار المكين من المرأة : هو موضع الولد ، والمكين : المتمكّن ، والعلقة : الدّم الغليظ ، والمضغة : بضعة اللحم قدر ما يمضغ ، واختلف النّاس في الخلق الآخر ، فقال ابن عباس (٤) وغيره : هو نفخ الروح فيه.

وقال ابن عباس (٥) أيضا : هو خروجه إلى الدنيا.

وقال أيضا (٦) : تصرّفه في أمور الدنيا ، وقيل : هو نبات شعره.

قال ع (٧) : وهذا التخصيص كلّه لا وجه له ، وإنما هو عامّ في هذا وغيره : من وجوه النطق ، والإدراك ، وحسن المحاولة ، و (فَتَبارَكَ) مطاوع بارك ، فكأنها بمنزلة تعالى وتقدّس من معنى البركة.

وقوله : (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) معناه : الصانعين : يقال لمن صنع شيئا : خلقه ، وذهب بعض الناس إلى نفي هذه اللفظة عن الناس ؛ فقال ابن جريج (٨) : إنّما قال : (الْخالِقِينَ) ؛ لأنّه تعالى أذن لعيسى في أن يخلق ، واضطرب بعضهم في ذلك.

__________________

(١) أخرجه الطبريّ (٩ / ٢٠٢) (٢٥٤٥٢) ، وذكره ابن عطية (٤ / ١٣٧) ، وابن كثير في «تفسيره» (٣ / ٢٤٠) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ١٠) ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم عن قتادة.

(٢) سقط في ج.

(٣) أخرجه الطبريّ (٩ / ٢٠٢) (٢٥٤٥٤) بمعناه كما ذكره الطبريّ ، والبغوي (٣ / ٣٠٤) ، وابن عطية (٤ / ١٣٧) ، وابن كثير في «تفسيره» (٣ / ٢٤٠) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ١٠) ، وعزاه لابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس.

(٤) أخرجه الطبريّ (٩ / ٢٠٤) (٢٥٤٥٧) ، وذكره البغوي (٣ / ٣٠٤) ، وابن عطية (٤ / ١٣٨) ، وابن كثير في «تفسيره» (٣ / ٢٤١) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ١١) ، وعزاه لابن أبي حاتم عن ابن عباس.

(٥) أخرجه الطبريّ (٩ / ٢٠٤) (٢٥٤٦٦) ، وذكره البغوي (٣ / ٣٠٤) بنحوه ، وابن عطية (٤ / ١٣٨) ، وابن كثير في «تفسيره» (٣ / ٢٤١)

(٦) أخرجه الطبريّ (٩ / ٢٠٤) (٢٥٤٦٦) ، وذكره البغوي (٣ / ٣٠٤) ، وابن عطية (٤ / ١٣٨) ، وابن كثير في «تفسيره» (٣ / ٢٤١)

(٧) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ١٣٨)

(٨) أخرجه الطبريّ (٩ / ٢٠٥) (٢٥٤٧٣) ، وذكره البغوي (٣ / ٣٠٤) ، وابن عطية (٤ / ١٣٨) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ١٢) ، وعزاه لابن جرير عن ابن جريج.

١٤٤

قال ع (١) : ولا تنفى اللفظة عن البشر في معنى الصنع ؛ وإنما هي منفيّة بمعنى الاختراع والإيجاد من العدم.

(ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (١٦) وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (١٧) وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (١٨) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ) (١٩)

وقوله سبحانه : (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ [لَمَيِّتُونَ]) (٢) أي : بعد هذه الأحوال المذكورة ، ويريد بالسبع الطرائق : السموات ، والطرائق : كلّ [ما كان] (٣) طبقات بعضه فوق بعض ؛ ومنه طارقت نعلي. ويجوز أن تكون الطرائق بمعنى المبسوطات ؛ من طرقت الشيء.

قلت : وقوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ ...) الآية : ظاهر الآية أنّه ماء المطر ، وأسند أبو بكر ابن الخطيب في أول «تاريخ (٤) بغداد» عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أنزل الله من الجنّة إلى الأرض خمسة أنهار : سيحون : وهو نهر الهند ، وجيحون : وهو نهر بلخ ، ودجلة والفرات : وهما نهرا العراق ، والنّيل : وهو نهر مصر ، أنزلها الله تعالى من عين واحدة من عيون الجنّة من أسفل درجة من درجاتها على جناحي جبريل ، فاستودعها الجبال ، وأجراها في الأرض ، وجعل فيها منافع للنّاس في أصناف معايشهم ، فذلك قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) فإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج ، أرسل الله تعالى جبريل فرفع من الأرض القرآن ، والعلم كلّه ، والحجر من ركن البيت ، ومقام إبراهيم ، وتابوت موسى عليه‌السلام بما فيه ، وهذه الأنهار الخمسة ، فيرفع ذلك / كلّه إلى السماء ؛ فذلك قوله تعالى : (وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ) (لَقادِرُونَ) ، فإذا رفعت هذه الأشياء من الأرض ، فقد أهلها خير الدّين والدّنيا». وفي رواية : «خير الدّنيا والآخرة» (٥). انتهى ، فإن صحّ هذا الحديث ، فلا نظر لأحد معه ، ونقل ابن العربي في «أحكامه» هذا الحديث أيضا عن ابن عباس وغيره ، ثم قال في آخره : وهذا جائز في القدرة إن صحّت به الرواية ، انتهى.

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ١٣٨)

(٢) سقط في ج.

(٣) سقط في ج.

(٤) ينظر : «تاريخ بغداد» (١ / ٥٧ ـ ٥٨)

(٥) أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (١ / ٥٧ ـ ٥٨) من طريق مقاتل بن حيان عن عكرمة عن ابن عباس.

١٤٥

قال ع (١) : قوله تعالى : (ماءً بِقَدَرٍ) قال بعض العلماء : أراد المطر.

وقال بعضهم : إنّما أراد الأنهار الأربعة سيحان (٢) وجيحان والفرات (٣) والنيل (٤).

قال ع (٥) : والصواب أنّ هذا كلّه داخل تحت الماء الذي أنزله الله تعالى.

وقوله تعالى : (لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ) يحتمل : أن يعود الضمير على الجنات ؛ فيشمل أنواع الفواكه ، ويحتمل أن يعود على النخيل والأعناب خاصّة ؛ إذ فيهما مراتب وأنواع ، والأوّل أعمّ لسائر الثمرات.

(وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (٢٠) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٢١) وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٢٢) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٢٣) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٢٤) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (٢٥) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ) (٢٦)

وقوله سبحانه : (وَشَجَرَةً) عطف على قوله : (جَنَّاتٍ) ويريد بها الزيتونة ، وهي كثيرة في طور سيناء من أرض الشام ، وهو الجبل الذي كلّم فيه موسى عليه‌السلام ؛ قاله ابن عباس ، وغيره (٦) ، والطور : الجبل في كلام العرب ، واختلف في (سَيْناءَ) فقال قتادة : معناه الحسن (٧) ، وقال الجمهور : هو اسم الجبل ، كما تقول جبل أحد ، وقرأ الجمهور : «تنبت» بفتح التاء وضم الباء ، فالتقدير تنبت ومعها الدّهن ؛ كما تقول خرج زيد

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ١٣٩)

(٢) (سيحان) نهر كبير بالثغر ، من نواحي المصيصة ، وهو نهر أذنة بين أنطاكية والروم ، يمرّ بأذنة ثم ينفصل عنها نحو ستة أميال ؛ فيصب في بحر الروم.

(٣) الفرات : وهو النهر المعروف.

(٤) نيل مصر : قيل هو تعريب نيلوس ، فليس في الدنيا نهر يصبّ من الجنوب إلى الشمال إلّا هو ، ولا أطول منه.

(٥) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ١٣٩)

(٦) أخرجه الطبريّ (٩ / ٢٠٨) رقم (٢٥٤٨١) ، وذكره البغوي (٣ / ٣٠٦) ، وابن عطية (٤ / ١٣٩)

(٧) أخرجه الطبريّ (٩ / ٢٠٧) (٢٥٤٧٩) وذكره البغوي (٣ / ٣٠٦) ، وابن عطية (٤ / ١٣٩) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ١٤) ، وعزاه لعبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة رضي الله عنه.

١٤٦

بسلاحه ، وقرأ ابن كثير (١) وأبو عمرو : «تنبت» بضم التاء [وكسر الباء] (٢) واختلف في التقدير على هذه القراءة ، فقالت [فرقة : الباء زائدة ، كما في قوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة : ١٩٥] ، وقالت] (٣) فرقة : التقدير تنبت جناها ومعه الدّهن ، فالمفعول محذوف ، وقيل : نبت وأنبت بمعنى ؛ فيكون المعنى كما مضى في قراءة الجمهور ، والمراد بالآية تعديد النعم على الإنسان ، وباقي الآية بيّن.

وقوله سبحانه : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ ...) الآية : هذا ابتداء تمثيل لكفّار قريش بأمم كفرت بأنبيائها فأهلكوا ، وفي ضمن ذلك الوعيد بأن يحلّ بهؤلاء نحو ما حلّ بأولئك ، والملأ : الأشراف ، والجنّة ، الجنون ، و (حَتَّى حِينٍ) معناه إلى وقت يريحكم القدر منه ، ثم إن نوحا عليه‌السلام دعا على قومه حين يئس منهم ، وإن كان دعاؤه في هذه الآية ليس بنصّ ؛ وإنّما هو ظاهر من قوله : (بِما كَذَّبُونِ) فهذا يقتضي طلب العقوبة ، وأمّا النصرة بمجردها فكانت تكون بردّهم إلى الإيمان.

(فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٢٧) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٨) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٢٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ) (٣٠)

وقوله عزوجل : (فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ* فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) قوله : (بِأَعْيُنِنا) : عبارة عن الإدراك هذا مذهب الحذّاق ، ووقفت الشريعة على أعين وعين ، ولا يجوز أن يقال : عينان من حيث لم توقف الشريعة على التثنية ، و (وَحْيِنا) معناه في كيفية العمل ، ووجه البيان لجميع حكم السفينة وما يحتاج إليه ، و (أَمْرُنا) يحتمل أن

__________________

(١) ينظر : «السبعة» (٤٤٥) ، و «الحجة» (٥ / ٢٩١) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٨٧) ، و «معاني القراءات» (٢ / ١٨٨) ، و «شرح الطيبة» (٥ / ٧٥) ، و «العنوان» (١٣٦) ، و «حجة القراءات» (٤٨٤) ، و «شرح شعلة» (٥٠٧) ، و «إتحاف» (٢ / ٢٨٢)

(٢) سقط في ج.

(٣) سقط في ج.

١٤٧

يكون واحد الأوامر ، ويحتمل أن يريد واحد الأمور ، والصحيح من الأقوال في (التَّنُّورُ) أنه تنّور الخبز ، وأنّها أمارة كانت بين الله تعالى وبين نوح ـ عليه‌السلام ـ.

٣٠ ب وقوله : (فَاسْلُكْ) : معناه : فادخل ؛ يقال سلك وأسلك بمعنى ، وقرأ حفص / عن عاصم (١) : «من كلّ» بالتنوين ، والباقون بغير تنوين ، والزوجان : كلّ ما شأنه الاصطحاب من كل شيء ؛ نحو : الذكر والأنثى من الحيوان ، ونحو : النعال وغيرها ، هذا موقع اللفظة في اللغة.

وقوله : (وَأَهْلَكَ) يريد : قرابته ، ثم استثنى من سبق عليه القول بأنّه كافر ، وهو ابنه وامرأته ، ثم أمر نوح ألّا يراجع ربّه ، ولا يخاطبه شافعا في أحد من الظالمين ، ثم أمر بالدعاء في بركة المنزل.

وقوله سبحانه : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) خطاب لنبيّنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم أخبر سبحانه أنه يبتلي عباده الزمن بعد الزمن على جهة الوعيد لكفار قريش بهذا الإخبار ، واللام في (لَمُبْتَلِينَ) لام تأكيد ، و «مبتلين» : معناه : مصيبين ببلاء ، ومختبرين اختبارا يؤدي إلى ذلك.

(ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٣١) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣٢) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (٣٣) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٣٤) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (٣٥) هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (٣٦) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٣٧) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (٣٨) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ) (٣٩)

وقوله سبحانه : (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ).

قال الطبريّ (٢) ـ رحمه‌الله ـ : إنّ هذا القرن هم ثمود ، قوم صالح.

قال ع (٣) : وفي جلّ الروايات ما يقتضي أن قوم عاد أقدم ، إلّا أنّهم لم يهلكوا بصيحة.

__________________

(١) والمعنى على هذه القراءة : من كل شيء.

ينظر : «السبعة» (٤٤٥) ، و «الحجة» (٥ / ٢٩٤) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٨٩) ، و «العنوان» (١٣٦) ، و «حجة القراءات» (٤٨٦) ، و «إتحاف» (٢ / ٢٨٤)

(٢) ينظر : «الطبريّ» (٩ / ٢١٢)

(٣) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ١٤٢)

١٤٨

قلت : وهو ظاهر ترتيب قصص القرآن أنّ عادا أقدم ، (وَأَتْرَفْناهُمْ) معناه نعّمناهم ، وبسطنا لهم الأموال والأرزاق وقولهم : (أَيَعِدُكُمْ) استفهام على جهة الاستبعاد و (أَنَّكُمْ) : الثانية بدل من الأولى عند سيبويه ، وقولهم : (هَيْهاتَ هَيْهاتَ) استبعاد ، وهيهات أحيانا تلي الفاعل دون لام ، تقول هيهات مجيء زيد ، أي : بعد ذلك ، ومنه قول جرير : [الطويل] :

فهيهات هيهات العقيق ومن به

وهيهات خلّ بالعقيق نواصله (١)

وأحيانا يكون الفاعل محذوفا ، وذلك عند وجود اللام كهذه الآية ، التقدير : بعد الوجود ؛ لما توعدون.

قال ص : وردّ بأنّ فيه حذف الفاعل ، وحذف المصدر وهو الوجود وذلك غير جائز عند البصريين ، وذكر أبو البقاء : أنّ اللام زائدة و «ما» فاعل ، أي : بعد ما توعدون.

قال أبو حيان (٢) : وهذا تفسير معنى لا إعراب ؛ لأنّه لم تثبت مصدريّة «هيهات» ، انتهى. وقولهم : (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) أرادوا : أنّه لا وجود لنا غير هذا الوجود ؛ وإنّما نموت منّا طائفة فتذهب ، وتجيء طائفة جديدة ، وهذا هو كفر الدّهريّة.

(قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (٤٠) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤١) ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (٤٢) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٤٣) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (٤٤) ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٤٥) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (٤٦) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (٤٧) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ) (٤٨)

وقوله : (قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ) المعنى : قال الله لهذا النّبيّ الدّاعي : عمّا قليل يندم قومك على كفرهم حين لا ينفعهم الندم ، ومن ذكر الصيحة ذهب الطبريّ (٣) إلى

__________________

(١) البيت لجرير في «ديوانه» ص ٩٦٥ ؛ و «الأشباه والنظائر» (٨ / ١٣٣) ، و «الخصائص» (٣ / ٤٢) ، و «الدرر» (٥ / ٣٢٤) ، و «شرح التصريح» (١ / ٣١٨) ، (٢ / ١٩٩) ، و «شرح شواهد الإيضاح» ص ١٤٣ ، و «شرح المفصل» (٤ / ٣٥) ، و «لسان العرب» (١٣ / ٥٥٣) (هيه) ، و «المقاصد النحويّة» (٣ / ٧) ، (٤ / ٣١١) ، وبلا نسبة في «أوضح المسالك» (٢ / ١٩٣) ، (٤ / ٨٧) ، و «سمط اللآلي» ص ٣٦٩ ، و «شرح ديوان الحماسة» للمرزوقي ص ١٠٠١.

(٢) ينظر : «البحر المحيط» (٦ / ٣٧٤)

(٣) ينظر : «الطبريّ» (٩ / ٢١٢)

١٤٩

أنّهم قوم ثمود.

وقوله : (بِالْحَقِ) أي : بما استحقوا بأفعالهم وبما حقّ منّا في عقوبتهم ، والغثاء : ما يحمله السيل من زبده الذي لا ينتفع به ، فيشبّه كلّ هامد وتالف بذلك.

قال أبو حيان (١) : «وبعدا» منصوب بفعل محذوف ، أي : بعدوا بعدا ، أي : هلكوا ، انتهى ، ثم أخبر سبحانه : إنّه أنشأ بعد هؤلاء أمما كثيرة ، كلّ أمّة بأجل ، وفي كتاب لا تتعداه في وجودها وعند موتها ، وتترى : مصدر من تواتر الشيء.

وقوله سبحانه : (فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً) أي : في الإهلاك.

وقوله تعالى : (وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) يريد أحاديث مثل ، وقلّما يستعمل الجعل حديثا إلّا في الشر ، و (عالِينَ) / معناه : قاصدين للعلوّ بالظلم ، وقولهم : (وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ) معناه : خادمون متذللون ، والطريق المعبّد المذلّل ، و (مِنَ الْمُهْلَكِينَ) : يريد بالغرق.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٤٩) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ) (٥٠)

وقوله سبحانه : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) يعني : التوراة ، و (لَعَلَّهُمْ) يريد : بني إسرائيل ؛ لأنّ التوراة إنّما نزلت بعد هلاك فرعون والقبط ، والربوة : المرتفع من الأرض ، والقرار : التمكّن ، وبيّن أنّ ماء هذه الربوة يرى معينا جاريا على وجه الأرض ؛ قاله ابن عباس (٢) ، والمعين : الظاهر الجري للعين ، فالميم زائدة ، وهو الذي يعاين جريه ، لا كالبئر ونحوه ، ويحتمل أن يكون من قولهم : معن الماء إذا كثر ، وهذه الربوة هي الموضع الذي فرّت إليه مريم وقت وضع عيسى عليه‌السلام هذا قول بعض المفسرين ، واختلف الناس في موضع الربوة ، فقال ابن المسيّب (٣) : هي الغوطة بدمشق وهذا أشهر الأقوال ؛ لأنّ صفة الغوطة أنّها ذات قرار ومعين على الكمال.

__________________

(١) ينظر : «البحر المحيط» (٦ / ٣٧٥)

(٢) أخرجه الطبريّ (٩ / ٢١٩) (٢٥٥٢٣) ، وذكره ابن عطية (٤ / ١٤٥) ، وابن كثير في «تفسيره» (٣ / ٢٤٦) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ١٧) ، وعزاه لابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنه.

(٣) أخرجه الطبريّ (٩ / ٢١٨) (٢٥٥١٤) ، وذكره البغوي (٣ / ٣١٠) ، وذكره ابن عطية (٤ / ١٤٥) ، وابن كثير في «تفسيره» (٣ / ٢٤٦) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ١٨). وعزاه لعبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والطبراني عن سعيد بن المسيب.

١٥٠

وقال كعب الأحبار (١) : الربوة بيت المقدس ، وزعم أنّ في التوراة أنّ بيت المقدس أقرب الأرض إلى السماء وأنّه يزيد على الأرض ثمانية عشر ميلا.

قال ع (٢) : ويترجّح : أنّ الربوة في بيت لحم من بيت المقدس ؛ لأنّ ولادة عيسى هنالك كانت ، وحينئذ كان الإيواء ، وقال ابن العربيّ في «أحكامه» : اختلف الناس في تعيين هذه الربوة على أقوال منها : ما تفسّر لغة ومنها : ما تفسّر نقلا ، فيفتقر إلى صحة سنده إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إلّا أنّ هاهنا نكتة ، وذلك أنّه إذا نقل للنّاس نقل تواتر أنّ هذا موضع كذا ، وأنّ هذا الأمر جرى كذا ـ وقع العلم به ، ولزم قبوله ، لأنّ الخبر المتواتر ليس من شرطه الإيمان ، وخبر الآحاد لا بدّ من كون المخبر به بصفة الإيمان ؛ لأنّه بمنزلة الشاهد ، والخبر المتواتر بمنزلة العيان ، وقد بيّنا ذلك في «أصول الفقه (٣)» ، والذي شاهدت عليه الناس ورأيتهم يعينونه تعيين تواتر ـ موضع في سفح الجبل في غربيّ دمشق ، انتهى ، وما ذكره : من أنّ التواتر ليس من شرطه الإيمان هذا هو الصحيح ، وفيه خلاف إلّا أنّا لا نسلّم أنّ هذا متواتر ؛ لاختلال شرطه ، انظر «المنتهى» لابن الحاجب.

(يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٥١) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (٥٢) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٥٣) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (٥٤) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (٥٦) إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (٥٨) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (٥٩) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ) (٦٠)

__________________

(١) أخرجه الطبريّ (٩ / ٢١٩) (٢٥٥١٨) ، وذكره البغوي (٣ / ٣١٠) ، وابن عطية (٤ / ١٤٥)

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ١٤٥)

(٣) ينظر : الكلام عن المتواتر في «البحر المحيط» للزركشي (٤ / ٢٣١) ، «البرهان» لإمام الحرمين (١ / ٥٦٦) ، «الإحكام في أصول الأحكام» للآمدي (٢ / ١٤) ، «نهاية السول» للإسنوي (٣ / ٥٤) ، «منهاج العقول» للبدخشي (٢ / ٢٩٦) ، «غاية الوصول» للشيخ زكريا الأنصاري (٩٥) ، «التحصيل من المحصول» للأرموي (٢ / ٩٥) ، «المنخول» للغزالي (٢٣١) ، «المستصفى» له (١ / ١٣٢) ، «حاشية البناني» (٢ / ١١٩) ، «الإبهاج» لابن السبكي (٢ / ٢٦٣) ، «الآيات البينات» لابن قاسم العبادي (٣ / ٢٠٦) ، «حاشية العطار على جمع الجوامع» (٢ / ١٤٧) ، «المعتمد» لأبي الحسين (٢ / ٨٦) ، «الإحكام في أصول الأحكام» لابن حزم (١ / ١٠١) ، «تيسير التحرير» لأمير بادشاه (٣ / ٢٣٢) ، «كشف الأسرار» للنسفي (٢ / ٤) ، «شرح التلويح على التوضيح» لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني (٢ / ٣) ، «شرح المنار» لابن ملك (٧٨) ، «ميزان الأصول» للسمرقندي (٢ / ٦٢٧) ، «تقريب الوصول» لابن جزي (١١٩) ، «إرشاد الفحول» للشوكاني (٤٦)

١٥١

وقوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) يحتمل أن يكون معناه : وقلنا يا أيها الرسل ، وقالت فرقة : الخطاب بقوله : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ) للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال ع (١) : والوجه في هذا أن يكون الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وخرج بهذه الصيغة ، ليفهم وجيزا أنّ المقالة قد خوطب بها كلّ نبيّ ، أو هي طريقتهم التي ينبغي لهم الكون عليها ؛ كما تقول لعالم : يا علماء إنّكم أئمّة يقتدى بكم ؛ فتمسكوا بعلمكم ، وقال الطبريّ (٢) : الخطاب لعيسى ـ عليه‌السلام ـ.

قلت : والصحيح في تأويل الآية : أنّه أمر للمرسلين كما هو نصّ صريح في الحديث الصحيح ؛ فلا معنى للتردد في ذلك ، وقد روى مسلم والترمذيّ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله طيّب ولا يقبل إلّا طيّبا ، وإنّ الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ، فقال : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) / [المؤمنون : الآية ٥١]. وقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) [البقرة : ١٧٢]. ثمّ ذكر الرجل يطيل السفر ، أشعث أغبر ، يمدّ يديه إلى السماء : يا ربّ ، يا ربّ ، ومطعمه [حرام] (٣) ومشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغذّي بالحرام ؛ فأنّى يستجاب لذلك؟!» (٤) ا ه.

وقوله تعالى : (وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ* فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) ، وهذه الآية تقوّي أنّ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ) إنّما هو مخاطبة لجميعهم ، وأنّه بتقدير حضورهم ، وإذا قدّرت : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ) مخاطبة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قلق اتصال هذه واتصال قوله : (فَتَقَطَّعُوا) ، ومعنى الأمّة هنا : الملّة والشريعة ، والإشارة بهذه إلى الحنيفية السمحة ملّة إبراهيم عليه‌السلام ، وهو دين الإسلام.

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ١٤٦)

(٢) ينظر : «الطبريّ» (٩ / ٢٢٠)

(٣) سقط في ج.

(٤) أخرجه مسلم (٢ / ٧٠٣) كتاب الزكاة : باب قبول الصدقة من الكسب الطيب ، حديث (٦٥ / ١٠١٥) ، والترمذي (٥ / ٢٢٠) كتاب التفسير : باب ومن سورة البقرة ، حديث (٢٩٨٩) ، والدارمي (٢ / ٣٠٠) ، وأحمد (٢ / ٣٢٨) كلهم من طريق الفضيل بن مرزوق عن عدي بن ثابت عن أبي حازم عن أبي هريرة به. وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب ، وإنما نعرفه من حديث فضيل بن مرزوق.

١٥٢

وقوله سبحانه : (فَتَقَطَّعُوا) يريد الأمم ، أي : افترقوا ، وليس بفعل مطاوع ؛ كما تقول : تقطع الثوب ؛ بل هو فعل متعدّ بمعنى قطعوا ، وقرأ نافع (١) : «زبرا» جمع زبور ، وهذه القراءة تحتمل معنيين :

أحدهما : أنّ الأمم تنازعت كتبا منزّلة فاتّبعت فرقة الصحف ، وفرقة التوراة ، وفرقة الإنجيل ، ثم حرّف الكلّ وبدّل ، وهذا قول قتادة (٢) ـ والثاني : أنّهم تنازعوا أمرهم كتبا وضعوها وضلالة ألّفوها ؛ قاله ابن زيد (٣) ، وقرأ أبو عمرو (٤) بخلاف : «زبرا» بضم الزاي وفتح الباء ، ومعناها : فرقا كزبر الحديد ، ومن حيث كان ذكر الأمم في هذه الآية مثالا لقريش ـ خاطب الله سبحانه نبيّه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم في شأنهم متّصلا بقوله : (فَذَرْهُمْ) أي : فذر هؤلاء الذين هم بمنزلة من تقدم ، والغمرة : ما عمّهم من ضلالهم وفعل بهم فعل الماء الغمر بما حصل فيه ، والخيرات هنا نعم الدنيا.

وقوله سبحانه : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ...) الآية : أسند الطبريّ (٥) عن عائشة أنها قالت : قلت : يا رسول الله ، قوله تعالى : (يُؤْتُونَ ما آتَوْا) أهي في الذي يزني ويسرق؟ قال : «لا ، يا بنت أبي بكر ، بل هي في الرجل يصوم ويتصدّق وقلبه وجل ، يخاف ألّا يتقبّل منه» (٦).

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ١٤٧)

(٢) أخرجه الطبريّ (٩ / ٢٢١) برقم (٢٥٥٣٣) وذكره الغوي (٣ / ٣١١) ، وابن عطية (٤ / ١٤٧) ، والسيوطي (٥ / ٢٠) ، وعزاه لعبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة بنحوه.

(٣) أخرجه الطبريّ (٩ / ٢٢٢) برقم (٢٥٥٣٧) ، وذكره ابن عطية (٤ / ١٤٧) ، والسيوطي (٥ / ٢٠) ، وعزاه لابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن زيد نحوه.

(٤) ينظر : مصادر القراءة السابقة.

(٥) ينظر : «الطبريّ» (٩ / ٢٢٥) رقم (٢٥٥٦٢)

(٦) أخرجه الترمذي (٥ / ٣٢٧ ـ ٣٢٨) كتاب التفسير : باب ومن سورة المؤمنين ، حديث (٣١٧٥) ، وابن ماجه (٢ / ١٤٠٤) كتاب الزهد : باب التوقي على العمل ، حديث (٤١٩٨) ، وأحمد (٦ / ١٥٩ ، ٢٠٥) ، والطبريّ في «تفسيره» (٩ / ٢٢٥) رقم (٢٥٥٦٠) ، والحاكم (٢ / ٣٩٣ ـ ٣٩٤) كلهم من طريق مالك بن مغول عن عبد الرحمن بن سعيد بن وهب الهمداني عن عائشة به.

وقال الحاكم : صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٢١) ، وزاد نسبته إلى الفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن أبي الدنيا في «نعت الخائفين» ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في «شعب الإيمان».

١٥٣

قال ع (١) : ولا نظر مع الحديث ، والوجل : نحو الإشفاق والخوف ، وصورة هذا الوجل إمّا المخلّط ؛ فينبغي أن يكون أبدا تحت خوف من أن يكون ينفذ عليه الوعيد بتخليطه ، وإمّا التقيّ أو التائب ، فخوفه أمر الخاتمة وما يطلع عليه بعد الموت ، وفي قوله تعالى : (أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ) : تنبيه على الخاتمة ، وقال الحسن : معناه الذين يفعلون ما يفعلون من البرّ ، ويخافون ألّا ينجيهم ذلك من عذاب ربّهم (٢) ، وهذه عبارة حسنة ، وروي عن الحسن أيضا أنّه قال : المؤمن يجمع إحسانا وشفقة ، والمنافق يجمع إساءة وأمنا (٣).

قلت : ولهذا الخطب العظيم أطال الأولياء في هذه الدار حزنهم وأجروا على الوجنات (٤) مدامعهم.

قال ابن المبارك في «رقائقه» : أخبرنا سفيان قال : إنما الحزن على قدر البصيرة (٥).

قال ابن المبارك : وأخبرنا مالك بن مغول عن رجل عن الحسن قال : ما عبد الله بمثل طول الحزن (٦) ، وقال ابن المبارك أيضا : أخبرنا مسعر عن عبد الأعلى التيميّ قال : إنّ من أوتي من العلم ما لا يبكيه لخليق ألّا يكون أوتي علما ينفعه ؛ لأنّ الله تعالى نعت العلماء فقال : (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ) / إلى قوله : (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ) (٧) [الإسراء : ١٠٧ ـ ١٠٩] انتهى.

(أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (٦١) وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٢) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (٦٣) حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (٦٤) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ) (٦٥)

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ١٤٨)

(٢) أخرجه الطبريّ (٩ / ٢٢٤) برقم (٢٥٥٤٧) ، وذكره البغوي (٣ / ٣١١) ، وابن عطية (٤ / ١٤٨) ، والسيوطي (٥ / ٢٢) ، وعزاه لابن المبارك في «الزهد» ، وعبد بن حميد ، وابن جرير عن الحسن.

(٣) أخرجه الطبريّ (٩ / ٢٢٤) برقم (٢٥٥٤٩) ، وذكره ابن عطية (٤ / ١٤٨) ، والسيوطي (٥ / ٢١) ، وعزاه لابن أبي حاتم عن الحسن.

(٤) الوجنة : ما ارتفع من الخدين بين الصدغين وكنفي الأنف.

ينظر : «لسان العرب» (٤٧٧٤)

(٥) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (ص ٤٢) رقم (١٢٨)

(٦) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (ص ٤١) رقم (١٢٦)

(٧) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (ص ٤١) رقم (١٢٥)

١٥٤

وقوله سبحانه : (أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ) أي : إليها سابقون ، وهذا قول بعضهم في قوله : (لَها) ، وقالت فرقة : معناه وهم من أجلها سابقون ، وقال الطبريّ عن ابن عباس : المعنى : سبقت لهم السعادة في الأزل ؛ فهم لها (١) ، ورجّحه الطبريّ (٢) بأنّ اللام متمكنة في المعنى.

وقوله سبحانه : (وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِ) أظهر ما قيل فيه أنّه أراد كتاب إحصاء الأعمال الذي ترفعه الملائكة ، وقيل : الإشارة إلى القرآن ، والأول أظهر.

وقوله سبحانه : (بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا) اختلف في الإشارة بقوله : (مِنْ هذا) هل هي : إلى القرآن ، أو إلى كتاب الإحصاء ، أو إلى الدّين بجملته ، أو إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ (وَلَهُمْ أَعْمالٌ) أي : من الفساد (هُمْ لَها عامِلُونَ) : في الحال والاستقبال ، والمترف : المنعّم في الدّنيا ، الذي هو منها في سرف ، و (يَجْأَرُونَ) معناه : يستغيثون بصياح كصياح البقر ، وكثر استعمال الجؤار في البشر ؛ ومنه قول الأعشى : [المتقارب]

يراوح من صلوات المليك

طورا سجودا وطورا جؤارا (٣)

وقال ص : جأر الرجل إلى الله تعالى ، أي : تضرّع ؛ قاله الحوفيّ ، انتهى ، وذهب مجاهد وغيره إلى أنّ هذا العذاب المذكور هو الوعيد بيوم بدر (٤) ، وقيل : غير هذا.

وقوله سبحانه : (لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ) أي : يقال لهم يوم العذاب : لا تجأروا اليوم.

(قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (٦٦) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً

__________________

(١) أخرجه الطبريّ (٩ / ٢٢٦) برقم (٢٥٥٦٥) ، وذكره البغوي (٣ / ٣١٢) ، وذكره ابن عطية (٤ / ١٤٨) ، والسيوطي (٥ / ٢٢) ، وعزاه لابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس.

(٢) ينظر : الطبريّ (٩ / ٢٢٦)

(٣) في «ديوانه» (٧٦) وينظر البيت في «تفسير الطبريّ» (٢ / ١٠٥) ، والصاحبي (٨٤) ، و «البحر المحيط» (٥ / ٥٠٠) ، و «روح المعاني» (١٤ / ١٦٥) ، و «الدر المصون» (٤ / ٣٣٦)

(٤) أخرجه الطبريّ (٩ / ٢٢٨ ، ٢٢٩) برقم (٢٥٥٨١) عن مجاهد ، وبرقم (٢٥٥٨٣) عن ابن جريج ، وبرقم (٢٥٥٨٤) عن الضحاك ، وذكره ابن عطية (٤ / ١٤٩) ، والسيوطي (٥ / ٢٣) ، وعزاه لابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد ، وعزاه أيضا للنسائي عن ابن عباس.

وعزاه أيضا لعبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم عن قتادة ، وعزاه أيضا لعبد بن حميد عن سعيد بن جبير.

١٥٥

تَهْجُرُونَ (٦٧) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٦٩) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٠) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (٧١) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٧٢) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٣) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (٧٤) وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٥) وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ) (٧٦)

وقوله : (قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) يعني القرآن و (تَنْكِصُونَ) معناه : ترجعون وراءكم ، وهذه استعارة للإعراض والإدبار عن الحقّ و (مُسْتَكْبِرِينَ) حال والضمير في (بِهِ) : عائد على الحرم والمسجد وإن لم يتقدّم له ذكر ؛ لشهرته ، والمعنى : إنكم تعتقدون في نفوسكم أنّ لكم بالمسجد الحرام أعظم الحقوق على الناس والمنزلة عند الله ، فأنتم تستكبرون لذلك ، وليس الاستكبار من الحق.

وقالت فرقة : الضمير عائد على القرآن والمعنى : يحدث لكم سماع آياتي كبرا وطغيانا ، وهذا قول جيّد ، وذكر منذر بن سعيد : أن الضمير للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو متعلّق بما بعده ، كأن الكلام تمّ في قوله : (مُسْتَكْبِرِينَ) ثم قال : بمحمد عليه‌السلام سامرا تهجرون ، و (سامِراً) حال ، وهو مفرد بمعنى الجمع ؛ يقال : قوم سمّر وسمرة وسامر ، ومعناه : سهّر الليل مأخوذ من السمر وهو ما يقع على الأشخاص من ضوء القمر ، وكانت العرب تجلس للسمر تتحدث وهذا أوجب معرفتها بالنجوم ؛ لأنّها تجلس في الصحراء فترى الطوالع من الغوارب ، وقرأ أبو (١) رجاء : «سمارا» وقرأ ابن عباس (٢) وغيره : «سمرا» وكانت قريش تسمر حول الكعبة في أباطيلها وكفرها ، وقرأ السبعة (٣) غير نافع : «تهجرون» بفتح التاء

__________________

(١) وقرأ بها ابن عباس ، وأبو رجاء ، وأبو نهيك ، وزيد بن علي. قال أبو الفتح : فهذا ك : كاتب وكتّاب ، وشارب وشرّاب.

ينظر : «الشواذ» (١٠٠) ، و «المحتسب» (٢ / ٩٦) ، و «المحرر الوجيز» (٤ / ١٥٠) ، و «البحر المحيط» (٦ / ٣٨١) ، و «الدر المصون» (٥ / ١٩٦)

(٢) وقرأ بها ابن مسعود ، وأبو حيوة ، وعكرمة ، وابن محيصن ، والزعفراني ، ومحبوب عن أبي عمرو.

ينظر مصادر القراءة السابقة.

(٣) ينظر : «الحجة» (٥ / ٢٩٨) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٩٢) ، و «معاني القراءات» (٢ / ١٩٢) ، و «العنوان» (١٣٧) ، و «شرح الطيبة» (٥ / ٧٧) ، و «حجة القراءات» (٤٨٩) ، و «شرح شعلة» (٥٠٨) ، و «إتحاف» (٢ / ٢٨٦)

١٥٦

وضم الجيم ؛ قال ابن عباس (١) معناه : تهجرون الحقّ وذكر الله ، وتقطعونه ؛ من الهجران المعروف ، وقال ابن زيد (٢) : هو من هجر المريض : إذا هذى ، أي : تقولون اللغو من القول ؛ وقاله أبو حاتم ، وقرأ نافع وحده : «تهجرون» بضم التاء وكسر الجيم وهي قراءة أهل المدينة ، ومعناه : تقولون الفحش والهجر من القول ، وهذه إشارة إلى سبّهم النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ؛ قال ابن عباس (٣) أيضا وغيره ، ثم وبخهم سبحانه بقوله : (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) لأنهم بعد التدبر والنظر الفاسد / قال بعضهم : شعر ، وبعضهم : سحر وغير ذلك ، أم ٣٢ ب جاءهم ما لم يأت آباءهم الأوّلين أي : ليس ببدع بل قد جاء آباءهم الأوّلين ، وهم سالف الأمم الرسل ؛ كنوح ، وإبراهيم ، وإسماعيل وغيرهم ، وفي هذا التأويل من التجوّز أنّ جعل سالف الأمم ، آباء ؛ إذ الناس في الجملة آخرهم من أوّلهم.

(أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ) المعنى : ألم يعرفوا صدقه وأمانته مدّة عمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله سبحانه : (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ).

قال ابن جريج (٤) ، وأبو صالح : الحقّ : الله تعالى.

قال ع (٥) : وهذا ليس من نمط الآية ، وقال غيرهما : الحق هنا : الصواب والمستقيم.

قال ع (٦) : وهذا هو الأحرى ، ويستقيم على هذا فساد السموات والأرض ومن فيهن لو كان بحكم هوى هؤلاء ؛ وذلك أنّهم جعلوا لله شركاء وأولادا ، ولو كان هذا حقّا لم تكن لله عزوجل الصفات العليّة ، ولو لم تكن له سبحانه ـ لم تكن الصنعة ، ولا القدرة كما هي ، وكان ذلك فساد السموات والأرض ومن فيهن : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢].

__________________

(١) أخرجه الطبريّ (٩ / ٢٣١) برقم (٢٥٦٠٨) ، وذكره ابن عطية (٤ / ١٥٠) ، والسيوطي (٥ / ٢٤) ، وعزاه للطستي عن ابن عباس بنحوه.

(٢) أخرجه الطبريّ (٩ / ٢٣٢) برقم (٢٥٦١٤) ، وذكره ابن عطية (٤ / ١٥٠)

(٣) أخرجه الطبريّ (٩ / ٢٣٢) برقم (٢٥٦١٥) ، وذكره ابن عطية (٤ / ١٥٠) ، والسيوطي (٥ / ٢٤) ، وعزاه لابن أبي شيبة وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه ، والحاكم وصححه عن ابن عباس.

(٤) أخرجه الطبريّ (٩ / ٢٣٤) برقم (٢٥٦٢٣) عن أبي صالح ، وبرقم (٢٥٦٢٥) عن ابن جريج ، وذكره البغوي (٣ / ٣١٣) ، وابن عطية (٤ / ١٥١) ، وابن كثير (٣ / ٢٥٠) والسيوطي (٥ / ٢٥) ، وعزاه لابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن أبي صالح.

(٥) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ١٥١)

(٦) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ١٥١)

١٥٧

وقوله سبحانه : (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ) قال ابن عباس (١) : بوعظهم ، ويحتمل : بشرفهم ، وهو مرويّ.

(أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً) الخرج والخراج بمعنى ، وهو : المال الذي يجبى ويؤتى به لأوقات محدودة.

وقوله سبحانه : (فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ) يريد ثوابه ، ويحتمل أن يريد بخراج ربك : رزقه ، ويؤيّده قوله : (وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ).

و «الصراط المستقيم» دين الإسلام ، «وناكبون» : أي : مجادلون ومعرضون ، وقال البخاريّ : (لَناكِبُونَ) : لعادلون ، انتهى.

قال أبو حيان (٢) : يقال : نكب عن الطريق ونكّب بالتشديد ، أي : عدل عنه ، انتهى ، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم لو زال عنهم القحط ، ومنّ الله عليهم بالخصب ، ورحمهم بذلك ـ لبقوا على كفرهم ولجّوا في طغيانهم ، وهذه الآية نزلت في المدّة التي أصاب فيها قريشا السنون الجدبة والجوع الذي دعا به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : «اللهمّ اجعلها عليهم سنين كسني يوسف» (٣) الحديث.

(وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ) ، قال ابن عباس وغيره (٤) : هو الجوع والجدب حتّى أكلوا الجلود وما جرى مجراها ، وروي أنّهم لما بلغهم الجهد ركب أبو سفيان ، وجاء إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة فقال : يا محمد ، ألست تزعم أنّك بعثت رحمة للعالمين؟ قال : بلى ، قال : قد قتلت الآباء بالسّيف ، والأبناء بالجوع ، وقد أكلنا العلهز (٥) ؛ فنزلت (٦) الآية ،

__________________

(١) أخرجه الطبريّ (٩ / ٢٣٤) برقم (٢٥٦٢٦) ، وذكره البغوي (٣ / ٣١٤) ، وابن عطية (٤ / ١٥١) ، والسيوطي (٥ / ٢٥) ، وعزاه لابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس.

(٢) ينظر : «البحر المحيط» (٦ / ٣٨٣)

(٣) تقدم.

(٤) أخرجه الطبريّ (٩ / ٢٣٥) برقم (٢٥٦٣٢) ، وذكره ابن عطية (٤ / ١٥٢)

(٥) العلهز : وبر يخلط بدماء الحلم ، كانت العرب تأكله في الجاهلية ؛ تأكله في الجدب.

(٦) أخرجه النسائي في «التفسير» (٢ / ٩٨ ـ ٩٩) رقم (٣٧٢) ، والطبريّ في «تفسيره» (٩ / ٢٣٥ ـ ٢٣٦) رقم (٢٥٦٣٢) ، وابن حبان (١٧٥٣ ـ موارد) ، والطبراني (١١ / ٣٧٠) رقم (١٢٠٣٨) ، والحاكم (٢ / ٣٩٤) ، والبيهقي في «الدلائل» (٢ / ٩٠ ـ ٩١) من طريق عكرمة عن ابن عباس.

وصححه ابن حبان ، والحاكم ، ووافقه الذهبي.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٢٦) ، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم ، وابن مردويه.

١٥٨

و (اسْتَكانُوا) معناه : تواضعوا وانخفضوا.

(حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٧) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٧٨) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٩) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٨٠) بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (٨١) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٨٢) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (٨٣)

وقوله سبحانه : (حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ ...) الآية توعّد بعذاب غير معيّن ، وهذا هو الصواب ، وهذه المجاعة إنّما كانت بعد وقعة بدر ، والمبلس الذي قد نزل به شرّ ويئس من زواله ونسخه بخير ، ثم ابتدأ تعالى بتعديد نعم في نفس تعديدها استدلال بها على عظم قدرته سبحانه ، فقال : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ ...) الآية ، أنشأ بمعنى : اخترع ، والأفئدة : القلوب ، وذرأ : بثّ وخلق.

وقوله : (بَلْ) إضراب ، والجحد قبله مقدّر / كأنه قال : ليس لهم نظر في هذه ٣٣ أالآيات أو نحو هذا ، و (الْأَوَّلُونَ) : يشير به إلى الأمم الكافرة : كعاد وثمود.

وقوله تعالى : (لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ ...) الآية ، قولهم : (وَآباؤُنا) إن حكي المقالة عن العرب فمرادهم من سلف من العالم ، جعلوهم آباء من حيث النوع واحد ، وكونهم سلفا ، وفيه تجوز ، وإن حكي ذلك عن الأوّلين فالأمر مستقيم فيهم.

(قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٤) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٨٥) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٨٧) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٨) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (٨٩) بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٩٠) مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) (٩١).

وقوله سبحانه : (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) أمر الله تعالى نبيّه عليه‌السلام بتوقيفهم على هذه الأشياء التي لا

١٥٩

يمكنهم إلّا الإقرار بها ، ويلزم من الإقرار [بها] (١) توحيد الله وإذعانهم لشرعه ورسالة رسله ، وقرأ الجميع (٢) في الأوّل : «لله» بلا خلاف ، واختلف في الثاني والثالث ، فقرأ أبو عمرو وحده : «الله» جوابا على اللفظ ، وقرأ باقي السبعة : «لله» جوابا على المعنى ، كأنه قال في السؤال : لمن ملك السموات السبع؟

وقوله سبحانه : (فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) استعارة وتشبيه لما وقع منهم من التخليط ووضع الأفعال والأقوال غير مواضعها ما يقع من المسحور ؛ عبّر عنهم بذلك.

وقالت فرقة : (تُسْحَرُونَ) معناه : تمنعون ، وحكى بعضهم ذلك لغة ، والإجارة : المنع ، والمعنى : أنّ الله تعالى إذا أراد منع أحد فلا يقدر عليه ، وإذا أراد أخذه فلا مانع له.

وقوله سبحانه : (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) أي : فيما ذكروه من الصاحبة ، والولد ، والشريك ، تعالى الله عن قولهم علوّا كبيرا ، وفي قوله سبحانه : (وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ) [الآية] (٣).

دليل [التمانع] (٤) وهذا هو الفساد الذي تضمّنه قوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا). [الأنبياء : الآية ٢٢]. والجزء المخترع محال أن تتعلّق به قدرتان فصاعدا ، وقد تقدم الكلام على هذا الدليل ؛ فأغنى عن إعادته.

وقوله : (إِذاً) جواب لمحذوف تقديره : لو كان معه [إله] (٥) إذا لذهب.

(عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٩٢) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (٩٣) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٩٤) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (٩٥) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (٩٦) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (٩٧) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) (٩٨)

__________________

(١) سقط في ج.

(٢) ينظر اتفاق الجميع على هذا الحرف ، واختلافهم في الثاني والثالث ، يعني في قوله تعالى «لله» من الآيتين (٨٧) ، (٨٩) ـ في : «السبعة» (٤٤٧) ، و «الحجة» (٥ / ٣٠٠) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٩٣) ، و «معاني القراءات» (٢ / ١٩٤) ، و «شرح الطيبة» (٥ / ٧٨) ، و «العنوان» (١٣٧) ، و «حجة القراءات» (٤٩٠) ، و «شرح شعلة» (٥٠٩) ، و «إتحاف» (٢ / ٢٨٧)

(٣) سقط في ج.

(٤) سقط في ج.

(٥) سقط في ج.

١٦٠